كتاب الفتن من صحيح البخاري (03)

 

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا والسامعين برحمتك يا أرحم الراحمين.

 

قال الإمام أبو عبد الله البخاري -رحمه الله تعالى-: باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض».

 

حدثنا عمر بن حفص قال: حدثني أبي قال: حدثنا الأعمش قال: حدثنا شقيق، قال: قال عبد الله: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر».

 

حدثنا حجاج بن منهال، قال: حدثنا شعبة، قال: أخبرني واقد عن أبيه عن ابن عمر أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض».

 

حدثنا مسدد قال: حدثنا يحيى قال: حدثنا قرة بن خالد قال: حدثنا ابن سيرين عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبي بكرة وعن رجلٍ آخر هو أفضل في نفسي من عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبي بكرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطب الناس، فقال: «ألا تدرون أي يوم هذا؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: «أليس بيوم النحر؟» قلنا: بلى يا رسول الله، قال: «أي بلد هذا؟ أليست بالبلدة؟» قلنا: بلى يا رسول الله، قال: «فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟» قلنا: نعم، قال: «اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب، فإنه رب مبلغٍ يبلغه من هو أوعى له» فكان كذلك، قال: «لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض» فلما كان يوم حرِّق ابن الحضرمي حين حرقه جارية بن قدامة قال: أشرفوا على أبي بكرة، فقالوا: هذا أبو بكرة يراك، قال عبد الرحمن: فحدثتني أمي عن أبي بكرة أنه قال: لو دخلوا على ما بهشت..

 

عليّ، عليّ.

 

قال: لو دخلوا عليّ ما بـ...

 

ما بَهَشْتُ.

 

قال: لو دخلوا على ما بهشت بقصبة.

 

حدثنا أحمد بن إشكاب قال: حدثني محمد بن فضيل عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا ترتدوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض».

 

حدثنا سليمان بن حرب قال: حدثنا شعبة عن علي بن مدرك قال: سمعت أبا زرعة ابن عمرو بن جرير عن جده جرير، قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع: «استنصِت الناس» ثم قال: «لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض».

 

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

يقول الإمام -رحمه الله تعالى-: "باب: قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض»" لا ترجعوا: يعني لا ترتدوا، بعدي: أي بعد وفاتي، أو بعد كلامي هذا، كفاراً: إما أن يكون الكفر مخرجاً عن الملة، وذلك بالاستحلال، فإذا استحل الإنسان دم أخيه المسلم فإنه يكون بذلك مرتداً؛ لأنه استحل أمراً منكراً مجمعاً عليه معلومٌ تحريمه بالضرورة من دين الإسلام، أو يكون الكفر دون الكفر الأكبر، ولا يخرج حينئذٍ من الملة، لكنه من عظائم الأمور، «لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض» يعني: يقتل بعضكم بعضًا، ففيه التحذير الشديد، والوعيد على من ارتكب هذا الأمر الشنيع، وسبق الحديث عن حرمة القتل، وما ورد فيه من نصوص، «ولا يزال المسلم في فسحة من دينه حتى يصيب دماً حراماً».

 

«لا ترجعوا بعدي كفاراً» إما أن يكونوا كفاراً بالمعنى المعروف من الكفر إذا أطلق، وهو الخروج من الملة، أو يكون المراد بذلك التشبيه، يعني كالكفار الذين من شأنهم أن يضرب بعضهم رقاب بعض.

 

يقول -رحمه الله-: "حدثنا عمر بن حفص -بن غياث- قال: حدثني أبي -حفص بن غياث- قال: حدثنا الأعمش -سليمان بن مهران- قال: حدثنا شقيق -هو ابن سلمة أبو وائل- قال: قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر»" «سباب المسلم فسوق» السب: هو الشتم، السب والسباب كلاهما مصدر سب يسب سباً وسباباً، ومنهم من يقول: السباب أشد من السب؛ لأن السباب يكون بما في الإنسان وما ليس فيه، بخلاف السب.

 

«سباب المسلم فسوق» الفسوق والفسق: الخروج، وهو في الاصطلاح: الخروج عن طاعة الله وطاعة رسوله -عليه الصلاة والسلام-، والفسوق أشدُّ من مجرد العصيان؛ لأنه وقع معطوفاً على الكفر، ثم عطف عليه العصيان على سبيل التدلي من الأعلى إلى الأدنى، {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [(7) سورة الحجرات].

 

«سباب المسلم فسوق» أي شتمه بما فيه مواجهةً أو في غيبته، وما ليس فيه من باب أولى فسوق، الفاسق له حكمه في الشرع مستحقٌ للتعزير، إذا لم يكن فيما ارتكبه حد فهو مستحقٌ للتعزير، لو سبه بما يوجب الحد أقيم على الحد، لكن إذا سبه بما لا يوجب حداً فإنه يجب تعزيره، وأخذ حق أخيه منه، إلا إذا عفا أخوه.

 

«وقتاله كفر» قتاله: قتله ومقاتلته كفر، ويقال فيه مثل ما قيل سابقاً من أنه كفر مخرج عن الملة إن استحل ذلك، أو هو كفرٌ دون كفر إن لم يستحل ذلك، لما عرف عند أهل السنة قاطبة أن القتل كبيرة من كبائر الذنوب لكنه لا يخرج من الملة كغيره من الموبقات التي هي دون الشرك، نعم إن استحل خرج من الملة، فالذي يستحل حراماً مجمعاً عليه معلوم تحريمه بالدين، بالضرورة من دين الإسلام هذا يكفر، وعكسه إذا حرّم أمراً مباحاً حلالاً عرف حله بالضرورة من دين الإسلام فإنه يكفر.

 

فالقتال أشد من السباب، القتال أشد من السباب؛ لأن حكم السباب الفسوق، وحكم القتال كفر، والكفر وإن كان دون الكفر الأعظم إلا أنه أعظم من مجرد الفسوق، وجاء في الصحيحين وغيرهما: «لعن المؤمن كقتله» في حديث الباب فرق النبي -عليه الصلاة والسلام- بين مجرد السباب، وبين القتل في الحكم، فجعل السباب أنزل من القتل والقتال، وفي الحديث الآخر قال -عليه الصلاة والسلام-: «لعن المؤمن كقتله» هنا مشبه وهو اللعن، ومشبه به وهو القتل، ووجه الشبه الجامع بينهما التحريم، كلٌ منهما محرم، «لعن المؤمن كقتله» في التحريم، ولا يلزم أن يكون المشبه كالمشبه به من كل وجه، بل قد يكون التشبيه من وجهٍ دون وجه، فالسب والشتم كالقتل في الاشتراك بالتحريم، وترتيب العقوبة.

 

تشبيه الوحي بصلصلة الجرس، والوحي محمود، والجرس مذموم، هل يعني هذا أن الوحي مشبه للجرس من كل وجه؟ لا، فالجرس له أكثر من وجه، يمكن أن يشبه ببعضها دون بعض، فلا إشكال في الحديث؛ لأن اللعن أشبه القتل من وجهٍ دون وجه، من وجه الاشتراك في التحريم، كما أن الوحي أشبه صلصلة الجرس من وجهٍ دون وجه، فالجرس فيه قوة وتدارك في الصوت، وفيه أيضاً يعني جهة طنين، وجهة إطراب، فهو مشبهٌ بالجرس من جهة القوة والتدارك في الصوت، بينما جهة الإطراب التي وقع الذم من أجلها يفترقان.

 

ولذا آلات التنبيه التي ليس فيها إطراب لا تدخل في الجرس المنهي عنه، وإن سماه الناس جرس، يعني لو يضع الإنسان على بابه زر كهربائي ينبه من في الداخل إلى أنه يوجد عند الباب طارق، إن أطرب هذا المنبه دخل في الجرس المذموم، إن كان مجرد صوت لا يطرب السامع فإنه لا يدخل في المذموم، وقل مثل هذا في الآلات كلها، والناس مع الأسف الشديد يعانون مما يسمعون من الأجراس المطربة في مواطن العبادة، بل في أثناء العبادة بسبب الجوالات، فعلى المسلم أن يتقي الله -عز وجل-، والملائكة لا تصحب رفقةً فيها جرس، هذا جرس يا أخي، جرس مطرب وموسيقى، وجاء الوعيد الشديد فيمن يتخذ المعازف، وهذا نوعٌ منها، نسأل الله العافية، ويتضاعف التحريم بفضلِ المكان والزمان، ومع الأسف نجد هذه الأجراس المطربة ترن في المساجد، بل في أشرف البقاع في المطاف، والله المستعان.

 

فتشبيه اللعن بالقتل لا يعني أنه مشبهٌ له من كل وجه، وهناك أمثلة كثيرة لهذا الضرب، تشبيه رؤية الباري -جل وعلا- برؤية القمر تشبيه للرؤية بالرؤية، وليس بتشبيه للمرئي بالمرئي، تشبيه النزول على اليدين في الصلاة ببروك البعير لا يقتضي أن من قدم يديه ووضع يديه على الأرض برفق أن يكون مشبهاً للبعير حتى ينزل على الأرض بقوة، ويثير الغبار، ويفرق الحصا، حينئذٍ يكون مشبهاً لبروك البعير، أما إذا وضع يديه على الأرض مجرد وضع لم يشبه البعير، على كل حال هذا لو ذهبنا نستطرد بذكر الأمثلة يمكن يستغرق الوقت كله.

 

بعد هذا يقول الإمام -رحمة الله عليه-: "حدثنا الحجاج بن منهال –البصري- قال: حدثنا شعبة -بن الحجاج أبو بسطام- قال: أخبرني واقد" هذا من نسل عمر بن الخطاب، واقد بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب "عن أبيه -محمد بن زيد- عن –جده- عبد الله بن عمر أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول -في حجة الوداع عند جمرة العقبة-: «لا ترجعوا بعدي كفاراً»، إما مرتدين أو كالكفار «يضرب بعضكم رقاب بعض» على ما تقدم تقريره.

 

ثم قال -رحمة الله عليه-: "حدثنا مسدد" -مر بنا مراراً- ابن مسرهد بن مسربل إلى آخر ما ركب من نسبه، والذي يغلب على الظن أنه تركيب: مسدد بن مسرهد بن مسربل بن مغربل بن أرندل بن سرندل بن عرندل، ما يمكن تجتمع بهذه الصورة، لعله تركيب، "قال: حدثنا يحيى" وهو ابن سعيد القطان، "قال: حدثنا قرة بن خالد –السدوسي- قال: حدثنا ابن سيرين -محمد الإمام المعروف- عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبي بكرة -عن أبيه أبي بكرة نفيع بن الحارث الثقفي- عن رجلٍ آخر"، هو حميد بن عبد الرحمن الحميري، "عن رجلٍ آخر هو أفضل في نفسي من عبد الرحمن بن أبي بكرة"، صرح بعبد الرحمن بن أبي بكرة؛ لأن المروي من طريقه مما وقع لأبيه، والإنسان يحرص على حفظ ما يتعلق به أو بأبيه أو بأسرته، وإلا من أبهم..، وحميد بن عبد الرحمن الحميري أفضل من عبد الرحمن بن أبي بكرة؛ لأن ابن أبي بكرة دخل في الولايات، وأما حميد بن عبد الرحمن فقد زهد في الدنيا كلها فضلاً عن ولاياتها، ولا شك أن من مالت به الدنيا ومال بها معرض للخطر، بخلاف من عزف عنها، ولا يعني هذا أن أمور المسلمين تعطل، وكل الناس يزهد فيها، بل قد يتعين العمل فيها على بعض الناس، وإذا ألزم الإنسان من غير مسألة بهذه الولايات ونصح وبذل جهده واستفرغ وسعه في نصح الناس، والنصح لهم، لا شك أنه مثاب، بل ثوابه عظيم؛ لأن هذه أمور هي في الأصل خدمة للأمة، والله المستعان، لكنه في الغالب يعني امتحان قل أن ينجو منها، «نعمت المرضعة، وبئست الفاطمة» قلَّ من ينجو منها، ابن عباس قيل فيه هذا الكلام، جاء رجلٌ يسأل ابن عمر، فقال له: سل ابن عباس، فذكر له أن ابن عباس صار عنده شيء من التوسع في أمور الدنيا، يعني في المباحات، بينما ابن عمر زهد في هذه الأمور، فالناس لا شك أنهم يحسنون الظن، بمن لا نظر له في الدنيا، وإن كان أقل في العلم، والله المستعان.

 

"وعن رجلٍ آخر هو أفضل في نفسي من عبد الرحمن أبي بكرة عن أبي بكرة" الصحابي الجليل نفيع بن الحارث، "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطب الناس -يوم النحر بمنى- فقال: «ألا تدرون أي يوم هذا؟»" هذا للفت النظر من أجل الانتباه لما يلقى، «ألا تدرون أي يوم هذا؟» قالوا: الله ورسوله أعلم"، لما سأل دهشوا هم يعرفون أن اليوم يوم النحر، لكنهم دهشوا لما سئل عن شيء معلوم بالبداهة، نعم لو سئلت عن شيء لا يخفى عليك حتى عند السائل يعرف أنه لا يخفى عليك ما تدري ويش...؟ ماذا تجيب؟ لأن هذا معلومٌ عند الطرفين السائل والمسؤول، إذاً لا بد أن يكون السائل أراد شيئاً آخر غير المسؤول عنه، أو أن المسؤول ما فهم السؤال على وجهه وحقيقته من الدهشة، "قالوا: الله ورسوله أعلم"، الصحابة -رضوان الله عليهم- سئلوا عن يوم النحر، فقالوا: الله ورسوله أعلم، وصغار طلاب العلم يسألون عن عضل المسائل فيجيبون بغير تردد الآن، والصحابة يتدافعون الفتيا، ولم يجيبوا عن اليوم الذي هم فيه، ولا يعني هذا أن الإنسان إذا عرف شيئاً من العلم واحتاج الناس إليه أنه يكتم ما عنده من العلم, لا، لكن المسألة التوسط في الأمر، من عنده شيء لا يجوز له أن يكتمه إذا تعين عليه، والذي ليس عنده من العلم ما يكفيه للإجابة على مسألة بعينها أو مسائل يقول: الله أعلم، ولا يضيره ولا ينقص من قدره، بل هذا فيه الرفعة في الدنيا والآخرة ولم يضر الإمام مالك -رحمه الله- لما سئل عن أربعين مسألة فأجاب عن أكثر من ثلاثين، اثنتين وثلاثين أو ست وثلاثين بـ(لا أدري)، وهذا متوارث عند أئمة الهدى في المتقدمين والمتأخرين، والله المستعان، إلى أن وصل الحد بنا إلى أن صغار المتعلمين أو بعض من لا يمت إلى العلم الشرعي بصلة أن يتصدى ويتصدر لإفتاء الناس وتوجيههم، والله المستعان.

 

"قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: «أليس بيوم النحر؟» قلنا: بلى يا رسول الله، قال: «أي بلد هذا؟»" وجاء في بعض الروايات: "قلنا: الله ورسوله أعلم"، قال: «أليست بالبلدة؟» {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ} [(91) سورة النمل] البلدة: اسمٌ من أسماء مكة، كما أن الدار اسمٌ من أسماء المدينة، {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ} [(9) سورة الحشر] "قلنا: بلى يا رسول الله، قال: «فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم»" جمع عِرض، وهو موضع المدح والذم، «وأبشاركم» جلودكم، يعني الاعتداء على الإنسان بما يزهق روحه، ويريق دمه، وما يخدش جلده، يعني سواءً كان الاعتداء كبير أو يسير، ذليل أو حقير، ولذا قال: «وأبشاركم» يعني مجرد خدش البشرة، يعني لو تمر من عند واحد أو شيء بظفرك تخدش بشرته أو بأي شيء، بآلةٍ هذا حرام، وتقدم أن من يأتي بالسهام لا بد أن يأخذ برؤوسها إذا مر بمجامع الناس؛ لئلا تصيب أحداً بأذى.

 

«إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام» هذه من الضروريات التي جاء الدين بحفظها، فالدماء شأنها عظيم، والأموال أيضاً لا يجوز الاعتداء عليها من قبل غير مالكها، ولا من مالكها في غير وجوهها، فقد جاء النهي عن إضاعة المال.

 

«وأعراضكم» العرض الذي هو موضع المدح والذم لا يجوز النيل منه، «وأبشاركم عليكم حرام» وكل هذا إذا كان بغير حق، أما إذا كان بحق فالشرع جاء لإقرار الحق، فالقاتل يقتل، ما يقتل الإنسان ويقول: «إن دمائكم وأموالكم» الغاصب يعاقب ويؤخذ منه ما اغتصب، وقد يعزر بأخذ شيء من ماله، مانع الزكاة قد يعزر بأخذ قدرٍ زائد، «فإنا آخذوها، وشطر ماله» المقصود أن حفظ هذه الأمور من الدماء والأموال والأعراض إذا كان ذلك بغير حق، الأعراض قد يكون النيل منها بحق إذا كان الهدف منه النصح في الاستشارة مثلاً، في الجرح والتعديل بالنسبة للرواة، وهذا وإن كان على خلاف الأصل إلا أنه محددٌ بقدر الحاجة، لا يجوز النيل من عرض مسلم إلا لحاجة، وأن يكون بقدر الحاجة، إذا كانت الحاجة تتأدى بكلمة لا يجوز الزيادة عليها.

 

جاءك شخصٌ يستشريك؛ لأنه تقدم لخطبة ابنته شخص، فإذا كان لا يشهد صلاة الفجر لا تزد على ذلك، قل: يا أخي لا يشهد صلاة الفجر، لا يجوز لك أن تقول: الخبيث المخبث الذي فيه ما فيه، الفاعل التارك، ما يشهد صلاة الفجر أكيد أنه بعد بيسوي كذا وكذا، ما عليك، أنت لا يجوز لك أن تقدح إلا بما تعلم، وهذا بقدر الحاجة، وإذا دعت إليه الحاجة، ومثله جرح الرواة، ومع الأسف أن نجد بعض من ينتسب إلى طلب العلم همه وديدنه الجرح والتعديل، الذي لا تدعو إليه الحاجة، ولا يترتب عليه أدنى مصلحة، وتجد القيل والقال كله في أعراض الأخيار أيضاً، مع سلامة الأشرار، الشيخ فلان قال كذا، الشيخ علان أفتى بكذا، تسامح بكذا، داهن في كذا، ما عليك منه، إن كان عندك له نصيحة اذهب إليه بعد أن تقدم ما يفتح قلبه لك، أما تأتي على سبيل المتعالي، أو على جهة التعالي لتنصح شخص أكبر من أبيك، نعم عليه أن يقبل، وعليك أن تقدم الأسلوب المقبول، أما أن تكون في المجالس فلان فعل وفلان...

 

نعم من ظهر أمره واشتهر، وأعلن مخالفته، وخشي من ضرره على الناس لا مانع من التحذير منه؛ لأن ضرره إذا خشي منه أن يتعدى يحذر منه، فإن كان يكفي التلميح تعين، وإن لم يكفِ التلميح بل لا بد من التصريح صرح به، لكن أيضاً بقدر الحاجة.

 

«كحرمة يومكم هذا -يوم النحر- في شهركم هذا -في شهر ذي الحجة- في بلدكم هذا -في مكة- ألا هل بلغت؟» ألا هل بلغت؟ يعني ما أمرت بتبليغه، "قلنا: نعم" بلغت يا رسول الله، ونحن نشهد أنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة على أكمل وجه، ونصح الأمة -عليه الصلاة والسلام-، "قال: «اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب -يعني من حضر يبلغ من غاب- فإنه رب مبلغٍ -هذا تقليل- رب مبلغٍ يبلغه من هو أوعى منه» وأحفظ، يعني رب مبلَّغ أو رب مبلِّغ من الحاضرين يبلغه لشخصٍ هو أوعى منه له، وأحفظ له، وأفهم، ورب هذه للتقليل؛ لئلا يقول قائل: إنه يوجد في هذه العصور من هو أفهم من الصحابة، نقول: لا ما هو بصحيح، قد يوجد من الصحابة -لأن هذا تقليل- واحد أو أفراد من الصحابة مع ما نالوه من شرف الصحبة، ورسوخ القدم في الديانة يكون فهمهم..؛ لأنهم ليسوا بمعصومين، هؤلاء النفر اليسير قد يوجد فيمن جاء بعدهم من هو أحفظ وأوعى، وهكذا إلى قيام الساعة، يوجد في الزمن المتأخر من هو أحفظ وأوعى ممن هو ممن تقدم عليه في الزمن، وهذا قليلٌ نادر؛ لأن ربَّ تقتضي التقليل، وسبق الحديث: «فإنه لا يأتي زمان إلا والذي بعده شرٌ منه» وهذا إجمالي، هذا إجمالي.

 

"فكان كذلك" كان الأمر كذلك، بلّغ الصحابي التابعي، وقد يكون في التابعين وهذا مثل ما ذكرنا نادراً الواحد أو الاثنين من هو أحفظ من الواحد أو الاثنين من الصحابة، "فكان كذلك، قال: «لا ترجعوا بعدي كفاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض»" قال ابن أبي بكرة: "فلما كان يوم حُرِّق ابن الحضرمي" عبد الله بن عمرو "حين حرَّقه جارية بن قدامة" بن مالك بن زهير السعدي، السبب أن ابن الحضرمي وجهه معاوية -رضي الله عنه- يستنفر أهل البصرة إلى قتال علي -رضي الله عنه-، فوجه عليٌ -رضوان الله عليه- جارية بن قدامة إلى ابن الحضرمي، فتحصن ابن الحضرمي في دار، في دار فحرَّق جاريةُ الدارَ بمن فيها، وهذه آثار الفتن، الفتن إذا قامت لا بد أن يوجد مثل هذه التصرفات، الفتن نسأل الله -جل وعلا- أن يقي المسلمين من شرها إذا قامت لا بد أن توجد مثل هذه التصرفات، يحصل أمور لا تخطر على البال، حتى على بال من فعلها، تطيش العقول في أوقات الفتن، يعني أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه- يقتل في المدينة بين الصحابة، وقد قدم ما قدم للإسلام والمسلمين، وشهد له النبي -عليه الصلاة والسلام- بالجنة، كل هذا سببه الفتن، قد يقول قائل: أليس في المسلمين قوة ومنعة أن يمنعوا خلفيتهم من أن يقتل؟ فيهم قوة ومنعة، لكن إذا حصلت هذه الأمور فتلافيها صعبٌ جداً، فعلى كل إنسان أن يساهم بقدرِ ما أُوتي في دفع الفتن وضرها وشرها؛ لأنها إذا بدأت ما انتهت، تأتي على الأخضر على الرطب واليابس، شخص يحرّق بدار ومعه ما يقرب من سبعين، شخص من أبناء الصحابة، بل قال بعضهم أن له صحبة يودع في جوف حمار ويُحرّق في جوف الحمار! هذا سببه إيش؟ سببه الفتن، كيف يتصرف الناس؟ إذا هاجت الفتن طاشت العقول، وصعبت الحلول، فإذا كان هذا وقع في عصر الصحابة فما شأنكم فيما يقع فيما بعدهم حينما يرفع العلم، ويكثر الجهل، ويقل العمل؟ هذا والصحابة متوافرون تحصل مثل هذه الأمور، إذاً لا بد من أن يقضى على الفتن في مهدها، والله المستعان؛ لئلا تستشري.

 

يقول: "فلما كان يوم حُرِّق ابن الحضرمي حين حرقه جاريةُ بن قدامة قال جارية لجيشه: أشرفوا على أبي بكرة" أشرفوا على أبي بكرة، انظروا ماذا سيصنع أبو بكرة صحابي جليل يخشى إيش؟ أن يتدخل أبو بكرة فيحصل له شيءٌ من القتل فيبوء بإثمه من يقتله يقتل صحابي، ماذا صنع أبو بكرة؟ خشي جارية أن يتدخل أبو بكرة لسوء ما صُنع هؤلاء النفر، "فقالوا: هذا أبو بكرة يراك" أمامك، يراك أبو بكرة، لكن ماذا يصنع أبو بكرة؟ "قال عبد الرحمن بن أبي بكرة: فحدثتني أمي -هالة بنت غليظ العجلية- عن أبي بكرة- يعني عن أبيه- أنه قال: لو دخلوا علي ما بهشت بقصبة" يعني ما دافعت عن نفسي، لو دخلوا عليَّ، بيتي، ما دافعت عن نفسي بقصبة، ما يدافع عن نفسه؛ لأنه حفظ من أحاديث الوعيد الشديد في القتل والقتال، قتال المسلمين ومقاتلتهم؛ لئلا يساهم في ما جاء فيه الوعيد الشديد، قال: "لو دخلوا عليَّ ما بهشت بقصبة".

 

ثم قال: "حدثنا أحمد بن إشكاب –الصفار- قال: حدثنا محمد بن فضيل -بن غزوان- عن أبيه -فضيل بن غزوان- عن عكرمة -مولى ابن عباس- عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا ترتدوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض»"، «لا ترتدوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض» البخاري -رحمه الله تعالى- احتج بعكرمة مولى ابن عباس، وعكرمة فيه كلام لأهل العلم، بل قال بعضهم: إنه يرى إيش؟ ها؟

 

طالب:.......

 

لا القدر ما يجي هنا، يرى إيش؟

 

طالب:.......

 

يرى السيف، قالوا: يرى السيف، وهو مذهب الخوارج.

 

طالب:.......

 

معروف كلام الذهبي في السير طويل، ودافعوا عنه، لكن نحن نريد أن نقرر شيء هنا، الحافظ العراقي -رحمه الله- يقول:

 

ففي البخاري احتجاجاً عكرمة    

 

مع ابن مرزوقٍ وغير ترجمة

 

المقصود أن عكرمة خرج له البخاري في الأصول معتمداً عليه، وإن مُسَّ بضربٍ من التجريح من قبل غيره، واتهم برأي الخوارج، لكنه لم يثبت عنه، لم يثبت عنه، الآن الخبر الذي يرويه عكرمة عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: «لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض» هل نقول: إن عكرمة متهم، وهذا يؤيد تلك البدعة؟ لأن الخبر: «لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم..» الذي يكفر القاتل من هو؟ من الذي يكفر القاتل؟ الخوارج إذا لم يستحل، هو مذهب الخوارج، فهل نتهم عكرمة لأنه روى هذا الحديث ونقول: إن هذا الحديث يؤيد بدعته؟ نقول: نسبة البدعة إليه لم تثبت، نسبة البدعة إليه لم تثبت، بل فندها وردها أهل العلم، الحافظ الذهبي في السير، والحافظ ابن حجر في مقدمة فتح الباري، تكلموا بكلامٍ طويل حوله.

 

ثم قال: "حدثنا سليمان بن حرب -الأزدي البصري- قال: حدثنا شعبة عن علي بن مدرك –النخعي- قال: سمعت أبا زُرعة –هرم- ابن عمرو بن جرير-بن عبد الله البجلي- عن جده جرير -بن عبد الله- قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع -عند جمرة العقبة-: «استنصت الناس»" استنصت الناس: يعني مرهم بالسكوت والإنصات، "ثم قال -بعد أن أنصتوا وسكتوا -عليه الصلاة والسلام-: «لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض»"، وهذا تقدم الحديث فيه، وهو أن القتل هو من شأن الكفار، من شأن الكفار، فلا ترجعوا بعدي كالكفار يضرب بعضكم رقاب بعض، أو كفاراً إن استحللتم ذلك، كما هو مقرر عند أهل العلم.

 

نعم

 

بابٌ: تكون فتنة القاعد فيها خيرٌ من القائم.

 

حدثنا محمد بن عبيد الله قال: حدثنا إبراهيم بن سعد عن أبيه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، قال إبراهيم: وحدثني صالح بن كيسان عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه، فمن وجد فيها ملجأً أو معاذاً فليعذ به».

 

حدثنا أبو اليمان قال: أخبرنا شعيب عن الزهري قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه، فمن وجد ملجأً أو معاذاً فليعذ به».

 

يقول -رحمه الله-: "بابٌ: تكون فتنةٌ" يعني عظيمة، التنوين هنا للتعظيم، "القاعد فيها خيرٌ من القائم"، هذا نص الحديث، فترجم على الحديث بجزءٍ منه.

 

ثم قال: "حدثنا محمد بن عبيد الله -بن محمد بن زيد- قال: حدثنا إبراهيم بن سعد عن أبيه -سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف- عن –عمه- أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة، قال إبراهيم" إبراهيم بن سعد، "وحدثني -يعني متابعاً لأبيه- صالح بن كيسان عن ابن شهاب" الزهري، وصالح بن كيسان من أخص طلاب الزهري، وإن كان أكبر منه سناً؛ لأنه ما تعلم إلا بعد أن طعن في السن، "عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ستكون فتن»" عند أبي ذر: «فتنة»، «ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي» يعني أن من شارك في الفتن فيهم تفاوت بحسب توغلهم فيها، ليس المراد من القعود الجلوس والمشي على الأرجل، وإن كان هذا هو الأصل، إلا أن بعضهم يكون أشد توغلاً في هذه الفتنة، وبعضهم أخف، فمن اعتزل هذه الفتن لا شك أنه سالم، ولذا قال: «فمن وجد فيها ملجأً أو معاذاً فليعذ به» فليعتزل، إن كان وضعه العلمي أو الاجتماعي يستدعي دخوله فيها، بعض الناس لا سيما إذا كان من أهل العلم لا يسوغ له أن يعتزل إذا كان يستطيع التأثير في التخفيف من هذه الفتن، يعني إذا اعتزل أهل العلم والحلم والرأي فلمن تترك هذه الفتن؟! الفتن كالنار تأتي على كل شيء، وأهل العلم وأهل الحلم والخبرة والدراية والعقل بهم أو بسببهم يقضى على الفتن -بإذن الله-، على كل حال من اضطر أو من احتيج إليه لمشاركته في هذه الفتن عليه أن يسعى لإخماد هذه الفتن من مهدها إن تمكن، لكن لا يجوز له أن يساهم في إذكائها ولو بكلمة، ومن يساهم في إذكائها وتأجيجها هؤلاء متفاوتون بحسب أعمالهم فيها، منهم المحرض، ومنهم المستوشي، ومنهم..، المقصود أنهم متفاوتون، وعُبر في الحديث عن هذا التفاوت بالقيام والقعود والمشي، فمن كان أثره في هذه الفتن أقل كان خيراً من..، كان أثره أعظم.

 

«إنها ستكون فتن القاعد فيها خيرٌ من القائم، والقائم فيها خيرٌ من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرّف -أي تطلع لها واستشرف- تستشرفه» تهلكه بأن تجعله يشرف على الهلاك، لا سيما الفتن التي لا يظهر فيها وجه الصواب، ولا يظهر فيها رجحان إحدى الكفتين، «من تشرف لها تستشرفه فمن وجد فيها ملجأً أو معاذاً -أو ملاذاً- فليعذ به» وليلذ وليعتزل، وفي الصحيح: «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنماً يتبع بها شعف الجبال، يفر بدينه من الفتن»، وهذا سيأتي -إن شاء الله تعالى-، فالعزلة والسلامة لا يعدلها شيء؛ لأن الإنسان قد يدخل في مثل هذه الأمور ظناً منه أنه يصلح، لكنه قد يكون الأمر في غير مقدوره وطاقته فلينجُ بنفسه.

 

ثم قال -رحمه الله-: "حدثنا أبو اليمان -الحكم بن نافع- قال: أخبرنا شعيب -هو ابن أبي حمزة- عن الزهري، قال: أخبرني أبو سلمة -بن عبد الرحمن- أن أبا هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشّف لها تستشرفه»"، يعني التحذير، هذا فيه التحذير من المشاركة في الفتن، وهذا معروفٌ أنه مما لا يتبين فيه وجه الصواب، أما إذا تبين وجه الصواب بأن اعتدي على أحد تدخل يا أخي، «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً» بغى على ولي الأمر بغاة، يساعد ولي الأمر بقمعهم، المقصود أنه إذا بان وجه الصواب ما تكون فتنة، وإلا لو بغى على ولي الأمر بغاة ثم تركوا يتصارعون، وكلٌ قال: هذه فتنة القاعد فيها إلى آخره..، ولنعتزل، من وجد معاذاً أو ملاذاً، تكون الأمور أعظم، ولا بد من الأخذ على يد مثل هؤلاء، ولا شك أنهم إن كان لهم تأويلٌ سائغ يقبل منهم تأويلهم، ويحاجون، ويناقشون، ويقنعون، والبغاة عند أهل العلم ليسوا بكفار، لكنهم لا شك أنهم معرّضون للعقاب في الدنيا والآخرة، بقدر ما يترتب على فعلهم من أثر، فلو كان كل شخص يقول: أنا أعتزل مثل هذه الأمور صارت الدنيا ضياع، ما استقامت أمور الناس، حتى يقمع من أراد أن يشق عصا المسلمين، ويفرق جمعهم، ويثير المشاكل بينهم.

 

يقول: «فمن وجد ملجأً أو معاذاً فليعذ به» ففي هذا كله التحذير من المشاركة في الفتن، وهذا الخطاب يتجه إلى من لا أثر له في هذه الفتن، بل يخشى عليه أن يتأثر، يتأثر بها، ويتضرر في دينه، أو يكون له يدٌ، أو تَسَبُب في قتل مسلم أو هتك عرض أو ما أشبه ذلك، فمثل هذا عليه أن يعتزل، أما أهل الحل والعقد من أهل الرأي والعلم والحلم فمثل هؤلاء ينبغي أن يتدخلوا لتلافي الأضرار والأخطار واستشراء هذه الفتن واستمرارها، والله المستعان، نعم.

 

بابٌ: إذا التقى المسلمان بسيفيهما.

 

حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب قال: حدثنا حماد عن رجل لم يسمه عن الحسن، قال: خرجت بسلاحي ليالي الفتنة، فاستقبلني أبو بكرة فقال: أين تريد؟ قلت: أريد نصرة ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فكلاهما من أهل النار» قيل: فهذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: «إنه أراد قتل صاحبه»، قال حماد بن زيد: فذكرت هذا الحديث لأيوب ويونس بن عبيد، وأنا أريد أن يحدثاني به، فقالا: إنما روى هذا الحديث الحسن عن الأحنف بن قيس عن أبي بكرة.

 

حدثنا سليمان قال: حدثنا حماد بهذا، وقال مؤملٌ: حدثنا حماد بن زيد قال: حدثنا أيوب ويونس وهشام ومعلى بن زياد عن الحسن عن الأحنف عن أبي بكرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.

 

ورواه معمر عن أيوب، ورواه بكار بن عبد العزيز عن أبيه عن أبي بكرة، وقال غندر: حدثنا شعبة عن منصور عن ربعي بن حراش عن أبي بكرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم يرفعه سفيان عن منصور.

 

يقول -رحمه الله تعالى-: "بابٌ: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» إذا التقى المسلمان فهما مسلمان مع اتصافهما بالقتل، فالقتل كبيرة وجريمة من كبائر الذنوب، لكنه لا يخرج من الملة؛ لأن كلاً من القاتل والمقتول من المسلمين، ولذا قال: «إذا التقى المسلمان» {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [(9) سورة الحجرات] فالقتل لا يخرج من الملة ما لم يستحله مرتكبه، «إذا التقى المسلمان بسيفهما» الجواب: «فالقاتل المقتول في النار»، وسيأتي.

 

"حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب –البصري- قال: حدثنا حماد -هو ابن زيد- عن رجل لم يسمه"، عن رجل لم يسمه، هذا الرجل الذي لم يسمه حماد هو: عمرو بن عبيد شيخ المعتزلة، شيخ المعتزلة، والمعتزلة رأيهم في مرتكب الكبيرة كالقتل معروف أنه ليس بمسلم، وليس بمؤمن، ارتفع عنه الوصف، لكنه لا يكفر، كما تقول الخوارج، بل هو في منزلة بين المنزلتين، وإن كان مؤدى قولهم في الآخرة كقول الخوارج، أنه خالد مخلد في النار، وهذا في عموم مرتكب الكبيرة.

 

عمرو بن عبيد يرويه عنه حماد بن زيد ولم يسمه، وهذه طريقةٌ نبيلة ينبغي أن ينتبه لها طالب العلم، لو سماه نعم، لأحسن الناس الظن به، يروي عنه هذا الحبر -حماد بن زيد-، ويخرج له البخاري، وهو رأس من رؤوس المعتزلة، وعلى هذا ينبغي لمن أفاد فائدة من كتابٍ يخشى منه الضرر على طلاب العلم أن لا يسمي الكتاب، ولا يسمي صاحبه، يقول: قال بعضهم؛ لأنه إذا سمى هذا الكتاب أو سمى صاحبه مع وجود مثل هذه الفائدة فُتن الناس به، يعني بإمكانك أن تستفيد وأنت متأهل لا يمكن أن تتأثر بما يقوله المبتدعة في كتبهم إذا كانت لديك أهلية التمييز بين الحق والباطل، وتعرف كيف تتخلص من هذا الباطل بحيث لا يؤثر عليك من هذه الشبه، فلك أن تستفيد، واستفاد أهل العلم من كتب المبتدعة، استفادوا من تفسير الزمخشري، استفادوا من تفسير الرازي، استفادوا من الشروح، شروح كتب السنة، وفيها ما فيها من المخالفات العقدية لكن بحذر، الكتاب الذي ضرره أكثر من نفعه على متوسطي المتعلمين كالكشاف والرازي وغيرهما من المنظرين للبدع الذابين عنها، المثيرين للشبه، مثل هذا يستفيد منه المتمكن الذي لا يخشى عليه، أما متوسط طلاب العلم لا ينبغي أن يقرؤوا في هذه الكتب، هذا المتمكن إذا استفاد ووجد فائدة من هذه الكتب التي لا ينصح صغار المتعلمين بقراءتها يقول: قال بعضهم، أو قال بعض المفسرين، أو قال بعض الشراح، أو ما أشبه ذلك؛ لئلا يفتن بها من لا يعرف حقيقة أمرها، فالإبهام فيه فوائد، الإبهام فيه فوائد، فإما أن يخشى من افتتان الناس به وهو مبتدع، أو يخشى أن لا يروج الكتاب بسبب ذكر اسمه في بعض المجتمعات، يعني لو قلت: قال الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب في مؤلف وراح لبعض الأقطار الذين يعادون دعوة الشيخ نعم يمكن يكسد الكتاب ولا يستفاد منه، بل يحرق ويتلف، وهذا حاصل، ولذا بعض كتب الشيخ -رحمه الله- كتب عليها غير منسوب لأبيه، نسب إلى جده محمد بن سليمان التميمي، في شرح الطحاوية لابن أبي العز النقول بالصفحات من كتب شيخ الإسلام وابن القيم من غير تسمية، لماذا؟ لئلا يكسد الكتاب؛ لأن كثير من المجتمعات الإسلامية في وقت ابن أبي العز يحاربون شيخ الإسلام، وكتب شيخ الإسلام، هذه طريقة لإيصال الفائدة من غير أثرٍ سلبي، فأنت عليك أن توصل الفائدة بأي طريقة.

 

أحياناً يذكر بعض الأمور التي ليس الخلل فيها كبيراً نعم من أجل أن يروج هذا العلم، قد يقول قائل: نيل الأوطار مع أهميته، وسبل السلام رغم ما فيهما من فوائد ذكرت فيها مذاهب لا يرتضيها أهل السنة، ولا يعتدون بأقوال قائلها، لماذا؟ لأنها صنفت في مواضع وبلدان هم غالب سكانها هذه المذاهب، فلو لم تذكر هذه المذاهب ما راج الكتاب ولا انتفع به، لكن لا يعني هذا أن هذا مبرر لأن يذكر الإنسان البدع الكبرى المغلظة من أجل الترويج لا، كما فعل الفيروز أبادي لما شرح البخاري والبلد الذي هو فيه اليمن استشرت في وقته فتنة ابن عربي القول بوحدة الوجود، ففي شرح البخاري أدخل الفتوحات والفصوص علشان إيش؟ يروج الكتاب، معقول يروج الكتاب! لا تؤلف يا أخي، الأمة ليست بحاجة إلى مثل هذا التأليف إيش يروج الكتاب؟ فالأمور تقدر بقدرها، إذا كانت المفسدة يسيرة مغمورة شيء، أما إذا كانت كبيرة..، مفسدة إدخال الفتوحات والفصوص أعظم من مصلحة الشرح، من نعم الله -عز وجل- أن الكتاب أنجز منه مؤلفه عشرين مجلداً، فجاءت الأرضة على الكتاب من غلاف المجلد الأول إلى غلاف المجلد الأخير، وما بقي منه كلمة، والحمد لله.

 

لكن هذه طريقة، الآن حماد بن زيد قال: عن رجلٍ لم يسمه، ما سماه، علشان ما يفتن الناس بمثل عمرو بن عبيد، في كتاب الإيمان خرج الإمام -رحمة الله عليه- الحديث من رواية حماد بن زيد عن أيوب ويونس عن أيوب ويونس، أيوب بن أبي تميم السختياني إمام حافظ، ومثله يونس بن يزيد الأيلي، وكلاهما من الحفاظ، كون البخاري أورده مبهماً هنا؛ لأن الأبواب كلها في باب القتل والفتن، وأراد أن يغير؛ لأن البخاري إذا أراد أن يروي الحديث، يكرر الحديث لا بد أن يغير في السند أو في المتن، يأتي برواية تختلف عن الأولى ولو بشيء يسير؛ لأنه جرت عادته أن لا يكرر حديث في موضعين بسنده ومتنه، بسنده ومتنه يكرر الحديث في موضعين لا يكرر إلا نادراً يعني في نحو عشرين موضع فقط من كتابه -رحمه الله-، فجاء به مبيناً في أول الكتاب، وفي آخره أو في أواخره أبهم المروي عنه.

 

"عن الحسن -البصري- قال: خرجت بسلاحي ليالي الفتنة، فاستقبلني أبو بكرة" من القائل خرجت بسلاحي؟ نعم؟ شوف البخاري -رحمه الله- بيَّن، رواه كما رُوِّي، روى الخبر كما رُوِّي، ثم بين في الأخير عن جماعة، حدثنا سليمان قال: حدثنا حماد بهذا، وقال مؤمل: حدثنا حماد بن زيد حدثنا أيوب ويونس وهشام ومعلى بن زياد عن الحسن عن الأحنف عن أبي بكرة، فالذي خرج بسلاحه الحسن؟ الأحنف وليس الحسن، سقط لفظ: (الأحنف) من هذه الرواية بينه البخاري في آخر الباب.

 

يقول الأحنف: "خرجت بسلاحي ليالي الفتنة الواقعة بين علي وعائشة التي سميت موقعة إيش؟ الجمل، موقعة الجمل، هذه فتنة وإلا ليست فتنة؟ فتنة وأيُّ فتنة! علي -رضي الله عنه- مشهودٌ له بالجنة، فضائله ومناقبه أكثر من أن تحصر -رضي الله عنه وأرضاه-، وعائشة أم المؤمنين، تخرج عائشة لقتال علي، ولما أقبلت قال علي: "والله إنها لزوجته في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم" الفتن، الفتن -يا الإخوان- إذا جاءت، هؤلاء خيار الأمة، فكيف بمن يعيش بمثل زماننا حينما أثرت الشهوات والشبهات على النفوس؟! وأدبر الناس عن دين الله، هناك في وقت إقبال على الدين، تأتي عائشة لحرب علي ومقاتلته، وعلي -رضي الله عنه- علي ما يحتاج.

 

ورابعهم خير البرية بعدهم

 

عليٌ حليف الخير بالخير يمدح

 

ويقول في حقها، ماذا قال؟ هل اتهمها؟ هل رماها؟ هل..؟ ما فعل شيء، قال الحق: "والله إنها لزوجته في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم".

 

يقول الأحنف: "خرجت بسلاحي ليالي الفتنة فاستقبلني أبو بكرة -نفيع بن الحارث- وقال: أين تريد -يا أحنف-؟ قلت: أريد نصرة ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فكلاهما من أهل النار»"، يريد أن يثني الأحنف؛ لأنه من يواجه بسيفه؟ يواجه المسلمين، ويقاتل تحت راية من؟ تحت راية مسلمين، فالمتواجهان كلاهما من المسلمين، «إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فكلاهما من أهل النار» يعني يستحقان النار هذا الأصل، وقد يُعفى عنهما، فالقتل والقاتل تحت المشيئة كسائر الكبائر، {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [(48) سورة النساء] لكن في الأصل رتبت النار على جريمة القتل، العقوبة النار، والكبائر متوعدٌ عليها بالنار، والمعاصي كذلك، لكن هي تحت المشيئة.

 

"قيل: فهذا القاتل" يعني: يستحق النار القاتل، "فما بال المقتول؟" يعني ما ذنبه؟ يعني إذا كان القاتل يستحق النار؛ لأنه قتل فما بالُ المقتول؟ يعني ما ذنبه؟ "قال: «إنه أراد قتل صاحبه»" أراد قتل صاحبه، أي كان حريصاً على قتله، عازماً على قتله، وبهذا يحتج من يقول بالمؤاخذة بمجرد العزم، ولو لم يفعل؛ لأن العزم آخر مراتب القصد، يليها الفعل، مراتب القصد خمس.

 

مراتب القصد خمسٌ هاجسٌ ذكروا يليه همٌ فعزمٌ كلها رفعت

 

فخاطرٌ فحديث النفس فاستمعا

إلا الأخير ففيه الأخذ قد وقعا

 

 

أو ففيه الإثم قد وقعا، المقصود أن هذا عازم فهو مؤاخذٌ بعزمه، وهو أيضاً فاعل، فعل الأسباب، فعل الأسباب حرص وحاول وأخذ السيف وخرج وبارز، لكنه قتل ما استطاع أن يقتل، هذا فعل، فعل المقدمات، لكنه عقوبته دون عقوبة القاتل؛ لأن جريمته أقل من جريمة القاتل، نعم هو فعل هذه الأفعال لكنها ليست قتل محاولة قتل، عزمٌ على قتل.

 

"قيل: فهذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: «إنه أراد قتل صاحبه» قال حماد بن زيد: فذكرتُ هذا الحديث لأيوب ويونس بن عبيد" اللذين روى عنهما الخبر في كتاب الإيمان في أول الكتاب، "وأنا أريد أن يحدثاني به فقالا: إنما روى هذا الحديث الحسن عن الأحنف بن قيس عن أبي بكرة"، روى هذا الحديث الحسن البصري عن الأحنف بن قيس عن أبي بكرة، فهذا فيه دليلٌ على أن الذي خرج بسلاحه هو الأحنف وليس الحسن.

 

الآن هذه قبل وفاة الحسن بكم؟ سنة كم هذه ثمانية وثلاثين أو سبعة وثلاثين؟ والحسن توفي سنة مائة وعشر، الحسن ولد في هذه الأيام وإلا ما ولد؟ نعم؟

 

طالب:.......

 

كيف؟

 

طالب:.......

 

الحسن ولد في هذه الأيام وإلا ما ولد؟ على كل حال إن كان مولود هو طفل يعني ما هو..، هو طفل.

 

فقال: "إنما روى هذا الحديث الحسن عن الأحنف بن قيس عن أبي بكرة" الحسن أدرك أمهات المؤمنين، أدرك عائشة، وأدرك أم سلمة، وأدرك كثير من الصحابة، "حدثنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا حماد -بن زيد- بهذا" الحديث المذكور.

 

هذا يقول: لماذا روى البخاري عن عمرو بن عبيد مع أن الحديث يوافق مذهب الخوارج في الظاهر؟ وهل رواه عمرو من باب الدعوى لمذهبه؟

 

لا شك أنه رأس في مذهبه وداعية، لكن البخاري لم يعتمد عليه، البخاري لم يعتمد عليه، الحديث مروي من طريق أيوب ويونس.

 

"حدثنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا حمادٌ بهذا" الحديث المذكور، "وقال مؤمل -بن إسماعيل البصري-: حدثنا حماد بن زيد حدثنا أيوب ويونس وهشام ومعلى بن زياد عن الحسن عن الأحنف عن أبي بكرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ورواه معمر -بن راشد- عن أيوب –السختياني-، "ورواه بكار عن..، ورواه بكار بن عبد العزيز عن أبيه -عبد العزيز بن عبد الله بن أبي بكرة- عن –جده- أبي بكرة، وقال غندر -محمد بن جعفر- قال: حدثنا شعبة عن منصور -بن المعتمر- عن ربعي -بن حراش بالحاء المهملة، وإن ضبطه المنذري في مختصر السنن بالمعجمة- عن أبي بكرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يرفعه سفيان الثوري عن منصور -بن المعتمر-"، المقصود أن الحديث ثابت من طريق أيوب ويونس، ولسنا بحاجة إلى رواية عمرو بن عبيد، إلا أن البخاري -رحمه الله- من باب التفنن في السياق أراد أن يورد الحديث في موضعٍ آخر فغير سياقه الأول إلى السياق الثاني اكتفاءً بثبوته في الموضع الأول، نعم.

 

بابٌ: كيف الأمر إذا لم تكن جماعة.

 

حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا الوليد بن مسلم قال: حدثنا ابن جابر قال: حدثني بسر بن عبيد الله الحضرمي أنه سمع أبا إدريس الخولاني أنه سمع حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- يقول: كان الناس يسألون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: «نعم» قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: «نعم، وفيه دخن» قلت: وما دخنه؟ قال: «قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر» قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: «نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها» قلت: يا رسول الله صفهم لنا، قال: «هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا» قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم» قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: «فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك».

 

يقول الإمام -رحمه الله تعالى-: "بابٌ: كيف الأمر" يعني كيف يكون الحال والشأن إذا لم توجد جماعة؟ إذا لم تكن جماعة مجتمعون على إمام كلمتهم واحدة؟ ماذا نصنع؟ الجواب في الحديث: كيف الأمر إذا لم تكن جماعة؟ البخاري -رحمه الله تعالى- يتفنن في التراجم، فتجده أحياناً يحذف جواب الشرط: "بابٌ: إذا التقى المسلمان بسيفيهما"، اكتفاءً بما يورده من الخبر الذي فيه الجواب، وأحياناً يورد الترجمة بالاستفهام "كيف الأمر إذا لم تكن جماعة؟"، إذا كان المسألة في حكم "بابٌ: ما حكم كذا" أو هل يجوز كذا؟ إذا أوردها فالغالب أنه حيثُ لم تكن الدلالة صريحة من الخبر على الترجمة، فعدم صراحتها أورد عنده هذا التردد، لكن هنا "كيف الأمر إذا لم تكن جماعة؟" هذا ليس فيه تردد، فالنص صريح في الجواب.

 

"حدثنا محمد بن المثنى -أبو موسى العَنَزي معروف- قال: حدثنا الوليد بن مسلم -عالم الشام- قال: حدثنا ابن جابر -عبد الرحمن بن زيد بن جابر- قال: حدثني بسر بن عبيد الله الحضرمي أنه سمع أبا إدريس الخولاني -أبا إدريس عائذ الله بن عبد الله من العباد المعروفين- أنه سمع حذيفة بن اليمان"، أبو إدريس هذا يلتبس كثيراً مع أبي مسلم الخولاني، وكلاهما من خولان، وكلاهما من أهل الزهد والورع والعبادة، هذا أبو إدريس عائذ الله بن عبد الله وأبو مسلم اسمه: عبد الله بن ثوب، "أنه سمع حذيفة بن اليمان يقول: كان الناس يسألون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الخير وكنت أسأله عن الشر"، الخير إذا أقبل وصل، لكن الشر..، الخير إذا أقبل وصل، واستفيد منه، لكن الشر إذا أقبل كيف يتقى؟ كيف يتقى؟

 

"كنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني" المراد بالشر هنا الفتن، حذيفة -رضي الله عنه- روى أحاديث الفتن كالمتخصص فيها، كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يسأله عن هذه الفتن ليتقيها، ويحذر الناس من شرها، "مخافة أن يدركني"، يعني وقتها أو شرها، فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر من كفرٍ وقتلٍ ونهبٍ وارتكاب فواحش وغير ذلك، فجاءنا الله بهذا الخير، بهذا الدين الذي اجتمع فيه خير الدنيا والآخرة، "فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: «نعم» والباب الذي يحول دون هذا الشر وهذه الفتن هو عمر -رضي الله عنه-، وقد كسر هذا الباب، ثم تلاه مقتل عثمان -رضي الله عن الجميع-، "قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: «نعم» يأتي خير، ومن أظهر وجوهه ما حصل في عهد عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-، "قال: «نعم، وفيه دخن»" الدخن والدخان المراد به الكدر، يعني إذا وجد في الجو شيء من الدخن والدخان تكدر الجو، فكذلك ما اشتمل عليه هذا الخير الذي هو في الأصل خيرٌ محض، لكنه يدخل فيه شيء يكدره، "قلت: وما دخنه؟ قال: «قوم يهدون بغير هديي -يستنون بغير سنتي- تعرف منهم وتنكر» هم أهل خير، وأهل فضل وصلاح، لكن دخلهم إما من حرصهم زيادة الحرص على الخير أو من غفلتهم، دخل عليهم الدخن، فشابوا العبادة المشروعة بما أدخلوه عليها من البدع، فيهتدون بغير سنة النبي -عليه الصلاة والسلام-، تعرف منهم بعض الأعمال، وتنكر أيضاً البعض الآخر، "قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: «نعم، دعاة على أبواب جهنم» نسأل الله السلامة والعافية، «دعاة على أبواب جهنم» وجدوا في المائة الثالثة دعوا الناس إلى البدع، وأشربوها قلوب بعض الولاة، فامتحنوا الناس فيها وآذوهم، آذوا الأئمة بسببها، دعاة على أبواب جهنم، نسأل الله السلامة والعافية، يدعون إلى هذه البدع، ويلزمون الناس بها.

 

وما زال الأمر كذلك البدع تزيد كل عصر بدع جديدة في كل عصر، وفي كل مصر إلى أن وجد ممن ينتسب إلى هذا الدين من لا يعرف من الدين شيء، ما يعرف من الدين إلا الاسم، ولو قرأت في تراجم المتصوفة أو غيرهم من طوائف البدع المغلظة لعرفت حقيقة هذا الكلام، يوجد في بعض كتب التراجم، يُترجم لولي –مزعوم- ولي من أولياء الله، وكان -رضي الله عنه- لم يسجد لله سجدة، ولم يصم في سبيل الله يوماً، ولا فعل ولا فعل، جميع الواجبات تاركها، ولم يترك محظور إلا ارتكبه -رضي الله عنه وأرضاه- يقول، عاد واحد جاي معلق على الكتاب، يقول: إذا كان هذا -رضي الله عنه- فلعنة الله على من؟! دعاة على أبواب جهنم، وإذا مات مثل هذا شُيِّد على قبره ما يشيد، وعبد من دون الله، الضلال أيها إخوان ما له حد، يعني إذا كان قبر شخص يعبد من دون الله على نطاق واسع في الأمة وهو الذي يقول:

 

ألا بذكر الله تزداد الذنوب            

 

وتنطمس البصائر والقلوب

 

والله -سبحانه وتعالى- يقول: {أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [(28) سورة الرعد] ويعبد من دون الله.

 

«دعاة على أبواب جهنم» وكتبهم الآن وقبل الآن من سنين تكتب بماء الذهب وتطبع على أفخر الورق وأجود أنواع الطباعة، ويتداولها المسلمون، وكأنها ورد يقرؤون فيها ليل نهار، ويتبركون بها، وإذا حصل لهم الملمات اكتفوا بإخراجها، دعاة على أبواب جهنم، وصل الأمر بهذه الأمة إلى هذا الحد، وافترقت الأمة على الفرق التي ذكرها النبي -عليه الصلاة والسلام-، وكلها في النار إلا واحدة.

 

"قال: «نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها»" وكانت الوسيلة لترويج هذه البدع الدروس والمؤلفات وتناقل الطلاب الآن على أوسع نطاق، دعاة الشهوات، ودعاة الشبهات، وكلهم كل واحد منهم على باب من أبواب جهنم يدعو الناس إلى شهوة أو إلى شبهة على أوسع نطاق، وتدخل هذه الدعوات إلى البيوت، ويطلع عليها الصغار والكبار، الرجال والنساء والأطفال، والله المستعان، نسأل الله -جل وعلا- أن يقي المسلمين شر هذه الفتن.

 

«نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها» قلتُ: يا رسول الله صفهم لنا، قال: «هم من جلدتنا -من أنفسنا من عشيرتنا من بيئتنا- ويتكلمون بألسنتنا» بلغتنا يعني: ما جاؤوا من بعيد ليسوا بوافدين، "قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم» قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: «فاعتزل تلك الفرق كلها»" إن لم يكن هناك إمام تعتزل هذه الفرق «ولو أن تعض بأصل شجرة» هذا كناية على أنك تخرج إلى مواطن الشجر من البراري والقفار أو المزارع المنزوية البعيدة عن الأنظار، وتعظ على أصل شجرة، يعني لا تتكلم، الزم نفسك، عليك بخويصة نفسك، «حتى يدركك الموت وأنت على ذلك» لأنك إذا لم تستطع النفع في مثل هذه الظروف فلا أقل من أن تسلم بنفسك وتنجو بجلدك، لا يؤثروا عليك، لا تتأثر بأفعالهم ولا بأقوالهم، ولا تشارك في رؤية ومشاهدة هذه المنكرات، وتكثير السواد لأرباب المنكرات، انجُ بنفسك، ولو أن تعظ بأصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك.

 

هذا سؤال يعني ما كان جوابه مناسب إلا لأنه موجود، وما كنا نتصور أن يوجد مثل هذا السؤال أو مثل هذا الصنيع لولا أنه من الفتن أيضاً، هذا يقول: هل تنصحنا بالأخذ من الشيخ عبد الله بن جبرين مع الرغم من اللمز الذي قيل فيه؟ ثم هل هو معتبر؟

 

مثل الشيخ يسأل عنه؟ نسأل الله العافية، هؤلاء الذين يلمزون مثل هؤلاء، هؤلاء قطاع الطريق بالنسبة للتحصيل الشرعي، هؤلاء الذين يحولون بين طلاب العلم وبين شيوخهم، يعني ينبري شخص نكرة يقول: فلان وعلان، يطعن بأئمة الإسلام، شيوخ المسلمين، إذا طعن الشيخ من يسلم لنا؟! فعلينا بالكبار أمثال هذا الشيخ الجليل الذي نذر نفسه ووقته منذ عقود لخدمة الدين والعلم الشرعي، والله المستعان.

 

اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد.