التعليق على الموافقات (1426) - 12

 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه، وبعد:

قال المؤلف –رحمه الله-: "بيان الثالث: أن الضروري مع غيره كالموصوف مع أوصافه، ومن المعلوم أن الموصوف لا يرتفع بارتفاع بعض أوصافه، فكذلك في مسألتنا؛ لأنه يضاهيه.

مثال ذلك الصلاة إذا بطل منها الذكر أو القراءة أو التكبير أو غير ذلك مما يُعد من أوصافها لأمر، لا يبطل أصل الصلاة".

المراد بالثالث: يعني ما ذكره سابقًا في أول المسألة من قوله: "أنه لا يلزم من اختلال الباقيين بإطلاق" كمالي تحسيني والحاجي "اختلال الضروري بإطلاق"، لكن قوله: "بإطلاق" يُفهم منه أنه قد يحصل في الضروري نوع خلل بوجهٍ ما، لكنه لا يلزم منه بطلانه أو اختلاله مطلقًا، وما ذكره في بيان هذه المسألة وبيان هذا الوجه "أن الضروري مع غيره كالموصوف مع أوصافه" فالضروري بمنزلة الموصوف، وغيره بالنسبة للحاجي والتحسيني كالأوصاف وكالنعوت، ومن المعلوم ضرورةً أن الموصوف لا يبطل ببطلان أوصافه إلا إذا كانت هذه الأوصاف أبعاضًا له، إذا كانت هذه الأوصاف أبعاضًا له بطل ببطلانها، يعني بفقدانها كلها مجتمعة، لكن ببطلان بعضها لا يبطل.

فعندنا الموصوف ذات الشيء وماهيته، فإذا بطلت بعض أوصافه كالكرم مثلاً لا يبطل الموصوف، بطلت بعض أبعاضه وهي أهم من الأوصاف الفعلية التي تطرأ وتزول قطعت يده قُطعت رجله لا يبطل ببطلانها.

"مثال ذلك الصلاة إذا بطل منها الذكر أو القراءة أو التكبير أو غير ذلك"؛ لأن المصلي أبكم مثلاً، هل تبطل الصلاة؟ هل تبطل أفعالها؟ تبطل ماهيتها؟ لا، ما تبطل.

"أو غير ذلك مما يُعد من أوصافها لأمرٍ" فإن هذا "لا يبطل أصل الصلاة"، بل أصل الصلاة يبقى قائمًا.

يبطل أصل الصلاة ببطلان بعض أوصافها إذا كان مؤثرًا في صحتها، وعلى هذا يجوز نفيها، إذا فقدت الصلاة الطمأنينة وهي ركنٌ من أركانها صح أن تُنفى هذه الصلاة وإن كانت ماهيتها موجودة، ماهيتها العرفية، ماهيتها اللغوية أفعالها موجودة، لكن بطلان وصفٍ مؤثر يبطلها؛ ولذا يقول أهل العلم: إن النهي إذا عاد إلى ذات المنهي عنه يعني إلى ماهيته بطل مع التحريم، إذا عاد إلى وصفٍ مؤثر، بعض من أبعاضها المؤثرة أو إلى شرطٍ من شروطها التي تبطل ببطلانه بطلت مع التحريم، إذا عاد النهي إلى أمرٍ خارج عن ذلك كله، فإنها لا تبطل حينئذٍ.

"وكذلك إذا ارتفع اعتبار الجهالة والغرر، لا يبطل أصل البيع، كما في الخشب، والثوب المحشو، والجوز، والقسطل، والأصول المُغيبة في الأرض، كالجزر واللفت، وأُسس الحيطان، وما أشبه ذلك".

نعم "الثوب المحشو" اشترى كوت مثلاً، الكوت لابد له من حشو؛ لأنه لا يتركب من قماشٍ فقط ولو عُددت طرائقه فإنه لا يكفي، لكن لابد له من حشو، هل يلزم أن يُقال: افتح لنا فتحة نرى ما الذي بجوفه لنعلم حشوه؟ ما يلزم، البيع صحيح، نعم لو تبين أن الحشو غير مناسب مثلاً تنبعث منه روائح مثلاً، أو تبين أنه لا يُناسب لُبسه بأن كان ترابًا مثلاً ثقيلاً وما رآه الشخص، حينئذٍ يرده.

على كل حال إذا تبين أن الغرر لا يمكن تجاوزه صار مؤثرًا، إذا كان مما تعارف الناس على تجاوزه ولا يؤثر في المبيع فإنه حينئذٍ يجوز، البطيخ مثلاً الحبحب عادةً يُستدل بظاهرها على باطنها، ويحصل فيها شيءٌ من الغرر اليسير، يعني تشتري بطيخة على أساس أن لون ما في جوفها أحمر، ثم يتبين أنه أحمر، لكن ما هو على الوجه الذي تُريده أقل بشيءٍ يسير تتجاوز، لكن لو صار أبيض، هذا غررٍ كثير لا يستقيم معه البيع أو كان ما في جوفها فاسدًا، وما أشبه ذلك.

"وكذا لو ارتفع اعتبار المماثلة في القصاص، لم يبطل أصل القصاص، وأقرب الحقائق إليه الصفة مع الموصوف".

"لو ارتفع اعتبار المماثلة في القصاص، لم يبطل أصل القصاص" شخص مقطوع اليد اليمنى قطع يد آخر اليمنى يبطل أصل القصاص، أم تُقطع يده الثانية؟ لكن لو كان مقطوع اليد اليسرى هل تقطع يده اليمنى؟ اليمنى أكمل من اليسرى، فهل من المماثلة أن يُقطع الأكمل في مقابل الأقل؟ ليس من المماثلة، لكن لو كان العكس أمكن القصاص منه.

"فكما أن الصفة لا يلزم من بطلانها بطلان الموصوف بها، كذلك ما نحن فيه، اللهم إلا أن تكون الصفة ذاتيةً بحيث صارت جزءًا من ماهية الموصوف، فهي إذ ذاك ركنٌ من أركان الماهية، وقاعدةٌ من قواعد ذلك الأصل، وينخرم الأصل بانخرام قاعدةٍ من قواعده، كما في الركوع والسجود ونحوهما في الصلاة، فإن الصلاة تنخرم من أصلها بانخرام شيءٍ منها بالنسبة إلى القادر عليها، هذا لا نظر فيه".

يعني مثل ما قلنا في الطمأنينة، الطمأنينة ركن تركه مُبطل للصلاة، فتنخرم الصلاة من أصلها، نعم.

"والوصف الذي شأنه هذا ليس من المحسنات ولا من الحاجيات، ولا من الضروريات".

نعم؛ لتوقف الضروري عليه، صار ضروريًّا لتوقف الضروري عليه، فصار ما بقي منها وجوده كعدمه، فصار بمنزلتها كلها، يعني لا يوجد فرق بين أن يُصلي الإنسان بخاتم ذهب أو عمامة حرير أو يصلي وعليه سترة حرير، هنا بطل الشرط؛ لأنه منهيٌ عنه، وعاد النهي إلى الشرط إذًا يأتي على الأصل بالبطلان، لكن لو صلى بعمامة حرير ستر الرأس ليس بشرط، فعاد النهي إلى أمرٍ خارج عن الصلاة وعن شرطها، وحينئذٍ تصح صلاته، وكذا لو صلى وبيده خاتم ذهب.

"لا يقال: إن من أوصاف الصلاة مثلاً الكمالية ألا تكون في دارٍ مغصوبة، وكذلك الذكاة من تمامها ألا تكون بسكينٍ مغصوبة وما أشبهه، ومع ذلك، فقد قال جماعةٌ ببطلان أصل الصلاة وأصل الذكاة، فقد عاد بطلان الوصف بالبطلان على الموصوف، لأنَّا نقول: من قال بالصحة في الصلاة والذكاة، فعلى هذا الأصل المقرر بنى، ومن قال بالبطلان فبنى على اعتبار هذا الوصف كالذاتي، فكأن الصلاة في نفسها منهي عنها".

لأنها عبارة عن حركات وُجِدت في مكانٍ نُهي عنه، فهذه الحركات تصرف في حق الغير من غير إذنه فهو ظلم، فصارت هذه الحركات منهيًّا عنها، فعاد النهي إلى ذات الصلاة، ومن جهةٍ أخرى البقعة طهارتها شرط لصحة الصلاة، فهي شرطٌ من جهة، فعاد النهي إلى شرطها، وعلى كل حال الصلاة عبارة عن حركات، وهذه الحركات عبارة عن حركاتٍ غير مأذونٍ فيها من قِبل صاحب الأرض، فصارت هذه الحركات منهيًّا عنها إذًا الصلاة منهيٌ عنها، فعاد النهي إلى ذات الصلاة هذه وجهة نظر من يقول ببطلان الصلاة في الدار المغصوبة، والذي يقول بصحتها يقول: لا يعود إلى ذاتها وتُعتبر صحيحة، ولا إلى شرطها، شروطها مكتملة، فعلى هذا فالصلاة صحيحة مع إثمه، فالجهة منفكة.

 "ومن قال بالبطلان فبنى على اعتبار هذا الوصف كالذاتي، فكأن الصلاة في نفسها منهيٌ عنها من حيث كانت أركانها كلها".

ما معنى غصب الأرض؟ هل معنى هذا أنه يستولي عليها ويُفرغها باسمه بطريقته ولو بشهادات زور، ويتمكن من بيعها أو عمارتها، أو أنه مجرد أن يتصرف فيها تصرفًا من غير إذن صاحبها يكون تصرفه تصرف الغاصب؟ المسألة تحتاج إلى نظر، كثير من الناس يخرج بنزهة هو وأولاده أو زملاؤه، فيجلس في أرض مملوكة، يتصرف فيها من غير إذن صاحبها، هل نقول: إن هذا غصب أو ليس بغصب -تصرف غير مأذون فيه- أو نقول: إن هذا يتبع عادة الناس وأعرافهم إذا كان هذا مما يُنكره أرباب الأراضي ومُلاكها يكون في حكم الغصب، وإن كان مما تعارف الناس على التسامح فيه، وأنه لو رآه ما قال له شيئًا، ولا أنكر عليه فيكون في حكم المأذون فيه؟

لأنه عادي حتى عند طلاب العلم يخرج مجموعة إلى أرض مسورة ويجلسون فيها، ويجلسون اليوم الكامل أو اليومين، ويصلون ويتصرفون تصرفًا من غير تثريبٍ عليهم من قِبل ضمائرهم، ما أحد يُناقش في مثل هذه المسائل، فهل نقول: إن هذا تصرف في ملك الغير، فهو ظلم من غير إذنه، أو نقول: هذا مما تعارف الناس على عدم إنكاره، وتسامحوا فيه، فيأخذ هذا الحكم؟ نعم قد يوجد من الناس-لكنهم قلة- قلة من الناس أنه لو وجد أُناس جالسين في أرضه التي لا تتضرر بحالٍ من الأحوال يطردهم منها وما المانع؟ يوجد، لكن غالب الناس يتسامحون في مثل هذا؛ لأن الأرض لا تتضرر بحالٍ من الأحوال.

وقل مثل هذا لو جلس تحت سور بيته أو محله دكانه أو غيره يستصبح في النور المنبعث من البيت يُمنع أم ما يُمنع؟ هذا لا يتضرر بحالٍ من الأحوال، مثل هذا تعارف الناس وتعافوا عن مثل هذا، كل واحد يعفو عن الثاني، مثل هذا في حكم المأذون به، لكن الورع ألا يكون صاحب الأرض من النوع الذي يُنكر مثل هذا، ولا يرضى أن يجلس الناس في أرضه ولو لم يتضرر، الورع أن يُجتنب مثل هذه الأراضي المملوكة، لاسيما بينة المعالم التي يُجزم بأنها مملوكة، أما الأرض التي يُشك فيها هل هي أرضٌ حرة أو مملوكة ولاسيما إذا كانت بعيدة عن البلد هذه الورع عنها فيه مشقة.

"من حيث كانت أركانها كلها - التي هي أكوانٌ- غصبًا؛ لأنها أكوانٌ حاصلةٌ في الدار المغصوبة، وتحريم الأصل إنما يرجع إلى تحريم الأكوان".

وتحريم ماذا، الغصب أو الأصل؟

طالب: "نحريم الأصل" الغصب عندك؟

نسخة واحدة "الأصل" وثلاث نسخ أو أربعة "الغصب" لكن الذي يظهر كأن "الأصل" هو...

طالب: لها وجهان؟

لها وجهان.

"وتحريم الأصل إنما يرجع إلى تحريم الأكوان، فصارت الصلاة نفسها منهيًّا عنها، كالصلاة في طرفي النهار، والصوم في يوم العيد.

وكذلك الذكاة حين صارت السكين منهيًّا عن العمل بها؛ لأن العمل بها غصب، كان هذا العمل المُعَين وهو الذكاة منهيًّا عنه، فصار أصل الذكاة منهيًّا عنه، فعاد البطلان إلى الأصل؛ بسبب بطلان وصفٍ ذاتي بهذا الاعتبار.

ويُتصور هنا النظر في أبحاثٍ هي منشأ الخلاف في مسألة الصلاة في الدار المغصوبة، ولكنها غير قادحةٍ في أصلنا المذكور، إذ لا يُتصور فيه خلاف؛ لأن أصله عقلي، وإنما يُتصور الخلاف في إلحاق الفروع به أو عدم إلحاقها به.

بيان الرابع من أوجه".

"الرابع" هو ما تقدَّم من قوله: "أنه قد يلزم من اختلال التحسين بإطلاق أو الحاجي بإطلاق اختلال الضروري بوجهٍ ما" الخلل لابد أن يقع في الضروري، لكن هل هذا الخلل مؤثر أو غير مؤثر؟ نعم قد يقع الخلل، لكن هذا الخلل غير مؤثر في الأصل الذي هو الضروري.

"أحدها: أن كل واحدةٍ من هذه المراتب لما كانت مختلفةً في تأكد الاعتبار، فالضروريات آكدها، ثم تليها الحاجيات والتحسينات، وكان مرتبطًا بعضها ببعض، كان في إبطال الأخف جرأةٌ على ما هو آكد منه، ومدخلٌ للإخلال به، فصار الأخف كأنه حمىً للآكد، والراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه".

مثل ما ذكرنا في الدرس الماضي أن التحسينات والكماليات سياج للحاجيات، والحاجيات سياج يمنع من الإخلال بالضروريات، والتجربة والمشاهدة تدل على أن من تساهل بالكماليات تساهل بالحاجيات، ومن تساهل بالحاجيات أوشك أن يتساهل بالضروريات.

الأصل أن لا يجب إلا الصلوات الخمس، هل علي غيرها؟ قال: «لا، إلا أن تطوع» لكن الذي يترك التنفل بالصيام، ولا يتنفل بصوم يومٍ واحد عدا ما افترض الله عليه هذا مظنة لأن يكون بحيث لو نذر أن يصوم ما يُعان على الصيام؛ لأنه ما تعود عليه، فإذا أخل بالتحسيني الذي هو النفل أخل بالواجب الذي هو النذر، وإذا أخل بالواجب ظهر الخلل في الضروري الذي هو صوم رمضان الذي هو ركن من أركان الإسلام، والذي يُكثر من التنفل بالصيام يتلذذ بصوم الواجب، ومن باب أولى أن يتلذذ بصوم الركن، وهكذا في جميع العبادات.

"فالمخل بما هو مكملٌ كالمخل بالمكمَّل من هذا الوجه".

يعني مثلاً مثل منزل له أسوار متعددة واحد وراء الثاني، فإذا أخل بالسور الأول أوشك أن يُخل بالسور الثاني لو السور الأول -الأول كانوا يُحيطون المدن بأسوار متعددة من أجل الأعداء- فإذا تهدم السور الأول ولم يتعاهده المسؤول عن هذا المكان لا شك أنه يوشك أن يتهدم الذي يليه، لكن إذا منع الخلل المؤثر في السور الأول فإنه لن يُتصور الخلل في السور الذي يليه وهكذا.

"ومثال ذلك الصلاة، فإن لها مكملاتٍ، وهي هنا سوى الأركان والفرائض، ومعلومٌ أن المخل بها متطرقٌ للإخلال بالفرائض والأركان".

وهي ما سوى الأركان والفرائض، "فإن لها مكملات، وهي ما سوى الأركان والفرائض".

طالب: وهي ما سوى؟

عندك مثل هنا هي ما؛ لأن المكملات غير الأركان والفرائض هي سواها، وعلى ما ذكرت تكون....

طالب: وهي هنا ما سوى؟

أين؟ لا، "وهي ما سوى".

طالب: ما فيه هنا؟

بدون هنا.

"ومعلومٌ أن المخل بها متطرقٌ للإخلال بالفرائض والأركان؛ لأن الأخف طريقٌ إلى الأثقل.

ومما يدل على ذلك ما في الحديث من قوله -عليه الصلاة السلام-: «كَالرَّاتِعِ حول الحمى يوشك أن يقع فيه»، وفي الحديث: «لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ».

وقول من قال: إني لأجعل بيني وبين الحرام سترةً من الحلال ولا أُحرمها.

وهو أصلٌ مقطوع به متفقٌ عليه، ومحل ذكره القسم الثاني من هذا الكتاب".

في الحديث «لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ» هذا على التفسير الذي أراده المؤلف أن المراد بالبيضة البيضة الحقيقية التي لا تبلغ قيمتها النِّصاب الذي تُقطع به اليد، وكذلك الحبل الذي لا تبلغ قيمته النِّصاب الذي تُقطع فيه اليد.

وأما على قول من قال: إن المراد بالبيضة البيضة التي تُوضع فوق الرأس تقيه في الحرب فقيمتها أكثر من نصاب القطع في السرقة، وأيضًا الحبل قال بعضهم: أن المراد به حبل السفينة، وقيمته أكثر من ربع الدينار أو الثلاثة دراهم التي تُقطع فيها اليد، واليد لا تُقطع في الشيء التافه كما قالت عائشة –رضي الله عنها- وهذه تافهة على مراد المؤلف –رحمه الله- هذه تافهة لا تُقطع فيها اليد، لكن يقول -تنزلاً على مراده هو-: أن السارق يسرق البيضة ويتساهل فيها، أولاً يسرق الحبة، تجدون بعض الناس، وهذا كأنه منتشر عند الناس إذا دخل محل مكسرات يأخذ حبةً من هذا، وحبةً من هذا، وحبةً من هذا، ما يرى في هذا بأسًا؛ لأن صاحبها لا يتضرر، لكن فيما بعد يبدأ يزيد، يأخذ حبتين ثلاثًا، وينظر إذا رآه صاحب المحل، ثم بعد يبدأ يأخذ بيده هكذا إذا رآه صاحب المحل وسكت إلى أن يأخذ ما تُقطع به اليد، فهذا يسرق البيضة الآن، اليوم سرق البيضة، غدًا يسرق الدجاجة، وبعدها يسرق ما هو أعظم منها.

 فهذه الأمور وهذه التصرفات لا شك أنها تتربى مع النفوس طردًا وعكسًا، تساهلاً وورعًا، تُربي نفسك على الورع بترك الأثقل ثم ما دونه، ثم ما دونه، ثم تتورع عن الحبة، وتفطم نفسك فطامًا عنها، وبالمقابل تتساهل في الحبة، ثم تأخذ البيضة، ثم تأخذ الدجاجة، ثم تأخذ الشاة أو الكبش قريبًا من منزل صاحبه، وتقول: لك أو لأخيك أو للذئب، وتتساهل إلى أن تأخذ الجمل. المقصود أن مثل هذه الأمور لابد من فطام النفس عنها، لابد أن يفطم الإنسان نفسه عنها.

قول بعض السلف: "إني لأجعل بيني وبين الحرام سترةً من الحلال ولا أخرقها" هذا ثبت عن بعضهم أنه قال: أنه يترك تسعة أعشار الحلال مخافة أن يقع في الحرام، لا يُتصور من شخص يترك الحلال أنه يقع في حرام تحت أي ظرفٍ من الظروف، لكن الذي يسترسل في الحلال، ولا يكف نفسه عن شيءٍ من الحلال يُثني بالمُختلف فيه، ويقول: فلان إمام من أئمة المسلمين يُبيحه؛ لأن نفسه استشرت على هذا الأمر، ولا وضع لها حدًّا فاسترسلت، فتطلب الذي بعده وقع في المُختلف فيه، وقد يقع أولاً يتورع عن المرجوح، ثم يتورع عن الراجح، ثم يقع في المرجوح، وهكذا إلى أن يقع في المُحرَّم الصريح.

على كل حال على الإنسان أن يفطم نفسه من بدايتها، وترك الحلال لا مع اعتقاد أنه حرام لا؛ لأن بعض الناس يتورع عن بعض المأكول وبعض الملبوس وبعض المركوبات، ويفطم نفسه عنها ويجبل نفسه على شيءٍ من الشدة، لكن لا يقترن ذلك بتحريم حلال؛ لأن الأمر عظيم إن اقترن بذلك، الأمر إن اقترن بتحريم الحلال، قلنا: إن الذي يقع في هذه المحرمات أفضل من هذا الذي يُحرمها، الذي يُزاول المحرم مع اعتقاده أنه محرَّم أسهل بكثير ممن يتورع عنها ويُحرمها وهي حلال.

طالب:.........

نعم، ما يمنع، يعني كون الإنسان يتورع في نفسه ويأطر نفسه على شيء، لكن كونه يُفتي الناس ويجبرهم على ذلك فلا، لا يجوز له أن يُحرِّم الحلال بحال.

"فالمتجرئ على الأخف بالإخلال به معرض للتجرؤ على ما سواه، فكذلك المتجرئ على الإخلال بها يتجرأ على الضروريات، فإذًا قد يكون في إبطال الكمالات بإطلاق إبطال الضروريات بوجهٍ ما.

ومعنى ذلك أن يكون تاركًا للمكملات ومخلاًّ بها بإطلاق، بحيث لا يأتي بشيءٍ منها، وإن أتى بشيءٍ منها كان نزرًا، أو يأتي بجملةٍ منها إن تعددت، إلا أن الأكثر هو المتروك والمُخَل به؛ ولذلك لو اقتصر المصلي على ما هو فرضٌ في الصلاة، لم يكن في صلاته ما يُستحسن، وكانت إلى اللعب أقرب، ومن هنا يقول بالبطلان في ذلك من يقوله".

الصلاة التي وقعت المناظرة فيها -إن ثبتت القصة- بين شافعيٍ وحنفي لدى السلطان محمود بن سبكتكين، جاء شافعي ليُنفِّر السلطان من مذهب أبي حنيفة، فتوضأ بنبيذ، فاجتمع عليه الذباب، وجاء بجلد كلبٍ مدبوغ وجعل شعره مما يليه، وباطنه مما هو إلى الخارج، ونقر ركعتين بناءً على أن الطمأنينة ليست بركن عنده، -ولمَّا فرغ منهما-، وقرأ قراءةً مترجمة ليست بالعربية ترجم كلمة من القرآن قال دوسبس أو شيئًا من هذا أو ما أدري أيش قال، ما أدري أنا ما أضبط الأعجمية.

 المقصود أنه ترجم كلمة من القرآن ما تيسر، ونقر الركعتين، ثم في آخرها أحدَث من غير سلام، قال هذه صلاة الحنفية، فتحول السلطان من مذهب أبي حنيفة إلى مذهب الشافعي، لا شك أن مثل هذه لو اجتمعت مثل هذه التصرفات هل يُمكن أن يُقال بصحة الصلاة، ولو رأى أبو حنيفة مثل هذا يُصلي يُجيز الوضوء بالنبيذ، ويُجيز كذا، لكن ما يُجيزها مجتمعة هذه أقرب إلى العبث واللعب.

المقصود أن مثل هذه الصلاة التي لا يُقتصر فيها إلا على الأركان أشبه ما تكون باللعب، وهذه القصة أوردها الجويني وغيره، والله أعلم بثبوتها، هل تثبت أو لا تثبت؟

 المقصود أن مثل هذه الصلاة يُصححها على مذهب أبي حنيفة، وعند الشافعي وغيره لا تصح، فمثل هذه إلى اللعب أقرب، وهذه من أعظم ما يُنفِّر لاسيما الشخص العادي الذي لا علم له، ولا فقه لديه، ولم يعرف أدلة مذهبه فإنه يرجع عنه، أظن في دائرة المعارف (دائرة معارف القرن العشرين) ذكر هذه القصة في باب في السين عند سبكتكين، وتعقبها، فنَّدها من كل وجه، حتى قال: إن الوضوء بالنبيذ، إن النبيذ يزيد على الماء بأن فيه الكحول، والكحول مما يزيد في التطهير لا مما... المقصود أنها في قصةٍ طويلة إن صحت فهي حقيقةً مُنفِّرة، يعني لو تصورنا هذه الصلاة التي صلاها مُنفِّرة، وهي إلى اللعب أقرب.

"وكذلك نقول في البيع: إذا فات فيه ما هو من المكملات كانتفاء الغرر والجهالة أوشك أن لا يحصل للمتعاقدين أو لأحدهما مقصود، فكان وجود العقد كعدمه، بل قد يكون عدمه أحسن من وجوده، وكذلك سائر النظائر.

والثاني: أن كل درجةٍ بالنسبة إلى ما هو آكد منها كالنفل بالنسبة إلى ما هو فرض، فستر العورة واستقبال القبلة بالنسبة إلى أصل الصلاة كالمندوب إليه، وكذلك قراءة السورة، والتكبير، والتسبيح بالنسبة إلى أصل الصلاة، وهكذا كون المأكول والمشروب غير نجس، ولا مملوكٍ للغير ولا مفقود الزكاة بالنسبة إلى أصل إقامة البينة".

البنية.

"بالنسبة إلى أصل إقامة البنية وإحياء النفس كالنفل، وكذلك كون المبيع معلومًا، ومنتفعًا به شرعًا، وغير ذلك من أوصافه بالنسبة إلى أصل البيع كالنافلة.

وقد تقرر في كتاب الأحكام أن المندوب إليه بالجزء ينتهض أن يصير واجبًا بالكل؛ فالإخلال بالمندوب مطلقًا يُشبه الإخلال بركن من أركان الواجب؛ لأنه قد صار ذلك المندوب بمجموعه واجبًا في ذلك الواجب، ولو أخل الإنسان بركنٍ من أركان الواجب بغير عذرٍ بطل أصل الواجب، فكذلك إذا أخل بما هو بمنزلته أو شبيهٍ به فمن هذا الوجه أيضًا يصح أن يُقال: إن إبطال المكملات بإطلاق قد يُبطل الضروريات بوجه ما".

يعني مثل الصلاة التي ذكرناها، يعني لو توضأ بنبيذ، وصلى صلاة مُودِّع مثلاً ونعرف أن أبا حنيفة، مذهب الحنفية يجوز الوضوء بالنبيذ، يعني ما صار الإشكال الكبير، ولو صلى توضأ بوضوءٍ مُتفق على الوضوء به، وأخل بشيءٍ هو معروف في مذهبٍ ما من المذاهب، وعرفنا أن هذا مذهب ذلك الشخص ما أنكرنا عليه، لكن لو اجتمعت كلها، كل الرخص في هذا المذهب اجتمعت في هذه الصلاة، فضلاً عن أن تجتمع رُخص المذاهب كلها في هذه الصلاة لا شك أن الخلل يتطرق إليها.

"والثالث: أن مجموع الحاجيات والتحسينيات ينتهض أن يكون كل واحدٍ منهما كفردٍ من أفراد الضروريات، وذلك أن كمال الضروريات من حيث هي ضروريات إنما يحسن موقعه حيث يكون فيها على المكلف سعةٌ وبسطة، من غير تضييقٍ ولا حرج، وحيث يبقى معها خصال معاني العادات ومكارم الأخلاق متوفرة الفصول، مُكمَّلة الأطراف، حتى يستحسن ذلك أهل العقول، فإذا أُخل بذلك، لبس قسم الضروريات لبسة الحرج والعنت، واتصف بضد ما يُستحسن في العادات، فصار الواجب الضروري مُتكلف العمل، وغير صافٍ في النظر الذي وضعت عليه الشريعة، وذلك ضد ما وُضعت عليه، وفي الحديث: «بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ»، فكأنه لو فُرض فقدان المكملات، لم يكن الواجب واقعًا على مقتضى ذلك، وذلك خللٌ في الواجب ظاهر، أما إذا كان الخلل في المُكمِّل للضروري واقعًا في بعض ذلك وفي يسيرٍ منه، بحيث لا يَزيل".

يُزيل.

"بحيث لا يَزيل حُسنُه".

حُسنه.

"بحيث لا يُزيل حُسنه، ولا يرفع بهجته".

يعني إذا كان شيئًا يسيرًا، خللًا يسيرًا في المكملات فالضروري باقٍ على هيئته، حُسنه وجماله وكماله ظاهر، لكن لو أُخل بالتكميلات والتحسينات كلها، وأُخل بشيءٍ من الحاجيات لا شك أن الحسن والبهاء لهذا العمل سواءً كان من أمور الدين أو من أمور الدنيا يزول، يزول بقدر ما زال منه من المكملات والحاجيات.

"ولا يغلق باب السعة عنه، فذلك لا يخل به، وهو ظاهر.

والرابع:

أن كل حاجيٍ وتحسيني إنما هو خادمٌ للأصل الضروري ومؤنسٌ به ومحسن لصورته الخاصة، إما مقدمةً له، أو مقارنًا، أو تابعًا".

سواءً كان أمامه أو خلفه، المقصود أنه سياج يمنع من الخدش في الضروري.

"وعلى كل تقديرٍ، فهو يدور بالخدمة حواليه، فهو أحرى أن يتأذى به الضروري على أحسن حالاته".

يتأدى.

طالب: أن يتأتى؟

يتأدى بالدال.

طالب: بالدال؟

نعم.

"وذلك أن الصلاة مثلا إذا تقدمتها الطهارة أشعرت بتأهبٍ لأمرٍ عظيم، فإذا استقبل القبلة أشعر التوجه بحضور المتوجه إليه".

يعني أمرٌ محسوسٌ وملموس شخص تقدم إلى الصلاة قبل الإقامة بربع ساعة مثلاً، وصلى الراتبة وجلس، ثم أُقيمت الصلاة، النفس متهيأة للصلاة، لكن شخص جاء بعد الإقامة، وقد أسرع في مشيه، وقلبه مُعلق بما اشتغل به قبل ذلك، هذا غير مُتهيئ للصلاة.

"فإذا أحضر نية التعبد، أثمر الخضوع والسكون، ثم يدخل فيه على نسقها بزيادة السورة خدمةً لفرض أم القرآن؛ لأن الجميع كلام الرب المتوجه إليه، وإذا كبَّر وسبَّح وتشهَّد، فذلك كله تنبيهٌ للقلب، وإيقاظٌ له أن يغفل عما هو فيه من مناجاة ربه والوقوف بين يديه، وهكذا إلى آخرها، فلو قدم قبلها نافلةً، كان ذلك تدريجًا للمصلي واستدعاءً للحضور، ولو أتبعها نافلةً أيضًا، لكان خليقًا باستصحاب الحضور في الفريضة.

وفي الاعتبار في ذلك".

ومن.

طالب: ومن؟

ومن الاعتبار.

طالب: من.

من، نعم.

"ومن الاعتبار في ذلك أن جُعلت أجزاء الصلاة غير خاليةٍ من ذكرٍ مقرونٍ بعمل؛ ليكون اللسان والجوارح متطابقةً على شيءٍ واحد، وهو الحضور مع الله فيها بالاستكانة والخضوع والتعظيم والانقياد، ولم يخل موضعٌ من الصلاة من قولٌ أو عمل؛ لئلا يكون ذلك فتحًا لباب الغفلة ودخول وساوس الشيطان".

لأن السكوت مدخل الإنسان إذا سكت سواءٌ كان في صلاته أو وهو ماشٍ أو وهو جالس، لابد أن تُحدثه نفسه بشيء، لكن لو استغل هذا السكوت بذكر مثلاً ما صار للشيطان مجال؛ ولذا جاءت أركان الصلاة كلها مشغولةً بالأذكار، بعضهم يستدل على عدم مشروعية جلسة الاستراحة أنها تخلو من ذكر، ولو كانت مشروعةً لشُرع ذكر، لكنها بجلسة انتقال، ما هي بجلسة جلوس، جلسة لا تحتمل الذكر، والفيصل في ذلك ما ثبت عنه –عليه الصلاة والسلام- من فعله قد ثبت في الصحيح من حديث مالك بن الحويرث، وثبتت أيضًا من أمره –عليه الصلاة والسلام- للمسيء، وثبتت أيضًا في وصف أبي حميد لصلاته –عليه الصلاة والسلام- فلا إشكال في مشروعيتها.

"فأنت ترى أن هذه المكملات الدائرة حول حمى الضروري خادمةٌ له ومقويةٌ لجانبه، فلو خلت عن ذلك أو عن أكثره، لكان خللاً فيها، وعلى هذا الترتيب يجري سائر الضروريات مع مكملاتها لمن اعتبرها.

بيان الخامس: ظاهر مما تقدم".

الخامس مفاده أنه ينبغي المحافظة على الحاجي، وعلى التحسيني للضروري.

"لأنه إذا كان الضروري قد يختل باختلال مكملاته، كانت المحافظة عليها لأجله مطلوبة؛ ولأنه إذا كانت زينةً لا يظهر حُسنه إلا بها، كان من الأحق أن لا يُخل بها.

وبهذا كله يظهر أن المقصود الأعظم في المطالب الثلاثة المحافظة على الأول منها".

"كان من الأحق".

طالب: وبهذا؟

لا، قبل. "كان من الأحق".

طالب: " كان من الأحق أن لا يُخلَّ بها".

يُخل أو يُخِل؟

طالب: يُخلَّ.

لكن (أن) هذه هي الناصبة ومصدرية، أو المُخففة؟

طالب:........

لأنه عندنا ضبطها بالضم.

طالب: مضبوطة يعني؟

عندنا بالضم.

طالب:.........

المُحققة هذا.

طالب: يُخلُّ.

ضبطها المُحقق، لكن هل هي المُخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن مُقدَّر، أو هي الناصبة المصدرية؟ يعني "كان من الأحق أنه لا يُخلُّ بها" علم أن سيكون، هل هذه أو هذه؟

طالب:........

بدون لا، كان من الأحق أن يُخلَّ بها، لا..لا، واضح هذا.

طالب: ألا يُخل بالمكملات.

المقصود أن (أن) هذه المصدرية، أم المُخففة؟

طالب: مصدرية ناصبة.

إن كانت مصدرية ناصبة فما فيها إشكال، لكن هو ضبطها بالضم فهل على اعتبار أنها....

طالب: نسخة الدراز؟

لا..لا هذه هي المُحققة هذه مشهور حسن سلمان، أما لو ضبطها الشيخ دراز هذا ما فيها إشكال، الشيخ عالم، -يا إخوان- لتصحيح كلامه هل نقول: إنها مُخففة من الثقيلة، وكلامه ماشٍ؟ يعني مضموم الفعل يعني مرفوع أم منصوب؟ يعني لو تُركت غُفُل بدون إعراب مشت هل هناك ما يمنع أن تكون مُخففة؟ يا شيخ فيه ما يمنع؟

طالب: الفاصل بـ (لا).

يمنع من أن تكون مُخففة.

طالب: نعم إذا كانت مُخففة من الثقيلة عاملة وهنا (لا) حائلة دون عملها.

حتى المصدرية عاملة؟

طالب:.........

أنا أريد أن أقول: هل لرفع الفعل وجه أم ما له وجه؟ على كل حال إذا اعتبرناها مصدرية فإننا لا نحتاج إلى تقدير، وإذا جعلناها مُخففة نحتاج إلى التقدير، وما لا يحتاج إلى تقدير أولى مما يحتاج إليه.

"وبهذا كله يظهر أن المقصود الأعظم في المطالب الثلاثة المحافظة على الأول منها وهو قسم الضروريات، ومن هنا كان مراعىً في كل ملة، بحيث لم تختلف فيه الملل كما اختلفت في الفروع، فهي أصول الدين، وقواعد الشريعة، وكليات الملة".

كفى.

الله يعينكم.