صحيح البخاري أول الكتب الستة في الحديث، وأفضلها على المذهب المختار.
قال الإمام النووي في شرح مسلم: اتفق العلماء على أن أصح الكتب بعد القرآن الكريم الصحيحان: (صحيح البخاري)، و(صحيح مسلم)، وتلقاهما الأمة بالقبول.
والجمهور على تقديم صحيح البخاري، وما نقل عن بعض المغاربة من تفضيل صحيح مسلم محمول على ما يرجع إلى حسن السياق، وجودة الوضع والترتيب.
أما رجحانه من حيث الاتصال: فلاشتراطه أن يكون الراوي قد ثبت لقاء من روى عنه ولو مرة، واكتفى مسلم بمطلق المعاصرة.
وأما رجحانه من حيث العدالة والضبط: فلأن الرجال الذين تكلم فيهم من رجال مسلم أكثر عدداً من رجال البخاري، مع أن البخاري لم يكثر من إخراج حديثهم.
وأما رجحانه من حيث عدم الشذوذ والإعلال: فما انتقد على البخاري من الأحاديث أقل عدداً مما انتقد على مسلم، وقد علم أن الإجماع واقع على تلقي كتابيهما بالقبول والتسليم، وقد روى الفربري عن البخاري أنه قال: "ما أدخلت في الصحيح حديثاً إلا بعد أن استخرت الله تعالى، وثبت صحته"، ومن أبرز ما تميز به البخاري تراجمه التي حيرت الأفكار، وأدهشت العقول والأبصار، وإنما بلغت هذه المرتبة لما روي أنه بيضها بين قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومنبره، وأنه كان يصلي لكل ترجمة ركعتين، رحمه الله تعالى رحمة واسعة.
-------------------------------------------
ينظر: كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، (1/541) فما بعدها.
محمد ابن إسماعيل ابن إبراهيم ابن المغيرة الجعفي أبو عبد الله البخاري جبل الحفظ وإمام الدنيا في فقه الحديث، مات سنة ست وخمسين في شوال وله اثنتان وستون سنة.
روى البخاري عن عبيد الله بن موسى ومحمد بن عبد الله الأنصاري وعفان وأبي عاصم النبيل ومكي بن إبراهيم وأبي المغيرة وأبي مسهر وأحمد بن خالد الوهبي وخلق كثير سواهم ممن سمع من التابعين فمن بعدهم، وروى عن البخاري أبو زرعة وأبو حاتم وإبراهيم الحربي وابن أبي الدنيا وصالح بن محمد الأسدي وأبو بشر الدولابي ومحمد بن عبد الله الحضرمي والقاسم بن زكريا وابن أبي عاصم وابن خزيمة وعمير بن محمد بن بجير وحسين بن محمد القباني وأبو عمرو الخفاف النيسابوري والحسين بن محمد بن حاتم بن عبيد العجلي، وخلقٌ كثيرٌ.
قال إبراهيم بن معقل الثقفي سمعت محمد بن إسماعيل يقول كنت عند إسحاق بن راهويه فقال لنا بعض أصحابنا لو جمعتم كتابا مختصرا لسنن النبي صلى الله عليه وسلم فوقع ذلك في قلبي فأخذت في جمع هذا الكتاب يعني الجامع قال إبراهيم وسمعته يقول ما أدخلت في كتابي الجامع الا ما صح وتركت من الصحاح محال الطول وقال الكشميهني سمعت الفربري يقول قال لي محمد بن إسماعيل: "ما وضعت في كتابي الصحيح حديثا الا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين".
رحل البخاري- رحمه الله- في طلب الحديث إلى أكثر محدثي الأمصار، وكتب بخراسان والجبال ومدن العراق والحجاز والشام ومصر، وقدم بغداد، واجتمع إليه أهلها واعترفوا بفضله وشهدوا بتفرده في علم الرواية والدراية، وحكى أبو عبد الله الحميدي في كتاب جذوة المقتبس والخطيب في تاريخ بغداد أن البخاري لما قدم بغداد سمع به أصحاب الحديث، فاجتمعوا وعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها وجعلوا متن هذا الإسناد إسناد آخر، ودفعوا إلى كل رجل عشرة أحاديث، وأمروهم إذا حضروا المجلس يلقون ذلك على البخاري، وأخذوا الموعد للمجلس، فحضر المجلس جماعة من أصحاب الحديث من الغرباء من أهل خراسان وغيرها ومن البغداديين، فلما اطمأن المجلس بأهله انتدب إليه واحد من العشرة، فسأله عن حديث من تلك الأحاديث، فقال البخاري: لا أعرفه، فسأله عن آخر فقال: لا أعرفه، فما زال يلقي عليه واحدا بعد واحد حتى فرغ من عشرته، والبخاري يقول: لا أعرفه، فكان الفقهاء ممن حضر المجلس يلتفت بعضهم إلى بعض ويقولون: الرجل فهم، ومن كان منهم ضد ذلك يقضي على البخاري بالعجز والتقصير وقلة الفهم. ثم انتدب رجل آخر من العشرة فسأله عن حديث من تلك الأحاديث المقلوبة، فقال البخاري: لا أعرفه، فسأله عن آخر فقال: لا أعرفه، فلم يزل يلقي عليه واحدا بعد واحد حتى فرغ من عشرته، والبخاري يقول: لا أعرفه، ثم انتدب الثالث والرابع إلى تمام العشرة حتى فرغوا كلهم من الأحاديث المقلوبة، والبخاري لا يزيدهم على قوله: لا أعرفه، فلما علم البخاري أنهم فرغوا التفت إلى الأول منهم فقال: أما حديثك الأول فهو كذا، وحديثك الثاني فهو كذا، والثالث والرابع على التوالي، حتى أتى تمام العشرة، فرد كل متن إلى إسناده وكل إسناد إلى متنه، وفعل بالآخرين كذلك، ورد متون الأحاديث كلها إلى أسانيدها وأسانيدها إلى متونها، فأقر له الناس بالحفظ وأذعنوا له بالفضل.
------------------------------------------------
ينظر: تهذيب التهذيب لابن حجر، (9/47) فما بعدها، وفيات الأعيان لابن خلكان، (4/188) فما بعدها.