كتاب الفتن من صحيح البخاري (05)

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: باب الفتنة التي تموج كموج البحر"

وقال ابن عيينة عن خلف بن حوشب: كانوا يستحبون أن يتمثلوا بهذه الأبيات عند الفتن.

"باب الفتنة التي تموج كموج البحر" يعني تضطرب كاضطراب البحر عند هيجانه، "وقال ابن عيينة –سفيان- عن خلف بن حوشب –الكوفي-: كانوا -يعني السلف- يستحبون أن يتمثلوا بهذه الأبيات عند الفتن" يعني عند نزولها وحدوثها، "قال امرؤ القيس" بن عابس الكندي، كذا جزم المؤلف -رحمه الله-، وجزم المبرد في الكامل، والسهيلي في الروض وشرح السيرة أن الأبيات لعمرو بن معدِ كرب:

"الحرب أول ما تكون فتية" الحرب مؤنثة، وقد تذكر، "أول ما تكون فتية" شابةً قوية، "تسعى بزبنتها لكل جهول" في رواية سيبويه: "ببزتها" أي لباسها الجيد، جاء زيد في بزةٍ، يعني في لباسٍ حسن وجيد.

الحرب أول ما تكون فتية 

 

تسعى بزبنتها لكلِّ جهولِ

الجهول: هو الغمر الذي يمكن أن يخدع، ويؤثر عليه، فهذه الحرب وهذه الفتن تستشرف أمثال هؤلاء، ثم إذا كثر هؤلاء، وتأثر بعضهم ببعض دخل فيها من غير اختيار كل من حولها.

الحرب أول ما تكون فتية

 

تسعى بزبنتها لكلِّ جهولِ

"حتى إذا اشتعلت" هاجت "وشب ضرامها" ارتفع اشتعالها، تشبيهاً لها بالنار، وبين الحرب والفتن والنار ارتباط وثيق، فالحروب توقد لها النيران، حتى إذا اشتعلت هذه الفتنة والحرب، وأشعلت النيران من أجلها، وشب ضرامها، ارتفع اشتعالها في الجو "ولت" إذا اشتعلت واشتبك الناس "ولت عجوزاً غير ذات حليلِ" مقبلة شابة فتية، ثم إذا اشتبك الناس وتورطوا "ولت عجوزاً غير ذات حليلِ" لا يرغب أحدٌ في الزواج بها، ليست بذات حليل؛ لأن من يوقد النيران، ويشعل فتيل الحرب، ويؤجج الفتن بين المسلمين هذا لا يرغب فيه أحد؛ لأنه يكون سبباً للمصائب والحوادث والكوارث، مثل هذا شبهه الشاعر بالعجوز التي ليست بذات حليل، وليست بذات زوج؛ لأنه لا يرغب فيها، لكن لما كانت مقبلة شابة استهوت الجهال، فاقتحموا غمراتها، فلما التحم الجهال وكثروا دخل فيهم من غير اختيار، أقحم فيها واقتحم من ليسوا من الجهال، فعمت الجميع، فلما تورطت الناس واشتبكوا ولت وأدبرت عنهم، لا أحد يرغب فيها؛ لأنها عجوزٌ شمطاء.

ولت عجوزاً غير ذات حليلِ *** شمطاء.......

والشمط: اختلاف أو اختلاط الشعر الأبيض بالأسود، اختلاط الشعر الأبيض بالأسود، "شمطاء ينكر لونها وتغيرت" أي تبدل حسنها قبحاً، "مكروهة للشم والتقبيلِ" ولذا لا يرغب فيها أحد؛ لأنها عجوز شمطاء، قبيحة المنظر، قبيحة الرائحة، مكروهة للشم والتقبيل، من يريدها مثل هذه؟ وهذا مطابق لهذه الفتن، وهذه الحروب لا شك أنها تقبل فتية نشيطة، يستشرف لها الجهال والأغمار، ثم يدخل فيها غيرهم، ثم إذا اشتبكت والتحمت ولت شمطاء، وقد يكون وجه التشبيه من وجهٍ آخر أن الناس فيهم قوة وشباب وحماس ونشاط في أول الحرب، ثم إذا طال أمد هذه الحرب تركتهم الحرب، وقد صاروا في وضعٍ يشبه هذه الشمطاء، تبعثرت أحوالهم، وتفرق اجتماعهم، فلا يرغب أحدٌ في السكنى معهم؛ لأن هذه الحروب أخذت مأخذها منهم.

ثم قال الإمام -رحمه الله-: "حدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي -حفص بن غياث- قال: حدثنا الأعمش -سليمان بن مهران- قال: حدثنا شقيق -وهو ابن سلمة أبو وائل- سمعت حذيفة بن اليمان يقول: "بينا نحن جلوس عند عمر" حديث حذيفة في الفتن...، على كل حال الأبيات الثلاثة التي فاتت الفائدة منها، ومن التمثل بها في أوقاتِ الفتن، الفائدة من ذلك الحذر من الدخول في هذه الفتن، والاغترار فيها، والمشاركة فيها؛ ليكون الإنسان على ذكرٍ من نهايتها، هي في بدايتها تستهوي الأغرار والجهال، ومن لديه حب الاستطلاع، ومعرفة ما سيؤول إليه الأمر، هؤلاء تستهويهم، فيذكر الإنسان بالعواقب قبل الدخول في أوائلها؛ لأنه إذا دخل في أولها، وتورط فيها فالنتيجة حتمية، ومعلومٌ أن مثل هذا يكون في الفتن التي بين المسلمين مما لا يترجح فيه إحدى الكفتين.

ثم بعد ذلك حديث حذيفة: "بينا نحن جلوسٌ عند عمر إذ قال: أيكم يحفظ قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الفتنة؟" الفتنة، الابتلاء، الامتحان، الاختبار، قال حذيفة في علامات النبوة من الكتاب: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هنا قال حذيفة الضمير يعود إلى حذيفة قال، وفي علامات النبوة من الكتاب فيما تقدم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو مرفوعٌ إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، وإن أوقف على حذيفة: «فتنة الرجل في أهله» وتكون بالميل إليهم بحيث يأتي بسبب ذلك بعض ما لا يحل له، يفتتن بأهله، يميل إليهم، يحبهم، وهذه المحبة قد تورث في بعض الأحوال تقديم طاعتهم، وتحقيق رغبتهم فيما لا يرضي الله -عز وجل-، هذه فتنة، «وماله» بحيث يستهويه الطمع في الكسب إلى أن يكتسب المال من غير حله، فيأخذه من غير حله أو يصرفه في غير مصرفه الشرعي، هذه فتنة، فتنة المال، المال ورود وصدور، إيرادات ومصروفات، فتنة المال تكون في إيراده من غير وجوهه الشرعية، وفتنة المصرف في أن يصرف في غير ما أباحه الله -عز وجل-، «وولده» بحيث يحمله فرط محبته لولده على التراخي عن كثيرٍ من أعمال الخير، أو مزاولة بعض ما لا يحل، فالولد مبخلة، مجبنة، قد يبخل بما أوجب الله عليه ملاحظة لولده، قد يطلب منه ولده شيئاً فلا يستطيع الحصول عليه إلا من وجوهٍ غير مشروعة، هذه فتنة، فهذه فتن، فتنة الرجل في أهله، وفي ماله، وفي ولده، فتنته أيضاً في جاره، في سوء الجوار مع جاره، في حسد جاره، المفاخرة مع جاره، هذه الفتن تهون عن الفتن التي تموج كموج البحر، تهون، قال: "هذه تكفرها الصلاة والصدقة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر" الصلاة «الصلوات الخمس إلى الصلوات الخمس، العمرة إلى العمرة، رمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن» شريطة أن تجتنب الكبائر، فالتي تكفرها الصلاة ورمضان، والعمرة، والأمر والنهي هذه الصغائر، وأما الكبائر فلا بد من التوبة منها، ولذا جاء القيد: «ما اجتنبت الكبائر» «ما لم تغشَ كبيرة» ما اجتنبت الكبائر، وما لم تغشَ كبيرة، فهذه الأعمال الصالحة {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [(114) سورة هود] والمراد بذلك عند أهل العلم: الصغائر، كما في القيود التي ذكرنا ما اجتنبت الكبائر، وما لم تغشَ كبيرة، هذا واضح في أن المراد من السيئات الصغائر.

في قوله -جل وعلا-: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [(31) سورة النساء] مجرد اجتناب الكبائر كفيل بتكفير الصغائر، فقد يقول قائل: هذه الصغائر كفارتها الصلاة، فماذا بقي لرمضان؟ وماذا بقي للعمرة؟ وماذا بقي لاجتناب الكبائر؟ قد يقول قائل: ارتكب صغيرة، وصلى وانتهى، نقول: هذه الأعمال الجليلة تكفر الصغائر، فإذا أتت على الصغائر كلها خففت من الكبائر، لكنها لا تكفرها بحيث تذهب أثرها بالكلية، وقد يرفع له للعامل بها درجات، إذا لم توجد الصغائر، لكن لا يكاد ينفك من يغشَ الكبائر من الصغائر، فمن عمل كبيرة واحدة، وأصر على كبيرة، أو على كبائر لا بد أن توجد عنده الصغائر بكثرة، فهذا الكلام وإن كان افتراضي إلا أن هذا جوابه، هو افتراضي لكنه في الواقع الذي يزاول الكبائر لن ينفك عن الصغائر؛ لأنه بها يبدأ، والشيطان يستدرجه أولاً بالإكثار من المباح، ثم يوقعه في المكروهات، إذا استرسل في المباحات، ثم بعد ذلكم يبدأ بصغائر الذنوب، الشيطان لن يتركه حتى يخرج من دينه إن استطاع، فهو إذا استرسل معه في ذلك حمله على الكبائر، بعد أن يتجاوز مرحلة الصغائر، ولا شك أن من غشى كبيرة مرة في عمره مثلاً، وهو محافظ على دينه بحيث لا يغشى الصغائر مثل هذا في الغالب أنه يوفق لتوبة، أن مثل هذا يوفق لتوبة نصوح؛ لأن الذي يعوق عن التوبة هو الاسترسال في المعاصي، والاعتماد على سعة رحمة الله، والأمن من مكر الله، فإذا تاب التوبة تهدم ما كان قبلها، فعلى كل حال هذه الأعمال جاءت بهذا السياق للحث عليها، الحث على الصلوات والصدقة والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ورمضان، والعمرة، وغير ذلك من الأعمال الصالحة {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [(114) سورة هود].

"قال: ليس عن هذا أسألك، ولكن أسألك عن الفتنة التي -تضطرب- تموج كموج البحر" واضطرابه عند هيجانه، هذه الفتنة التي ينبغي أن يهتم بها، وإلا الفتن التي ذكرت في أهله وماله وولده وجاره، هذه ينبغي للإنسان أن يحتاط فيها، لكن المسألة أولويات، ينبغي أن يهتم بما هو أعظم منها، ثم يلتفت إليها، فيحتاط للأعظم قبل أن يحتاط للأسهل، والدين لا شك أنه وإن كان الكل شرعٌ من عند الله -عز وجل- إلا أن فيه كبائر، فيه موبقات، وفيه صغائر، فيه فسوق، فيه عصيان، وهي متفاوتة، نعم إذا نظرنا إلى جانب من عصي وهو الله -عز وجل- فانتهاك أمره ونهيه كبير من هذه الحيثية، لكن جاءت النصوص على أن الذنوب متفاوتة، فعلى الإنسان أن يحرص على اجتناب الكبائر، يحرص أشد الحرص على كبائر الذنوب والموبقات فلا يقربها، ثم بعد ذلكم يلتفت إلى هذه الصغائر.

طيب، لو واحد عنده تجارة ووقع في شيء من الشبهات في هذه التجارة، فجاءه شخص يعضه، يا أخي هذه الشبهات ما لك ولها، أنت الآن كراعٍ يرعى حول الحمى، يمكن أن يرد عليه يقول: هذه فتنة مال، الأمر سهل، المشكلة في الفتن التي تموج موج البحر؟ لا، لكن في هذا الظرف الذي فيه السؤال، القصد من السؤال بيان الفتنة الكبرى التي تموج كموج البحر، وليس معنى هذا أن الإنسان إذا ذكِّر بما يحصل منه بسبب أهله وماله وولده يقول: الأمر سهل، هذه تكفرها الصلوات، الإشكال والله في الفتنة التي تموج..، نقول لا أليست هذه معاصي؟ إذا كانت معاصي أنت مأمور باجتنابها، لكن الآن الحديث بصدد شيء محدد، يعني شخص أشكل عليه مسألة في الزكاة، فتأتي تحدثه عن الصيام، يقول لك: دعنا الآن من الصيام أنا عندي مشكلة قائمة الآن في الزكاة، هل معنى هذا التقليل من شأن الصيام؟ ليس معناه، إنما هو بصدد السؤال عن الفتنة التي تموج موج البحر؛ لأهميتها ولشدة الخوف والحذر منها، وليس معنى هذا التقليل من شأن فتنة المال، أو فتنة الأهل والولد والجار.

شاع على ألسنة بعض الناس وبعض الكتاب أن الدين فيه قشور، وفيه لباب، وفيه كذا، لا، الدين كله لبٌ خالص، كله لب، فما أمرت به فعليك أن تفعل، على تفاوت في الأوامر، أنت تؤمر أمر استحباب، وتؤمر أمر وجوب، هذا لا يقاوم هذا، فتقدم فعل الواجب، تنهى نهي تنزيه، وتنهى نهي تحريم، اجتنب الجميع، لكن إذا كان الخيار إما هذا وهذا فاجتنب الأشد.

"ولكن أسألك عن الفتنة التي تضطرب كاضطراب البحر عند هيجانه، فتموج كموج البحر، قال: ليس عليك منها بأس يا أمير المؤمنين" حذيفة صاحب سر النبي -عليه الصلاة والسلام-، أفضى إليه ببعض الأشياء فاهتم وعني بأحاديث الفتن، وسمى له النبي -صلى الله عليه وسلم- بعض المنافقين، فأخبر وطمأن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أنه ليس عليه منها بأس، وهذا مما تلقاه من النبي -عليه الصلاة والسلام-، أمين السر، إيش يسمونه الآن؟ الأمين عموماً، إيش يسمونه؟ سكرتير يسمونه، المقصود أن هذا مما أفضى به النبي -عليه الصلاة والسلام- لحذيفة.

"قال: ليس عليك منها بأس يا أمير المؤمنين، إن بينك وبينها باباً مغلقاً" أي لا يخرج منها شيء في حياتك، "إن بينك وبينها باباً مغلقاً فلا يخرج منها شيء في حياتك" ولم يفصل، إيثاراً لحفظ السر، فلم يصرح لعمر بما سأله عنه، وإنما كنى عنه كناية، "إن بينك وبينها باباً مغلقاً، قال عمر: أيكسر الباب أم يفتح؟" ما قال: يا عمر أنت الباب الحائل بين الفتن وبين الأمة، كنى كناية، قال: "بينك وبينها باب مغلق، فقال له عمر: أيكسر الباب أم يفتح؟ قال: بل يكسر" وهذا عمر، وكسره قتله -رضي الله عنه وأرضاه-، "قال عمر: إذاً لا يغلق" الفتن إذا بدأت لا تنتهي، إذا كسر الباب خلاص، "قلت: أجل، قلنا لحذيفة: أكان عمر يعلم الباب؟ قال: نعم، كما أعلم أن دون غد ليلة" أي أعلم ذلك علماً ضرورياً، يعلم ذلك علماً ضرورياً، يقطع به، كما أقطع بأن دون الغد ليلة، "وذلك أني حدثته حديثاً ليس بالأغاليط" يعني ما هو بتوقعات، أو تحليلات صحفية، مبنية على ظنون وأوهام، حدثونا عن المستقبل بناءً على ما فهم من حديث تحدث به فلان أو علان، هذا عمن لا ينطق عن الهوى، الحديث ليس بالأغاليط، ليس بالأحاجي، وليس بالتوقعات ولا بالأوهام، "فهِبنا" من الذي يقوله؟ أبو وائل، ومن معه، بينا نحن جلوس عند عمر "فهبنا أن نسأله من الباب؟ فأمرنا مسروقاً فسأله"، فهبنا أن نسأله، نسأل حذيفة من الباب؟ "فأمرنا مسروقاً" بن الأجدع المعروف "فسأله فقال: من الباب يا حذيفة؟ فقال: عمر -رضي الله عنه-" وبقتله بدأت الفتن في زمن عثمان -رضي الله عنه-، حتى استشرت هذه الفتن واشتعلت، وماجت، واضطربت، ووقع الخلاف بين الصحابة في زمن عثمان إلى أن قتل عثمان -رضي الله عنه-، الخليفة الراشد، العابد الأواه، الصائم القائم، المشهود له بالجنة، ثالث الخلفاء، زوج بنتي الرسول -عليه الصلاة والسلام-، مناقبه وفضائله لا يمكن إحصائها، وقد أجرى بعض المعاصرين حساب لما أنفقه في سبيل الله بأرقامنا أو أعدادنا فقال: إنه يقرب من المليار، خليفة راشد «وما على عثمان ما فعل بعد اليوم» ويقتل في داره بين أهله، صائم، يقرأ القرآن، كبير السن، فوق الثمانين، فتنة، الفتن أول ما تكون يستشرف لها الناس إلى أن تصل إلى هذا الحد، ويصعب على أهله الدفاع عنه، وعلى من حوله من الصحابة في بلد الخلافة، مع قرب العهد بالنبوة، يعني ربع قرن، خمسة وعشرين سنة بعد النبي -عليه الصلاة والسلام-، ويصعب دفنه مع أصحابه في البقيع، ويؤجل دفنه أيام -رضي الله عنه وأرضاه- هذه نتائج الفتن، قد يقول قائل: نحن سمعنا حروب تطحن يمين ويسار، وقبل هذا الزمن وأزمان على مدى التاريخ، يا أخي هذه إزهاق أرواح، أين العقول؟ من أجل حطام الدنيا تزهق الأرواح؟ نعم، إذا بدأت الفتنة لا تنتهي حتى تأتي على الرطب واليابس.

ثم قال الإمام -رحمه الله تعالى-: "حدثنا سعيد بن أبي مريم -سعيد بن الحكم بن محمد بن سالم بن أبي مريم الجمحي- قال: أخبرنا محمد بن جعفر بن أبي كثير عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن سعيد بن المسيب عن أبي موسى الأشعري قال: خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى حائط من حوائط المدينة" هو بستان أريس الذي فيه البئر، الذي سقط فيه خاتم النبي -عليه الصلاة والسلام- من أصبع عثمان -رضي الله عنه-، قريبٌ من قباء، يقول أبو موسى: "وخرجت في إثره، فلما دخل الحائط جلست على بابه" يعني على باب الحائط، "وقلت: لأكونن اليوم بواب النبي -عليه الصلاة والسلام-" حاجب للنبي -عليه الصلاة والسلام-، "ولم يأمرني" يعني تطوع من أبي موسى، تبرع، حفظاً للنبي -عليه الصلاة والسلام-، هذه طريقة الصحابة -رضوان الله عليهم- معه -عليه الصلاة والسلام-، فيكون بواباً، سبق في مناقب عثمان -رضي الله عنه- أنه -صلى الله عليه وسلم- أمره يعني أمر أبا موسى بذلك، بأن يكون حارساً، بواباً، حاجباً، فالاحتمال للتوفيق بين الروايتين: أنه فعل ذلك تبرعاًَ من غير أمر، ثم أمره النبي -عليه الصلاة والسلام-، "فذهب النبي -صلى الله عليه وسلم- وقضى حاجته، وجلس على قُفِّ البئر" يعني على حافة البئر، أو الدكة التي حول البئر، "فكشف عن ساقيه، ودلاهما في البئر، فجاء أبو بكر" كشف النبي -عليه الصلاة والسلام- عن ساقيه ودلاهما في البئر، "فجاء أبو بكر يستأذن" في الدخول على النبي -عليه الصلاة والسلام-، "فقلت، يقول أبو موسى فقلت له: اثبت، وقف مكانك "كما أنت حتى أستأذن لك، فوقف" أبو بكر -رضي الله عنه-، هذا التصرف، ما دام باب عليه حاجب لا بد من الاستئذان، ما قال: أنا أقرب منك إلى الرسول -عليه الصلاة والسلام-، أنا بنتي مع الرسول، أنا صحبت النبي، أنا أول الصحابة، أنا أفضل الصحابة، لا، وقف حتى استأذن له، "فوقف فجئت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلت له: يا نبي الله أبو بكر يستأذن عليك" وهذا يؤيد أن نهاية أمره في الحجابة أنه مأمور، وإلا لو وقف من تلقاء نفسه تبرع، هل يستطيع أن يمنع أحد؟ تبرع من عنده، فلعله تبرع أولاً من غير أمر النبي -عليه الصلاة والسلام- خشية أن يهجم على النبي -عليه الصلاة والسلام- ما يؤذيه من عدوٍ، أو سبع، أو ما أشبه ذلك، أما أن يحجب مثل أبي بكر وعمر لا بد أن يكون بأمره -عليه الصلاة والسلام-، "فدخل فجاء عن يمين النبي -صلى الله عليه وسلم- فكشف عن ساقيه، ودلاهما في البئر -اقتداءً بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، فجاء عمر يستأذن ليدخل على النبي -عليه الصلاة والسلام-، فقلت: كما أنت" اثبت، كما أنت في مكانك، قف في مكانك حتى أستأذن لك النبي -عليه الصلاة والسلام-، "فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: «ائذن له وبشره بالجنة»" قد قال في حق أبي بكر: «ائذن له وبشره بالجنة» فقال له ذلك أبو موسى، وأذن له إلى آخره.

"فجاء عن يسار النبي -عليه الصلاة والسلام-" جلس أبو بكر عن يمين النبي -عليه الصلاة والسلام- وعمر عن يسار النبي -عليه الصلاة والسلام- "فكشف عن ساقيه" كما فعل النبي -عليه الصلاة والسلام- وأبو بكر، "فدلاهما في البئر فامتلأ القُف" حافة البئر امتلأت، ما تستوعب أكثر من الثلاثة، امتلأت بالنبي -عليه الصلاة والسلام-، وصاحبيه، "فلم يكن فيه مجلس، ثم جاء عثمان فقلت: كما أنت حتى أستأذن لك" يعني قف كما أنت كما قال لصاحبيه حتى أستأذن لك، "فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ائذن له وبشره بالجنة معها بلاء يصيبه»" ما قال لعمر: معها بلاء، مع أنه مقتول، لكن ليست الظروف التي احتفت بقتل عمر مثل الظروف التي احتفت بقتل عثمان، عمر يصلي فجاء عدو فطعنه، وهذه نهايته -رضي الله عنه-، كما لو مات على فراشه، لكنه فاز بالشهادة، لكن يختلف عن هذا عما احتف بمقتل عثمان -رضي الله عنه-، شيء يعتصر القلب، يدمي القلب، قتل في داره، امتحن، وسلط عليه سفهاء أوباش، لا قدم لهم ثابتة في الإسلام، بمحضر المهاجرين والأنصار، بدار الهجرة، في بيته، مصحفه في حجره، صائم، تسلط عليه هؤلاء السفهاء، وأعانهم من أعانهم ممن دخل في الفتنة، ومطلبهم وما نقموا عليه إلا أنه ولى بعض الولايات لأقاربه -رضي الله عنه وأرضاه-، هذا الذي ينقم على عثمان، ولى بعض أقاربه بعض الولايات، فنقموا عليه ذلك، الناس مأمورون عند الجور الواضح، والظلم الظاهر مأمورون بالصبر والاحتمال، وعدم شق عصا الطاعة «أدوا الذي عليكم، واسألوا الله الذي لكم» بس لمجرد أنه ولى بعض أقاربه، ولى بعض أقاربه يقتل في بيته صائم يقتل؟! هم طلبوا منه أن ينخلع من الإمامة بسبب ما نسب إليه، لكنه ولي بإجماع الصحابة، ولم يثبت عنه، أو لم يقترف ما يعزل من أجله، وأهل العلم يختلفون في الإمام إذا تم اختياره من قبل المسلمين، هل له أن يخلع نفسه؟ أو هذه أمانة تحملها لا بد من القيام بها؟ وحينئذٍ تكون تعينت عليه، هي تعينت عليه، فجمعٌ من أهل العلم عندهم أنه لا يجوز أن يخلع نفسه، وعثمان -رضي الله عنه- راعى المصلحة، يعني ماذا يتصور المدينة تغلو، تغلي غليان، وتضطرب، وتموج بالفتنة والإمام قائم، فكيف لو تنحى الإمام؟ ماذا سيكون؟

"«معها بلاءٌ يصيبه» فدخل فلم يجد معهم مجلساً، فتحول حتى جاء مقابلهم على شفة البئر، فكشف عن ساقيه، ثم دلاهما في البئر، فجعلت أتمنى أخا لي -أبو موسى؛ لأنه كل من استأذن قال: «بشره بالجنة»- فكنت أتمنى أخاً لي، وأدعو الله أن يأتي" لكي يصيب هذه الدعوة «بشره بالجنة»، يصيب هذه البشارة، أخوه أبو بردة، اسمه عامر، أو أبو رهم، المقصود أنه نصح -رضي الله عنه وأرضاه- لأخيه، وتمنى لأخيه ما يسعد به في الدنيا والآخرة، لكن هو القدر، ما أراد الله -جل وعلا- أن يحضر مع هؤلاء، من يذكر أنصح شخص لأخيه، أبر شخص بأخيه؟ موسى -عليه السلام-، الذي سأل لأخيه النبوة، والآن يتقاتل الإخوة على لا شيء، على شيء يسير من حطام الدنيا، يتهاجر الإخوة علشان كلمة، والله المستعان، ناس ينتسبون إلى العلم، كلاهما من أهل العلم، يتقاطعون ويتهاجرون سنين طويلة، لا شك أن هذا من كيد الشيطان وتلبيسه، يزين له هذا، ويبرر له هذا، مع ما جبلت عليه النفوس من عدم التنازل، لو تنازل هذا عن شيء يسير، وذاك عن شيء يسير التقت القلوب، وصفت، والله المستعان.

"قال ابن المسيب: فتأولت ذلك قبورهم" فتأولت ذلك، أي اجتماع الصاحبين بالنبي -عليه الصلاة والسلام- وانفراد عثمان، "تأولت ذلك قبورهم، اجتمعت هاهنا -يعني في الحجرة- وانفرد عثمان -رضي الله عنه-" بالبقيع.

ثم قال -رحمه الله-: "حدثنا بشر بن خالد اليشكري"، المقصود أن البخاري ساق هذه القصة، لما فيها من الإشارة إلى الفتنة والبلاء الذي يصيب عثمان -رضي الله عنه-، ولا شك أنها ماجت كموج البحر في المدينة، واضطرمت، واشتعلت، واضطربت كاضطراب البحر، ثم توالت الفتن والمحن على الأمة بين المسلمين أنفسهم في كثيرٍ من بقاع الأرض، في عصورٍ متتابعة إلى قيام الساعة؛ لأن الباب كسر.

ثم قال: "حدثني بشر بن خالد اليشكري قال: أخبرنا محمد بن جعفر -غندر- عن شعبة" إيش علاقة محمد بن جعفر بشعبة؟ هو من أخص الآخذين عن شعبة، لماذا؟

طالب:.......

ما هو بربيبه؟ شعبة ما هو بزوج أم غندر، إذاً له خصوصية تمكنه من الاختلاط، وليس فيه خصوصية النسب التي تزهده فيه، وإلا أخص الناس بالعالم أهله، وهذه سنة إلهية، أزهد الناس بالعالم، أزهد الناس بالعالم أهله وجيرانه، والسبب ظاهر؛ لأن الناس يرون هذا العالم محتشم ما يخرج إليهم إلا بمظهرٍ لائق ويراه أولاده وأهله على أوضاعٍ قد..، وفي أحوال وظروف، يعني المخالطة والمجالسة تجعل الإنسان يزهد بصاحبه، وأيضاً لئلا يقول هذا العالم أو يخيل لهذا العالم: أنه نفع أولاده، أو يستطيع أن ينفع، أو يستطيع..، لا تستطيع إلا بأمر الله -عز وجل-، لو كانت المسألة استطاعة لكان أولى الناس بنفعك أولادك وأهلك.

"عن شعبة بن الحجاج عن سليمان بن مهران الأعمش قال: سمعت أبا وائل -شقيق بن سلمة- قال: قيل لأسامة بن زيد: ألا تكلم هذا؟ يعني عثمان -رضي الله عنه- فيما أنكر الناس عليه من تولية أقاربه، "قال: قيل لأسامة بن زيد: ألا تكلم هذا؟" قيل: ألا تكلم هذا؟ يعني الخليفة، فيما أنكر عليه، أنكره الناس عليه من تولية أقاربه، "قال: قد كلمته" إيش معنى: قد كلمته؟ يعني هل قال: كلمته لكن ما ينفع ما يفيد ما يسمع؟ لا، كلمه سراً بينه وبينه، ونصحه وأدى ما عليه، دون أن يفتح باباً للغوغاء والأوباش، يعني كلم الخليفة سراً، ما دون أن يفتح باباً، يكون أول من يفتحه، يعني من باب الإنكار العلني الذي يوغل صدر الخليفة، ولا يجدي شيئاً، بل كلمه بأدبٍ سراً دون أن يفتح باب شر بالجهر بالإنكار، "وما أنا بالذي أقول لرجل بعد أن يكون أميراً على رجلين: أنت خير" من الناس يعني، منهج، لا ينكر علناً، ويشنع ويؤجج ويؤلب ولا يمدح، يقول: "وما أنا بالذي أقول لرجلٍ بعد أن يكون أميراً على رجلين أنت خيرٌ" يعني خير من الناس، الخليفة تحمل أمانة عظيمة، عليه واجبٌ عظيم أمام الله -عز وجل-، بل صرح جمعٌ من أهل العلم أن من غش ولي الأمر الكيل، كيل المدح والثناء، نعم النصيحة ينبغي أن تكون سراً، وينبغي أن يتابع عليه النصح، و«الدين النصيحة» ثلاثاً، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» لا بد من النصح، لكن بالطرق المناسبة المجدية، التي لا يترتب عليها آثار أعظم مما وقع فيه، وأيضاً كما قال أسامة حب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وابن حبه: "وما أنا بالذي أقول لرجلٍ بعد أن يكون أميراً على رجلين أنت خير" يعني أنت خير الناس، لا، بل غاية هذا الأمير أن ينجو كفافاً، لا له ولا عليه، هذا إذا احتاط، كما قال عبد الله بن عمر لعبد الله بن عامر، لما دخل عليه يعوده،

قال: ادعُ الله لي، قال: "لا يقبل الله صلاةً بغير طهور، ولا صدقة من غلول، وكنتَ على البصرة، كنتَ أمير على البصرة، شوف "ولا صدقة من غلول، وكنت على البصرة" لأن الأمير بصدد أنه لا حسيب عليه ولا رقيب احتمال يدخل في ذمته شيء بقصدٍ أو بغير قصد، فأنت عسى أن تنجو كفافاً.

في حديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- حديث البيعة: "بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره" يعني على جميع الأحوال، ما هو بالإنسان يبايع فيما يحلو له ويرضيه، ويتخلف إذا كان الأمر لا يحلو له ولا يرضيه، إن أعطي وفّى وإن لم يعطَ غدر لا، ونقض، "على أن نقول أو نقوم بالحق لا نخاف في الله لومة لائم" يعني هذا لا يعارض هذا، بل لا بد من نصيحة ولي الأمر، ولا بد من الإذعان والطاعة والسمع على جميع الأحوال، والحد المحدد في الشرع: «ما لم تروا كفراً بواحاً» معروف.

بعدما سمعت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «يُجاء برجل فيطرح في النار فيَطحن فيها» وفي رواية: «فيُطحن فيها كطحن الحمار برحاه» يطحن، يدور مثل دوران الحمار بالرحى «فيطيف به أهل النار» يتعجبون يستغربون كيف يأتي هذا؟ يجتمعون عليه، كيف؟ كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر إيش اللي جابك هنا؟! «فيطيف به أهل النار فيقولون: أي فلان» ما شأنك، ما الذي أتى بك «ألست كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول لهم: إني كنت آمر بالمعروف ولا أفعله، وأنهى عن المنكر وأفعله» {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا} [(3) سورة الصف] إيش؟.

طالب:........

نعم، هذا خطير عظيم كون الإنسان يأمر وينهى ويوجه وينصح وهو أبعد الناس عما يقول، لكن أهل العلم بل جمهورهم على أنه لا يشترط في الآمر والناهي أن يكون غير متلبس بمعصية، بل عندهم أن الجهة منفكة، عليك أن تؤدي ما أمرت به من أمر، وما كُلفتَ به من إنكار «من رأى منكم منكراً فليغيره» ومع ذلك أنت مؤاخذ بما تفعل من المنكرات، وإلا لو اشترطت العصمة لتعطل هذا الركن العظيم من أركان الإسلام، شعيرة من شعائر الإسلام، على حد تعبيرات المعاصرين يقولون: الأمر والنهي صمام الأمان، وبه يدفع الله -جل وعلا- الشرور؛ لأن المنكر إذا ظهر ولا يوجد من ينكره عمت العقوبة الجميع، لكن إذا وجد من ينكره ارتفعت هذه العقوبة، وليس هذا بمبرر مثل هذا الكلام؛ لأن يقع الناس في أهل الحسبة، يقول: ها شف يطحن في النار وهو يأمر وينهى، ما كل من يأمر وينهى صادق، صحيح ما كل من يأمر وينهى صادق، لكن الأمر والنهي لا بد منه، وليسوا بمعصومين، وليست أخطاؤهم بأكثر من أخطاء غيرهم؛ لأنه قد يقول قائل من السفهاء الذين يكتبون: ها شوف يأمر وينهى من أهل الحسبة ويطحن في النار كما يطحن..، لو جلس في بيته أفضل له، لا يأمر ولا ينهى، نقول: لا ما هو بصحيح، عليه أن يأمر، وعليه أن ينهى، وعلى المأمور أن يأتمر، وعلى المنهي أن ينتهي، وحساب الجميع على الله -عز وجل-.

ثم قال -رحمه الله تعالى-: باب: "حدثنا عثمان بن الهيثم" البصري مؤذنها، "قال: حدثنا عوف" ابن أبي جميلة الأعرابي "عن الحسن" البصري "عن أبي بكرة" نفيع بن الحارث "قال: "لقد نفعني الله بكلمة أيام وقعة الجمل" التي كانت بين علي وفاطمة -رضي الله عن الجميع- وكانت فاطمة على جمل فنسبت الوقعة إليها.

طالب:.......

وعائشة نعم، كانت بين علي وعائشة -رضي الله عنهم-، يقول: "لقد نفعني الله بكلمة أيام الجمل" الجمل هذا جمل عائشة، كانت على جملٍ فنسبت الوقعة إليها "لما بلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- أن فارساً" فارس الدولة دولة فارس، بلاد فارس، "ملكوا ابنة كسرى"، لما بلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- أن فارساً ملكوا ابنة كسرى بعد موته اسمها بوران، وكسرى اسمه شيرويه بن أبرويز بن هرمز لما ولوا ابنته "قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» بأن كانت والياً عليهم، أو في حكم الوالي مما يحكم بين الناس في أموالهم وأعراضهم ودمائهم كالقاضي، لن يفلحوا إذا فعلوا ذلك، هذا خبرٌ عمن لا ينطق عن الهوى متضمن حكم شرعي وهو أنه لا يجوز أن تولى المرأة، والمقصود بذلك الولايات العامة، لا يقال: ليش تصير مديرة مدرسة؟ ليش تصير ربة بيت؟ نقول: تصدير، المقصود بذلك الولايات العامة، فلا يجوز للمرأة أن تتولى ما فيه فصلٌ بين الناس كالإمارة والقضاء ونحو ذلك، واستدل به أبو بكرة أن أصحاب الجمل لن يفلحوا، وهي أم المؤمنين، فضلها على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام، "من أحب إليك يا رسول الله؟ قال: «عائشة» قيل: ومن الرجال؟ قال: «أبوها» ومع ذلك استدلالاً بعموم الحديث: «لن يفلح قومٌ ولوا أمرهم امرأة» لن يفلح أصحاب الجمل، وهذا الكلام يقوله النبي -عليه الصلاة والسلام-، وهو ثابتٌ عنه بما لا شك فيه ولا ارتياب، في أصح الكتب ويأتي من يأتي إلى ممن ينتسب إلى العلم والدعوة مع الأسف الشديد ويقول: إن الحديث ليس بصحيح، لماذا؟ قال: لأن الواقع يرده، كيف الواقع يرده؟ غاندي حكمت الهنود، وتاتشر ضبطت الإنجليز، وجلود مائير هزمت العرب، وترد النصوص بهذه الطريقة، ومن قال لك: إن أولئك أفلحوا؟ وما معنى الفلاح في نظرك؟ فتنة، هذا مفتون نسأل الله العافية، الذي يرد النصوص الصريحة الصحيحة بهذه التوجيهات هذا مفتون، نسأل الله السلامة والعافية.

المقصود أنا عرفنا وجهة نظر أبي بكرة واستنباطه من الحديث أن أصحاب الجمل لن يفلحوا، وإن كان فيهم من فيهم من خيار الصحابة، طلحة والزبير وعائشة من خيار الأمة، ومع ذلكم الفتن إذا بدأت توقع خيار الناس شاءوا أم أبوا.

قال -رحمه الله-: "حدثنا عبد الله بن محمد" المسندي، قال: "حدثنا يحيى بن آدم" الكوفي، قال: "حدثنا أبو بكر بن عياش" قال: "حدثنا أبو حصين" عثمان بن عاصم الأسدي، قال: "حدثنا أبو مريم عبد الله بن زياد الأسدي، قال: لما سار طلحة" ابن عبيد الله "والزبير" ابن العوام وقد كانا بايعا علياً -رضي الله عنه- بمشورة عائشة، ما هي المسألة شخص مختلف في بيعته، لا، "لما سار طلحة" ابن عبيد الله "والزبير" ابن العوام "وعائشة إلى البصرة" سبب المسير الأمر المهول الذي صار سبباً في مقتل عثمان -رضي الله عنه-، نعم علي بويع حتى من قبل هؤلاء الذين خرجوا عليه، وهم من خيار الناس، لكن حصل أمرٌ عظيم طالبوا به، طلباً لدم عثمان -رضي الله عنه-، خرجوا في ثلاثة آلاف، وانضم إليهم في طريقهم، خرجوا من مكة والمدينة بثلاثة آلاف، وانضم إليهم جموع من الناس، فلما نزلت عائشة -رضي الله عنها- ببعض مياه بني عامر نبحت عليها الكلاب، فقالت: أيّ ماءٍ هذا؟ قالوا: الحوأب، فقالت: إن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال لنا ذات يومٍ: «كيف بإحداكن تنبح عليها كلاب الحوأب؟» علم من أعلام النبوة.

وعند البزار من حديث ابن عباس أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لنسائه: «أيتكن صاحبة الجمل الأدبب؟ تخرج حتى تنبحها كلاب الحوأب، يقتل عن يمينها وعن شمالها قتلى كثير، وتنجو بعدما كادت؟» يعني كادت أن تقتل.

يا الإخوان هؤلاء لا ينقصهم دين، بل هم خيار الأمة، ولا ينقصهم علم، ولا ينقصهم عقل، لكنها الفتن، فإذا بدأت الفتن صار الحليم حيران، صاحب العقل الراجح والدين المتين لا شك أنه تغطي عليه بعض عقله وعلمه وحلمه هذه الفتن، إذا ماجت الفتن، فعلى كل مستطيع في إطفاء نار الفتنة يجب عليه وجوب أن يسعى بقدر استطاعته لإطفائها وإخمادها، وعلى من يثيرها ويؤججها ويبدأها كفل عظيم ممن يذهب بسببها، وليس معنى هذا أنه يخرج من الدين، هؤلاء خرجوا وبقوا هم خيار الناس، طلحة بن عبيد الله من أهل الجنة، الزبير بن العوام مشهودٌ له بالجنة، وعائشة زوجته في الدنيا والآخرة -عليه الصلاة والسلام-، لا يعني هذا أنهم يخرجون من الدين، لا، لكنها الفتن، نسأل الله السلامة من الفتن ما ظهر منها وما بطن.

"لما سار طلحة والزبير وعائشة إلى البصرة بعث عليٌ عمار بن ياسر وحسن بن علي فقدما علينا الكوفة فصعدا المنبر، فكان الحسن بن علي فوق المنبر في أعلاه، وقام عمار أسفل من الحسن فاجتمعنا إليه" قال أبو مريم: "فسمعت عماراً يقول: إن عائشة قد سارت إلى البصرة، ووالله إنها لزوجة نبيكم -صلى الله عليه وسلم- في الدنيا والآخرة" هذا إنصاف مع الخصم، اعتراف بما له وما عليه، عدلٌ في الحكم، وإنصافٌ في الرأي، "ووالله إنها لزوجة نبيكم -صلى الله عليه وسلم- في الدنيا والآخرة" ما قال: هذه خارجية خرجت على ولي الأمر، لا، لا شك أن رأيها مرجوح، وإن بنت ذلك على اجتهاد، لكن الكفة مع علي -رضي الله عنه وأرضاه-، "ووالله إنها لزوجة نبيكم -صلى الله عليه وسلم- في الدنيا والآخرة، ولكن الله -تبارك وتعالى- ابتلاكم" اختبركم بها، وهذا من إنصاف عمار حيث أنها وإن خرجت على الإمام لم تخرج عن دائرة الإسلام، "ولكن الله -تبارك وتعالى- ابتلاكم ليعلم إياه تطيعون أم هي؟" هل تطيعون الله -سبحانه وتعالى- بلزوم جماعة المسلمين وإمامهم أو تطيعونها؟، يعني تزداد الفتنة إذا كان الطرفان متقاربان تزداد الفتنة، أما إذا كان طرف في السماء وطرف في الأرض ما هي فتنة، الأمر يعني ما يشتبه على أحد، لكن إذا صار في الأطراف مثل هؤلاء فتنة، ولكن الله -تبارك وتعالى- ابتلاكم ليعلم إياه تطيعون بلزوم جماعة المسلمين وإمامهم أم هي؟ هي خرجت بتأويل سائغ، خرجت بتأويل ما خرجت عناد، وطلحة والزبير بايعا وخرجا بهذا التأويل، لا شك أنه يحز في نفس كل مسلم أن يقتل مثل عثمان على وضع عثمان، وهو إمامُ المسلمين ولا أحد ينتصر له، ولا يستطيع المهاجرون والأنصار أن يخلصوه، هذه فتنة، ويحز في كل نفس تجعل تغطي هذه الفتنة ما عند الإنسان من علم وعقل وحلم، لكن يبقى أن الحكم الشرعي ثابت لا تغيره مثل هذه الأمور وإن عظمت، تلزم جماعة المسلمين وإمامهم هذا الحل، إلى أي حد نلزم جماعة المسلمين إلى أن ترى الكفر البواح، المسألة ما هي بفوضى، المسألة مضبوطة بضوابط شرعية.

ثم قال -رحمه الله تعالى-: "بابٌ"، وهذه الترجمة "بابٌ" وهي بدون ترجمة، هذا الباب بدون ترجمة، ولا توجد كلمة باب عند أبي ذر، ولذا يقول الشراح: والصواب حذف كلمة باب؛ لأن الحديث اللاحق طرفٌ من الحديث السابق، فالفصل بينهما بباب غير مناسب.

"حدثنا أبو نعيم" الفضل بن دكين، قال: "حدثنا ابن أبي غنية" عبد الملك بن حميد "عن الحكم" ابن عتيبة "عن أبي وائل" شقيق بن سلمة "قام عمار" ابن ياسر "على منبر الكوفة فذكر عائشة وذكر مسيرها" ومن معها إلى البصرة، "وقال: إنها زوجة نبيكم -صلى الله عليه وسلم- في الدنيا والآخرة ولكنها مما ابتليتم"، يعني به وامتحنتم.

ثم قال -رحمه الله-: "حدثنا بدل بن المحبر" اليربوعي قال: "حدثنا شعبة" ابن الحجاج قال: "أخبرني عمرو" ابن مرة قال: "سمعت أبا وائل" شقيق بن سلمة "يقول: دخل عبد الله بن قيس أبو موسى الأشعري وأبو مسعود" عقبة بن عمروٍ البدري، نسب إلى بدر؛ لأنه نزل بها، ولم يشهد الوقعة في قول الجمهور، وإن أثبته البخاري فيمن شهد بدراً، "وأبو مسعود على عمار بن ياسر حيث بعثه علي -رضي الله عن الجميع- إلى أهل الكوفة يستنفرهم" يطلب منهم الخروج إلى البصرة، "فقالا -أبو موسى وأبو مسعود لعمار-: ما رأيناك أتيت أمراً أكره عندنا من إسراعك في هذا الأمر منذ أسلمت؟" أنت في عافية تدخل في مثل هذه الفتن؟ وتسارع وتذهب مندوب تطلب المدد من أهل البصرة والخروج من أهل البصرة؟ "ما رأيناك أتيت أمراً أكره عندنا من إسراعك في هذا الأمر منذ أسلمت"، ماذا قال عمار؟ "فقال عمار: ما رأيت منكما منذ أسلمتما أمراً أكره عندي من إبطائكما عن هذا الأمر" هذا اجتهاد، فهو اجتهد -رضي الله عنه-، ومعه نصوص، ومعه إمام المسلمين وأمير المؤمنين، وامتثل {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} [(9) سورة الحجرات]، معه نصوص، وهما أيضاً كانا مجتهدين، لماذا؟ لأن الحرب بين مسلمين فإذا دخلت بنفسك أو دخل أحدٌ بمشورتك وهذا الداخل أو أنت قتلت مسلم تلطخت بدم مسلم وأنت في عافية هذه وجهت نظرهم، فالمسألة اجتهادية عندهم، وإن كانت الكفة الراجحة مع علي -رضي الله عنه وأرضاه-، فهذا يدل على أن كل من الطائفتين كان مجتهداً، يرى أن الصواب معه.

"قالا: ما رأيناك أتيت أمراً أكره عندنا من إسراعك في هذا الأمر"، وهو يقول: "ما رأيت منكما منذ أسلمتما أكره عندي من إبطائكما عن هذا الأمر"، هم يلمونه على الإسراع، وهو يلومهم على التباطؤ، "وكساهما حلة حلة"، الضمير يعود على من؟ يعني عمار كسا أبا مسعود وأبا موسى، لا، ليس الأمر كذلك، أبو مسعود كسا عمار وكسا أبا موسى، على ما سيأتي صريحاً في الرواية التي تليها، "ثم راحوا إلى المسجد" يعني إلى صلاة الجمعة، كأنه رأى عمار وهو الذي يتولى الخطبة ثوبه ليس بمناسب؛ لأن يتصدر الناس، ويتولى الخطبة ويقف أمامهم فكساه حلة حلة، وإحراج أن يعطي عمار وأبو موسى حاضر فكساهما معاً، وكان أبو مسعود موسراً على ما سيأتي، "ثم راحوا إلى المسجد".

ثم قال الإمام -رحمة الله عليه: "حدثنا عبدان" عبد الله بن عثمان العتكي المروزي "عن أبي حمزة" محمد بن ميمون اليشكري "عن الأعمش" سليمان بن مهران "عن شقيق بن سلمة" أبي وائل "قال: كنت جالساً مع أبي مسعود وأبي موسى وعمار فقال أبو مسعود: ما من أصحابك أحد إلا لو شئت لقلت فيه" يعني ذكرت شيء مما يحط من قيمته وقدره "غيرك وما رأيت منك شيئاً منذ صحبت النبي -صلى الله عليه وسلم- أعيب" يعني أشد عيباً "عندي من استسراعك في هذا الأمر، قال عمار: يا أبا مسعود وما رأيت منك ولا من صاحبك هذا شيئاً منذ صحبتما النبي -صلى الله عليه وسلم- أعيب عندي من إبطائكما في هذا الأمر"، فقال أبو مسعود" هذا بيان للفظ المجمل السابق، "فقال أبو مسعود وكان موسراً: يا غلام هات حلتين، فأعطى إحداهما أبا موسى والأخرى عماراً وقال: روحا فيه إلى الجمعة"، اذهبا به إلى صلاة الجمعة، الجمعة ينبغي أن يلبس لها الثياب الجميلة النظيفة التي ليس فيها سرف ولا خيلاء، ولا فيها شيء مما نهي عنه، والله أعلم.

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

"