التعليق على الموافقات (1431) - 08

 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

أحسن الله إليك، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد،

فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: "المسألة الثالثة عشرة:

فاعلم أن أخذ الأدلة على الأحكام يقع في الوجود على وجهين".

فاعلم، الفاء هذه ما الداعي لها؟

طالب:...

كان في أما قبل ذلك، فأما المسألة الأولى، والمسألة الثانية، لكن قدرنا أما هنا أما المسألة الثالثة عشرة فاعلم أو وأما المسألة الثالثة عشر فاعلم وإلا فالفاء لا محل لها هنا.

طالب:...

يقول: ولهذا الأمر سبب نذكره بحول الله على اختصار، على الاختصار وهي الثالثة عشرة، فاعلم. نفس الشيء، تمشي.

طالب: استئنافية؟

ماذا؟

طالب:...

اعلم اعلم، لو كان في اعلم قبلها ثم قال: واعلم أو ثم اعلم عطف عليها ما يخالف، لكن على كل حال الأمر فيه سعة، تقدير يزيل الحرج، التقدير يزيل الحرج، ويقول السابق: لولا الحذف والتقدير لعرف النحو الحمير، لكن لا بد من التقدير؛ ليستقيم الكلام.

"أحدهما: أن يؤخذ الدليل على مأخذ، أن يؤخذ الدليل مأخذ الافتقار، واقتباس ما تضمنه من الحكم ليعرض عليه النازلة المفروضة؛ لتقع في الوجود على وفاق ما أعطى الدليل من الحكم، أما قبل وقوعها فبأن توقع على وفقه، وأما بعد وقوعها فليُتلافى الأمر".

خلاصة هذه المسألة أن من يستدل بالدليل أحد اثنين: الأوّل أن يستدل بالدليل ليكون الدليل هو القائد، وهو المُوجِّه، وهو المصرِّف للمستدل ليعمل به، وهذا جعل هواه تبعًا لما جاء عن الله وعن رسوله، والثاني العكس يتبنى قولًا ويتبنى رأيًا من غير دليل، ثم يبحث له عن دليل، يعني فرق بين الأمرين، أن تستنبط من الدليل لتجعل الدليل هو القائد، وهو الموجِّه وهو المُرشِد، وبين أن تعتمد قولًا من تلقاء نفسك، ثم بعد ذلك تبحث عما يسند هذا القول سواءً كان على وجه الظهور والوضوح، أو على وجه الخفاء، أو على طريق التعسُّف، وتبحث عن كل ما يسند هذا القول مما يثبت ومما لا يثبت، هذا انتصار للرأي ما هو للحق، الأوّل ينتصر للحق، والثَّاني ينتصر لرأيه وهواه.

" أما قبل وقوعها فبأن توقع على وفقه، وأما بعد وقوعها فليُتلافى الأمر ويستدرك الخطأ الواقع فيها بحيث يغلب على الظن، أو يقطع بأن ذلك قصد الشارع، وهذا الوجه هو شأن اقتباس السلف الصالح الأحكام من الأدلة".

هذا هو الأصل، وهو طريق الأئمة من سلف هذه الأمة وأئمتها، الثَّاني صار له ظهور وحضور حينما سلك الناس سبيل التقليد والتعصب للأئمة، والانتصار للآراء، تجد الإنسان يسئل عن مسألة، فيفتي برأيه، من غير استدلال، ثم يلام على هذه الفتوى، تجده يبحث عما ينصر هذا القول، وقل مثل هذا لو سئل عن حديث وقال: صحيح، من غير قول، يبحث عمن صحَّح هذا الحديث، ولو لم يكن معتبرًا عند أهل العلم، هذا انتصار في الحقيقة للنفس والهوى لا للحق بخلاف الأوّل.

"والثاني: أن يؤخذ مأخذ الاستظهار على صحة غرضه في النازلة العارضة، أن يظهر في بادئ الرأي موافقة ذلك الغرض للدليل من غير تحرٍّ لقصد الشارع، بل المقصود منه تنزيل الدليل على وفق غرضه، وهذا الوجه هو شأن اقتباس الزائغين الأحكام من الأدلة. ويظهر هذا المعنى من الآية الكريمة: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}[آل عمران:7]، فليس مقصودهم الاقتباس منها، وإنما مرادهم الفتنة بها بهواهم؛ إذ هو السابق المعتبر".

الهوى هو السابق، وهو المعتبر، ثم يبحث عما يبرر هذا الهوى.

"وأخذ الأدلة فيه بالتبع؛ لتكون لهم حجة في زيغهم، والراسخون في العلم ليس لهم هوى يقدمونه على أحكام الأدلة، فلذلك يقولون: آمنا به كل من عند ربنا".

يقولون: آمنا، ما يهمهم أن يقولوا: لا أعلم، ولا أدري قبل أن يعرف الدليل، لكن الصنف الثاني يفتي برأيه، ثم إذا أُحرِج ما دليلك؟ ما مستندك؟ يبحث عما يعضد قوله، فهو ينتصر لهواه.

"ويقولون: ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، فيتبرءون إلى الله مما ارتكبه أولئك الزائغون؛ فلذلك صار أهل الوجه الأول محكِّمين للدليل على أهوائهم، وهو أصل الشريعة؛ لأنها إنما جاءت لتخرج المكلف عن هواه، حتى يكون عبدًا لله، وأهل الوجه الثاني يحكمون أهواءهم على الأدلة، حتى تكون الأدلة في أخذهم لها تبعًا، وتفصيل هذه الجملة قد مرَّ منه في كتاب المقاصد، وسيأتي تمامه في كتاب الاجتهاد بحول الله تعالى.

المسألة الرابعة عشرة: اقتضاء الأدلة للأحكام بالنسبة إلى محالها على وجهين".

الآن لو بحث عن دليل، أفتى بهواه، ثم بحث عن دليل، فوجده يسند قوله، مأجور أم مأزور؟ مأزور بلا شك؛ لأنه في بحثه عن الدليل إنما ينتصر لنفسه وهواه.

طالب:...

فالدليل جاء تبعًا، الدليل جاء تبعًا كالقاضي يحكم بجهل، ثم يكون حكمه موافقًا لما يريده الله -جل وعلا- هذا في النار، نسأل الله العافية.

"اقتضاء الأدلة للأحكام بالنسبة إلى محالها على وجهين: أحدهما: الاقتضاء الأصلي قبل طروء العوارض، وهو الواقع على المحل مجردًا عن التوابع والإضافات، كالحكم بإباحة الصيد والبيع والإجارة، وسن النكاح، وندب الصدقات غير الزكاة، وما أشبه ذلك.

والثاني: الاقتضاء التبعي، وهو الواقع على المحل مع اعتبار التوابع والإضافات كالحكم بإباحة النكاح لمن لا أرب له في النساء".

يعني أصول المسائل أصول المسائل من على الوجه الأوّل الاقتضاء الأصلي حكم البيع مثلاً حكم البيع من الوجه الأوّل، حكم النكاح جملةً الأول، وهكذا أصول الأبواب وأصول المسائل من الوجه الأوّل، إذا عرض عارض لمسألة من المسائل الفرعية التابعة لهذه الأصول صار من الوجه الثاّني فقد يَطرُأ على ما أصله الإباحة ما يقتضي المنع، وقد يَطرُأ على ما أصله الحظر ما يقتضي الإباحة.

"ووجوبه على من خشي العنت، وكراهية الصيد لمن قصد فيه اللهو، وكراهية الصلاة لمن حضره الطعام".

يعني لو سئل سؤال لو قيل: ما حكم النكاح؟ في الجملة يعني من غير تعيين سائل، يجيبه بأنه سُنة من سُنن المرسلين، «من رغب عن سنتي فليس مني»، لكن يأتي شخص شاب يُخشى عليه العنت مثلاً فيقول: ما حكم النكاح؟ يُفتَى بجواب، والثّاني يأتي شيخ لا أرب له في النساء ولا حاجة له في النساء، وقد يظلم المرأة إذا تزوجها يُفتَى بجواب غير هذا، ولذلك أجوبة النبي -عليه الصلاة والسلام- عن سؤال واحد تختلف من شخص إلى شخص، لماذا؟ لطرو العوارض على هذه الأسئلة، سُئل عن أفضل الأعمال فأجاب بأجوبة كثيرة فيجيب كل شخص بما يناسبه، هذا لوجود العوارض، لكن لو سُئل في الجملة، يعني سئل جوابًا مطلقًا مرسلًا من غير نظر للعوارض لكان الجواب واحدًا؛ لأن حكم الشرع لا يتغير.

"وكراهية الصلاة لمن حضره الطعام أو لمن يدافع الأخبثان".

يدافع الأخبثين أو يدافعه الأخبثان.

"أو لمن يدافعه الأخبثان، وبالجملة كل ما اختلف حكمه الأصلي لاقتران أمر خارجي. فإذا تبين المعنى المراد فهل يصح الاقتصار في الاستدلال عن الدليل المقتضي للحكم الأصلي، أم لا بد من اعتبار التوابع والإضافات حتى يُقيَّد دليل الإطلاق بالأدلة المقتضية لاعتبارها؟".

إذا أردت أن تجيب بنصّ، سأل شاب وأنت تعرف من حاله أنه يتضرر، أو تتضرر المرأة بالنكاح وهو شاب ينطبق عليه الحديث، هل تجيبه بقوله -عليه الصلاة والسلام-: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج»؟ هذا الأصل من غير اعتبار العوارض، لكن إذا وجد عارض وأنت تعرف هذا الشخص، إنه فيه ضعف، وفيه عِنَّة، وفيه شيء من هذا ما تفتيه بهذا الكلام وإن كانت الفتوى بنصّ، لكن مما تجب ملاحظته للمفتي حال المستفتي؛ لأن لهذه العوارض تأثيرًا في الجواب، ولذلك يذكرون الحكم الأصلي في مسألة، وقد يعتريها ما يقتضي اختلاف الحكم وتنوعه إلى الأحكام الخمسة.

" هذا مما فيه نظر وتفصيل فلا يخلو أن يأخذ المستدل الدليل على الحكم مُفردًا مجردًا عن اعتبار الواقع أولاً، فإن أخذه مجردا صح الاستدلال، وإن أخذه بقيد الوقوع فلا يصح، وبيان ذلك أن الدليل المأخوذ بقيد".

يعني لو أن معلِّمًا يشرح في كتاب من كتب العلم، وقرَّر مسألة من خلال الكتاب، قرَّر مسألة من خلال الكتاب هل هذا الحكم الذي قُرِّر في هذه المسألة ينطبق على كل فرد من أفراد الطلاب بغض النظر عن عوارضهم؟ يقول: والله سمعت الحكم كذا لا بد أن يُطبِّق، لكن عندك عوارض تمنع انطباق هذا الحكم عليك من ملاحظة هذه العوارض، ولذا تجدون العلماء يفصِّلون.

"وبيان ذلك أن الدليل المأخوذ بقيد الوقوع معناه التنزيل على المناط المعين، وتعيين المناط موجب في كثير من النوازل إلى ضمائم وتقييدات".

في كثير من النوازل مفهومه لا في جميعها، يعني هناك مسائل قد تشذّ عن هذا التقعيد.

"إلى ضمائم وتقييدات لا يشعر المكلف بها عند عدم التعيين ، وإذا لم يشعر بها لم يلزم بيانها؛ إذ ليس موضع الحاجة بخلاف إذا اقترن المناط بأمر محتاج إلى اعتباره في الاستدلال، فلا بد من اعتباره.

فقول الله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ}[النساء:95] الآية لما نزلت أولاً كانت مقررة لحكم أصلي منزل على مناط أصلي من القدرة، وإمكان الامتثال، وهو السابق".

لأن المؤمنين بين مجاهد وقاعد، مجاهد وقاعد، هما نوعان، وجاءت الآية على هذا الأصل، ثم سُئل عمن يوجد عنده مانع، هل حكمه حكم القاعد؟ أو حكمه حكم المجاهد؟ فاستثني غير أولي الضرر.

"فلم يتنزل حكم أولي الضرر، ولما اشتبه ذو الضرر ظن أن عموم نفي الاستواء، يستوي فيه ذو الضرر وغيره، فخاف من ذلك وسأل الرخصة، فنزل: {غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ}".

لكن هل يكون في مقام المجاهدين أو دونهم؟

طالب: دونهم.

نعم؟

طالب:...

رجل أعمى ليس عليه حرج، يود أن لو كان مبصرًا فيجاهد، ما الذي منعه من الجهاد؟ العمى، هل له أجر المجاهد بنيته؟ حقيقةً، هل له أجر المجاهد حقيقة، أو لا يحرم من الأجر في الجملة، ومع  ذلك هذا مما كتبه الله عليه كما كتب على بنات آدم الحيض؟

طالب:...

يقول أنا ما ذنبي، أنا أعمى، ولذلك ابن أم مكتوم يجاهد وهو أعمى؛ ليلحق ليكمل له أجر المجاهدين، ما قال: أنا معذور وخلاص، حتى إن البعض يتمنى أن يكون أعمى؛ لئلا يجاهد، لكن هذا ما منزلته؟ هذا منزلته أسوأ من الذي لا يجاهد وهو غير أعمى، ظاهر أم لا؟ نعم مسألة تحتاج إلى نظر دقيق في مثل هذه المسائل، فمن الآن إذا وجد المانع الشرعي من عملٍ يتمناه الإنسان، المرأة إذا حاضت لا تصوم، ولا تصلي، هل يكتب له أجرها وهي طاهر؟ كما يكتب للمريض والمسافر؟ لأن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم، والمانع هو الله -جل وعلا-.

طالب: لو استحضرت النية.

تستحضر النية، تستحضر النية، وتتمنى ذلك؟

طالب:...

الآن لو كان لها الأجر اعتبر نقصًا في حقها أم ما يعتبر؟

طالب:...

لو كان أجرها كاملاً مثل المريض والمسافر ما كان نقص في حقها، ما كان نقصًا في دينها مع أن المانع من الله -جل وعلا-، لكن شيء، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء هذا آخر ما يقال.

طالب:...

نفس الشيء. نعم.

"ولما قال -عليه الصلاة والسلام-: «من نوقش الحساب عُذِّب» بناءً على تأصيل قاعدة أخروية سألت عائشة عن معنى قول الله -عز وجل-: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا}[الانشقاق: 8]؛ لأنه يشكل دخوله تحت عموم الحديث فبين -عليه الصلاة والسلام-".

حساب يسير، كيف يُعذَّب ويحاسب حسابًا يسيرًا؟ من من صيغ العموم نوقش الحساب عذِّب، كل من نوقش الحساب فإن مآله إلى العذاب، مع أن الآية: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا}[الانشقاق: 8] يحاسَب ومع ذلك ينقلب مسرور، فكيف يعذَّب؟ فقال: لا ليس الحساب هنا هو الحساب هناك، الحساب في الآية يراد به العرض، لا المناقشة عن الصغير والكبير.

"فبين -عليه الصلاة والسلام- أن ذلك العرض لا الحساب المُناقش فيه. وقال –عليه الصلاة والسلام-: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه» إلخ، فسألته عائشة عن هذه الكراهية".

كل الناس يكره الموت، ما فيه أحد ما يكره الموت، هل هذه لكراهية للقاء الله؟ لا، ما من ميت إلا أحب أن يستعتب، أما المحسن فمن أجل أن يزيد في إحسانه فترتفع حسناته ودرجاته، وأما المسيء لعله أن يرجع عن إساءته.

"فسألته عائشة عن هذه الكراهية هل هي الطبيعية أم لا فأخبرها أن لا، وتبين مناط الكراهية المرادة، وقال الله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}[البقرة: 238] تنزيلاً على المناط المعتاد فلما عرض مناط آخر خارج عن المعتاد، وهو المرض بينه -عليه الصلاة والسلام- بقوله وفعله حين جُحِش شقه".

يعني صل قائمًا لعمران بن حصين «فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب» والأصل القيام، الأصل القيام فلا تصح صلاة الفرض إلا من قيام، من عجز عن القيام لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها.

"وقال -عليه الصلاة والسلام-: «أنا وكافل اليتيم كهاتين»، ثم لما تعيَّن مناطٌ فيه نظر، قال عليه الصلاة والسلام- لأبي ذر: «لا تولين مال يتيم»".

نعم، وُجِد الضعف، المانع من القيام بالحق حق القيام، فإذا وُجِد المانع لا تولين مال يتيم، ولا تأمَّرَن على اثنين، لوجود العارض.

"والأمثلة في هذا المعنى لا تحصى، واستقراؤها من الشريعة يفيد العلم بصحة هذا التفصيل فلو فرض نزول حكم عام، ثم أتى كل من سمعه يتثبت في مقتضى ذلك العام بالنسبة إليه لكان الجواب على وفق هذه القاعدة نظير وصيته -عليه الصلاة والسلام- لبعض أصحابه بشيء، ووصيته لبعض بأمر آخر كما قال: «قل ربي الله، ثم استقم».

بالنسبة لسفيان بن عبد الله الثقفي لما طلب منه أن يقول له في الإسلام شيئًا يستغني به قال: «قل: آمنت بالله ثم استقم» آمنت بالله ثم استقم، قل ربي الله ثم استقم، لكن الثَّاني: «لا تغضب»؛ لأنه يجيب كل إنسان بما يناسبه، يعني لو جاء شخص تُلمح عليه أمارات الذكاء، ما أفضل الأعمال بالنسبة لي؟ قلنا طلب العلم، ولو نُظِر إليه من حيث البدن والقوة والشجاعة قيل له: أفضل شيء بحقك الجهاد، وهكذا، كل شخص يُفتى بما يناسبه.

"وقال لآخر: «لا تغضب»، وكما قبِل من بعضهم جميع ماله".

كأبي بكر جاء بجميع ماله، ما قال له الرسول -عليه الصلاة والسلام-: ماذا تركت وماذا فعلت ولماذا تأتي بجميع مالك؟ وعمر نصف ماله، وقال لسعد: «الثلث، والثلث كثير» وبعض الناس ما يأخذ منه إلا الربع، والناس مقامات ومنازل، كلٌّ يُنَزَّلُ في منزلته إذا كان عنده صبر وقوة تحمل وقدرة على الاكتساب بحيث لا يكون عالة هو وأولاده على الناس يتككف الناس يُقبَل منه جميع ماله، لكن إذا كان في كل مجلسٍ: والله طلعت جميع المال، جعت، ما عندي شيء ولا مصروف ولا الأولاد ولا، نقول لهذا: لا تأتِ بشيء، جزاك الله خيرًا، تكفي الزكاة، فالناس يتفاوتون.

"ومن بعضهم شطره ورد على بعضهم ما أتى به بعد تحريضه على الإنفاق في سبيل الله، إلى سائر الأمثال. فصل: ولتعين المناط مواضع: منها: الأسباب الموجبة لتقرير الأحكام، كما إذا نزلت آيةٌ أو جاء حديث على سبب، فإن الدليل يأتي بحسبه، وعلى وفاق البيان التمام فيه، فقد قال تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ}[سورة البقرة: 187] الآية إذ كان ناسٌ يختانون أنفسم فجاءت الآية تبيح لهم ما كان ممنوعًا قبلُ حتى لا يكون فعلهم ذلك الوقت خيانة منهم لأنفسهم".

لكن تأتي الإباحة خاصّة بهم أو لجميع الناس؟ لجميع الناس.

"وقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:3] الآية، إذ نزلت عند وجود مظنة خوف أن لا يقسطوا، وما أشبه ذلك .

وفي الحديث: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله» الحديث، أتى فيه بتمثيل الهجرة لما كان هو السبب".

نعم السبب في حديث عمر الأعمال بالنيات هو ما يذكر عند أهل العلم من قصة مهاجر أم قيس، فذُكرت الهجرة، ذكرت الهجرة، وأكثر ما ينهز الناس من بلدانهم إلى بلدان أخرى إما طلب التجارة الدنيا أو طلب المرأة، فمن كانت هجرته لله ورسوله فيثبت له الأجر والثواب، الأجر المرتب على الهجرة، لكن من تظاهر للناس أنه هاجر إلى الله ورسو،له وفي حقيقة الأمر إنما هاجر من أجل دنيا أو امرأة فهذا هو الذي جاء فيه الحديث مسوقًا مساق الذم وإلا فما فيه إشكال أن يهاجر الإنسان، وينتقل من بلد إلى بلد من أجل الدنيا، ما فيه إشكال، لكن ما يتظاهر للناس أنه هاجر إلى الله ورسوله.

"وقال: «ويل للأعقاب من النار» مع أن غير الأعقاب يساويها حكمًا، لكنه كان السبب في الحديث التقصير في الاستيعاب في غسل الرجلين، ومن ذلك كثير".

نعم جاء النبي -عليه الصلاة والسلام- وأعقابهم تلوح، يعني ما جاءه شيء من الماء فقال: «ويل للأعقاب من النار»، لكن لو ترك الإنسان من يده شيئًا فحكمه حكم العقب.

"ومنها أن يُتَوَهَّم بعض المناطات داخلاً في حكم عام، أو خارجًا عنه ولا يكون كذلك في الحكم فمثال الأول ما تقدم في قوله -عليه الصلاة والسلام-: «من نوقش الحساب عذب». وقوله : «من كره لقاء الله كره الله لقاءه».

ومثال الثاني: قوله -عليه الصلاة والسلام- للمصلي: «ما منعك أن تجيبني إذ دعوتك، وقد جاء فيما نزل علي: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} الآية [ الأنفال : 24 ]»؟ أو كما قال عليه الصلاة والسلام، إذ كان إنما ثبت على صلاته لاعتقاده أن نازلته المعينة لا يتناولها معنى الآية".

نعم؛ لأن الآية معارضة للأمر بالسكوت، وأن الصلاة لا يصلح فيها كلام الناس، وأن الكلام يبطلها فأداه اجتهاده إلى ألا يجيب مع أنه داخل في عموم الآية، ونظيره حديث جريج لما دعته أمه قال: أمي وصلاتي، فقدَّم صلاته على أمه، وهكذا، لكن قبول دعوة أمه عليه يدل على أنه لو أجابها لكان أفضل.

"أو كما قال -عليه الصلاة والسلام-، إذ كان إنما ثبت".

ومنها.

"ومنها أن يقع اللفظ المخاطب به مجملاً، بحيث لا يفهم المقصود به ابتداءً، فيفتقر المكلف عند العمل إلى بيانه، وهذا الإجمال قد يقع لعامة المكلفين، وقد يقع لبعضهم دون بعض، فمثال العام قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [المنافقون : 10]، فإنه لا يُفهَم المقصود به من أول وهلة، فجاءت أقوال النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأفعاله مبينة لذلك".

كالأمر بإقامة الصلاة وغيتاء الزكاة في النصوص العامة وفي القرآن من هذا الشيء الكثير، يأتي بيان المجمل في القرآن بيانه في السُّنَّة من أقواله وأفعاله -عليه الصلاة والسلام-، {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}[آل عمران:97] كيف يحجون؟ «خذوا عني مناسككم».

طالب:...

 هو عوقب من وجه، ثم انتقلت هذه العقوبة إلى منحة، فالمسألة لها جانبان: الأوّل: كونه ترك أمه، وإجابتها واجبة، والصلاة نافلة، والأمر الثّاني: كونه أقبل على الله -جل وعلا-، واجتهد وترجح عنده هذا وما أداه إليه اجتهاده، فعوقب من جهة، وأُثيب من جهة أخرى، يعني أُثيب ولو كان الثواب يعني براءته هذه منقبة من مناقبه. يعني ما صارت محنة محضة، لا، يعني مثل أكل آدم من الشجرة عوقب بإخراجه من الجنة، لكنه أُثيب بعد ماذا؟ توبته، اجتباه الله- جل وعلا-، وأنزله منزلة أعظم مما كان عليه من قبل.

"ومثال الخاص قصة عدي بن حاتم في فهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود حتى نزل بسببه: من الفجر".

نعم يُذكَر في سبب النزول أنه لما نزلت الآية { حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ}[سورة البقرة: 187] جعل تحت وساده خيطين، أسود وأبيض، صار يأكل حتى تبين له أحدهما، فجاء البيان بقوله -جل وعلا-: {مِنَ الْفَجْرِ}.

"وقصته في معنى قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [ التوبة: 31]".

يقول ما عبدناهم، ولا اتخذناهم أربابًا فجاء البيان منه -عليه الصلاة والسلام-: «أليسوا يحرمون ما أحل وتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ هذه عبادتهم». نعم. ويقع في مثل هذا كثير من المسلمين في هذه الظروف التي نعيشها، ينظرون الأهواء أهواء المتبوعين، فيجعلونها هي المقياس، لو أن هذا حرام ما سمح به، ولا دخل، ولا فعل ولا كذا، الحلال والتحليل والتحريم من الله -جل وعلا-، في نصوص الكتاب والسُّنَّة، أما تصرفات المخلوقين لو كان حرامًا ما فعله فلان، أو ما تركه فلان. المقصود أن مثل هذه الأمور يهتم لها الإنسان ليكون قدوته وعمله بالدليل.

"وقصة ابن عمر في طلاق زوجته إلى أمثال من ذلك كثيرة. فهذه المواضع وأشباهها مما يقتضي تعيين المناط لا بد فيها من أخذ الدليل على وفق الواقع بالنسبة إلى كل نازلة، فأما إن لم يكن ثم تعيين فيصحّ أخذه على وفق الواقع مفروض الوقوع، ويصحُّ إفراده بمقتضى الدليل الدال عليه في الأصل ما لم يتعين، فلا بد من اعتبار توابعه".

إن لم يكن ثمَّ تعيين، يعني أُخذ أصل المسألة من غير تطبيقها وتحقيق مناطها، على شخص معين له ظروفه، وله عوارضه إنما تلقى المسألة هكذا شرعية بدليلها، هذا ما يحتاج إلى أن تُفصِّل.

"فلا بد من اعتبار توابعه، وعند ذلك نقول: لا يصح للعالم إذا سئل عن أمر كيف يحصل في الواقع إلا أن يجيب بحسب الواقع، فإن أجاب على غير ذلك أخطأ في عدم اعتبار المناط المسؤول عن حكمه؛ لأنه سئل عن مناط معين، فأجاب عن مناط غير معين. لا يقال: إن المعين يتناوله المناط غير المعين".

أحيانًا لا يكون في المسألة دليل يخصُّها، فيُسأل المفتي عن مناطٍ معين فيجيب بمناطٍ غير معين؛ لأنه ليس عنده في المعيّن نصّ، وعنده في غير المعين نصّ يشمل هذا المعيّن وغيره، لما سئل النبي -عليه الصلاة والسلام- عن الحُمُر تكلم عن الخيل -عليه الصلاة والسلام-، سئل عن الحمر قال: «ما ما أنزل علي فيه شيء إلا هذه الآية الجامعة {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}[سورة الزلزلة: 6-7]»، هذه تشمل كل شيء، بما فيها المسؤول عنه، فيجيب عن المناط المعين بجواب مناط غير معين؛ لعدم وجود الدليل الذي يخصّ المعين، ولا يدخل في كلام المؤلف هنا؛ لأن المناط المعين فيه دليل، فإذا وجد فيه دليل صار الجواب بجواب تحقيق مناطٍ غير معين خطأً.

"لا يقال: إن المعين يتناوله المناط غير المعين؛ لأنه فرد من أفراد عام، أو مقيد من مطلق؛ لأنا نقول: ليس الفرض هكذا، وإنما الكلام على مناط خاص يختلف مع العام؛ لطروء عوارض كما تقدم تمثيله، فإن فرض عدم اختلافهما فالجواب إنما يقع بحسب المناط الخاص، وما مثل هذا إلا مثل من سأل: هل يجوز بيع الدرهم من سِكة كذا بدرهم في وزنه من سِكة أخرى؟ أو المسكوك بغير المسكوك، وهو في وزنه؟ فأجابه المسؤول بأن الدرهم بالدرهم سواء بسواء، فمن زاد أو ازداد، فقد أربى، فإنه لا يحصل له جواب مسألته من ذلك الأصل".

لأن الدرهم من السِكة كذا قد يختلف في وزنه عن الدرهم من السكة كذا، فمثلاً الجنيه الذهب يختلف في الجنيه العربي السعودي، وفي الجنيه المصري الذهب الذي حلّ محله الجنيه الورقي، وكان في السابق يُصرَف الجنيه الذهبي ذهبًا، بالجنيه الورقي المصري بجنيه ذهب الورق المصري بجنيه ذهب وزيادة قرشين، يعني جنيه الورق أفضل من جنيه الذهب، ثم انظر إلى ما وصل إليه الأمر الآن، وهذا موجود في سائر البلدان، لكن لو قلت: جنيه بجنيه، قال: ما في إشكال، درهم بدرهم ما فيه إشكال، دينار بدينار ما فيه إشكال، لكن انظر إلى حقيقة المسؤول عنه، قد يكون بينها تفاوت، وإذا قيل: درهم بدرهم انظر، هل زنتها واحدة؟ هل هذا مغشوش وهذا سليم؟ هل صحاح بدون غش؟ لا بد أن يُنظر في دقائق الأمور، أما إذا كانا من سِكة واحدة فالأصل فيها التماثل.

"إذ له أن يقول: فهل ما سألتك عنه من قبيل الربا أم لا؟ أما لو سأله: هل يجوز الدرهم بالدرهم، وهو في وزنه، وسكته وطيبه؟ فأجابه كذلك لحصل المقصود".

نعم لو قال: الدرهم بالدرهم، ولا يوجد في التعامل إلا درهم بدرهم، درهم واحد ما فيه أكثر من نوع، صحَّ الجواب، لكن يحصل الخلاف كثيرًا في التبايع أحيانًا تأتي إلى بلد من البلدان ثم تقول بكم هذا؟ يقول لك: بخمسين، وأنت في قرارة نفسك أنه بالنسبة لعملة البلد، وعملة البلد منهارة، فهم لا يتعاملون بها، يتعاملون بعملة أخرى، أكثر البلدان يتعاملون بالدولار، ثم يحصل الخلاف، يحصل الخلاف، هو يريد كذا، أنت لو في بلد من البلدان قلت: بكم هذا الكتاب؟ قال: بمائة ريال، هنا والمشتري من بلد آخر ما يعرف إلا رياله هو ريال اليمن مثلاً، أو ريال أي بلد ثانٍ، يعني المسألة لا بد من التدقيق عند الاختلاف، وأما إذا لم يوجد هناك اختلاف في حقائق هذه الأشياء فالجواب الدرهم بالدرهم لا إشكال فيه.

"فأجابه كذلك لحصل المقصود، لكن بالعرض لعلم السائل بأن الدرهمين مثلان كل وجه".

مثلان من كل وجه.

"مثلان من كل وجه. فإذا سئل عن بيع الفضة بالفضة فأجاب بذلك الكلام لكان مصيبًا؛ لأن السؤال لم يقع إلا على مناط مطلق، فأجابه بمقتضى الأصل، ولو فصل له الأمر بحسب الواقع لجاز، ويحتمل فرض صور كثيرة، وهو شأن المصنفين أهل التفريع والبسط للمسائل، وبسبب ذلك عظُمت أجرام الدواوين".

نعم عظُمت أجرام الدواوين، وجدت الكتب في عشرة مجلدات، عشرين مجلدًا، ثلاثين مجلدًا، إلى مائة مجلد وصلت بعض الكتب، ما الذي نفخها وصارت بهذا الحجم إلا كثرة التفاريع وكثرة التوقعات والافتراضات في المسائل العلمية.

"وكثرت أعداد المسائل غير أن الحكمة اقتضت أن يجاب السائل على حد سؤاله، فإن سأل عن مناط غير معين أجيب على وفق الاقتضاء الأصلي، وإن سأل عن مُعَيَّن، فلا بد من اعتباره في الواقع إلى أن يَستوفي له ما يَحتاج إليه، ومن اعتبر الأقضية والفتاوى الموجودة في القرآن والسُّنَّة وجدها على وفق هذا الأصل، وبالله التوفيق".

 اللهم صلِّ على محمد.