شرح متن الورقات في أصول الفقه (21)

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فقد قال المؤلف -رحمه الله تعالى-:

ومن شرط المفتي: أن يكون عالماً بالفقه أصلاً وفرعاً، خلافاً ومذهباً، وأن يكون كامل الآلة في الاجتهاد، عارفاً بما يحتاج إليه في استنباط الأحكام من النحو واللغة ومعرفة الرجال الراوين، وتفسير الآيات الواردة في الأحكام والأخبار الواردة فيها، ومن شرط المستفتي: أن يكون أهلاً للتقليد، فيقلد المفتي في الفتيا: أن يكون من أهل التقليد، أن يكون من أهل التقليد فيقلد المفتي في الفتيا، وليس للعالم أن يقلد.

وليس للعالم أن يقلد، والتقليد قبول...

يكفي، يكفي يكفي.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، لما فرغ المؤلف -رحمه الله تعالى- من بيان ما يحتاج إليه الطالب المبتدئ مما يتعلق بالأصول الإجمالية من الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، والاستصحاب، وقول الصحابي، وذكر كيفية الاستفادة منها، عقب ذلك كله بحال المستفيد والمجتهد.

المجتهد: وهو المفتي له شروط عند أهل العلم، من شرطه: أن يكون عالماً بالفقه أصلاً وفرعاً: يعني بأصوله وفروعه، كيف يكون عالماً بالفقه؟ كيف يكون المفتي عالماً بالفقه؟

يعني هل المقصود بذلك أن يكون مستحضراً لجميع المسائل الفقهية بأدلتها، أو يكفي في ذلك تحصيل جملة من المسائل يستطيع بواسطتها من تطبيق هذه الأصول على تلك الفروع بأدلتها، ويكون بالنسبة للباقي معرفته بها بالقوة القريبة من الفعل؟

فالفقيه منه ما يكون بالفعل، ففلان فقيه بالفعل يعني مستحضر لجميع المسائل المتداولة بين الفقهاء بأدلتها، ومنهم من يكون فقيهاً بالقوة القريبة من الفعل بمعنى أنه يستطيع الوصول إلى المسائل بأدلتها، ويتوصل إلى القول الصحيح بدليله في أقرب وقت، هذا فقيه لكنه بالقوة وليس بالفعل، وهذا تقدم ذكره في شرح تعريف الفقه.

أن يكون عالماً بالفقه أصلاً وفرعاً: يعني لا بد أن يكون متصوراً للمسائل الفقهية، وقواعد الفقه وأصوله، وبما فيها من الخلاف، سواءً كان في مذهب بعينه، إذا كان المراد به المجتهد المقيد، ويكون مجتهد مذهب يسمونه، مجتهد مذهب، أو على العموم في مذاهب العلماء كلهم إذا كان المراد الاجتهاد المطلق.

والمراد بمذاهب العلماء: مذاهب فقهاء الأمصار ممن يعتد بقوله منهم، ولا يقدح فيه أن يخفى عليه بعض الأقوال الشاذة التي لا حظ لها من النظر، ولا يقدح فيه أن يخفى عليه أقوال المبتدعة الذين لا يعتد بهم في الخلاف والوفاق.

اشتراط هذا الشرط الذي هو الاطلاع على المذاهب، ومعرفة مواطن الخلاف والإجماع؛ لئلا يخالف كلاماً مجمعاً عليه، فيحدث قول يخالف الإجماع.

من الشروط، الشرط الأول: أن يكون عالماً بالفقه أصلاً وفرعاً خلافاً ومذهباً، والثاني: أن يكون كامل الآلة في الاجتهاد، كامل الآلة، وهذا الشرط إما أن يراد به الأوصاف الغريزية الخلقية في الإنسان، أو يراد به الأوصاف المكتسبة، لكن حمله على الأوصاف الغريزية من كونه صحيح الذهن، جيد الفهم، بمعنى أنه عنده من الحفظ ما يؤهله لحفظ النصوص التي يعتمد عليها، وعنده من الفهم ما يؤهله لفهم هذه النصوص؛ من أجل أن يستنبط منها، حمله على هذا أولى؛ لأن الاحتمال الثاني يغني عنه الشرط الثالث، وهو أن يكون عارفاً بما يحتاج إليه في استنباط الأحكام.

هذه هي العلوم المكتسبة، لا بد أن يكون عارفاً بما يحتاج إليه في استنباط الأحكام، فلا بد أن يكون جيد التحصيل فيما ذكره المؤلف من علوم، جيد التحصيل، لا يشترط أن يكون حافظاً لجميع هذه العلوم، بحيث يكون في كل علم كخواص أهله، بل يكفي من هذه العلوم ما يحتاج إليه في فهم النصوص، في فهم الكتاب والسنة، فلا بد من مشاركته في النحو واللغة، وهذا أشار إليه المؤلف، أن يكون عارفاً بما يحتاج إليه في استنباط الأحكام من النحو واللغة، لا بد أن يكون عالماً بالقدر اللازم الكافي لفهم الكلام من اللغة بفروعها.

فروع اللغة كم؟ عشرة؟ النحو، الصرف، اللغة، أيش معنى اللغة؟ نعم؟

طالب:.......

مفرداتها التي يسمونها متن اللغة وفقه اللغة، نعم، والعروض، والقوافي، والبيان، والمعاني، والبديع، والاشتقاق، هذه فروع علم اللغة، لكن لا يلزم معرفة العروض والقوافي لماذا؟

لأن الكلام نثر، كلام الله -جل وعلا- ليس بشعر، وكلام نبيه -عليه الصلاة والسلام- نُفِيَ عنه أن يكون شعراً.

على كل حال هذا من الكمال أن يكون عارفاً بذلك، وهذا معروف عند أهل العلم، فروع هذه العلوم كلها معروفة عند أهل العلم إلى طبقة شيوخنا.

نذكر أننا لما كنا نقرأ على الشيخ عبد العزيز -رحمة الله عليه- سنة خمسة وتسعين في الفرائض جاء بيت كان فيه انكسار، فقطعه الشيخ عروضياً وأثبت أن ما فيه شيء، فمثل هذا يحتاج إليه لا شك أنه كمال، نعم، هذا أمر كمالي لكن يحتاج إليه طالب العلم، طالب العلم محتاج إلى النحو، هذه حاجة ضرورية ليست كمالية، الصرف –أيضاً- كذلك، مفردات اللغة الذي هو متن اللغة، فقه اللغة، الآن منا من يفرق بين متن اللغة وفقه اللغة؟ نعم؟

طالب:.......

أنت عندك كلمة نعم، عندك كلمة (الفَصِيل) ما معنى الفصيل؟ هاه، أيش هو؟

طالب:.......

لا أيش معناه؟ نعم؟

طالب:.......

ولد أيش؟

طالب:.......

لا، ولد أيش خلينا معنىً واحداً.

طالب:.......

ولد الناقة، هذا مفردات اللغة -متن اللغة- لكن إذا كنت تعرف ولد الناقة، هذا ولد ناقة، لكن أيش يسمى بلغة العرب؟

ترجع إلى كتب فقه اللغة، يعني عكس متن اللغة.

أما بالنسبة لمتن اللغة ومفرداتها فيها المعاجم التي لا تعد ولا تحصى، ومن أهمها كتب المتقدمين مثل (الصحاح، والتهذيب) يليها (اللسان والقاموس)، ومن أجمع ما كتب في اللغة (تاج العروس).

هناك أيضاً (المجمل، ومعجم المقاييس لابن فارس) وغيرها، كتب كثيرة لا يحاط بها، لكن كتب فقه اللغة قليلة، من أنفسها: (فقه اللغة للثعالبي) وهو مختصر، وأيضاً (المخصص لابن سيدة) كتاب نفيس، ولا يستغني عنه طالب علم.

هناك كتاب اسمه (الإفصاح في فقه اللغة لعبد المتعال الصعيدي) أظن كتب النحو والصرف لو بدأنا نعدد كتب النحو والتدرج فيها، والصرف كذلك..، وما لعل هذا نرجئه إلى شرح الأجرومية وهي التي بعد هذا الكتاب، بعد الورقات الأجرومية -إن شاء الله تعالى-.

والصرف واللغة فقهاً ومتناً، والعروض والقافية، وهذه أيضاً كتب فيها كثير، والبيان، والمعاني، والبديع، الفنون الثلاثة التي يجمعها (البلاغة)، وفيها الكتب الكثيرة للمتقدمين والمتأخرين، وفيها لعبد القاهر الجرجاني أسرار البلاغة، ودلائل الإعجاز، وفيها المفتاح للسكاكي، وفيها (تلخيص المفتاح) الذي دار الناس بفلكه، ومشوا ورائه وكثرت شروحه وحواشيه، وعنوا به.

لماذا نحتاج إلى النحو واللغة والصرف وهذه العلوم؟

لأن النصوص الشرعية من الكتاب والسنة وردت بلسان العرب، فلا بد لفهمهما من معرفة بهذه العلوم؛ تؤهل لفهمها، والمراد بذلك -مثل ما ذكرنا- القدر المجزئ الذي يقبح جهله، ولا يراد بذلك أن يتقن كل فرع من هذه الفروع كخواص أهله، على ما سبقت الإشارة إليه.

من الأدب أيضاً -من أدب المفتي- أن يطلع على كتب الآداب، وهذه تعطيه الأساليب والعبارات الجيدة التي يستطيع بواسطتها أن يوصل ما لديه من علوم، ويقصد بذلك الأدب العفيف لا الأدب الماجن، وإن كان أهل العلم يطلعون على الكتب وإن كان فيها ما فيها، وفيها فوائد وإن كان فيها شيء من المخالفة التي بعضها لا يليق بسمت طالب العلم، لكن تجد كثيراً من أهل العلم حينما يفتي أو يسأل يصعب عليه أن يوصل المعلومة التي يريدها إلى المستفتي،.

نعم هناك كتب قد تغني عن هذه الكتب وهي عفيفة، مثل الأساليب الرائعة التي بثها ابن القيم في كتبه، لو يحفظ منها طالب العلم كمية وجملة استفاد منها في مستقبل حياته.

ولذا العالم حينما يسأل ينبغي أن ينظر حال السائل من أي طبقة يكون، فيخاطبه على قدر فهمه، قد يكون السائل طالب علم وليس عنده من العبارات ما يستطيع أن يوصله إلى طالب العلم، مع أن طالب العلم أسهل من العامي، فيوصل المعلومة والفتوى والجواب إلى هذا السائل بالأسلوب المناسب، هذا إذا كان السائل واحداً أو مجموعة يشملهم وصف واحد، لكن إذا كان السؤال مطروح على خلائق لا يحصون، منهم العالم، منهم المتعلم، منهم العامي، منهم الذي لا يفهم اللهجات، فمثل هذا يتعين عليه أن يكون جوابه مفهوماً لدى السامعين، فلا يفتي بلهجة لا يفهمها جميع من يستمع.

هو لا يطالب أن يفتي بجميع اللغات، أو يتعلم جميع اللغات ليفتي بها، لكن أقل الأحوال أن يتقن العربية؛ بحيث يفتي الناس بالعربية؛ لأن الأقاليم تختلف في فهم العامية، وبعض الألفاظ العامية يختلف مدلولها من قطر إلى آخر، يختلف مدلولها من قطر إلى آخر، وقد تفيد الضد والنقيض، تفيد الضد والنقيض من المقصود.

فالعالم عليه أن يعتني بالعربية ويفتي بالعربية لا سيما إذا كان من يسمعه من شرائح متنوعة، ومن أقطار متباعدة؛ لأن الآن ما هو مثل قبل، لا يبلغ صوتك إلا أمتاراً، الآن ألوف مؤلفة من الكيلوات يصل صوتك، والله المستعان.

طالب:.......

يعطيه بقدر ما يفهم؛ لأن المقصود نفع السائل، حل الإشكال لدى السائل فيهمه بلهجته، لكن لما يقول كلمة –مثلاً- تختلف فيها الأقطار اختلافاً متباينا، واحد سأل شيخاً من المشايخ قال: ما حكم الزعابة؟ قال: الزعابة ما فيها شيء، أيش معنى الزعابة؟ الشيخ فهم أن الزعابة إخراج الماء من البئر، هذه الزعابة عندهم، قال: يا شيخ أنا سمعت أنها حرام وشرك، قال: أيش لون شرك؟ قال: الزعابة تذبح عند باب الدار إذا أردت أن تسكن، قال: اللهم سلم، هذا الشرك الأكبر نعم، فعلى هذا لا بد من الاستفصال، ولا بد من الإجابة باللغة التي يتفق عليها الجميع، والله المستعان.

يقول: ومعرفة الرجال، عارفاً بما يحتاج إليه في استنباط الأحكام من النحو واللغة ومعرفة الرجال، معرفة رجال الحديث من ناحية الجرح والتعديل، ومعرفة قواعد الجرح والتعديل، وكيف يعمل عند تعارض الجرح والتعديل، لا بد من معرفة ذلك لماذا؟ ليتأهل للنظر في الأسانيد، ليتمكن من التصحيح والتضعيف، ليبني فتواه على خبر ثابت، ولا يستدل بحديث لم يثبت، كما هو شأن كثير من الفقهاء، لكن المجتهد شأنه أعظم وأشد، وليس المراد حفظ كتب الرجال –مثلاً- والله يشترط لك أن تحفظ الجرح والتعديل، والثقات والضعفاء، والكمال، وتهذيب الكمال، هذه ينتهي العمر وما حفظت كتاباً واحداً، نعم، لكن المقصود أن تكون لديك الأهلية، تحسن التعامل مع هذه الكتب، وترجع إليها بأخصر طريق، وتنظر ما قيل في الراوي من جرح وتعديل، تستطيع أن توازن بواسطة معرفة القواعد التي قعدها أهل العلم للتعارض والترجيح، ثم بعد ذلك تخرج بنتيجة، مع أن هذا أمر في غاية الصعوبة، نعم، هو سهل إذا نظرنا إليه بمفردات هؤلاء الرواة، لكن المسألة مفترضة في من؟ في شخص مجتهد، يجتهد في جميع ما يسأل عنه من أحكام، كل مسألة عليه أن ينظر في أقوال أهل العلم، في الخلاف والإجماع، ثم ينظر في أدلة كل قول، ثم ينظر في ثبوت كل دليل، وكل دليل ينظر في إسناده وطرقه ومتابعاته وشواهده، والعمر وين؟ ولذلك تجد كثير من الناس..، أما الاجتهاد المطلق -بمعنى الإطلاق بهذا اللفظ بمعنى الإطلاق- فهو نادر، أيش معنى، معنى الإطلاق؟ معناه أنك تجتهد في كل مسألة من مسائل الدين، في كل نازلة من النوازل، تنظر فيها من جميع وجوهها، أقوال العلماء فيها، أدلة هذه الأقوال، النظر في كل دليل، وكل دليل النظر في جميع رواته، وكل راو النظر في جميع..، كل ما قيل فيه جرحاً وتعديلاً، ثم بعد ذلك تستخلص النتيجة بالنسبة لهذا الراوي، ثم الراوي الذي يليه، ثم الذي يليه، ثم الذي يليه، وتنظر في الطبقات، لتنظر هل يتمكن هذا من سماع هذا أم لم يتمكن، ثم بعد ذلك تخرج بنتيجة حديث واحد يوم مثلاً، الحديث الثاني وين العمر الذي بيستوعب هذه الأمور.

ولذلكم تجدون كثير من العلماء -والمشقة تجلب التيسير- يختصر الطريق، إن أراد أن يجتهد في الرواية جعل همه الحديث وما يتعلق به، والأسانيد، والعلل، على أن هذا تنقطع دونه الأعمار، علم الحديث علم، وبعضهم اختصر الطريق واقتصر على الدراية، قلد في التصحيح، أو نظر فيها نظراً عابراً، ورجح ترجيحاً من غير دراسة كافية، وحكم من خلال هذا النظر –الاسترواح- يعني مجرد ميل، لكن العالم إذا تحرى الصواب، وصدق اللجأ إلى الله وقرن علمه بالعمل الغالب أنه يسدد ويوفق، ولو لم يتمكن من الاجتهاد المطلق بشرط الإطلاق، لكن هذا ظاهر، وأنتم أدركتم من أهل العلم من سدد ووفق، هل يتصور أنهم مع أعمالهم، والأعباء التي تحملوها وحملوها على أكمل وجه أنهم اجتهدوا في كل مسألة مسألة، وبحثوها من كل وجه، وبحثوا جميع ما يتعلق بها؟

هذا دونه خرط القتاد، ومع ذلكم وفقوا وسددوا وهدوا إلى الصواب، هذا سببه أيش؟ الإخلاص، سببه الإخلاص وصدق اللجأ إلى الله -جل وتعالى- والعمل بالعلم، أما شخص ديدنه المكتبة، ما يخرج من المكتبة؛ بحثاً وراء بحث، لكن إذا جاءت الصلاة هو آخر من يحضر المسجد، إذا جاء القيل والقال أول من يبادر، مثل هذا قد لا يوفق، فعلى العالم أن يتصف بالورع، والالتزام الحقيقي بالدين، وأن يكون عمله مطابقاً لعلمه، ثم يسدد.

ثم قال بعد ذلك: ومعرفة الرجال، وتفسير الآيات الواردة في الأحكام: يعرف آيات الأحكام، يعرف آيات الأحكام، وعناية الفقهاء بآيات الأحكام، ولا يشترطون للمجتهد المطلق حفظ القرآن، سوى آيات الأحكام، ما يشترط حفظ القرآن، يعني رغم صعوبة الشروط التي وضعوها لم يشترطوا حفظ القرآن؛ لأن همهم الأحكام العملية.

بعضهم يقدر آيات الأحكام خمسمائة آية، وهذه ألفت فيها الكتب -كتب تفسير آيات الأحكام- من أهمهما (أحكام القرآن لابن العربي)، وميله إلى مذهب مالك، (أحكام القرآن للجصاص)، وميله لمذهب أبي حنيفة، (أحكام القرآن لإلكيا الطبري الراسي)، وهو شافعي المذهب.

من أجمع وأنفس ما كتب في أحكام القرآن (الجامع في أحكام القرآن للقرطبي)، فآيات الأحكام لا بد من العناية بها، ولا يعني هذا أننا نهمل ما جاء في القرآن في القصص –مثلاً-؛ العبر والمواعظ والدروس التي تستنبط من القصص لا تقل أهميتها عن أهمية آيات الأحكام.

الأمثال: وقد قال الله -جل وعلا-: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [(43) سورة العنكبوت]، لا بد من معرفتها، آيات الترغيب، آيات الترهيب، وآيات القرآن تنوعت أنواعاً بحسب ما يحتاجه العالم والمتعلم، لكن الفقهاء يهمهم الفقه الذي هو الأحكام، فلا بد للمجتهد أن يكون عارفاً بكتاب الله -عز وجل- لا سيما ما يتعلق منه بالأحكام الذي هو بصدد إفتاء الناس فيها؛ فكيف يفتي الناس ويتصدى لحل إشكالاتهم من لا يعرف كتاب الله -عز وجل- ولا بد أن يعرف تفسير هذه الآيات من خلال كلام العلماء الموثوقين من سلف هذه الأمة وأئمتها.

وأن يكون عارفاً بناسخها ومنسوخها، لا بد أن يعرف الناسخ من المنسوخ، وقد وقف علي بن أبي طالب على قاص، فقال له: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا، قال: "هلكت وأهلكت"؛ قد يفتي الناس بحكم منسوخ. والنسخ في القرآن والآيات المنسوخة والآيات الناسخة فيها المؤلفات، من أجمعها كتاب ابن النحاس، وكذلك على المتعلم الذي يتمنى أن يكون مجتهداً مفتياً، أن يعنى بتفسير أحاديث الأحكام؛ فالسنة كما هو معروف شقيقة القرآن في الاستدلال، وإن كانت هي المصدر الثاني في الترتيب؛ باعتبار القائل وباعتبار الثبوت، فلا بد لمن يتصدى للإفتاء أن يكون حافظاً لقدر كاف، عارفاً بما فيها من أحكام، مطلعاً على أقوال العلماء في شرحها؛ لئلا يضل في فهم هذه الأحاديث، ويأتي بما لم يسبق إليه في ذلك.

كتب أحاديث الأحكام كثيرة: عمدة الأحكام، بلوغ المرام، المحرر، المنتقى، الإلمام، كتب ألفت في هذا الشأن ولها شروح كثيرة، ويذكر بعض أهل العلم أن سنن أبي داود يكفي المجتهد، يكفي المجتهد سنن أبي داود في أحاديث الأحكام، وبعضهم يضيف إليه السنن الكبرى للبيهقي-البحر- لا شك أن من أحاط علماً بسنن البيهقي -وهذا أشرنا إليه مراراً- لا شك أنه يصدر عن علم، لكن من يوفق للعناية بهذه الكتب؟

معاناة العلم شاقة وصعبة، لكن الثمرة من هذه المعاناة كبيرة؛ {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [(11) سورة المجادلة].

جاء في فضل العلم ومدح أهله من نصوص الكتاب والسنة الشيء الكثير، لولا المشقة لكان كل الناس علماء، كل الناس علماء، ولولا التعب واللهث وراء أمور الدنيا لصار الناس كلهم تجاراً تجاراً، لكن الراحة والإخلاد إليها والدعة والترف يعوق عن تحصيل خير الدنيا والآخرة.

ولا بد أن يكون أيضاً عالماً بناسخ الحديث ومنسوخه، وألفت فيه الكتب، ومن أنفس ما ألف في هذا الباب (الاعتبار في معرفة الناسخ والمنسوخ من الآثار للحازمي)، وهذا كتاب نفيس ينبغي لطالب العلم أن يعنى به، ومع تمام معرفته بذلك -بجميع ما ذكر وإتقانه- لا بد أن يتصف بالورع، ورعاً ديِّناً، لا يتجرأ على الله فيفتي بغير علم؛ لأنه إن لم يكن ورع جرؤ على الله -عز وجل- وأفتى الناس بغير علم، أو أفتاهم -وإن كان له عنده شيء من العلم- يمكن يفتي بخلاف ما يعلم طمعاً في حطام فاني -حطام الدنيا- إرضاءً لفلان أوعلان، يشتري بآيات الله ثمناً قليلاً، فعلى المفتي ألا يتجرأ على الله، فيفتي بغير علم، أو بشيء لم يتأكد منه؛ لأن المفتي كما هو معلوم موقِّع عن الله -عز وجل-، فليحذر أشد الحذر من يتصدى لهذا الأمر الخطير، من الجرأة على الله -عز وجل-؛ فالقول على الله بلا علم من عظائم الأمور، كما قال -جل وعلا-: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [(33) سورة الأعراف].

قال -جل وعلا-: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ} [(60) سورة الزمر]: يعني يدخل في المتكبرين من يتكبر عن قول: لا أدري، أو لا أعلم، إذا قرنَّا هذا بقوله -جل وعلا-: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} [(116) سورة النحل]، فتوى بغير علم كذب الله -عز وجل-، فلا بد حينئذ من توافر العلم والدين والورع، كما قال الناظم:

وليس في فتواه مفت متبع

 

 

ما لم يضف للعلم والدين الورع

 

مع الأسف الشديد أن نرى ونسمع كثيراً ممن يتصدى للفتوى بغير علم، أو مع علم، لكن يفتي بغير الحق؛ اتباعاً للهوى وطمعاً في الحطام الفاني، وقد صح عن النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا)) [الحديث مخرج في البخاري].

وثبت في الصحيح من حديث أنس -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن من أشراط الساعة: أن يرفع العلم، ويثبت الجهل، ويشرب الخمر، ويظهر الزنا)).

يقول ابن القيم-رحمه الله تعالى- في إعلام الموقعين: "فصل: وكان السلف من الصحابة والتابعين يكرهون التسرع في الفتوى، ويود كل واحد منهم أن يكفيه إياها غيره، فإذا رأى أنها تعينت عليه بذل اجتهاده في معرفة حكمها من الكتاب والسنة وأقوال الخلفاء الراشدين ثم أفتى".

وقال عبد الله بن المبارك: حدثنا سفيان عن عطاء بن السائب عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أراه قال: في المسجد- فما كان منهم محدث إلا ودَّ أن أخاه كفاه الحديث، ولا مفت إلا ودَّ أن أخاه كفاه الفتيا".

ثم قال ابن القيم -رحمه الله-: "قلت: الجرأة على الفتيا تكون من قلة العلم، أو من غزارته وسعته –يعني ليست مذمومة مطلقاً- الجرأة على الفتيا تكون عن قلة العلم، مش مثل هذا -قليل العلم- إذا تصدر للناس، وسئل عن مسائل إذا قال: لا أدري، لا أدري، قلة علم وما عنده شيء؟ لا تطاوعه نفسه، وهواه وشيطانه؟ أيش معنى أنك ما تدري، ليش تتصدر للناس وأنت لا تدري؟ هكذا يسول له، هذا من قلة علم، فلا يجرأ على الفتيا خشية أن يقال: هذا ما هو شيء، إذا قال: لا أدري كم مرة ....... استفاضة بعلم وعمل وفضل وخير وصلاح، سقط من أعين الناس، فيخشى أن يسقط من أعين الناس فلا يقول: لا أدري، ومن غزارته وسعته، بحيث يكون الدليل والبرهان عنده مثل الشمس، مثل هذا ما يتردد إلا من جهة واحدة، إذا وجد من يكفيه الفتيا -وإن كان غزير العلم واسع العلم ودفع الفتيا إلى من تبرأ الذمة بالإحالة إليه- مثل هذا يحمد؛ لأنه وإن كان غزير العلم واسع الاطلاع، فيجيب عن كل مسألة لا بد أن يصاب بشيء؛ لأن النفس البشرية ضعيفة، إذا تتابع الناس على مدحه والثناء عليه والإشادة به، يخشى عليه، يخشى عليه ويخشى على غيره أن يفتن به.

يقول: فإذا قلَّ علمه أفتى عن كل ما يسأل عنه بغير علم، وإذا اتسع علمه اتسعت فتياه، ولهذا كان ابن عباس -رضي الله عنهما- من أوسع الصحابة فتيا، وقد تقدم -يقول ابن القيم- أن فتاواه جمعت في عشرين سفراً، وكان سعيد بن المسيب -أيضاً- واسع الفتيا.

المقصود أنه إذا كان هناك علم، فلا يخلو إما أن يتعين عليه الجواب فلا يجوز له حينئذ أن يتأخر عن الجواب، إذا لم يتعين عليه، وصار بالنسبة له واجباً على الكفاية، وأحال على غيره؛ تورعاً أو خشية من أن يَفتن أو يُفتن، مثل هذا يمدح، لكن إن أجاب فهو الأصل.

أقول: من ابتلي بالفتيا وتعينت عليه فعليه بالورع، وعليه بصدق اللجأ إلى الله -سبحانه وتعالى- أن يعينه ويسدده ويوفقه للصواب، وعليه –أيضاً- بقراءة ما يعينه إلى معرفة آداب المفتي وشروطه.

ومن أهم ما كتب في ذلك الكتاب الجامع النافع الماتع (إعلام الموقعين عن رب العالمين) لابن القيم-رحمه الله تعالى-.

يقول الناظم-رحمه الله تعالى-:

والشرط في المفتي اجتهاد وهو أن
والفقه في فروعه الشوراد
مع ما به من المذاهب التي
والنحو والأصول مع علم الأدب

 

 

يعرف من آي الكتاب والسنن
وكل ما له من القواعد
تقررت ومن خلاف المثبت
واللغة التي أتت من العرب

 

قدراً به يستنبط المسائلا
مع علمه التفسير في الآيات
وموضع الإجماع والخلاف

 

 

بنفسه لمن يكون سائلاً
وفي الحديث حالة الرواة
فعلم هذا القدر فيه كاف

 

يعني قدراً كافياً.

ثم قال-رحمه الله تعالى-: ومن شرط المستفتي أن يكون من أهل التقليد: فيقلد المفتي في الفتيا، وليس للعالم أن يقلد، العامة -عامة المسلمين- الذين ليست لديهم الأهلية للنظر في النصوص، والخلاف والإجماع، والموازنة بين كل ما ذكر، هذا عامي فرضه التقليد، وفي حكمه المتعلم الذي لم يبلغ درجة الأهلية، أهلية الاستنباط من الكتاب والسنة، هؤلاء فرضهم التقليد، كما في قوله -جل وعلا-: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [(43) سورة النحل]، لكن على المقلد أن يسأل من تبرأ ذمته بسؤاله.

قد يقول: العامي ليست لديه أهلية، من يسأل؟ إذا رأى شخص مظهره مظهر عالم يكفي؟ يكفي أن يكون الشكل الخارجي يؤهل لأن يسمى شيخاً؟ إذن كيف يطالب هذا العامي بسؤال من تبرأ ذمته بسؤاله، وهو ليست لديه أهلية -أهلية الموازنة- بين من تبرأ ذمته بتقليده، ومن لا تبرأ ذمته بتقليده.

قد يقول: يستشير أهل العلم، نقول: أين أهل العلم، هو الآن ما بعد عرف أهل العلم الذين يمنكن أن يقتدى بفعالهم وأقوالهم؟

نقول: الاستفاضة في هذا كافية، يعني إذا عرف الناس..، اتجهوا إلى فلان يسألونه، واشتهر بين الناس أن هذا عالم يكفي العامي، شهادة..، عمله بهذه الاستفاضة، ولا يكلف ما وراء ذلك، هل يجب على العامي أن ينظر في هذا العالم، هل انطبقت فيه الشروط السابقة أم لم تنطبق؟ كيف؟ ما يستطيع، ما يستطيع تطبيق هذه الشروط، وتكليفه بذلك تكليف بالمحال؛ هو ما يعرف، لو عرف أن يطبق هذه الشروط في العالم لطبقها على نفسه، نعم، فكان يصير عالماً، وإذا اشترطنا فيه أن يعرف العالم بالطرق المتبعة عند أهل العلم، لزم عليه الدور، المسألة مفترضة في عامي، لكن نقول: يكفي في ذلك الاستفاضة، إذا اشتهر وشاع بين الناس أن فلاناً يتجه إليه المسلمون بسؤالهم، ويصدرهم بالعلم الذي لم يستفض نقده؛ لأنه إذا لم يكن عالماً حقيقياً، ولا يتصدر للناس استفاض نقده عند الناس، وكشفه الله -سبحانه وتعالى-، فمثل هذا يكفي فيه أن يستفيض أمره ويشتهر عند الناس أن هذا العالم، هذا الشخص من أهل العلم الذين تبرأ الذمة بتقليدهم.

بعضهم يقول: يأتي العالم -يأتي العامي- ويسأل أنت عالم؟ أنت مجتهد؟ فإن كان كذلك سأله...... ليس بلائق، وإن رجحه بعضهم، أسلوب ممجوج، نعم، ما يلزم يا أخي؛ لأنه لو كان متصدراً للناس وقال له..، حتى أعلم الناس إذا قيل له: أنت عالم؟ قال: لا، أيش يسوي العامي، يرجع؟ وأجهل الناس إذا قيل له: عالم، قال وأيش أنا جاهل؟ نعم، فهذه ليست طريقة.

أقول الطريقة لسؤال من تبرأ الذمة بسؤاله الاستفاضة الاستفاضة، فإذا سأل المقلد من تبرأ ذمته بتقليده وجب عليه العمل بفتواه وإن لم يعرف الدليل؛ لقصوره عن إدراك الأحكام بأدلتها.

تفضل؟

طالب:.......

نعم، لكن الذم في العكس؛ لأن هذه دليل على أنه يتبع هواه، الذم يأتي لو قيل: عليك كذا، ثم ذهب؛ ليبحث عن الأخف، نعم، يتتبع الرخص، وبعض طلاب العلم يرى أنه إذا أفتاه أكثر من واحد، تكون إحدى أو أحد الجوابين فيه تسهيل وتيسير والآخر فيه تشديد يقول: خذ الذي فيه تيسير؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما.

نقول: ما هو بصحيح هذا، نعم، أنت متهم، أنت متهم هنا؛ لأن حكم الله في المسألة واحد لا على جهة التخيير، فأحدهما صواب والآخر خطأ، في وقت النبي -عليه الصلاة والسلام- إذا اختار أحدهما فهو شرع، لكن هل للعامي أن إذا قيل له: عليك دماً، وقال: الثاني ما عليك دماً، قال: النبي ما خير بين أمرين؟ نعم، ما نقول هذا الكلام؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- لما يختار الأيسر نعم، لما يختار الأيسر..، نعم إذا خيرت في ما له أكثر من خصلة، كذا، وكذا اختار الأيسر، خيرت بين عتق رقبة، وإطعام وكسوة، تقول: لا والله الطعام أخف عليَّ، أنا يا الله أطعم، اختار الأيسر لا بأس، لكن يقال لك: مذهب أبي حنيفة الوجوب، ومذهب مالك الاستحباب، نعم، تقول: لا، مذهب مالك الاستحباب، ولو بعد وجدت قولاً يقول بالإباحة مستوى الطرفين، هذا أرغب إليك، هذا اختار الأيسر؟ لا أنت تتبعت رخص في هذه الحالة، وإذا تتبعت الرخص في جميع حياتك، خلاص انسلخت من الدين، فننتبه لهذا.

وليس للعالم المتأهل أن يقلد، بل عليه أن يستنبط؛ لأنه متعبد بشرع ووحي من كتاب وسنة، إلا إذا اجتهد ولم يتبين له الحكم، تردد، أو نزلت به حادثة يحتاج إلى جواب عاجل، تحتاج إلى جواب عاجل، فلا بأس حينئذ أن يقلد؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- لا يكلف نفساً إلا وسعها.

يقول الناظم-رحمه الله تعالى-:

ومن شرط السائل المستفتي
فحيث كان مثله مجتهدا

 

 

ألا يكون عالماً كالمفتي
فلا يجوز كونه مقلدا

 

 

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد.