التعليق على الموافقات (1426) - 03

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه، وبعد:

قال المؤلف –رحمه الله-: "في المسألة السادسة، فأما الأخذ بالعزيمة قد يُقال: إنه أولى لأمور".

في الرابع.

"وذلك أن هذه العوارض الطارئة وأشباهها مما يقع للمكلفين".

"وأمثال هذا كثيرةٌ" هو الذي يربط.

طالب: كثيرة؟

التي قبله بسطرين، "وأمثال هذا كثيرةٌ" هو الذي يربط الكلام الأول السابق باللاحق؛ لأنهم أخذوا بالعزائم وتركوا الرخص، لماذا؟ سلف هذه الأمة أخذوا كثيرًا بالعزائم وتركوا الرخص؛ لأنهم عرفوا أنهم مبتلون، وهذه تكاليف، فيرجحون الأخذ بالعزيمة من هذه الحيثية.

"مما يقع للمكلفين من أنواع المشاق، هي مما يقصدها الشارع في أصل التشريع".

لا لذاتها قد يُوجد مشقة في التكليف تابعة للحكم المشروع لا لذاتها، وهي مقصودة من جهة اعتبار امتثال المكلفين، المكلَّف يمتثل أم ما يمتثل؛ ولذا حُفت الجنة بالمكاره؛ ليتميز أصحاب اليمين من أصحاب الشمال، يتميز فريق الجنة وفريق السعير، وإلا لو كانت التكاليف سهلة وهينة وكلٌّ يستطيعها وموافقة لِما ترغبه النفس وترضاه ما تميز الفريقان.

"أعني أن المقصود في التشريع إنما هو جارٍ على توسع مجاري العادات".

توسط.

طالب: توسط؟

ماذا عندك؟ توسط.

طالب:........

لا الأمر الذي يشق على النفس بحيث لا تطيقه كما هو طبيعة الشرائع السابقة من الآصار والأغلال ولا على الضياع الذي هو سبيل أو سُبل أهل الجحيم –نسأل الله العافية- على التوسط {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}[البقرة:143].

"وكونه شاقًّا على بعض الناس أو في بعض الأحوال مما هو على غير المعتاد لا يخرجه عن أن يكون مقصودًا له".

نعم الأصل فيه هكذا التوسط، لكن قد يوجد من بعض الناس من لا يحتمل هذا المتوسط؛ لضعفٍ في بدنه أو في إرادته فهذا لا يُلتفت إليه، كما أنه يُوجد من أهل العزائم من يرى هذه المشاق المتوسطة أمورًا سهلةٌ جدًّا، حتى إن بعضهم يشك هل يُؤجر على هذا العمل الذي يقوم به أو لا يُؤجر؟ لأنه مما ألِفته نفسه وأخذت عليه، فصار لا يشق عليه بوجه، بل صار يتلذذ به، فلا عبرة بهذا ولا هذا، الأصل المشقة، نعم من صارت عنده دُربة وألِف العمل هان عليه، ومن أعرض عنه شق عليه.

"لأن الأمور الجزئية لا تخرم الأصول الكلية".

نعم هناك قواعد كلية في الشريعة هي تُناسب أوساط الناس، والشرع كله مبنيٌ على هذا، لكن كونه يُوجد من لا يحتمل هذا التوسط، أو يُوجد من يرى هذا التوسط أمرًا سهلاً ميسورًا هذا لا يخرج من القاعدة الكلية.

"وإنما تستثنى حيث تستثنى نظرًا إلى أصل الحاجيات بحسب الاجتهاد، والبقاء على الأصل من العزيمة هو المعتمد الأول للمجتهد، والخروج عنه لا يكون إلا بسببٍ قوي، ولذلك لم يُعمل العلماء مقتضى الرخصة الخاصة بالسفر في غيره".

لأن الأصل في الترخص المشقة، والسفر هذه طبيعته ولم يطرد هذه العلة كل عملٍ شاق يُترخص فيه لا، الصيام في الصيف في شدة الحر لا يقتضي الترخص مع الصنائع الشاقة للعمال، مع قسوة الجو عليهم لا يقتضي الترخص، بل يُقتصر في الترخص على ما ورد به النص، وما عدا ذلك يُحمل على العزيمة.

طالب:.........

لأن الأصل فيه المشقة.

طالب:.........

لا لا، أوساط الناس، فإذا نزلت الرخصة عمت الناس ولو ساكن المسجد، لكن يُراعى في ذلك أوساط الناس لا المتساهلون ولا المتشددون، من الناس من لو وجدت سيول ما جمَع، ومن الناس من يجمع للغيم مجرد غيم، والملاحظ وجود المشقة أراد ألا يُحرج أمته، فمتى وجد الحرج نزلت الرخصة.

"كالصنائع الشاقة في الحضر، مع وجود المشقة التي هي العلة في مشروعية الرخصة، فإذًا لا ينبغي الخروج عن حكم العزيمة مع عوارض المشقات التي لا تطرد ولا تدوم؛ لأن ذلك جارٍ أيضًا في العوائد الدنيوية، ولم يخرجها ذلك عن أن تكون عادية، فصار عارض المشقة- إذا لم يكن كثيرًا أو دائمًا- مع أصل عدم المشقة، كالأمر المعتاد أيضًا، فلا يخرج عن ذلك الأصل.

لا يُقال: كيف يكون اجتهاديًّا وفيه نصوصٌ كثيرة كقوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}[البقرة:173]، وقوله: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ}[البقرة:184]. «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ» إلى غير ذلك مما تقدم وسواه مما في معناه.

لأنَّا نقول: حالة الاضطرار قد تُبين أنه الذي يخاف معه فوت الروح، وذلك لا يكون إلا بعد العجز عن العبادات والعادات، وهو في نفسه عذرٌ أيضًا"

نعم يكون أصل المسألة منصوصًا عليه، لكن تطبيق هذه المسألة أو هذا الفرع على أصل المسألة يحتاج إلى نظرٍ واجتهاد.

"وما سوى ذلك فمحمولٌ على تحقق المشقة التي يُعجز معها عن القيام بالوظائف الدينية أو الدنيوية، بحيث ترجع العزيمة إلى نوعٍ من تكليف ما لا يُطاق، وهو منتفٍ سمعًا، وما سوى ذلك من المشاق مفتقرٌ إلى دليلٍ يدل على دخوله تحت تلك النصوص، وفيه تضطرب أنظار النظار كما تقدَّم، فلا معارضة بين النصوص المتقدمة وبين ما نحن فيه، وسبب ذلك -وهو روح هذا الدليل- هو أن هذه العوارض الطارئة تقع للعباد ابتلاءً واختبارًا لإيمان المؤمنين، وتردد المترددين، حتى يظهر للعيان من آمن بربه على بينة، ممن هو في شك، ولو كانت التكاليف كلها يخرم كلياتها كل مشقةٍ عرضت؛ لانخرمت الكليات كما تقدَّم، ولم يظهر لنا شيءٌ من ذلك، ولم يتميز الخبيث من الطيب".

لا شك أن الأصل في التكاليف امتحان المُكلفين؛ ليُنظر مدى استجابتهم لهذه التكاليف، فالذي يُطيع ويمتثل فله جزاؤه، والذي يُعاند ويعصي ويأبى فهذا له جزاؤه «كلهم يدخل الجنة إلا من أبى»، يستغرب الإنسان كيف يأبى الإنسان أن يدخل الجنة، كيف يأبى الإنسان أن يدخل الجنة يمتحن نفسه ويختبر نفسه هل هو مُنقاد لهذه الأوامر؟ هذا لم يأبَ، هل هو لم يرضَ بهذه الأوامر ولا يرفع بها رأسًا؟ هذا أبى «من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى».

 "فالابتلاء في التكاليف واقعٌ، ولا يكون إلا مع بقاء أصل العزيمة، فيبتلى المرء على قدر دينه، قال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}[الملك:2].

{الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُون * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ }[العنكبوت:1-3] الآية.

{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ}، ثم قال: {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُور}[آل عمران:186].

{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ}[محمد:31].

{وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِين}[آل عمران:141].

{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِين}[البقرة:155] إلى آخرها".

وهذه هي الغاية من إرسال الرسل وإنزال الكتب كلها من أجل ابتلاء المخلوقين {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ}[محمد:31] نختبركم، وإلا فالله -جلَّ وعلا- عالم وعليم وعلام بما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، قبل أن يخلقهم قدَّر عليهم وعرف وعلم ما يعملون قبل أن يُوجدهم، ويعرف أن هذا يُطيع وهذا يعصي، وله أن يحكم بمثل هذا، ويُعاقب يُجازي بمثل هذا؛ لكن ليقطع العذر، ولتقوم الحُجَّة {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ }[البقرة:150]، وليظهر هذا إلى عالم الشهود؛ ومن أجل هذا وُجدت الموازين.

"فأثنى عليهم بأنهم صبروا لها، ولم يخرجوا بها عن أصل ما حُملوه إلى غيره، وقوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ}[البقرة:155] يدل على أن هذه البلوى قليلة الوقوع بالنسبة إلى جمهور الأحوال، كما تقدَّم في أحوال التكليف".

يعني كما ابتُلي اليهود بكثرة السمك حيتان يوم السبت، وقِلتها في غيرها من الأيام بعد أن مُنِعوا من الصيد يوم السبت، ويُبتلى المُحرِم بكثرة الصيد ومن في الحرم كذلك؛ ليُنظر مدى استجابته لهذه الأوامر وهذه النواهي {لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ}[المائدة:94] بحيث لو خلا عن الناس تكون مدى هذه الاستجابة.

"فإذا كان المعلوم من الشرع في مثل هذه الأمور طلب الاصطبار عليها، والتثبت فيها، حتى يُجري التكاليف على مجراه الأصلي".

التكليف..التكليف.

طالب: التكليف؟

نعم.

"كان الترخص على الإطلاق كالمضاد لما قصده الشارع من تكميل العمل على أصالته لتكميل الأجر.

والخامس: أن الترخص إذا أُخذ به في موارده على الإطلاق كان ذريعةً إلى انحلال عزائم المكلفين في التعبد على الإطلاق".

نعم لو كان الأصل الرخص وليس الأصل العزيمة لكان الأصل التفلت من التكاليف، ولا يلجئون إليها إلا على خلاف الأصل، لكن الأصل التكاليف، والإنسان أو الخلق كلهم من الجن والإنس إنما خُلقوا لتحقيق العبودية، وهي تكاليف وإلزام، كُلفة ومشقة هذا الأصل فيها، إذا زادت هذه الكلفة أو المشقة عن التحمل جاء الترخص.

"فإذا أخذ بالعزيمة كان حريًا بالثبات في التعبد والأخذ بالحزم فيه.

بيان الأول أن «الْخَيْرَ عَادَةٌ، وَالشَّرَّ لَجَاجَةٌ»".

«الْخَيْرَ عَادَةٌ» هو الأصل المُطرد هو الخير، وضده على خلاف الأصل.

 وهذا مشاهدٌ محسوس، لا يحتاج إلى إقامة دليل، والمتعود لأمرٍ يسهل عليه ذلك الأمر ما لا يسهل على غيره، كان خفيفًا في نفسه أو شديدًا، فإذا اعتاد الترخص، صارت كل عزيمةٍ في يده كالشاقة الحرجة".

بلا شك؛ لأنه ما عود نفسه على التكاليف، وهذا شيء محسوس الذي يُعوِّد نفسه على كثرة التعبد من صيام وصلاة يسهل عليه بحيث يراه بعض الناس من أعظم الناس عزيمة، وهي عنده من أيسر الأمور، من تَعوَّد على القراءة والمطالعة قراءة القرآن يسهل عليه جدًّا بحيث يتلذذ بهذا، ويراه الآخرون ممن ليسوا كذلك يرونه شيئًا خُلِق من غير طينتهم، هذا أمر لا يُطاق عند كثيرٍ من الناس، كل هذا سببه التعود.

"وإذا صارت كذلك لم يقم بها حق قيامها، وطلب الطريق إلى الخروج منها، وهذا ظاهر".

الإنسان يختبر نفسه أثناء الدراسة مثلاً، سواءً كان متعلمًا أو مُعلمًا في منتصف الدراسة يسهل عليه التردد على دور العلم، لكن إذا جاءت الإجازة، وطالت ثلاثة أشهر، أربعة أشهر، ثم بدأت الدراسة انقطع التعود، والاستئناف من أشق الأمور على النفوس؛ ولذا يضرب العرب المثل يضربون المثل في ثِقل الأمر بسبت الصبيان؛ لأنه الجمعة مُعطل، ما عنده شغل، ما يدرس يوم الجمعة، فإذا جاء السبت ثقل عليه الرجوع إلى المدرسة أثقل من سبت الصبيان، لكن عندهم الأحد، الإثنين، الثلاثاء، الأربعاء سهلة الخميس يرجو، لكن السبت مشكلة فهو بادئ؛ ولذا كان أشق عليه؛ لأنه ترك التعود، ورجع إلى الراحة بخلاف ما لو كانت الأيام كلها دراسة.

"وقد وقع هذا المتوقع في أصولٍ كلية، وفروعٍ جزئية، كمسألة الأخذ بالهوى في اختلاف أقوال العلماء، ومسألة إطلاق القول بالجواز عند اختلافهم بالمنع والجواز، وغير ذلك مما نُبه عليه في أثناء الكتاب أو لم يُنبه عليه".

والهوى لا يجوز تحكميه فيما اختلف فيه أهل العلم، فالمرد في ذلك إلى النص {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ}[الشورى:10] ما يوجد غير هذا، أما ينظر في الأقوال وينظر في أسهل الأقوال، ويزعم أنه ما خُير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، هذا هو الذي يقوله أهل العلم: تتبع الرخص، هذا هو تتبع الرخص، أما النظر في الأمرين في وقت الإمكان في وقت التشريع أنه يُقر هذا أو هذا الآن أُقِر وانتهى، أُقِر أحدهما إما الأسهل أو الأشد، فلا نظر حينئذٍ إلا في الدليل.

طالب:.........

تبرأ الذمة بتقليد أحدهما، نعم لكن لا يخلو من هوى، ما الذي جعله يُرجِّح هذا؟ يقول: لابد من مُرجِّح، يعني أنت لمَّا تختار أحد الطريقين أو تختار أحد الرغيفين، فما السبب أخذت هذا أو هذا؟

طالب:.........

ما ينفع الأسهل، ما ينفع الأسهل، ما هو مرد عند الاختلاف، المرد عند التنازع إلى الله ورسوله، إلى الكتاب والسُّنَّة، بل إذا أخذ الأسهل اتهمناه أنه اتبع هواه، فإن كان من أهل النظر فينظر في الدليل، إن لم يكن من أهل النظر يتبع هذا باستمرار أو هذا باستمرار، وتبرأ الذمة، أما كونه يختار الأسهل فمن أهل العلم من يرى اختيار الأشد باستمرار؛ لأن أحكام الشريعة جاءت على خلاف هوى النفس، وإن كان من أهل العلم من يرى الأسهل مرجِّحًا؛ لأن طبيعة الشريعة يُسر، والدِّين يُسر، لكن يُسر إلى أي حد؟ يعني الصلوات التي نُصليها بفرائضها ونوافلها كلها يُسر، ولا يزعم أحد أنها مشقة أبدًا، لكن نأتي إلى تفاصيل هذه الأمور إذا صلى صلاة التهجد مثلاً الركعة بجزء أو نصف جزء هذا أيسر وأسهل، وهذا لا شك أنه أعظم أجرًا، فيختار منهما بحسب ما ينفع قلبه.

طالب:.........

لا ما هو مرجِّح، هذا عند بعض أهل العلم يرى أن طبيعة الشريعة سهلة ويسرة، فيُختار الأيسر للعام،ي على ألا ينتقل من إمامٍ إلى إمام يطلب الأيسر، يعني باستمرار، العامي يلزمه أن يقتضي بإمامٍ واحد هو الأعلم، وهو الأحوط في تقديره؛ لأن فرضه سؤال أهل العلم، لكن غير العامي من أهل النظر في الأدلة إذا استغلقت عليه الأمور، ونظر في أدلة الفريقين، تأتي مسألة هل يُختار الأشد؛ لأن طبيعة الأوامر والنواهي كلها تكاليف، والتكاليف خلاف ما تُريده النفس وهو الأشد، أو يقول: إن شريعتنا -ولله الحمد- رفعت الآصار والأغلال {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج:78] فيختار الأسهل؟ هما قولان لأهل العلم.

"وبيان الثاني ظاهرٌ أيضًا مما تقدم فإنه ضده، وسبب هذا كله أن أسباب الرخص أكثر ما تكون مقدرةً ومتوهمة لا محققة، فربما عدها شديدةً وهي خفيفةٌ في نفسها، فأدى ذلك إلى عدم صحة التعبد، وصار عمله ضائعًا وغير مبنيٍ على أصل، وكثيرًا ما يُشاهد الإنسان ذلك، فقد يتوهم الإنسان الأمور صعبةً، وليست كذلك إلا بمحض التوهم، ألا ترى أن المتيمم لخوف لصوصٍ أو سباع، إذا وجد الماء في الوقت أعاد عند مالكٍ؛ لأنه عده مقصرًا؛ لأن هذا يعتري في أمثاله مصادمة الوهم المجرد الذي لا دليل عليه، بخلاف ما لو رأى اللصوص أو السباع وقد منعته من الماء، فلا إعادة هنا، ولا يعد هذا مقصرًا".

مع أنه تقدم لنا مرارًا أن هذا يختلف باختلاف الأشخاص، يختلف باختلاف الناس، فمن الناس مجرد التوهم عنده أشد من الحقيقة، وأشد من الواقع، وأوقع عليه منه، ويُخشى على عقله من مجرد التوهم، ومن الناس من يرى الحقائق وكأنها لا شيء، فهؤلاء يتفاوتون في تكليفهم.

"بخلاف ما لو رأى اللصوص أو السباع وقد منعته من الماء، فلا إعادة هنا، ولا يُعد هذا مقصرًا، ولو تتبع الإنسان الوهم لرمى به في مهاوٍ بعيدة، ولأبطل عليه أعمالاً كثيرة، وهذا مُطردٌ في العادات والعبادات وسائر التصرفات.

وقد تكون شديدة".

لا شك لو انساق وراء الأوهام والتوهمات والإشاعات لا شك أنه يُعطل أكثر العبادات، لن يحج؛ لأن الطريق يُخشى منه –في السابق- اللصوص، والآن حوادث، ولن يصوم؛ لأن الحر شديد يُخشى عليه أن يموت، ولن يقوم الليل؛ لأنه يخشى من الظلام ويخاف منه، ولو انساق وراء الأوهام ما فعل شيئًا.

"وقد تكون شديدة، ولكن الإنسان مطلوبٌ بالصبر في ذات الله، والعمل على مرضاته، وفي (الصحيح): «مَنْ يَصْبِرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ» وجاء في آية الأنفال في وقوف الواحد للاثنين بعدما نُسخ وقوفه للعشرة:{وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِين}[الأنفال:66] قال بعض الصحابة: لمَّا نزلت نقص من الصبر بمقدار ما نقص من العدد، هذا بمعنى الخبر، وهو موافقٌ للحديث والآية.

ما فيه شك أن النفس تنساق وراء التكاليف سهولةً ويسرًا، إلا لمَّا كان الناس يُداومون يوم الخميس، الدوام في الأيام الستة وهم يزاولون أعمالهم بكل راحة واطمئنان، ثم أُعفوا من الخميس كالجمعة، فصارت النفوس تتشوف إلى الأربعاء، شاق يوم الأربعاء على النفوس، تجد كثيرًا من الناس يخرج من منتصف الدوام، وكثيرٌ من الموظفين يعتذر يوم الأربعاء، بينما الدوام يوم الخميس ماشٍ ما فيه أحد يتذمر منه، ولو أُعفوا صار الثلاثاء بمثابته، صار متلفتًا يوم الثلاثاء كل أحدٍ يمينًا ويسارًا، لكن لو أُعطوا الأسبوع كاملًا كله عمل حملوه بكل راحة واطمئنان.

"والسادس: أن مراسم الشريعة مضادةٌ للهوى من كل وجه، كما تقرر في كتاب المقاصد من هذا الكتاب".

يعني على ما سيأتي في الجزء الثاني.

"وكثيرًا ما تدخل المشقات وتتزايد من جهة مخالفة الهوى، واتباع الهوى ضد اتباع الشريعة، فالمتبع لهواه يشق عليه كل شيء، سواءٌ أكان في نفسه شاقًّا أم لم يكن؛ لأنه يصده عن مراده، ويحول بينه وبين مقصوده، فإذا كان المكلف قد ألقى هواه، ونهى نفسه عنه، وتوجه إلى العمل بما كلف به؛ خفَّ عليه، ولا يزال بحكم الاعتياد يداخله حبه، ويحلو له مُره، حتى يصير ضده ثقيلاً عليه، بعدما كان الأمر بخلاف ذلك، فصارت المشقة وعدمها إضافيةً تابعةً لغرض المكلف، فرب صعبٍ يسهل لموافقة الغرض، وسهلٌ يصعب لمخالفته".

وسهلٍ، معطوف على صعب.

طالب: "فرب صعبٍ" نعم.

وسهلٍ.

"فالشاق على الإطلاق في هذا المقام وهو ما لا يطيقه".

"إنما هو ما لا يُطيقه".

"فالشاق على الإطلاق في هذا المقام إنما هو ما لا يُطيقه من حيث هو مكلف، كان مطيقًا له بحكم البشرية أم لا، هذا لا كلام فيه، إنما الكلام في غيره مما هو إضافيٌ، لا يقال فيه: إنه مشقةٌ على الإطلاق، ولا إنه ليس بمشقةٍ على الإطلاق".

يعني لو كُلِّف الشخص صخرة زنتها مائتا كيلو فهذا ما لا يُطاق بالنسبة له، لكن لو كُلِّف صخرة زنتها عشرون، ثلاثون كيلو وهو يُطيقها لو يمرن نفسه اليوم واحدة، وغدًا اثنتان، والذي بعده ثلاث، عشر، عشرون، مائة صخرة، يوميًّا يحمل مائة صخرة مِن التي زنتها ثلاثون وهو مرتاح؛ لأنه تعود، لكن تأتي إلى واحد أول مرة يحمل وتقول له: احمل اثنتين زنتها مائتان ما يمكن أن يطيق هذا بخلاف ما لا يُطاق أصلاً مثل الصخرة الكبيرة التي لا يُطيقها هذه لا يمكن حملها.

"إنما الكلام في غيره مما هو إضافيٌّ، لا يقال فيه: إنه مشقةٌ على الإطلاق، ولا إنه ليس بمشقةٍ على الإطلاق، وإذا كان دائرًا بين الأمرين، وأصل العزيمة حقيقيٌ ثابت، فالرجوع إلى أصل العزيمة حق، والرجوع إلى الرخصة يُنظر فيه بحسب كل شخص، وبحسب كل عارض، فإذا لم يكن في ذلك بيانٌ قطعي، وكان أعلى ذلك الظن الذي لا يخلو عن معارضٍ كان الوجه الرجوع إلى الأصل، حتى يثبت أن المشقة المعتبرة في حق هذا الشخص حق، ولا تكون حقًّا على الإطلاق حتى تكون بحيث لا يستطيعها، فتلحق حينئذٍ بالقسم الأول الذي لا كلام فيه، هذا إذا لم يأتِ دليلٌ من خارجٍ يدل على اعتبار الرخصة والتخفيف مطلقًا كفطره -عليه الصلاة والسلام- في السفر حين أبى الناس من الفطر، وقد شق الصوم عليهم، فهذا ونحوه أمرٌ آخرٌ يرجع إلى ما تقدَّم من الأقسام، وإنما الكلام في غيره.

فثبت أن الوقوف مع العزائم أولى، والأخذ بها في حال الترخص أحرى".

في مجال أو في محال؟

طالب:.......

محال، نعم "والأخذ بها في محال الترخص أحرى".

"فإن قيل: فهل الوقوف مع أصل العزيمة من قبيل الواجب أو المندوب على الإطلاق، أم ثَم انقسام؟

فالجواب: إن ذلك يتبين بتفصيل أحوال المشقات، وهي: المسألة السابعة".

يكفي.

"