التعليق على الموافقات (1427) - 02

 السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه، وبعد:

قال المؤلف –رحمه الله-: "المسألة السابعة:

إذًا ثبت أن الشارع قد قصد بالتشريع إقامة المصالح الأخروية والدنيوية، وذلك على وجهٍ لا يختل لها به نظام، لا بحسب الكل ولا بحسب الجزء، وسواءٌ في ذلك ما كان من قبيل الضروريات أو الحاجيات أو التحسينات، فإنها لو كانت موضوعةً بحيث يمكن أن يختل نظامها أو تُخل أحكامها".

تنحل.

طالب: تنحل؟

نعم، ولو كانت يعني هي برسم تنحل أو تُخل أو تختل المعاني متقاربة.

"أو تنحل أحكامها لم يكن التشريع موضوعًا لها، إذ ليس كونها مصالح إذ ذاك بأولى من كونها مفاسد".

يعني لو كانت هذه الكليات من الضروريات مصالح في بعض الناس دون بعض، وهذه الكماليات كذلك أو الحاجيات، يعني لو كانت مصالح محضة أو راجحة في بعض الناس دون بعض بدلاً من أن تكون في البعض الآخر مفاسد محضة أو راجحة لاختل نظام التشريع؛ لأنه لا يمكن أن ينضبط أحكام بهذه الطريقة، لكنها في الجملة مصالح للناس كلهم يشتركون فيها في الضروريات، وإن اعتراها شيءٌ من المفاسد.

قد يقول قائل: إن قتل القاتل مصلحة راجحة لأولياء المقتول، لكن ماذا عمن اقتص منه هل هي مصلحةٌ راجحة أو مفسدة بالنسبة له؟ بهذين الاعتبارين، يعني كوننا نجزم بأن هذه الأمور التي تُراعى فيها المصالح ويكون الخير فيها راجحًا على الشر نلاحظ فيها جميع الناس، هل معنى هذا أنه في قضيةٍ واحدة يكون الخير راجحًا للطرفين أو يكون راجحًا بالنسبة لطرف ومرجوحًا بالنسبة لطرفٍ آخر، أو أن المرجوحية بالنسبة للطرف الآخر تُغتفر وتُغمر في سبيل المصلحة العامة، يعني نتصور قاتلًا ومقتولًا، المقتول أفضى إلى ما قدم وانتهى أمره، بقي الحق لأولياء المقتول في المطالبة بقتل قاتل صاحبهم.

معروف أن تنفيذ القصاص على القاتل مصلحة راجحة بالنسبة لأولياء المقتول، وقُل مثل هذا في البديل دفع الدية مصلحة راجحة، لكن ماذا عن المقتول قصاصًا، هل هذا مصلحةٌ راجحةٌ له أو مرجوحة؟ هو ينظر إليها باعتبارات:

أما إذا نظرنا إليها من حيث المصلحة العامة، فالقصاص حياة مصلحة راجحة.

وإذا نظرنا إليها بخصوص الشخص المقتول قصاصًا يُمكن أن نقول: مصلحة راجحة في حق بعض الناس دون بعض، كيف يكون ذلك؟ هذا المقتول لو عُفي عنه ولم يُقدَّر له صلاح بعد القتل لا شك أن القتل حد، وهو أيضًا كفارة، الحدود كفارات، فكونه يُقتل ويُكفَّر ذنبه الذي ارتكبه مصلحة، وكونه يُعفى عنه ولا تحسن حاله، بل قد يعرض له موبقة مثل ما ارتكب سابقًا فيقتل آخر، فالقتل مصلحة، لكن إذا قلنا: إنه إذا عُفي عنه، وحسُنت حاله حُمدت سيرته، وصار من الصالحين المصلحين، ومن الدعاة المخلصين كما هو شأن بعض من عُفي عنهم، فهل يكون المصلحة بالنسبة له لهذا الشخص راجحة أو مرجوحة؟ لأن المسألة يُنظر إليها باعتبارات كثيرة منها: ما يخص الشخص، ومنها ما يخص المصلحة العامة، فتكون مصلحة راجحة بالنظر إلى العامة والعامة مُقدمة على الخاصة، وقد تكون مفسدة بالنسبة لهذا الشخص، لكن هذه المفسدة مغمورة في بحار المصلحة العامة.

وذكرت مثالًا سابقًا لمثل هذا الشخص يأتي يستشير يقول: إن والله رُشِحت للقضاء، أنت إن نظرت إليه بذاته بشخصه لابد أن تنظر إليه باعتبارات، هل يكون نجاحه راجحًا من خلال معرفتك لهذا الرجل أو مرجوحًا نجاحه ومنفعته للأمة راجحة أو مرجوحة؟ بغض النظر عن مصلحته الخاصة، فإن كانت المصلحة بالنسبة للأمة راجحة ما نظرت إلى الشخص، فإن كانت المصلحة راجحة بالنسبة للصالح العام، تقول: توكل على الله، ومثلك لا يجوز أن يتخلى عن القضاء، فإن كانت المصلحة العامة مرجوحة حذرته من القضاء؛ نظرًا إلى المصلحة العامة، ونظرًا إلى ما يترتب على توليه هذا المرفق من خطرٍ عليه، فتنظر في مصلحته أيضًا، لكن إذا غلب على الظن أنه ينفع في هذا المجال أهدرت المفسدة المترتبة عليه، وإن كان هذا مزلة قدم، والإنسان إذا اختار لنفسه ما يختار مثل هذا، لكن إذا استُشير في مثل هذا ينظر إلى المصالح العامة والخاصة، والله المستعان.

"لكن الشارع قاصدٌ بها أن تكون مصالح على الإطلاق، فلا بد أن يكون وضعها على ذلك الوجه أبديًّا وكليًّا وعامًّا في جميع أنواع التكليف والمكلفين وجميع الأحوال، وكذلك وجدنا الأمر فيها، والحمد لله".

نعم يعني ما أقره الشرع وما جاء في الشريعة من المصالح بأنواعها الثلاث ما يُقال: إن هذه مصلحة جاء النص عليها؛ لأنها تناسب القرون المفضلة، بينما بعض القرون المفضلة لا، الذي يُصلح الناس العكس عكس هذا الناس جاء الدليل بأنه لا يأتي زمان إلا والذي بعده شرٌّ منه، فأطر الناس على هذا الحكم في القرون المفضلة يُصلحهم، بينما في القرون اللاحقة ليس من مصلحتهم يُمكن أن يأتي الشرع بمثل هذا؟ لا؛ ولذلك الذين يُطالبون بسبب الضغوط التي يعيشها الناس بسبب الظروف التي يعيشونها بالتساهل والتسامح، وأن المعاملة بالعزائم وقتها انتهى، فلابد من ملاحظة أحوال الناس؛ لئلا ينفروا من الدين. هذا لا أصل له، لكن يُفرَّق بين زيد من الناس والثاني، وعبيد، وعمرو، وبكر يُنظر في كل حالٍ في كل شخصٍ لظرفه، ومع الإقرار بأن الحلال حلال، والحرام حرام، لكن قد تُفتيه بالأسهل؛ لئلا تتسبب في ارتكابه حرامًا أعظم منه، فهذا من باب ارتكاب أخف الضررين مع الاعتراف بأنه حرام أو ضرر تُفتيه بارتكاب هذا الضرر لماذا؟

لئلا يترتب على منعه منه ارتكاب ضررٍ أعظم منه، ويبقى أن كلها ضرر، يعني لا يعني أننا رأينا أن التصوير حرام، وداخل في النصوص، وقد عمت به البلوى، ثم يأتي شخص يستفتي هو ممن ارتكب ما هو أعظم من ذلك، ويرى أن مثل هذا لا شيء فيه ألبتة، وأنت ترى المنع، لكنه إذا منعته من هذا ارتكب ما هو أعظم منه، فأنت تُفتيه بأخف الضررين، مثلاً جهاز فيديو أو قناة المجد على سبيل المثال يأتيك شخص عنده كل القنوات، ويستفتيك في قناة المجد، تقول له: والله فيها محظورات، وفيها شيء ما هو نظيف، وفيها أشياء يمكن أهل التحري والورع يتحاشونها، لكن هذا أين التحري؟ أين الورع؟! على أقل الأحوال أن تكفه عن أشياء كثيرة في القنوات الأخرى، فمثل هذا يُرتكب معه ارتكاب أخف الضررين، لكن شخص من أهل التحري ولا يعرف من هذه الأمور شيء يُقال له: السلامة لا يعدلها شيء.

فكوننا نُفتيه بالأسهل –يعني بعض الناس- لا يعني أننا نُبيح له ما حرَّم الله –جلَّ وعلا- فارتكاب أخف الضررين أمرٌ مقررٌ في الشرع مع اعتراف الجميع بأن هذا تقصير، ونستغفر الله –جلَّ وعلا- من هذا التقصير.

"وأيضًا فسيأتي بيان أن الأمور الثلاثة كليةٌ في الشريعة، لا تختص على الجملة، وإن تنزلت إلى الجزئيات، فعلى وجهٍ كلي، وإن خصت بعضًا، فعلى نظرٍ كلي، كما أنها إن كانت كليةً، فليدخل تحتها الجزئيات، فالنظر الكلي فيها مُنزلٌ للجزئيات، وتنزله للجزئيات لا يخرم كونه كليًّا، وهذا المعنى إذا ثبت دل على كمال النظام في التشريع، وكمال النظام فيه يأبى أن ينخرم ما وُضع له، وهو المصالح.

المسألة الثامنة:

المصالح المجتلبة شرعًا والمفاسد المستدفعة إنما تُعتبر من حيث تُقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى، لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية، أو درء مفاسدها العادية، والدليل على ذلك أمور".

نعم "من حيث تُقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى" يعني: الدنيا ليست غاية، وإنما هي مزرعة، وليست المقر بل هي ممر، فالإنس والجن إنما خُلقوا للهدف الأسمى والغاية العظمى تحقيق العبودية لله –جلَّ وعلا- {ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ } [الذاريات:56] هذه العبادة لابد لها من ممر، لابد لها من معبر تمر من خلاله، لابد أن يوجد هناك دنيا محل دار عمل وامتحان، ولابد من إصلاح هذه الدار بقدر ما يُحقق به الهدف؛ لذلك الأصل أن الإنسان مخلوق لهذه العبادة، فينشغل في تحقيق هذا الهدف الذي خُلق من أجله.

طيب الإنسان إذا سمع هذا الكلام وانهمك في عباداته صار ليل نهار لا يفتر عن عبادة ترتب عليه الإضرار بالدنيا التي تُعينه على تحقيق الهدف فإما أن يرتكب محظورًا بأخذ الأموال على غير وجهها أو يُذل نفسه بالسؤال؛ ولذا جاء التوجيه الإلهي { ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳﯴ} [القصص:77] يعني بقدر ما يُحقق لك هذا الهدف، ومع الأسف أنه يُوجد الآن أُناس كأنهم خُلِقوا للدنيا، وهذا كثُر في الآونة الأخير كثُر، يعني انسعر الناس وراء هذه الدنيا، وكأنما خلقوا لها، وإذا جاؤوا إلى ما يتعلق بأمور الآخرة كأنهم سُلب منهم الإدراك بالكلية.

وذكر لنا شخص قصة والعهدة عليه وليست مستبعدة؛ لأن الإنسان أحيانًا يجد هذا من نفسه، لكن على مستوى عام فئام من الناس يُصلون صلاة الظهر ويجهر الإمام ويُؤمِّنون، ولا أحد يستنكر!! يعني هذا يدل على أن المسألة انتهت ما فيه لا يُوجد في القلب أدنى حظ من حظوظ الآخرة، أو يقول: آمين، وهو ساجد!! هذا شيء ما يخطر على البال، وهذا سببه التعلق يعني عكس الهدف، يعني مثل هؤلاء يُحتاج أن يُقال لهم: ولا تنسوا نصيبكم من الآخرة، يحتاجون إلى مثل هذا التوجيه.

فهذا عكس ما خُلق الإنسان من أجله، فعلى الإنسان أن يحتاط لهذا الأمر ويتوازن في أموره كلها؛ لأنه مطالب أيضًا بتكاليف وتبعات تتطلب أن لا ينسى نصيبه من الدنيا.

"والدليل على ذلك أمور:

أحدها: ما سيأتي ذكره -إن شاء الله تعالى- من أن الشريعة إنما جاءت لتُخرج المكلفين عن دواعي أهوائهم، حتى يكونوا عبادًا لله، وهذا المعنى إذا ثبت لا يجتمع مع فرض أن يكون وضع الشريعة على وفق أهواء النفوس".

لو جاءت الشريعة على وفق أهواء النفوس ما صار فيها قاعدة لا كُلية ولا أغلبية؛ لأن كل إنسان له من الأهواء ما يُعارض أهواء الآخرين.

"وطلب منافعها العاجلة كيف كانت، وقد قال ربنا سبحانُه".

سبحانَه.

"سبحانَه: { ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫﯬ } [المؤمنون:71].

والثاني: ما تقدم معناه من أن المنافع الحاصلة للمكلف مشوبةٌ بالمضار عادة، كما أن المضار محفوفةٌ ببعض المنافع".

وهذا تقدَّم الإشارة إليه بأنه لا يُوجد منفعة محضة لا يشوبها ضرر على أي تقديرٍ لهذ الضرر ولا العكس، إلا في نعيم الجنة وعذاب النار –نسأل الله السلامة والعافية- وتقدَّم الكلام مُفصَّلاً في هذا.

"كما نقول: إن النفوس محترمةٌ محفوظةٌ ومطلوبة الإحياء، بحيث إذا دار الأمر بين إحيائها وإتلاف المال عليها، أو إتلافها وإحياء المال، كان إحياؤها أولى، فإن عارض إحياؤها إماتة الدين، كان إحياء الدين أولى، وإن أدى إلى إماتتها، كما جاء في جهاد الكفار، وقتل المرتد، وغير ذلك، وكما إذا عارض إحياء نفسٍ واحدةٍ إماتة نفوس كثيرةٍ في المحارب مثلاً، كان إحياء النفوس الكثيرة أولى، وكذلك إذا قلنا: الأكل والشرب فيه إحياء النفوس، وفيه منفعةٌ ظاهرة، مع أن فيه من المشاق والآلام في تحصيله ابتداءً، وفي استعماله حالاً وفي لوازمه وتوابعه انتهاءً كثيرًا".

الضرورات الخمس التي سبقت الإشارة إليها من حيث الأهمية في ميزان الشرع متفاوتة، فالدين رأس المال تُقدَّم دونه النفوس، ثم بعد ذلك النفس مقدمة على المال، والعقل أيضًا مُقدَّم على المال والعِرض.

لكن إذا جاء شخصٌ يُريد ماله قرر المؤلف "بحيث إذا دار الأمر بين إحيائها وإتلاف المال أو إتلافها وإحياء المال كان إحياؤها أولى" هذا كلام المؤلف، لكن إذا جاء شخصٌ ليأخذ ماله، فهل يستسلم ويُسلمه المال أو يُقاتل دون ماله ليكون شهيدًا؟ يعني الذي قرره المؤلف –رحمه الله- يقول: "فإذا دار الأمر بين إحيائها وإتلاف المال" إتلاف المال يعني: من أجلها "أو إتلافها وإحياء المال كان إحياؤها أولى"، وماذا عن قوله –عليه الصلاة والسلام-: «من قُتل دون ماله فهو شهيد»؟ ومال مفرد مضاف فيعم، لا يعني أنه يُقاتل دون جميع ماله، فهل معنى هذا أنه لو جاء شخصٌ يأخذ من ماله شيئًا ولو يسيرًا يُقاتله حتى يقتله؟ وهل المال المحبوب عند النفوس غريزةً يحتاج إلى مثل هذا الحث للمحافظة عليه؟ لأن ما تحميه الغرائز في الغالب يخف الطلب الشرعي بحفظه.

 ولذلك تجدون الشرع يهتم ببر الوالدين أكثر من العناية بالمحافظة على الأولاد؛ لأن المحافظة على الأولاد غريزة، جاء الأمر بالعناية بهم وتربيتهم وتنشئتهم، لكن ما هو بمقدار ما جاء من الحث على بر الوالدين وصلة الأرحام؛ لأن الوالدين احتمال أن يكون كثيرٌ من الناس يعق بهم، كما هو الواقع، بينما ما تجد واحدًا رمى أولاده، ما أنفق عليهم ولا رباهم ولا حفظهم من العوادي ولا من الحر والبرد، ما تجد مثل هذا، إذا كان ما يأتيك أمر أنك تستعمل ما يُدفئ الأولاد وما يحفظهم من البرد والحر وما أشبه ذلك؛ لأن هذا بالغريزة مدفوع أنت، فمثل هذا بسبب احتمال الإهمال أكثر كانت العناية الشرعية أعظم.

وأما بالنسبة لِما يتعلق بالأولاد لا شك أن الشرع يهتم بهم وبتربيتهم وتنشئتهم، لكن مع ذلك لم يرد فيه من النصوص في القوة بمثل ما جاء فيما يتعلق بالوالدين؛ لأن الوالدين احتمال أن الإنسان يعقهم، والدليل على ذلك في المضايق، في مضايق الأنظار، يعني لو وُجِد حريق في البيت وعندك طفل صغير في المهد وشيخ كبير مُقعد أبوك، هذا أبوك، وهذا ولدك، الغريزة تدفعك لحمل الوالد أو لحمل الولد؟ وتأتي التأويلات أن هذا الشيخ الكبير أمضى عمره، وأخذ نصيبه من الدنيا ونستطيع حمل الولد ثم نرجع للوالد، وقد حصل في حريق مِنى قبل عشر سنوات أو تسع سنوات حصل هذا، وسُئِل عن هذه المسألة، سُئِل الشيخ يقول من حضروا: إن الشيخ بكى كيف يُقدِّم الولد على الوالد!!

وهذه ينتابها بحوث كثيرة من جهاتٍ متعددة، يعني لو أتينا إلى حديث الثلاثة الذين أووا إلى الغار، منهم شخص بار بوالده، ينتظر والده حتى يُصبح واللبن في يده، والأولاد يتضاغون، هذا عمل خير أم ليس بخير؟ هذا عمل صالح، وتوسلوا به، وفُرِّج همهم، فهو عملٌ صالح، لكن لو قال شخص: بدلاً من أن يتضاغى هؤلاء الأطفال من الجوع، والشيخ كبير نائم يقسم اللبن قسمين، وينتظر الشائب، والأولاد يُقدَّمون لاسيما وأن الفقهاء يُقررون بالنسبة للنفقات أن الأولاد مقدمون على الوالدين، لكن المدح من أين جاء في هذه القصة؟

طالب:..........

تقديم هوى الشرع على هوى النفس؛ لأن الوالد الشرع جاء الأمر ببره بنصوص كثيرة، لكن ذاك لما كان الذي يدفع إلى حمايته والعناية به الغريزة صارت هوى نفس، فكونك قدمت الولد على الوالد لا شك أنك حكَّمت عاطفتك هنا، لكنك لو أنك فعلت العكس تكون حكَّمت الشرع في القضية.

فالمسألة لها أنظار متباينة، وأيضًا يدخلها من أعمال القلوب ما يدخلها، ويدخلها أيضًا من الفقه الظاهر ما يدخلها، ولو قيل لفقيه مثلاً: هذا الذي حصل من المقدَّم في باب النفقات مثلاً؟ الدرجة الأولى النفس، ثم بعد ذلك الزوجة والأولاد، ثم بعد ذلك، الوالد والأم، يعني الترتيب في النفقات أليس هكذا؟ هذا هو ترتيب الفقهاء، لكن كيف يُلام من حمل الولد وترك الوالد؟ نقول: لا، يُلام من جهة تقديم هواه الشخصي على ما يُحبه الله ورسوله.

فمثل هذه المسائل تحتاج إلى عناية إلا لو في ميزان الفقهاء هذا الذي ترك الصبية يتاضغون إلى الصباح جوعًا ألا يأثم -عند الفقهاء- والطعام موجود، أليس قد حرمهم شيئًا قد أوجبه الله لهم عليه؟ ولا يتأثر الوالد بشيء، لكن هذه لها وزن عند الله –جلَّ وعلا-؛ لأن بر الوالدين له شأن في الشرع، فهو من هذه الحيثية سيقت القصة سياق مدح، وتوسلوا بهذا العمل الصالح وفُرِّج عنهم.

"ومع ذلك، فالمعتبر إنما هو الأمر الأعظم، وهو جهة المصلحة التي هي عماد الدين والدنيا، لا من حيث أهواء النفوس، حتى إن العقلاء قد اتفقوا على هذا النوع في الجملة، وإن لم يدركوا من تفاصيلها قبل الشرع ما أتى به الشرع، فقد اتفقوا في الجملة على اعتبار إقامة الحياة الدنيا لها أو للآخرة".

يعني لها استقلالاً، أو تُقام على سبيل التبع للآخرة؛ لأنها الممر وهي المزرعة.

"بحيث مَنعوا من اتباع جملةٍ من أهوائهم".

مُنِعوا.

"بحيث مُنِعوا من اتباع جملةٍ من أهوائهم؛ بسبب ذلك، هذا وإن كانوا بفقد الشرع على غير شيء، فالشرع لِما جاء بين هذا".

لمَّا.

طالب: فالشرع بما جاء، عندكم بما؟

لمَّا، أين؟

طالب: فالشرع بما جاء أو لِما جاء، "وإن كانوا بفقد الشرع على غير شيء"؟

على غير شيء، فالشرع.

طالب: لِما أم بما؟

لمَّا جاء بيَّن هذا كله.

"فالشرع لمَّا جاء بيَّن هذا كله، وحمل المكلفين عليه طوعًا أو كرهًا؛ ليقيموا أمر دنياهم لآخرتهم.

والثالث: أن المنافع والمضار عامتها أن تكون إضافيةً لا حقيقية، ومعنى كونها إضافيةً أنها منافع أو مضار في حالٍ دون حال، وبالنسبة إلى شخصٍ دون شخص، أو وقتٍ دون وقت، فالأكل والشرب مثلاً منفعةٌ للإنسان ظاهرة، ولكن عند وجود داعية الأكل، وكون المتناول لذيذًا طيبًا، لا كريهًا ولا مرًّا، وكونه لا يُولِّد ضررًا عاجلاً ولا آجلاً، وجهة اكتسابه لا يلحقه به ضرر عاجلٌ ولا آجل، ولا يلحق غيره بسببه أيضا ضررٌ عاجلٌ ولا آجل".

يعني بحيث لا يترتب عليه مفسدة لا خاصة ولا عامة، لا قاصرة ولا متعدية، فإذا توافرت هذه الأمور فهو منفعة، ويبقى أنها منفعة يعتريها ما يعتري منافع الدنيا، وأن ما تقدَّم الكلام فيه وأنه لا منفعة محضة في أمور الدنيا، بل لابد أن يعتريها ما يعتريها من النقص، لكن باعتبارها راجحة صارت منفعة، فالحكم للغالب، والعكس بالعكس.

"وهذه الأمور قلما تجتمع، فكثيرٌ من المنافع تكون ضررًا على قومٍ لا منافع، أو تكون ضررًا في وقتٍ أو حال، ولا تكون ضررًا في آخر، وهذا كله بيِّنٌ في كون المصالح والمفاسد مشروعةً أو ممنوعة لإقامة هذه الحياة، لا لنيل الشهوات، ولو كانت موضوعةً لذلك، لم يحصل ضررٌ مع متابعة الأهواء، ولكن ذلك لا يكون، فدل على أن المصالح والمفاسد لا تتبع الأهواء".

هذه المصالح إنما شُرِعت لإقامة الحياة وعمارة الدنيا التي بسببها أو بواسطتها يُحقق الهدف الذي هو العبودية.

"لا لنيل الشهوات" يعني هذا الأكل إنما شُرِع للتلذذ أو لإقامة هذا البدن الذي لا يقوم إلا بالأكل ليُحقق الهدف؟ قُل مثل هذا في النوم، وقُل مثل هذا في سائر الشهوات، يعني هل هناك شهوة مرادها لذاتها أو لغيرها؟ قد تكون الشهوة ملحوظة في التشريع، ويُؤجر عليها، لكنها لا لذاتها؛ ولذا لمَّا جاء الحديث: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: «نعم»، هل ترتيب الأجر لأنه ارتكب هذه الشهوة، أو لِما ضُرب المثل من قوله –عليه الصلاة والسلام-: «أرأيت لو وضعها في حرام؟»؛ لأنها أغنته عن الحرام، لا لأنها مجرد شهوة؛ وإنما لكونه استغنى بها عن الحرام.

"والرابع: أن الأغراض في الأمر الواحد تختلف، بحيث إذا نفذ غرض بعضٍ وهو منتفعٌ به تضرر آخر لمخالفة غرضه، فحصول الاختلاف في الأكثر يمنع من أن يكون وضع الشريعة على وفق الأغراض".

وأغراض الناس متباينة، يعني لو كانت للاستمتاع واتباع الشهوات، والإباحة تتبع ذلك لما كان على وجه الأرض ممنوع؛ لأن الشهوات تتفاوت من إنسان إلى آخر، يكون هذا مُباحًا لفلان، والثاني الذي لا يُريد هذا ويُريد غيره يكون مُباحًا له، وعلى هذا لا منع في شيءٍ مما هو على وجه الأرض، وهذا خلاف ما تقرر في الشرع.

"وإنما يستتب أمرها بوضعها على وفق المصالح مطلقًا، وافقت الأغراض أو خالفتها".

 

الفصل طويل.

هذا يقول عن عائشة –رضي الله عنها- أنها قالت: "ما من الناس أحدٌ أحب أن أكون في مسلاخها من سودة" ما معنى مسلاخها؟

المسلاخ هو ما يمكن أن يُسلخ وهو الجلد، فهي تتمنى أن تكون في ظرفها وفي جلدها، بمعنى: أنها تكون مثلها، وأن تلقى الله –جلَّ وعلا- بعملها، هذا مفهومها.