التعليق على الموافقات (1428) - 02

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه، وبعد:

قال المؤلف –رحمه الله-: "المسألة الرابعة: الأوصاف التي لا قدرة للإنسان على جلبها ولا دفعها بأنفسها على ضربين:

أحدهما: ما كان نتيجة عمل: كالعلم والحب في نحو قوله: «أحبوا اللَّهَ لِمَا أَسْدَى إِلَيْكُمْ مِنْ نِعَمِهِ»".

فالعلم نتيجة لممارسة وعمل طويل، وكذلك الحب نتيجة لعمل تودد إلى الله –جلَّ وعلا- وتقرب إليه بسائر الأعمال الصالحة، وهذا ما كان نتيجة عمل.

والضرب الثاني: ما كان فطريًّا لا يحتاج إلى عمل، بل يُجبل عليه الإنسان، والحديث الذي ذكره تقدم ذكره، وهو ضعيف عند أهل العلم.

"والثاني: ما كان فطريًّا ولم يكن نتيجة عمل، كالشجاعة، والجُبن، والحلم، والأناة المشهود بهما في أشج عبد القيس، وما كان نحوها".

ذكرنا سابقًا أن هذه الأوصاف، وهذه الخلال والسجايا منها ما كان جبليًّا فطريًّا غير مُكتسب، ومنها ما يُكتسب بالمران: كالتشجع، والتحلُّم، والتعلم، والتكرُّم إلى غير ذلك مما يُكتسب، فقد يكون الإنسان بخيلاً، ثم مع الوقت يتشبه بالكرام، ويُجالسهم، ثم بعد ذلك يُقدِم على هذا شيئًا فشيئًا إلى أن يكون كريمًا، وقد يكون في خلقه سوء، وفي طبعه حدة، ثم بعد ذلك يتحلَّم ومع الوقت يكون حليمًا؛ لأن من الغرائز ما هو جبلي، ومنها ما هو مكتسب، نعم الجبلي الفطري إنسان فُطر على الشجاعة ما يحتاج إلى تمرين، وآخر فُطر على الجُبن، وثالث فُطر على الحلم وهكذا، لكن من فُقدت هذه الأشياء عنده الجبلية يستطيع أن يتداركها ولو جزءًا منها بالمران والتكسب.

"فالأول ظاهرٌ أن الجزاء يتعلق بها في الجملة، من حيث كانت مُسبباتٍ عن أسبابٍ مكتسبة، وقد مرَّ في كتاب الأحكام أن الجزاء يتعلق بها وإن لم تدخل تحت قدرته ولا قصدها، وكذلك أيضًا يتعلق بها الحب والبغض، على ذلك الترتيب.

والثاني: وهو ما كان منها فطريًّا يُنظر فيه من جهتين:

إحداهما: من جهة ما هي محبوبةٌ للشارع أو غير محبوبةٍ له".

كالشجاعة والجُبن، الشجاعة محبوبة، والجُبن غير محبوب، الكرم والبخل والشُّح، الكرم محمود، والبخل والشُّح مذمومان وهكذا.

"والثانية: من جهة ما يقع عليها ثوابٌ أو لا يقع.

فأما النظر الأول، فإن ظاهر النقل أن الحُب والبغض يتعلق بها، ألا ترى إلى قوله -عليه الصلاة والسلام- لأشج عبد القيس: «إِنَّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْنِ يحبهما اللَّهُ: الْحِلْمُ، وَالْأَنَاةُ»، وفي بعض الروايات أخبره أنه مطبوعٌ عليهما، وفي بعض الحديث «الشَّجَاعَةُ والجُبن غرائز» وجاء: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الشَّجَاعَةَ، وَلَوْ عَلَى قتل حية»".

هذه الأحاديث كلها ضعيفة التي ذكرها المؤلف، حديث قوله لأشج عبد القيس صحيح مُخرَّج في صحيح مسلم، وما عداه فهو ضعيف.

يتفرع عن هذا مسألة وهي مندرجة تحت قاعدة مذكورة عند أهل العلم في كتب القواعد وهي: أن من فُطر على الخير، وحُبب إليه، وجُبل عليه هل أجره أكثر ممن جُبل على ضده ولم يعمل إلا خيرًا، يعني: جاهد نفسه على خلاف ما جُبلت عليه؟

وأوضح من ذلك مثلاً قيام الليل؛ بعض الناس يتلذذ به، وبعض الناس يُجاهد نفسه، ويشق عليه، وهذا يقوم، وهذا يقوم، أيهما أفضل؟ يعني: الذي جُبل على الحلم، والذي جُبل على ضده لكنه يتحلَّم ولا يأتي من الأعمال إلا مثل ما يأتي الحليم، يعني النتيجة واحدة إلا أن هذا جبلي، وهذا مكتسب.

في مسألة قيام الليل أهل العلم يختلفون منهم من يقول: إن الذي يُجاهد نفسه على القيام وهو عليه شاق له أجر القيام، وأجر المجاهدة، والذي سهله الله عليه، وصار يتلذذ به له أجر القيام فقط، يُوضح هذا ما جاء في الحديث «الذي يقرأ القرآن وهو ماهرٌ فيه مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران».

ومن أمثلة ذلك: الذي صلى بالتيمم ولم يُعِد أصاب السُّنَّة، والذي صلى بالتيمم ثم أعاد له أجران.

أيهما أفضل الماهر بالقرآن أو الذي يشق عليه ويتتعتع فيه؟ الماهر بلا شك مع السفرة الكرام البررة.

الذي أصاب السُّنَّة حيث لم يعد الصلاة أفضل أم الذي أعاد الصلاة فصار له أجران؟ الذي أصاب السُّنَّة، فمن نِعم الله على الإنسان أن يُجبل على ما يُحبه الله ورسوله كأشج عبد القيس.

والثاني خُلقه في الأصل ذميم، لكن إن لم يعمل بمقتضى هذا الخلق وتخلَّق بضده، فلا شك أن أجره عظيم، ولو قيل: بأن له أجرين ما بعُد، أجر المجاهدة وأجر الخلق الذي اكتسبه.

"وفي الحديث: «الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ»، وهذا معنى التحاب والتباغض، وهو غير مُكتسب".

يعني تعارف ائتلف من غير كسب، مجرد ما ترى الشخص تُحبه، بعض الناس من مجرد رؤيته تُنكره، وهذا مُشاهَد، بل هذا محسوس، بعض الناس إذا رأى الواحد قال: هذا لا أحبه، طيب عرفته سبق...مزاج.

لكن يُنظر أحيانًا قد يكون الباعث وهو خفي ثِقل الخير على النفس، هذا لا يدخل في هذا الحديث، وهذا مذموم؛ لأن بعض الناس من كثرة تفريطه -وإن كان محسوبًا على الأخيار، وعلى طلبة العلم- من كثرة تفريطه وإضاعته للأوقات في القيل والقال إذا جلس عنده الشخص الجاد يستثقله، وإذا جلس عنده الهازل ولو كان أخف ديانة يستخفه، ويحلو له، ويُحبه أكثر من الأول، لا، هذا بسبب الدخيلة التي بنفسه، وبسبب ما اكتسب من تفريطٍ سابق، وهذا يختلف عن هذا.

"وجاء في الحديث: «وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ» وقد حُمل حديث أبي هريرة يرفعه: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خيرٌ وأحب إلى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ» على أن يكون المراد بالقوة شدة البدن وصلابة الأمر، والضعف خلاف ذلك".

يعني إذا كان المقصود بالقوة قوة البدن كان مما نحن فيه، وإذا كان المقصود بالقوة قوة الإيمان كما يُشير إليه الوصف المؤثِّر «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ» يعني: في إيمانه، الإيمان وصف مؤثِّر؛ ولذا قال: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ» يعني: فيه هذه الصفات فلا يدخل فيما معنا؛ لأن الإيمان مُكتسب.

"وجاء: «إِنَّ اللَّهَ يحب معالي الأخلاق، ويكره سفسافها»، وجاء: «يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى كُلِّ خُلُقٍ إِلَّا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ»، وقال تعالى: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَل} [الْأَنْبِيَاءِ:37] وجاء في معرض الذم والكراهية؛ ولذلك كان ضد العجل محبوبًا وهو الأناة.

ولا يُقال: إن الحب والبغض يتعلقان بما ينشأ عنهما من الأفعال؛ لأن ذلك:

أولاً: خروجٌ عن الظاهر بغير دليل.

وثانيًا: أنهما يصح تعلقهما بالذوات، وهي أبعد عن الأفعال من الصفات، كقوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه} [المائدة:54] الآية.

«أَحِبُّوا اللَّهَ لِمَا غَذَاكُمْ بِهِ مِنْ نِعَمِهِ»، «وَمِنَ الْإِيمَانِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ في الله»".

من أوثق عُرى الإيمان الحب في الله، والبغض في الله، وقوله: "ولا يُقال: إن الحب والبغض يتعلقان بما ينشأ عنهما من الأفعال؛ لأن ذلك: خروجٌ عن الظاهر، وأنهما يصح تعلقهما..." إلى آخر كلامه، يعني محبة الشجاعة هل هي لذاتها أو لما ينشأ عنها من تقديم النفس والمهجة في سبيل نصر الدِّين، والجُبن هل هو ممقوت لذاته أو لِما ينشأ عنه من التأخر في مواطن يجب الإقدام فيها أو يُستحب؟ لو قٌدِّر أن شخصًا شجاعًا وآخر جبان، وكلاهما تخلَّف عن معركة، والمسلمون بأمس الحاجة إليهما، مَن الذي يُذم؟ كلاهما مذموم؛ والذم لِما ينشأ عن هذا الخلق، يعني محبة الشجاعة لِما ينشأ عنها من الإقدام، وذم الجُبن بما ينشأ عنه من الإحجام، فإذا اشتركا الاثنان فيما يُذمان به صار في مزية للشجاع على الجبان؟

إذًا قوله: "ولا يُقال: إن الحب والبغض يتعلقان بما ينشأ عنهما من الأفعال؛ لأن ذلك: خروجٌ عن الظاهر بغير دليل" قد يُطلب الأمر لِما ينشأ عنه لا يكون لذاته، قد يكون وسيلة، يُطلب الأمر لِما ينشأ عنه، ويكون الذي ينشأ عنه هو الغاية هي المطلوبة.

فقوله: "خروجٌ عن الظاهر بغير دليل" دل الدليل على محبة الوسائل؛ لِما تُفضي إليه، فليس في هذا خروج عن الظاهر، بل من الخلال ما يُحب لذاته، ومنها ما يُحب لِما ينشأ عنه.

طيب الذكاء والغباء، الذكاء محمود، والغباء مذموم، وهما جبليان فطريان، لو أن أذكى الناس اشتغل في تجارته وبرع فيها ومهر فيها يُمدح؛ لأنه ذكي؟ ما يُمدح، ولا يُحب من أجل ذلك، ولا يُفضل على غيره، وإن كان أغبى منه في هذا الباب، يعني محبة شرعية مودة قلبية شرعية، هذا ما بينهما فرق، ولو كسب ذاك الملايين، وهذا ما كسب؛ لأن هذا لا أثر له في ميزان الشرع إلا لِما ينشأ عن ذلك من الإنفاق في سبيل الله.

لكن لو أن الذكي والغبي اجتهدا في طلب العلم، فأدرك الذكي أضعاف أضعاف ما أدركه الآخر، فصار الأول من العلماء الربانيين، والثاني من طلاب العلم مات وهو طالب علم، الآن هذه المحبة لهذه الغريزة أو لِما نشأ عنها؟ لِما نشأ عنها، وهنا يتبين الحب لهذه الغريزة وما ينشا عنها، أما استعمالها في غير ما يُقرِّب إلى الله -جلَّ وعلا- ما يُمدح فيه، وكم في أسواق المسلمين من العباقرة، لكن وجودهم مثل عدمه كغيرهم من الناس، لكن من يستعمل هذه الموهبة وهذه الغريزة فيما يُقرِّب إلى الله –جلَّ وعلا- لا شك أن ذلك هو المورِث للحب، وتعطيلها يُورث البغض.

فالأول الذكي هذا الذي استعمل هذه الغريزة فيما يُرضي الله، وطلب العلم وصار ممن يُشار إليه بالبنان بين علماء المسلمين لا شك أنه مرفوعٌ درجات في الدنيا والآخرة.

وأما الثاني الذي قد بذل من الجهد أكثر مما بذله الأول، لكنه دونه في الذكاء ولم يُحصِّل تحصيله، بل استمر يطلب العلم إلى أن مات هذا يكفيه سلوك الطريق، وما رُتب عليه من الأجر.

"ولا يسوغ في هذا المواضع أن يُقال: إن المراد حب الأفعال فقط، فكذلك لا يُقال في الصفات- إذا توجه الحب إليها في الظاهر- إن المراد الأفعال.

فصل: وإذا ثبت هذا، فيصح أيضًا أن يتعلق الحب والبغض بالأفعال، كقوله تعالى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النِّسَاءِ:148].

{وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التَّوْبَةِ:46]".

يعني البحث السابق في الذوات، وهذا في الأفعال، {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ} [النِّسَاءِ:148] يعني: في الفعل فعل الجهر بالسوء من صاحبه مذموم، إلا ما استُثني، وكذلك {كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التَّوْبَةِ:46] لأنهم يؤثرون الخذلان، ولا يؤثرون تنشيط الجيش وإعانة الجيش، فكره الله انبعاثهم، فكره الله الانبعاث، وكره الله الجهر بالسوء، وإذا كره ذلك فقد كره صاحبه، الله يكره الظلم وحرَّمه على نفسه، وجعله بين الناس مُحرَّمًا فالظالم مكروهٌ عند الله –جلَّ وعلا- {لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِين} [آل عمران:57].

وأحيانًا يرد كراهية الفعل والمراد الفاعل، «كل ضلالة في النار» هل المراد بذلك فعل الضلالة أو المراد به من فعلها؟ من فعلها.

«ما أسفل من الكعبين ففي النار» المراد الثوب أم صاحب الثوب؟ صاحبه.

فتأتي النصوص ويُراد بها الفاعل، ويُراد بها أيضًا الفعل.

"«لَيْسَ أَحَدٌ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ الله، من أجل ذلك مدح نفسه» وهذا كثير.

وإذا قلت: أُحب الشجاع وأكره الجبان، فهذا حب وكراهةٌ يتعلقان بذاتٍ موصوفةٍ لأجل ذلك الوصف، نحو قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آلِ عِمْرَانَ:134]

{وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 146]".

نعم، حب الذوات التي هي مركبة من اللحم، والجلد، والعظم، وغيرها مما يتركب منه الجسم، هذا ليس مقصود لذاته، وإنما المقصود الأوصاف، فإذا أحب الله المحسنين؛ فإنما هو لإحسانهم، وإذا أحب الصابرين فإنما هو لصبرهم، وإذا أحب التوابين المتطهرين فكذلك.

"{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [الْبَقَرَةِ:222].

وَفِي الْقُرْآنِ أَيْضًا: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لُقْمَانَ: 18].

{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آلِ عِمْرَانَ:57].

وفي الحديث: «إن الله يبغض الحبر السمين».

فإذًا الحب والبغض مطلقٌ في الذوات والصفات والأفعال".

هذا الأصل في هذه الكلمة الحِبر، وأهل الحديث يفتحون الحاء، يقولون: الحَبر، وهو الشائع على ألسنة أهل العلم، يعني: واحد الأحبار، مع أن الحديث ضعيف، نعم.

"فتعلقهما بها تعلق بالماهية من حيث إنها ذاتٌ أو صفةٌ أو فعل.

وأما النظر الثاني وهو أن يُقال: هل يصح أن يتعلق بتلك الأوصاف -وهي غير المقدورة للإنسان إذا اتصف بها الثواب والعقاب، أم لا يصح؟

هذا يتصور في ثلاثة أوجه:

أحدها: أن لا يتعلق بها ثوابٌ ولا عقاب.

والثاني: أن يتعلقا معًا بها.

والثالث: أن يتعلق بها أحدهما دون الآخر.

أما هذا الأخير، فيؤخذ النظر فيه من النظر في الوجهين؛ لأنه مركبٌ منهما، فأما الأول فيستدل عليه بوجهين:

أحدهما: أن الأوصاف المطبوع عليها وما أشبهها لا يُكلف بإزالتها ولا بجلبها شرعًا؛ لأنه تكليفٌ بما لا يُطاق، وما لا يُكلَّف به لا يُثاب عليه ولا يعاقب؛ لأن الثواب والعقاب تابعٌ للتكليف شرعًا، فالأوصاف المشار إليها لا ثواب عليها ولا عقاب".

لو قُدِّر أن شخصًا ولِد وهو أعرج، ولا حرج عليه حينئذٍ فلا يُلزم بجهاد، فهل يلزمه تبعًا لأحكام الجهاد أن يُزيل هذا الوصف الذي رفع التكليف عنه؟

طالب:.......

قد يكون مقدورًا عليه، لو قدرنا أنه مقدورٌ عليه يلزم أم ما يلزم؟

أعمى وقرر الأطباء أنه بالإمكان أن يُبصر؛ ليرفع عنه الوصف الذي أعفاه من الجهاد، وأعفاه من تلاوة القرآن، وأعفاه مما كُلِّف به المبصرون يلزم أم ما يلزم؟

طالب:..........

ما يلزم، إذا أراد أن يكون أعمى يكون أعمى، لكن -مثل ما سبق أن ذكرنا- لا يفرح بهذا الوصف الذي يُعفيه من التكاليف؛ لأنه إذا فقد عينيه ورضي بذلك وسلَّم عُوِّض عنهما الجنة، لكن إذا فرح بذلك؛ لأنه يُعفيه من الجهاد الذي فيه تقديم النفس، والجهاد من أعظم وأشق العبادات على النفوس شاق.. شاق جدًّا على النفس؛ لأن فيه تقديم النفس والتعريض لها بالتلف، يعني ما هو مثل المسجد تذهب وترجع سالمًا ما فيه إشكال.

المقصود أنه إذا فرح بهذا الوصف؛ لأنه أعفاه من التكليف يُذم عليه ويؤاخذ به، وإذا رضي به وسلَّم لقدر الله –جلَّ وعلا- فلا يلزمه حينئذٍ أن يسعى لإزالته.

طالب:........

 يعني شخص فقير فرح أنه فقير؛ لئلا يجب عليه الحج، فهل يلزمه أن يكتسب ليحج؟ هو يلزمه أن يكتسب ليقتات، ولا يكون عالةً على الناس، ويكفي من يمونه من تحت يده، أما اكتساب الشرط من أجل أنه شرط، يعني فرقٌ بين ما لا يتم الواجب إلا به، وبين ما لا يتم الوجوب إلا به.

ما لا يتم الواجب إلا به واجب، ما لا يتم الوجوب إلا به ليس بواجب، لا يجب على الإنسان أن يُحصَّل نِصابًا ليُزكي، كما هو معروف.

طالب:..........

أما مباشرة الجهاد ومقارعة الأقران فلا ما يلزم؛ لأنه مُعفى شرعًا، لكن لو قدِّر أن عنده رأيًا، وعنده خبرة، وعنده حِنكة، وعنده شيءٌ من هذا قد يُحتاج إليه فيما يُخصه.

طالب:.........

شيخ الإسلام –رحمه الله تعالى- يقول: "لا أعلم سالفًا أوجب العلاج" يعني: مريض رضي وسلَّم لأمر الله، وقال له الأطباء: إنك تموت، ما يلزم أن يُعالج.

"والثاني: أن الثواب والعقاب على تلك الأوصاف، إما أن يكون من جهة ذواتها من حيث هي صفات، أو من جهة متعلقاتها، فإن كان الأول، لزم في كل صفةٍ منها أن تكون مُثابًا عليها، كانت صفةً محبوبةً أو مكروهةً شرعًا، ومعاقبًا عليها أيضًا كذلك؛ لأن ما وجب للشيء وجب لمثله، وعند ذلك يجتمع الضدان على الصفة الواحدة من جهةٍ واحدة، وذلك مُحال، وإن كان من حيث متعلقاتها، فالثواب والعقاب على المتعلقات -وهي الأفعال والتروك- لا عليها، فثبت أنها في أنفسها لا يُثاب عليها ولا يُعاقب، وهو المطلوب.

وأما الثاني، فيستدل عليه أيضًا بأمرين:

أحدهما: أن الأوصاف المذكورة قد ثبت تعلق الحب والبغض بها، والحب والبغض من الله تعالى، إما أن يراد بهما نفس الإنعام أو الانتقام، فيرجعان إلى صفات الأفعال على رأي من قال بذلك، وإما أن يراد بهما إرادة الإنعام والانتقام، فيرجعان إلى صفات الذات؛ لأن نفس الحب والبغض المفهومين في كلام العرب حقيقةً محالان على الله تعالى، وهذا رأي طائفة أخرى، وعلى كلا الوجهين، فالحب والبغض راجعان إلى نفس الإنعام أو الانتقام، وهما عين الثواب والعقاب، فالأوصاف المذكورة إذًا يتعلق بها الثواب والعقاب".

يعني ما ذكره من تأويل الحب والبغض المضافان إلى الله –جلَّ وعلا- بالإنعام والانتقام أو بإرادتهما، كل هذا حيد عن إثبات الصفتين لله –جلَّ وعلا-، وإثباتهما جاءت به نصوص الكتاب والسُّنَّة، وعليه سلف هذه الأمة وأئمتها، والتأويل هذا لا شك أنه مذموم، وعليه مَن يدعون الكلام من الخَلف، ولا شك أن هذا مردود بنصوص الكتاب والسُّنَّة، ويجب على المسلم أن يُثبت لله –جلَّ وعلا- ما أثبته لنفسه، وأثبته له رسوله –عليه الصلاة والسلام- من غير تعرضٍ لتأويلٍ، ولا تحريف، ولا تشويه، ولا تمثيل ولا تعطيل، هذا مذهب سلف الأمة وأئمتها.

"والثاني: أنا لو فرضنا أن الحب والبغض لا يرجعان إلى الثواب والعقاب، فتعلقهما بالصفات، إما أن يستلزم الثواب والعقاب، أو لا: فإن استلزم، فهو المطلوب، وإن لم يستلزم، فتعلق الحب والبغض إما للذات، وهو مُحال، وإما لأمرٍ راجعٍ إلى الله تعالى، وهو مُحال؛ لأن الله غنيٌّ عن العالمين، تعالى أن يفتقر لغيره أو يتكمل بشيء، بل هو الغني على الإطلاق، وذو الكمال بكل اعتبار، وإما للعبد، وهو الجزاء، إذ لا يرجع للعبد إلا ذلك".

ما في شك أن الحب بالنسبة للمخلوق سببه ما يعود إليه من منفعة ومصلحة، فالإنسان جُبل على حُب من يُحسن إليه، وبُغض من يُسيء إليه هذا بالنسبة للمخلوق، لكن الله –جلَّ وعلا- لا يُتصور أنه يُحب فلانًا؛ لأنه عاد إليه بنفع، بل النفع والانتفاع أولاً وآخرًا للمخلوق، والله –جلَّ وعلا- غنيٌّ عن العالمين.

"وأمرٌ ثالث: وهو أنه لو سُلِّم أنها محبوبةٌ أو مكروهةٌ من جهة متعلقاتها وهو الأفعال، فلا يخلو أن يكون الجزاء على تلك الأفعال مع الصفات مثل الجزاء عليها بدون تلك الصفات، أو لا، فإن كان الجزاء متفاوتًا، فقد صار للصفات قسطٌ من الجزاء، وهو المطلوب، وإن كان متساويًا، لزم أن يكون فعل أشج عبد القيس حين صاحبه الحلم والأناة مساويًا لفعل من لم يتصف بهما وإن استويا في الفعل، وذلك غير صحيح؛ لِما يلزم عليه من أن يكون المحبوب عند الله مساويًا لما ليس بمحبوب، واستقراء الشريعة يدل على خلاف ذلك".

نعم إذا قلنا: أن المحبة تعود إلى نفس الوصف، وهو الحلم والأناة، أو قلنا: لِما ينشأ عن الوصف، وأتينا بشخص كأشج عبد القيس مجبول على الحلم والأناة، وأتينا بآخر مجبول على ضدهما، لكنه يتخلَّق بهما، ولا ينشأ عنه من أفعال إلا ما يُناسب الحلم الأناة.

فرق بين هذين، إذا قلنا: إن الثواب، والعقاب، والمحبة تعود إلى الأوصاف، قلنا: إن هذا محبوبٌ باستمرار فعل أو لم يفعل ، حتى في الوقت الذي يرتاح فيه من غير فعل هو محبوب لله –جلَّ وعلا-، وأما الآخر الذي جُبل على خلافهما ويتخلَّق بهما، ولا ينشأ عنه من الأفعال إلا ما يقتضيه الحلم والأناة، قلنا: إنه لا يكون محبوبًا إلا في وقت الفعل؛ لأن المحبة رُتِبت بالنسبة لأشج عبد القيس على وصفٍ لا يزول، والمحبة التي رٌتِبت على من تخلَّق بالحلم والأناة على وصفٍ يطرأ ويزول، وهذا الفرق بينهما.

"وأيضًا يلزم أن يكون ما هو محبوبٌ ليس بمحبوب، وبالعكس، وهو مُحال، فثبت أن للوصف حظًّا من الثواب أو العقاب، وإذا ثبت أن له حظًّا ما من الجزاء ثبت مُطلق الجزاء، فالأوصاف المطبوع عليها وما أشبهها مُجازىً عليها، وذلك ما أردنا".

وإذا رجعنا إلى تعريف الحمد والمدح الذي يذكره أهل العلم في أوائل الكتب، لأنهم يتفقون على أن المدح إنما يكون على الجمال الاختياري، لا على الإجباري، يعني: ما يُمدح فلان؛ لأنه طويل، أو يُذم؛ لأنه قصير أو أسود أو أبيض أو شيء ليس له فيه أي مدخل، إنما يُمدح ويُذم على الجمال الاختياري الذي له أن يفعله، وله أن يتركه.

"وما تقدم ذكره من الأدلة على أنه لا يُثاب عليها مُشكل.

أما الأول، فإن الثواب والعقاب مع التكليف لا يتلازمان، فقد يكون الثواب والعقاب على غير المقدور للمكلف، وقد يكون التكليف ولا ثواب ولا عقاب، فالأول مثل المصائب النازلة بالإنسان اضطرارًا، علم بها أو لم يعلم".

يعني المصائب التي تنزل بالمسلم هل يُؤجر عليها الإنسان لذاتها أو لِما ينشأ عنها من صبر واحتساب وتحمل؟ ويتضح هذا في إنسانٍ أُصيب بمصيبةٍ جزع بسببها، وسخِطها.

وآخر تحمل، لكنه لم يلهج بالشكر، والحمد، والثناء لله –جلَّ وعلا- ولم يذكر ما جاء في النصوص ذكره في هذه المناسبات.

والثالث الأكمل، من أهل العلم من يرى أنه لا ثواب على المصائب لذاتها، وإنما الثواب على ما ينشأ عنها من صبر { وَبَشِّرِ الصَّابِرِين * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعون} [البقرة:155-156].

وأما من أُصيب بمصيبة ولم يصبر عليها، فإن جزع من ذلك، وتسخَّط فلا شك أنه آثم، لكن إن خلا عن هذا وهذا، هل له أجر أو لا أجر له، والأجر إنما هو على الصبر؟ الحافظ ابن حجر الذي قرره أن الأجر والثواب، ومحو السيئات والخطايا إنما هو بمجرد المصيبة، والصبر عليها قدرٌ زائدٌ على ذلك، يُؤجر عليها قدرًا زائدًا على ذلك، والأكثر على أن أجره إنما هو على الصبر دون مجرد المصيبة.

"والثاني كشارب الخمر، ومن أتى عرافًا، فإنه جاء «أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تُقْبَلُ مِنْهُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا»، ولا أعلم أحدًا من أهل السُّنَّة يقول بعدم إجزاء صلاته إذا استكملت أركانها وشروطها، ولا خلاف أيضًا في وجوب الصلاة على كل مسلم، عدلاً كان أو فاسقًا، وإذا لم يتلازما، لا يصح هذا الدليل".

نعم شارب الخمر صلاته غير مقبولة، وكذلك من أتى عرافًا صلاته غير مقبولة، والله –جلَّ وعلا- إنما يتقبل من المتقين، والمراد بنفي القبول في هذه النصوص نفي الثواب المرتب على هذه العبادات، لا نفي الصحة والإجزاء، إذ صلاة الفاسق صحيحةٌ إجماعًا إذا استكملت الشروط والأركان والواجبات، وكذلك صومه، وحجه كلها صحيحة بحيث لا يُؤمر بإعادتها.

وأما الثواب المرتب عليها فلا شيء له على شيءٍ من ذلك.

"وأما الثاني، فقد اعترضه الدليل الثالث الدال على الجزاء، فقوله: إن الجزاء وقع على الفعل أو الترك إن أراد به مجردًا كما يقع دون الوصف، فقد ثبت بطلانه، وإن أراد به مع اقتران الوصف، فقد صار للوصف أثرٌ في الثواب والعقاب، وذلك دليلٌ دالٌ على صحة الجزاء عليه لا على نفيه.

ولصاحب المذهب الأول أن يعترض على الثاني في أدلته:

أما الأول: فإنه إذا صار معنى الحب والبغض إلى الثواب والعقاب، امتنع أن يتعلقا بما هو غير مقدور، وهو الصفات والذوات المخلوق عليها.

وأما الثاني، فإن القسمة غير منحصرة، إذ من الجائز أن يتعلقا لأمرٍ راجعٍ للعبد غير الثواب أو العقاب، وذلك كونه اتصف بما هو حسنٌ أو قبيحٌ في مجاري العادات.

وأما الثالث: فإن الأفعال لمَّا كانت ناشئة عن الصفات، فوقوعها على حسبها في الكمال أو النقصان، فنحن نستدل لكمال الصنعة على كمال الصانع وبالضد، فكذلك هاهنا، وعند ذلك يختص الثواب بالأفعال، ويكون التفاوت راجعًا إلى تفاوتها لا إلى الصفات، وهو المطلوب".

لا شك أن من صلاته كاملة بأركانها وشروطها وواجباتها ومُستحباتها أداها على الوجه المطلوب، صلى كما صلى النبي –عليه الصلاة والسلام- كمال صلاته دليلٌ على كمال ذاته وصفاته، والعكس بالعكس، وقد يكون الكمال لأمرٍ خارج عن الذات وعن الصفات هو صفة في الأصل، لكن له أثر في أفعاله غير الصفة التي من أجلها فُضِّل كأهل بدر مثلاً، لو حصل من البدري خلل يُحاسب عليه مثل ما يُحاسب غيره؟ ما يُحاسب عليه؛ إنما هو لأمرٍ خارج وهو كونه من أهل بدر.

"فالحاصل أن النظر يتجاذبه الطرفان، ويحتمل تحقيقه بسطًا أوسع من هذا، ولا حاجة إليه في هذا الموضع، وبالله التوفيق".

يكفي.