التعليق على الموافقات (1431) - 16

 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد....

فيقول المؤلف –رحمه الله- في كتابه الموافقات: "المسألة الثالثة: الأمر بالمطلق لا يستلزم الأمر بالمقيد، والدليل على ذلك أمور:

أحدها: أنه لو استلزم الأمر بالمقيد لانتفى أن يكون أمرًا بالمطلق، وقد فرضناه كذلك، هذا خُلف، فإنه إذا قال الشارع: أعتق رقبة، فمعناه: أعتق ما يُطلق عليه هذا الاسم من غير تعيين، فلو كان يستلزم الأمر بالمقيد لكان معناه: أعتق الرقبة المعينة الفلانية، فلا يكون أمرًا بمطلق البتة".

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

يعني من أوضح الأدلة على هذه المسألة البقرة التي أُمِر بنو إسرائيل بذبحها {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً} [البقرة:67] مطلقًا من دون أي قيد، فسعوا في تقييدها فشددوا على أنفسهم، هم أُمِروا ببقرةٍ مطلقة قالوا: ما هي؟ ما لونها؟ {إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} [البقرة:70] إلى أن ضيقوا على أنفسهم ولو امتثلوا الأمر المطلق وذبحوا بقرة أي بقرة وجدوها لسقط عنهم الطلب، ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم، نسأل الله العافية.

لكن إذا جاء القيد من الشارع فلا بُد من اعتباره إذا اتحد مع المطلق في الحكم والسبب أو في الحكم فقط، ولو اختلف السبب على ما بينه أهل العلم.

"والثاني: أن الأمر من باب الثبوت، وثبوت الأعم لا يستلزم ثبوت الأخص، فالأمر بالأعم لا يستلزم الأمر بالأخص، وعلى هذا اصطلاح بعض الأصوليين الذين اعتبروا الكليات الذهنية في الأمور الشرعية".

فإذا قيل: أعطِ الطُّلاب هذا، ثبت الحكم أو الأمر للأعم، فما يلزم أن تخص بعضهم دون بعض إلا إذا جاء المُخصص بحكمٍ مخالف، أما إذا جاء المُخصص بحكمٍ موافق كما لو قيل: أعطِ الطُّلاب، ثم قيل: أعطِ بني تميم، فإن هذا لا يقتضي التخصيص؛ لأن الحكم موافق، وإنما يقتضي العناية ببني تميم من الطُّلاب. 

"والثالث: أنه لو كان أمرًا بالمقيد؛ فإما أن يكون معينًا أو غير مُعين، فإن كان معينًا لزم تكليف ما لا يُطاق وقوعه، فإنه لم يُعين في النص".

يعني إن كان مُعينًا في حقيقة الأمر ولو لم يُنص عليه لكان تَطلّبه من غير نصٍّ على تعيينه تكليفًا بما لا يُطاق، جاء الأمر مطلقًا، فيقول قائل: إننا لا نستطيع العمل بالمطلق على وجه الإطلاق، فلا بُد من تقييده، والمفترض أن الشرع لم يأتِ بقيد، فبحثك عن مُقيَّد يوافق ما في نفس الأمر- والمسألة مفترضة أنه لا بُد منه- تكليف بما لا يُطاق، ما يُمكن أن توافق إلا على جهة الصدفة، لا على جهة التعيين والتحديد والجزم والقطع، هذا تكليف بما لا يُطاق أن تُعين ما لم يُعينه الشارع فتوافق ما أراده الشارع.

"وللزم أن يكون ذلك المعين بالنسبة إلى كل مأمور، وهذا محال، وإن كان غير معين، فتكليف ما لا يُطاق لازمٌ أيضًا؛ لأنه أمرٌ بمجهول، والمجهول لا يتحصل به امتثال".

لا بُد أن يكون المأمور معلومًا، وأن يكون معدومًا، لا بُد أن يكون معلومًا ليتم الإتيان به، ولا بُد أن يكون معدومًا لإيجاده أما الموجود فلا يُمكن إيجاده، إلا إذا وجِد على هيئةٍ غير صحيحة كما في قوله: «صلِّ فإنك لم تصلِّ» أنت صليت، نعم صلاتك هذه وجودها مثل عدمها، لكن لو صليت صلاة صحيحة مُجزئة مُسقطة للطلب يقال لك: صلِّ؟ يتجه إليك الأمر بالصلاة؟ ما يُمكن أن يتجه؛ لأن الأمر طلب إيجاد معدوم وهذا موجود، أما إذا كان وجوده مثل عدمه مثل صلاة المسيء، فإن مثل هذا يتجه فيه الأمر بإيجاده؛ لأن وجوده مثل عدمه. 

"والمجهول لا يتحصل به امتثال، فالتكليف به محال، وإذا ثبت أن الأمر لا يتعلق بالمقيد لزم أن لا يكون قصد الشارع متعلقًا بالمقيد من حيث هو مقيد، فلا يكون مقصودًا له؛ لأنَّا قد فرضناه أن قصده إيقاع المطلق، فلو كان له قصدٌ في إيقاع المقيد، لم يكن قصده إيقاع المطلق، هذا خُلفٌ لا يُمكن".

وهذا كله فيما إذا لم يرد تقييد من الشارع، أما إذا ورد تقييد من الشارع لزم اعتباره إذا وافق المطلق في الحكم أو في الحكم والسبب معًا.

"فإن قيل: هذا معارض بأمرين:

أحدهما: أنه لو كان الأمر بالمطلق من حيث هو مطلق لا يستلزم الأمر بالمقيد، لكان التكليف به محالاً أيضًا؛ لأن المطلق لا يوجد في الخارج، وإنما هو موجودٌ في الذهن".

المطلق بوصف الإطلاق لا يُمكن وجوده في الخارج؛ إذ لا يُمكن أن يُوجد عين مجردة عن الأوصاف، وهذه الأوصاف التي اشتملت عليها هذه العين تقييد، يعني لو قيل لك: اعتق رقبة، فأتيت إلى أي رقبة وجدتها لا بُد أن يكون فيها قيد، لكن هذا القيد مقصود للشارع أو غير مقصود؟

طالب: غير مقصود.

لم يُنص عليه، غير مقصود {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً} [البقرة:67] مسكوا أي بقرة حمراء مثلاً أو سوداء وذبحوها، هنا ما جاء قيدها في الشرع، لكن فيها قيد في نفس الأمر هي سوداء هذا قيد، لكن هذا القيد غير مُعتبر في نظر الشارع، فوجوده مثل عدمه، لكنهم لما ضيقوا على أنفسهم وطلبوا القيود، فقُيِّدوا باللون والسِّن والهيئة.   

"إذ لا يقع به الامتثال إلا عند حصوله في الخارج، وإذ ذاك يصير مقيدًا لا مطلقًا، فلا يكون بإيقاعه ممتثلاً، والذهني لا يمكن إيقاعه في الخارج، فيكون التكليف به تكليفًا بما لا يُطاق، وهو ممتنع".

يعني امتثال المطلق بوصف الإطلاق من دون أي قيدٍ معتبر هذا لا يُمكن وجوده في الخارج؛ لأنه لا من عينٍ إلا ولها أوصاف، لكن امتثال الأمر المطلق يتم بأي صورةٍ من الصور التي لم يُلزم بها الشرع، فتكون داخلةً في المطلق فهي من جنسه ومن نوعه.

"فلا بُد أن يكون الأمر به مستلزمًا للأمر بالمقيد، وحينئذٍ يُمكن الامتثال، فوجب المصير إليه، بل القول به".

يعني خلاصة ما في هذه المسألة أن المطلق يُمكن أن يؤمر بها، ويتم امتثاله بما يصدق عليه الاسم، بغض النظر عن الأوصاف المقتضية للتقيد، كون ما امتثلت به فيه قيد أو فيه أوصاف، له أوصاف، لا يعني أنك قصدت هذه الأوصاف في الامتثال، إنما امتثلت ما يشمله الاسم المطلق في الجملة، ويشمل الأوصاف كلها، ولا يُمكن أن توجد جميع الأوصاف في ذاتٍ واحدة ليتم الإطلاق أو تُرفع جميع الأوصاف ليتم الامتثال بالنسبة لذاتٍ واحدة.

"والثاني: أن المقيد لو لم يُقصد في الأمر بالمطلق لم يختلف الثواب باختلاف الأفراد الواقعة من المكلف".

لأن الأوصاف التي يتفاوت فيها الثواب، فمثلاً لو قيل لك: اذبح شاة إما أضحية أو هديًا أو عقيقة، هذه الشياه المتفاوتة لها أوصاف يتفاوت الأجر بتفاوت هذه الأوصاف، فإذا ضحيت بشاةٍ ثمينة نفيسة يكون أجرها أعظم؛ لهذا الوصف، وإذا ضحيت بشاةٍ هزيلة مجزئة أجرها أقل وإن أسقطت الطلب وهكذا، فالأجور تتفاوت بحسب تفاوت الأوصاف وإن لم تكن مطلوبةً عند الإطلاق، يتم الامتثال الامتثال المطلق بأي وصف، لكن الثواب يتفاوت بتفاوت هذه الأوصاف.    

"لأنها من حيث الأمر بالمطلق على تساوٍ، فكأن يكون الثواب على تساوٍ أيضًا، وليس كذلك، بل يقع الثواب على مقادير المقيدات المتضمنة لذلك المطلق، فالمأمور بالعتق إذا أعتق أدون الرقاب كان له من الثواب بمقدار ذلك، وإذا أعتق الأعلى كان ثوابه أعظم، وقد سُئل عليه الصلاة والسلام عن أفضل الرقاب؛ فقال: «أَغْلَاهَا ثَمَنًا وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أهله»، وأمر بالمغالاة في أثمان القربات كالضحايا، وبإكمال الصلاة وغيرها من العبادات؛ حتى يكون الأمر فيها أعظم، ولا خلاف في أن قصد الأعلى في أفراد المُطلَقات المأمور بها أفضل وأكثر ثوابًا من غيره، فإذا كان التفاوت في أفراد المُطلقات موجبًا للتفاوت في الدرجات لزم من ذلك كون المقيدات مقصودةً للشارع، وإن حصل الأمر بالمطلقات.

فالجواب عن الأول: أن التكليف بالمطلق عند العرب ليس معناه التكليف بأمرٍ ذهني، بل معناه التكليف بفردٍ من الأفراد الموجودة في الخارج، أو التي يصح وجودها في الخارج مطابقًا لمعنى اللفظ، بحيث لو أطلق عليه اللفظ صدق، وهو الاسم النكرة عند العرب، فإذا قال: أعتق رقبة، فالمراد طلب إيقاع العتق بفردٍ مما يصدق عليه لفظ الرقبة، فإنها لم تضع لفظ الرقبة إلا على فردٍ من الأفراد غير مختصٍ بواحدٍ من الجنس، هذا هو الذي تعرفه العرب، والحاصل أن الأمر به أمرٌ بواحدٍ مما في الخارج، وللمكلف اختياره في الأفراد الخارجية".

يعني لو أن الأب أو السيد قال لعبده: ائتِ لنا بخبز، هذا درهم يشتري به خبزًا، والخبز كما هو معلوم متفاوت، وله أوصاف، وله أنواع، ذهب إلى المحل واشترى أول نوع يُصادفه، قال له: خبز، لفظ مطلق بدون قيد، وبدون تخصيصٍ لبعض أفراده يكون تم امتثال أم ما تم؟

طالب: تم.

ثم امتثاله، هل للسيد أن يضرب عبده؛ لأنه جاء له بنوع لم يُرده؟

 لا؛ لأنه تم الامتثال، لكن لو كان من عادته وجادته المطردة أنه يأكل نوعًا خاصًّا من أنواع الخبز، ثم جاء له بالنوع الذي لا يُريده فإن له أن يُثرِّبه، باعتبار أن التخصيص أو التقييد قد تقدم، تقدم ذكره.  

"وعن الثاني أن ذلك التفاوت الذي التفت إليه الشارع إما أن يكون القصد إليه مفهومًا من نفس الأمر بالمطلق أو من دليلٍ خارجي، والأول ممنوعٌ؛ لِما تقدم من الأدلة".

يعني هل من صنيع العقلاء اختيار أحد أمرين من غير مُرجِّح؟ أمامك شيئان، نوعان من الطعام أو من الشراب أو من الأمتعة تختار أحد النوعين من غير مرجِّح.

طالب: لا بُد من مرجِّح.

 لا بُد من مرجِّح؟

طالب: إذا لم يكن مقصودًا أحدهما.

هذا مرجِّح، شيخ الإسلام يقول: مثل اختيار أحد الطريقين أو أحد الرغيفين، يعني وأنت تُخرج الرغيف من الكيس تمد يدك للكيس وتأخذ واحدًا مما فيه من الخمسة أو العشرة، هل أنت تقصد هذا الرغيف بعينه؟ هل هناك مرجِّح؟

يقول: كاختيار أحد الرغيفين، وسلوك أحد الطريقين، أنت ما تدري هذا أقرب، أو هذا أيسر وأسمح، أو ذاك، ما تدري عنه شيئًا، مشيت مع واحدٍ منهما، وأنت ما تدري، وأنت ماشٍ من الحي هذا إذا وصلت الدائري مثلاً قال لك: مكة يمينًا، والدائري الجنوبي يقول لك: مكة يسارًا، وكلاهما يوصل إلى مكة، أنت ما تدري أيهما أقرب؟ فترددت، ثم سلكت أحد الطريقين، فتبين لك أن الثاني يختصر لك شيئًا كثيرًا، هل أنت سلكته بمرجِّح أو مجرد اختيار أو استرواح وميل؟

طالب: ميل.

الترجيح قد يكون مظنونًا، وقد يتبين خلافه، أنت رجَّحت، ثم تبين أنك سلكت المرجوح، لكنه في الأصل لا بُد من مُرجِّح، فأنت لما أدخلت يدك في كيس الخبز، وأخذت المتوسطة منهما قبلها ثنتان، وبعدها ثنتان، أنت رجَّحت بأي شيء؟

طالب: الحرارة.

لا، قد يكون هناك مرجِّح محسوس.

طالب: الحرارة.

نعم الذي يلي الكيس يكون فيه نوع بخار، ويصير فيه رطوبة وكذا، يعني قد يخطر على بالك هذا، وهذا مرجِّح، فتقول: آخذ الرغيف المتوسط؛ لبُعده عن هذه الرطوبة هذا مرجِّح، وإن كان في الأصل أنك تدخل يدك في الكيس وتأخذ الذي تيسر، فلا يُمكن أن يفعل العاقل يختار أحد أمرين إلا بمرجِّح.  

"والأول ممنوعٌ؛ لِما تقدم من الأدلة؛ ولذلك لم يقع التفاوت في الوجوب أو الندب الذي اقتضاه الأمر بالمطلق، وإنما وقع التفاوت في أمرٍ آخر خارجٍ عن مقتضى مفهوم المطلق، وهذا صحيح، والثاني مُسلَّم؛ فإن التفاوت إنما فُهِم من دليلٍ خارجي؛ كالأدلة الدالة على أن أفضل الرقاب أعلاها، وأن الصلاة المشتملة على جميع آدابها المطلوبة أفضل من التي نقص منها بعض ذلك، وكذا سائر المسائل، فمن هنالك كان مقصودًا للشارع، ولذلك كان ندبًا لا وجوبًا، وإن كان الأصل واجبًا؛ لأنه زاد على مفهومه".

نعم الواجب ما يتم به الامتثال، هذا الواجب، عليك هدي متعة أو قران أخذت أقل المجزئ هذا يتم به الامتثال ويسقط به الطلب، لكن القدر الزائد من الأوصاف المقيدة هذا يزيد به الأجر، فيكون من باب الندب لا على سبيل الوجوب.

"فإذًا القصد إلى تفضيل بعض الأفراد على بعض يستلزم القصد إلى الأفراد، وليس ذلك من جهة الأمر بالمطلق، بل بدليلٍ من خارج؛ فثبت أن القصد إلى المطلق من حيث هو مطلق لا يستلزم القصد إلى المقيد من حيث هو مقيد".

لأن الأمر أصله {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] هل فيه ما يدل على الغالي النفيس؟ لا، القيد جاء من أمرٍ خارجي، من نصٍّ خارجي عن الأمر الأصلي؛ ولذا ترتب عليه الأجر صار قدرًا زائدًا على المطلوب الأصلي، فالمطلوب الأصلي يتم به الامتثال والقدر الزائد يتم به زيادة الثواب، فيكون من باب الندب.

"بخلاف الواجب المُخيَّر فإن أنواعه مقصودةٌ للشارع بالإذن، فإذا أعتق المكلف رقبة، أو ضحى بأضحية، أو صلى صلاةً ومثلها موافق للمطلق فله أجر ذلك من حيث هو داخلٌ تحت المطلق، إلا أن يكون ثم فضلٌ زائد، فيُثاب عليه بمقتضى الندب الخارجي، وهو مطلقٌ أيضًا، وإذا كفَّر بعتق فله أجر العتق، أو أطعم فأجر الإطعام، أو كسا فأجر الكسوة بحسب ما فعل، لا لأن له أجر كفارة اليمين فقط من غير تقييدٍ بما كفَّر به، فإن تعيين الشارع المُخيَّر فيه يقتضي قصده إلى ذلك دون غيره، وعدم تعيينه في المطلقات يقتضي عدم قصده إلى ذلك.

وقد اندرج هنا أصلٌ آخر، وهي: المسألة الرابعة".

يعني حينما خيَّر الشارع في كفارة اليمين بإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، هل هذا التخيير مقتضاه في الإجزاء، تخييرٌ في الإجزاء أو في الثواب؟

طالب: في الإجزاء.

في الإجزاء هو مخيَّر، لكن في الثواب يتفاوت الثواب بقدر الأثر المترتب على ما أعتقه أو ما كفَّر به، الأثر المترتب على ما كفَّر به، فقد يكون الإطعام أفضل كما لو وجدت شخصًا في النزع من الجوع، وقد تكون الكسوة أفضل كما لو وجدت شخصًا يُنازع الروح من أجل البرد، وقد يكون العتق أفضل من الإطعام والكسوة؛ وهذا لأنه أكثر ثمنًا، وفيه إعتاق نفسٍ تعبد ربها بحرية وارتياح، وهذا هو الغالب.

 لكن يتفاوت الفضل بحسب الظروف والأحوال والمكفِّر والمكفَّر به، بعضهم يُلاحظ المصالح المترتبة بغض النظر عما جاء في الشرع، فيقدم المصلحة على النص، وهذا قولٌ، وإن كان ظاهره مقبول لكنه في الحقيقة مردود؛ لمخالفته النص، مثل: الملك الذي جامع امرأته في رمضان، فاستفتى، فقيل له: صُم شهرين متتابعين، الأصل أن يعتق رقبة، لما قيل لمن أفتاه، قال: هذا عنده استعداد يطأ كل يوم ويُعتق رقبة، لكن ما يقدر أن يصوم شهرين متتابعين، فهل هذا ملحوظ؟ نعم هو ملحوظ ما لم يُعارض النص، وهو في هذه الحالة عارض النص، فلا اعتبار له.

"المسألة الرابعة:

وترجمتها أن الأمر بالمُخير يستلزم قصد الشارع إلى أفراده المطلقة المُخير فيها".

مثل ما ذكرنا في خصال الكفارة.

"المسألة الخامسة:

المطلوب الشرعي ضربان: أحدهما: ما كان شاهد الطبع خادمًا له ومعينًا على مقتضاه، بحيث يكون الطبع الإنساني باعثًا على مقتضى الطلب كالأكل، والشرب، والوقاع، والبُعد عن استعمال القاذورات من أكلها والتضمخ بها، أو كانت العادة الجارية من العقلاء في محاسن الشيم ومكارم الأخلاق موافقةً لمقتضى ذلك الطلب من غير منازعٍ طبيعي".

إذا لم يُوجد منازع طبيعي، تجد الطلب في الشرع خفيفًا من غير تأكيد، ولا يترتب عليه حد ولا شيء.

أما إذا وجِد المنازع الطبيعي، فإن الشارع يؤكد، وقد يضع عليه حدًّا، ومن أوضح ما يُذكر في هذا أن الإنسان يؤمر وبشدة وقوة وتأكيد، يؤمر ببر والديه، لكن هل جاءت الأوامر بالعناية بالأولاد كما جاءت بالأمر ببر الوالدين؟ لا، لماذا؟

طالب: جبلي.

لأن الجبلة تدعوك إلى العناية بأولادك، وإذا تنازع الشرع مع الجبلة فتقديم الشرع دليلٌ على قوة الإيمان، فالذي ينتظر والديه الليل كله، والإناء بيده، والصبية يتضاغون من تحته يُريدون أن يشربوا من هذا اللبن، جاء مدحه في شرعنا، لماذا؟ لأنه قدَّم مراد الشارع على هوى نفسه، وإلا ما الذي يضيره أن يسقي الأولاد، ويترك الباقي للوالدين؟ لكنه يُريد أن يُخالف الهوى، ويكون هواه تبعًا لِما جاء به الشرع.

طيب، الفقهاء عندهم في ترتيب النفقات الأولاد قبل الوالدين أو بعدهم؟ قبل الوالدين، يعني إذا لم يكن عنده إلا ما يكفي نفسه وزوجته وأولاده ما يأثم إذا ترك الوالدين، لكن إنما يُمدَح؛ لأنه خالف هوى النفس، واعتمد وخالف نفسه إلى ما يُريده الله –جلَّ وعلا-، ولذا في قصة الثلاثة الذين أووا إلى الغار، وسيقت في شرعنا مساق المدح، قدم فيها الوالد على الولد، ومُدِح بهذا.

الشخص الذي حصل الحريق في منى وهو موجود، أبوه مُقعد في الخيمة، ومعه أطفاله، الوالد لا يستقل بنفسه، والأولاد لا يستقلون، فحمل الولدين وهرب بهم، وترك الوالد يحترق، هذه في تقدير الشرع من عظائم الأمور؛ ولذلك لما سمع بعض الشيوخ الكبار بكى، كيف؟! لكن لو خالف هوى نفسه، وحمل الوالد، والشيطان يأتيه يُنازعه يقول: هذا الوالد ثمانون سنة، أخذ من حياته ما يكفي، وهؤلاء في مقتبل العمر مساكين ضعاف، يعني الشيطان والنفس تقول له هذا الكلام، لكن ليعلم الإنسان أنه في مخالفة الهوى واتباع الشرع الخير كله، لعله لو فعل هذا وحمل الوالد سلِم الأولاد -والله المستعان-.    

"من غير منازعٍ طبيعي كستر العورة، والحفظ على النساء والحرم".

"من غير منازعٍ طبيعي" هذا لما كانت الفِطر سليمة، لكن لما غُيَّرت الفطر، واجتالت الناس الشياطين، وصار كشف العورات -لاسيما بالنسبة للنساء- صار هو الموضة، وهو الحضارة، وهو التقدم، «لتتبعن سنن من كان قبلكم»، ولذا تجدون -لو تأملتم- في المجامع، مجامع الناس ومحافلهم تجدون العلامة على المرأة الثوب القصير، والعلامة على الرجل الثوب المسبل أو البنطلون المسبل، انظروا أماكن دورات المياه، انظروا المستشفيات، انظروا كل شيء على هذا الأساس مبني، يعني عندك علامة مدرسة بنات أو مدرسة أولاد، هذا هو الحاصل.

 فكلام المؤلف متى؟ لما كانت الفطر سليمة، الناس على فِطرهم ما يحتاجون أن يُؤمروا بستر عورات، ما يحتاجون؛ لأن فطرهم تدعوهم، وكشف العورة مقذور مرذول عند جميع الناس– والله المستعان-. 

"وما أشبه ذلك، وإنما قُيد بعدم المنازع؛ تحرزًا من الزنا ونحوه مما يصد فيه الطبع عن موافقة الطلب".

لأن فيه منازعة، في الزنا النفس تُنازع وبقوة، فمثل هذا يُشدد فيه، ويُوضع له الحد الرادع، نعم. 

"والثاني: ما لم يكن كذلك كالعبادات من الطهارات، والصلوات، والصيام، والحج، وسائر المعاملات، المراعى فيها العدل الشرعي، والجنايات، والأنكحة المخصوصة بالولاية والشهادة، وما أشبه ذلك.

فأما الضرب الأول، فقد يكتفي الشارع في طلبه بمقتضى الجبلة الطبيعية، والعادات الجارية، فلا يتأكد الطلب تأكد غيره، حوالة على الوازع الباعث على الموافقة دون المخالفة، وإن كان في نفس الأمر متأكدًا، ألا ترى أنه لم يوضع في هذه الأشياء على المخالفة حدودٌ معلومة زيادةً على ما أخبر به من الجزاء الأخروي؟

ومن هنا يطلق كثيرٌ من العلماء على تلك الأمور أنها سُنن، أو مندوبٌ إليها، أو مُباحاتٌ على الجملة، مع أنه لو خولف الأمر والنهي فيها مخالفة ظاهرة؛ لم يقع الحكم على وفق ذلك المقتضى، كما جاء في قاتل نفسه".

ما يُقال: إنه سُنن لو خُولِف الحكم مخالفة صريحة ما وقع الحكم على ما ذُكِر على أنها سُنن أو مندوب إليها، الإنسان شحيحٌ على نفسه، محافظٌ عليها يحوطها بكل ما يستطيع من عناية ورعاية، لكن يُقال: مندوبٌ لك أن تُحافظ على نفسك وعلى صحتك وعلى كذا وكذا، ما لم يقع ما يقتضي مصادمة الحكم الشرعي كقتل النفس، كقتل الإنسان نفسه حينئذٍ يأتي النص والوعيد الشديد على من قتل نفسه.

"كما جاء في قاتل نفسه أنه يُعذب في جهنم بما قتل به نفسه، وجاء في مذهب مالك أن من صلى بنجاسةٍ ناسيًا، فلا إعادة عليه إلا استحسانًا، ومن صلى بها عامدًا أعاد أبدًا من حيث خالف الأمر الحتم، فأوقع على إزالة النجاسة لفظ: السُّنَّة اعتمادًا على الوازع الطبيعي، والمحاسن العادية، فإذا خالف ذلك عمدًا رجع إلى الأصل من الطلب الجزم؛ فأُمِر بالإعادة أبدًا".

والمؤلف من المالكية، فإذا وجدنا في كتاب من كتب المالكية أن إزالة النجاسة سُنَّة لا يعني أنها سُنَّة لا يُعاقب عليها، ولا يؤاخذ بها، ولا يلزمه إزالتها، فالمراد بها مع عدم إرادة أو معارضة النص كمن صلى وعليه أو بثيابه نجاسة ناسيًّا أو جاهلاً هذا ما صادم نصًّا، فيُطلق في حقه السُّنية، وأما من صادم النص وعارضه فإنه يُطلب منه الإزالة بالجزم، ويُطلق التحريم في حقه والوجوب.

"وأبين من هذا أنه لم يأت نص جازم في طلب الأكل والشرب، واللباس الواقي من الحر والبرد، والنكاح الذي به بقاء النسل".

هل فيه نص يوجب على الإنسان أن يأكل؟

طالب:........

خلِّ الاعتبار، نريد نصًّا صريحًا صحيحًا من كتاب أو سًنَّة إلا بوصفٍ متعلقٍ به كعدم الإسراف مثلاً {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ} [الأعراف:31] ليس المراد التنصيص على الأكل والشرب، إنما المراد بذلك ما يتبع ذلك من إسراف، لكن لو ترك الأكل والشرب حتى وصل إلى حدٍّ الهلاك يأثم إثمًا عظيمًا، ويُؤمر به أمرًا حتمًا، لكنه قبل ذلك يُترك لما جُبل عليه من حبٍّ للحياة.   

"وإنما جاء ذكر هذه الأشياء في معرض الإباحة أو الندب، حتى إذا كان المكلف في مظنة مخالفة الطبع أُمِر وأُبيح له المحرم، إلى أشباه ذلك".

"أُبيح له المحرَّم" يأكل ميتة، أُمِر بالأكل، وأُبيح له المحرَّم حتى تُباح له الميتة.

"وأما الضرب الثاني: فإن الشارع قرره على مقتضاه من التأكيد في المؤكدات، والتخفيف في المخففات، إذ ليس للإنسان فيه خادمٌ طبعي باعثٌ على مقتضى الطلب، بل ربما كان مقتضى الجبلة يُمانعه ويُنازعه؛ كالعبادات؛ لأنها مجرد تكليف.

وكما يكون ذلك في الطلب الأمري، كذلك يكون في النهي، فإن المنهيات على الضربين، فالأول: كتحريم الخبائث، وكشف العورات، وتناول السموم، واقتحام المهالك وأشباهها".

يعني ننتبه إلى ما قرنه المؤلف مع تحريم الخبائث، وتناول السموم، واقتحام المهالك قرن معها كشف العورات؛ لأن هذا أمر ليس بالسهل على الأسوياء من بني آدم، وإبليس من أول ما طلبه من آدم الأكل من الشجرة، من أجل ماذا؟ {لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا} [الأعراف:20] هذه وظيفة إبليس الأولى إبداء العورات، وهي أيضًا وظيفة أتباعه من المنافقين وغيرهم {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59] الآية التي تليها { لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} [الأحزاب:60] إلى آخر الآية، فدل على أن وظيفة إبليس الحرص على إبداء السوءات، وأيضًا وظيفة المنافقين -وهم خلفائه من بعده- مخالفة {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59] والله المستعان.

"ويُلحق بها اقتحام المحرمات لغير شهوةٍ عاجلة، ولا باعثٍ طبعي، كالملك الكذاب".

"كالملك الكذاب" هل عنده ما يدعوه إلى الكذب؟ هل هو بحاجة إلى الكذب؟ ليس بحاجة إلى الكذب، الذي يكذب من أجل أن يكسب مصلحة أو يدفع مفسدة، وقد أمن من ذلك المصالح بين يديه، والمفاسد قادرٌ على دفعها، فليس بحاجة لمثل هذا، ومثله الشيخ الزاني، تعطلت آلاته ومع ذلك يزني!! عائل مستكبر، على ماذا يستكبر؟! يعني ما يوجد عنده إلى ما يدعوه إلى هذه الأمور.

"كالملك الكذاب، والشيخ الزاني، والعائل المستكبر، فإن مثل هذا قريبٌ مما تُخالفه الطباع ومحاسن العادات، فلا تدعو إليه شهوة، ولا يميل إليه عقلٌ سليم؛ فهذا الضرب لم يؤكد بحدٍّ معلوم في الغالب، ولا وضِعت له عقوبةٌ معينة، بل جاء النهي فيه كما جاء الأمر في المطلوبات التي لا يكون الطبع خادمًا لها، إلا أن مرتكب هذا لما كان مخالفًا لوازع الطبع ومقتضى العادة، زيادةً إلى ما فيه من انتهاك حرمة الشرع، أشبه بذلك المُجاهر بالمعاصي المُعاند فيها، بل هو هو؛ فصار الأمر في حقه أعظم؛ بسبب أنه لا يستدعي لنفسه حظًّا عاجلاً، ولا يبقى لها في مجال العقلاء بل البهائم مرتبة؛ ولأجل ذلك جاء من الوعيد في الثلاثة: الشيخ الزاني وأخويه".

الملك الكذاب، والعائل المستكبر.

ما جاء، وكذلك فيمن قتل نفسه بخلاف العاصي بسبب شهوةٍ عنَّت، وطبعٍ غلب، ناسيًّا لمقتضى الأمر، ومُغلقًا عنه باب العلم بمآل المعصية، ومقدار ما جنى بمخالفة الأمر؛ ولذلك قال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَة} [النساء:17] الآية".

يعني من غير معاندة، ومن غير قصد للمخالفة {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَة} [النساء:17]، وجاء في الخبر أن كل من عصى الله فهو جاهل، وإلا فمقتضى الآية أن الذي يعرف الحكم بدليله يعرف أن الخمر محرَّم، والدليل واضح عنده ويشرب الخمر هذا ليست له توبة، هذا مقتضى الآية، أو أن الذي يعرف الزنا أنه محرَّم ويزني ليست له توبة، يعرف أن الربا محرَّم ويتناوله ويتعاطاه هذا ليست له توبة {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَة} [النساء:17] لكن المقرر في الشرع أن الذي يعرف الحكم ويُخالفه أنه جاهل، وأن ما يحمله الفساق مما يُسمى علمًا أنه جهل ولو سماه علمًا أو سُمي عالمًا يحمل هذا العلم من كل خلفٍ عدوله، فما يحمله الفساق فليس بعلم.

"أما الذي ليس له داعٍ إليها، ولا باعثٌ عليها، فهو في حكم المُعاند المُجاهر، فصار هاتكًا لحرمة النهي والأمر مستهزئًا بالخطاب، فكان الأمر فيه أشد، ولكن كل ما كان الباعث فيه على المخالفة الطبع جُعل فيه في الغالب حدودٌ وعقوباتٍ مرتبة، إبلاغًا في الزجر عما تقتضيه الطباع، بخلاف ما خالف الطبع أو كان الطبع وازعًا عنه، فإنه لم يُجعل له حدٌّ محدود.

فصل: هذا الأصل وجِد منه بالاستقراء جمل؛ فوقع التنبيه عليه لأجلها ليكون الناظر في الشريعة ملتفتًا إليه، فإنه ربما وقع الأمر والنهي في الأمور الضرورية على الندب أو الإباحة والتنزيه فيما يُفهم من مجاريها، فيقع الشك في كونها من الضروريات كما تقدم تمثيله في الأكل والشرب واللباس والوقاع،

وكذلك وجوه الاحتراس من المضرات والمُهلكات وما أشبه ذلك، فيرى أن ذلك لا يلحق بالضروريات، وهو منها في الاعتبار الاستقرائي شرعًا، وربما وجد الأمر بالعكس من هذا؛ فلأجل ذلك وقع التنبيه عليه ليكون من المجتهد على بال، إلا أن ما تقدم هو الحكم المتحكم، والقاعدة التي لا تنخرم، فكل أحدٍ وما رأى، والله المستعان.

وقد تقدم التنبيه على شيءٍ منه في كتاب المقاصد، وهو مقيدٌ بما تقيد به هنا أيضًا، والله أعلم".

يعني من أوضح الأمثلة مما ذكرناه أن الشارع أكد على بِر الوالدين، وصلة الأرحام؛ لأنه لا يوجد في النفوس والطبائع والجِبلات ما يدعو إليها تلقائيًّا من غير تشديد، بخلاف العناية بالأولاد جُبل الإنسان على الاهتمام بهم، والعناية بشأنهم، وتقديمهم على النفس فضلاً عن الوالدين؛ فلذا لم يأتِ في حقهم ما جاء في حق الوالدين.

والله أعلم.

وصلى الله على محمد.