التعليق على الموافقات (1427) - 07

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه، وبعد:

قال المؤلف –رحمه الله-: "المسألة الثالثة: هذه الشريعة المُباركة أُمية؛ لأن أهلها كذلك، فهو أجرى على اعتبار المصالح، ويدل على ذلك أمور".

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

معنى كون الشريعة أُمية يعني أنها لا تحتاج إلى الدخول فيها إلى مقدمات، بمعنى: أنه يفهمها العامي، ويدخل فيها من لا يقرأ ولا يكتب، ونزلت على أُمِّيّ وعلى أمةٍ أُمِّيَّة، وكذلك جميع أبوابها لا يُطلب فيها مزيد على ما أعطى الله البشر من أوضح الأدلة قوله –عليه الصلاة والسلام-: «إنها أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَحْسِبُ وَلَا نَكْتُبُ».

فأوقات الصلوات عُلِّقت بأمور يُدركها الأمِّي الذي لا يقرأ ولا يكتب، ولو احتاجت إلى مُقدمات تترتب عليها هذه النتائج، مقدمات لا يعرفها إلا المتعلم لحُرِم منها العوام. الصيام «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» هناك ألآت تُعين على رؤية الهلال، هل تُطلب شرعًا؟ لا تُطلب، لا يلزم أن نبحث عن مناظير ولا غيره، لا يلزم إنما هو بالعين المجردة {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا}[الطلاق:7] يعني ما أعطاها، لكن لو وُجِد واستُعين بها كانت مُيسرة للرؤية وإلا فالرؤية الأصل فيها أنها بالعين المجردة، يعني لو أن المسلمين كلهم ما رأوه بالعين المجردة، وكان قد وُلِد الهلال خُلِق الهلال ما يأثمون؛ لأن الله لا يُكلف نفسًا إلى ما أتاها.

فهذا معنى كونها أُمية أنها يُدخل فيها بغير مُقدمات، يعني ما يُقال لشخص يُريد أن يسلم يُقال له: اذهب فتعلم القراءة والكتابة، واقرأ القرآن، واعرف الصلاة وأحكام الصلاة والزكاة، ثم تعال أسلم، نقول: لا، أسلم الآن وأنت لا تقرأ ولا تكتب، وتنجو بهذا الإسلام ولو لم تكن تقرأ ولا تكتب.

وتبعًا لذلك جاءت جميع أحكماها معلقة على ما أتاه الله –جلَّ وعلا- البشر من القدرات؛ ولذلك يعرفها العامي والأعرابي في البادية وكلٌّ يعرفها، ويتدين لله –جلَّ وعلا- بهذا، ويبقى لأهل العلم أيضًا نصيب، وهم مما ميزهم الله به ممن رفع بهذا الدين رأسه، ولا يُحرم منها العامي، والرسول –عليه الصلاة والسلام- أُمِّي يعني لا يقرأ ولا يكتب، والأمي منسوبٌ إلى الأم، والأصل في الأمة أنها لا تقرأ ولا تكتب، وكذلك ولها الأمي مثلها، والأدلة عل ذلك من الكتاب والسُّنَّة كثيرة.

"ويدل على ذلك أمور أحدها: النصوص المتواترة اللفظ والمعنى، كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ}[الجمعة:2]، وقوله: {فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ}[الأعراف:158]

وفي الحديث: «بُعِثْتُ إِلَى أُمَّةٍ أُمِّيَّةٍ» لأنهم لم يكن لهم علمٌ بعلوم الأقدمين، والأمِّي منسوبٌ إلى الأم، وهو الباقي على أصل ولادة الأم لم يتعلم كتابًا ولا غيره، فهو على أصل خلقته التي ولِد عليها.

وفي الحديث: «نَحْنُ أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَحْسِبُ وَلَا نَكْتُبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا»، وقد فسَّر معنى الأمية في الحديث، أي: ليس لنا علمٌ بالحساب ولا الكتاب".

أشار النبي –عليه الصلاة والسلام- بيديه هكذا ثلاثًا، وقبض العاشر في المرة الثالثة، فالشهر الأصل فيه أنه تسعةٌ وعشرون يومًا، ولم يقل: تسعةٌ وعشرون أو ثلاثون قاله في بعض النصوص، لكن الإشارة كلٌّ يفهمها وترسخ في الذهن، معنى ذلك أنه وسيلة إيضاح، فلا تخفى على أي مُكلَّف إذا أشار بأصابعه العشرة مرتين والثالثة هذا إغراق في الأمية، وأن أجهل الناس بمعنى: ما يُقابل العلم، لا ما يُقابل العقل، يعني أقل الناس علم يفهم هذه الشريعة، وتوصله إلى الجنة بإذن الله تعالى، لكن تبقى خصائص العلماء وأهل العلم لمن رفع بالعلم رأسًا وتعب عليه وحصَّله.

"ونحوه قوله تعالى: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ}[العنكبوت:48]، وما أشبه هذا من الأدلة المبثوثة في الكتاب والسُّنَّة، الدالة على أن الشريعة موضوعةٌ على وصف الأمية؛ لأن أهلها كذلك.

والثاني: أن الشريعة التي بُعث بها النبي الأمي -صلى الله عليه وسلم- إلى العرب خصوصًا وإلى من سواهم عمومًا، إما أن تكون على نسبة ما هم عليه من وصف الأمية أو لا، فإن كان كذلك، فهو معنى كونها أُمية، أي: منسوبةً إلى الأميين، وإن لم تكن كذلك، لزم أن تكون على غير ما عهدوا، فلم تكن لتنزل من أنفسهم منزلة ما تعهد، وذلك خلاف ما وُضِع عليه الأمر فيها، فلا بد أن تكون على ما يعهدون، والعرب لم تعهد إلا ما وصفها الله به من الأمية، فالشريعة إذًا أُمية".

نعم؛ لأن الذي يكتب فيهم ويقرأ نادرٌ جدًّا لا حكم له، فوصف العرب بأنهم أُميون، بمعنى: أنهم لا يقرؤون ولا يكتبون على أصل الخلقة، ونزلت عليهم هذه الشريعة، ولو كان من شرطها العلم، لو كان من شرط قبولها العلم لما انطبقت عليه؛ لأنها جاءت على خلاف ما يعهدون، يعني: على خلاف ما يعرفون أمةٌ أمية والشريعة هذه التي أُنزلت عليهم مناسبة لهم جدًّا، ودخلوا وما وجدوا في ذلك حرجًا ولا عنتًا ولا شيئًا، انقادوا لهذا الدين وقادوا الأمم وهم أميون؛ ولذلك العلوم القدر الزائد على علوم الكتاب والسُّنَّة وما يخدم الكتاب والسُّنَّة لا يُحتاج إليه، فلان يتخصص بالإدارة، وفلان يتخصص بالسياسية، وفلان يتخصص... ما الداعي لهذا إذا عرفنا الكتاب والسُّنَّة، وعرفنا واقع الأمة في عصرها الزاهر؟ هل درس أبو بكر سياسة؟ هل درس عمر إدارة؟ هل درس فلان؟ حتى ولاة الأقاليم الذين ولاهم أبو بكر، وولاهم عمر، وولاهم عثمان من وصفهم الأمية لم يدرسوا هذه العلوم الحادثة الوافدة، فعلم الكتاب والسُّنَّة كفيلٌ بمعرفة ما يُسعد الناس في دينهم ودُنياهم –والله المستعان-.

"والثالث: أنه لو لم يكن على ما يعهدون لم يكن عندهم معجزًا، ولكانوا يخرجون عن مقتضى التعجيز بقولهم: هذا على غير ما عهدنا، إذ ليس لنا عهدٌ بمثل هذا الكلام".

يعني لو كُلِّفوا بما لا يُطيقون، يعني لو كُلِّف شخص بقراءة قصة من الأدب الفرنسي أو غيره بلغات الأعاجم وقيل له: نتحداك تقرأ هذا، هل هذا فيه تحدٍّ؟ هذ ما فيه تحدٍّ؛ لأنه لا يقدر عليه من الأصل، نتحداك أن تأتي بمثل هذه القصة ما يُمكن، لكن لو جيء له بمقطوعةٍ عربية أو قصيدة عربية، وقيل: نتحداك أن تأتي بمثل هذه وهو عربي نعم هنا يقع التحدي؛ ولذا تحدى الله العرب بلسانهم، ما تحداهم بلسان غيرهم؛ لأنه لو جاء بلسان غيرهم لكان لهم عذر؛ ولذلك عادي أن يقول الإنسان: أنا والله لو أعرف الإنجليزية كنت برعت في كذا أو أحسنت قراءة كذا أو تعاملت مع...له عذر؛ لأنه لا يُحسن من الأصل، لكن إذا تُحدي بلغته فهنا يقع التحدي بالفعل، وليس له عذر حينئذٍ.

"من حيث إن كلامنا معروفٌ مفهومٌ عندنا، وهذا ليس بمفهومٍ ولا معروف، فلم تقم الحجة عليهم به، ولذلك قال سبحانه: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ}[فصلت:44] ، فجعل الحُجة على فرض كون القرآن أعجميًّا، ولما قالوا: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ}[النحل:103]، رد الله عليهم بقوله: { بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِين}[النحل:103]، لكنهم أذعنوا لظهور الحُجة، فدل على أن ذلك لعلمهم به وعهدهم بمثله، مع العجز عن مماثلته، وأدلة هذا المعنى كثيرة.

فصل: واعلم أن العرب كان لها اعتناءٌ بعلومٍ ذكرها الناس، وكان لعقلائهم اعتناءٌ بمكارم الأخلاق، واتصافٌ بمحاسن شيم، فصححت الشريعة منها ما هو ما هو صحيح وزادت عليه، وأبطلت ما هو باطل، وبينت منافع ما ينفع من ذلك، ومضار ما يضر منه".

نعم العرب عندهم عادات ومكارم وشيم وأخلاق منها المقبول الذي أقره الشرع مثل: الكرم، والشجاعة، الجود، الإقدام، الحلم.

وأبطل منها الباطل الشيء الزائد على حده، الشجاعة إذا زادت على حدها أبطلها الشرع، الغيرة إذا زادت على حدها أبطلها الشرع؛ ولذلك من غيرة بعضهم أنه كان يئد البنات، الخوف الزائد، أي شيء يزيد على الحد الشرعي أبطله الإسلام، وإن وُجِد عند العرب قبل ذلك.

فأبقى وأقر الأخلاق التي هي في حد الاعتدال المناسب لوصف هذه الملة {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}[البقرة:143]، وأبطل ما كان على طرفي النقيض، التساهل الشديد أو الغلو الشديد في هذه الشيم والأخلاق.

"فمن علومها: علم النجوم وما يختص به من الاهتداء في البر والبحر، واختلاف الأزمان باختلاف سيرها، وتعرف منازل سير النيرين، وما يتعلق بهذا المعنى، وهو معنىً مقررٌ في أثناء القرآن في مواضع كثيرة".

وإن لم يكن هذا العلم عامًّا للناس كلهم إنما يحتاج إليه من يحتاجون إلى من يدلهم الطرق، فمن كان دليلاً على الطرق هاديًا للناس في طرقهم يحتاج إلى معرفة النجوم، وأيضًا يستدل بها على تغير الأوقات من أجل الحروث والزروع وما أشبه ذلك، والقدر الزائد من ذلك هذا لا يُحتاج إليه.

كقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}[الأنعام:97]وقوله: { وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُون}[النحل:16] وقوله: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيم * لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُون}[يس:39-40].

وقوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ}[يونس:5].

وقوله:{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً}[الإسراء:12] الآية.

وقوله: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِير}[الملك:5].

وقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189].

وما أشبه ذلك".

نعم الفوائد أو الحكمة من إيجاد هذه النجوم ثلاثة أشياء منها: الهداية والدلالة، ومنها أنها زينة للسماء، ومنها أنها رجوم للشياطين، وعرفنا أن العرب فيهم هذا العلم، ظاهر علم النجوم وما يتعلق بها، لكنه ليس لكل أحد، إنما هو لمن يحتاج إليه ويعتني به، لكنه فيهم ظاهر؛ لأن عيشهم في العراء، عيشهم، مبيتهم ومقيلهم في العراء إذا اضطجع الإنسان في فراشه يرى هذه النجوم، ويتحدثون عنها، ويسأل ما هذه؟ هذا يسأل أباه، وهذا يسأل أخاه، فيكثر فيهم وينتشر، وهذا موجود إلى وقتٍ قريب لما كان الناس ينامون في العراء في السطوح يعرفون النجوم بكثرة، وإن لم يكن جميع الناس كذلك أيضًا فالبادية لهم حظٌّ من ذلك، لكن هذا الحاضرة وأولادهم والناشئة منهم مَن يعرف نجمًا واحدًا؟ نعم ما فيه أحد يعرف أولاً: لأن الحاجة الداعية إلى ذلك قَلت أو فُقِدت؛ لأن الهداية في الطرق من خلال هذه الطرق التي بُينت والمعالم التي ذُكِرت والعلامات التي يُستدل بها على المقصد، كانوا بحاجة مضطرين إلى ذلك فتعلموه.

أيضًا عيشهم في العراء سهل لهم ذلك، الإنسان متى يرى النجوم من حاضرة اليوم، ومن ناشئة اليوم؟ ما فيه أحد إذا خرج في رحلةٍ أو نزهةٍ لا يلتفت، لا يرفع بذلك رأسًا؛ لأنه لا يحتاج إليه، يعني لو خرج ثُلة من طلاب العلم هل يكون من همهم ومن برنامجهم أن يسألوا ما هذا النجم؟ وما ذاك النجم؟ ما أظن أحدًا يسأل عن هذا ألبتة.

لكن إلى وقتٍ قريب والناس ينامون في السطوح، وينامون في الأحواش وما عدا ذلك دون السقوف يسألون ويتعلمون، وهذا يسأل اضطجع الإنسان في فراشه سأل ما هذا؟ ما هذا؟ وإذا رأى شيئًا يختلف عن غيره ما هذا؟ فيتعلمون؛ ولذلك هذا معروف إلى وقتٍ قريب، وهو في العرب أظهر؛ للحاجة الماسة إليه، لكن لا يعني أن جميع العرب يعرفون النجوم كلها، لا يلزم من هذا أن يكون الجميع فردًا فردًا يعرفون هذه النجوم، وإن كان ظاهرًا فيهم.

"ومنها: علوم الأنواء، وأوقات نزول الأمطار، وإنشاء السحاب، وهبوب الرياح المثيرة لها، فبيَّن الشرع حقها من باطلها، فقال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِىءُ السَّحَابَ الثِّقَال * وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ}[الرعد:12-13] الآية.

وقال: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُون * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُون}[الواقعة:68-69].

وقال: {وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجًا}[النبأ:14].

وقال: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُون}[الواقعة:82].

خرَّج الترمذي: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُون}[الواقعة:82] قال: «شُكْرُكُمْ»".

يعني بدلاً من أن تشكروا الله –جلَّ وعلا- تكذبونه وتنسبون خيره إلى غيره.

"«تَقُولُونَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا، وَبِنَجْمِ كَذَا وَكَذَا»، وفي الحديث: «أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بي وكافرٌ بي» الحديث في الأنواء".

«من قال: مُطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمنٌ بي كافرٌ بالكوكب، ومن قال: مُطرنا بنوء كذا وكذا أصبح كافرٌ بي مؤمنٌ بالكوكب» نسأل الله العافية.

"وفي (الموطأ) مما انفرد به: «إِذَا أَنْشَأَتْ بحريةً ثم تشاءمت، فتلك عينٌ غديقة»".

«بحريةً» يعني: جات من جهة البحر، من جهة الغرب، ثم أخذت جهة اليمين يعني إلى جهة الشام جهة الشَّمال لا الشِّمال «تشاءمت» يعني: إلى جهة الشام فإنها حينئذٍ تكون ممطرة مطرًا غزيرًا، وهذا من الأحاديث الأربعة التي لم يستطع ابن عبد البر وصلها بالموطأ، وهو مضعَّف، الخبر مُضعَّف، وإن وصله ابن الصلاح مع الثلاثة الباقية.

"وقال عمر بن الخطاب للعباس وهو على المنبر والناس تحته: كم بقي من نوء الثريا؟"

نعم العرب يعرفون الأنواء، ومن له حاجة بمعرفتها كالمزارعين يهتمون به ويعرفونها ويسألون عنها، لكن من لا حاجة له سواءً كان من العرب المتقدمين أو المتأخرين فإن الحاجة هي التي تدعو إلى معرفة الشيء، كثير من الناس لا يعرفوا الأنواء، حتى عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- لا يعرف مثل ما يعرف العباس؛ ولذلك سأله كم بقي، فمن يحتاج إلى شيء لا شك أنه يُعنى به ويهتم به ويبحث عنه ويسأل عنه، فتكون لديه المعرفة به.

"فقال له العباس: بقي من نوئها كذا وكذا، فمثل هذا مبينٌ للحق من الباطل في أمر الأنواء والأمطار.

وقال تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ }[الحجر:22].

وقال: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا}[فاطر:9] إلى كثير من هذا".

على كل حال هذه العلوم التي تعرفها العرب النجوم والأنواء أقر منها الإسلام ما يُمكن إقراره مما يجوز، وأنكر منها ما يُنكر، فلا شك أن من تعلم النجوم ليستدل بها في الطرق فمثل هذا يُقر، أما إذا تعلمها ليستعين بها ويرى أنها مؤثرة فلا شك أن هذا ضربٌ من الشرك ومن ادعاء الغيب التنجيم –نسأل الله العافية-، وكذلك التعلق بالأنواء، وأن نوء كذا ممطر، ونوء كذا غير ممطر ويُنسبون الفعل له أو تأثير مع الله –جلَّ وعلا- لا شك أن هذا شرك، أما إذا كانت الباء «بنوء كذا» يُراد بها في، وقد تأتي الباء ويُراد بها في، فيقولون: مُطرنا في نوء كذا، في نوء الثريا مثلاً يعني وقت طلوع الثريا، لا يُمنع هذا في الأصل إلا لمشابهته اللفظ الممنوع، يعني يُمنع سدًّا للذريعة وإلا فالأصل أن من قال: مطرنا في الشتاء مثلاً أو في الصيف أو في الربيع أو في الخريف المقصود به في وقت كذا أو مُطرنا في رمضان، مُطرنا في شوال، مُطرنا...إلى آخره، هذا لا يُمنع.

ومنها: علم التاريخ وأخبار الأمم الماضية، وفي القرآن من ذلك ما هو كثير، وكذلك في السُّنَّة".

يعني القصص أخبار الأمم الماضية هذا كثير في القرآن يشغل حيزًا كبيرًا من القرآن الكريم قصص الأمم السابقة والعرب لهم نهم لذكر الأخبار.

"وكذلك في السُّنَّة، ولكن القرآن احتفل في ذلك، وأكثره من الأخبار بالغيوب التي لم يكن للعرب بها علم".

"لم يكن للعرب بها علم" لانقطاع أسانيدهم واتصالهم بها، يعني هل العرب يعرفون من قصة نوح أو قصة حتى إبراهيم –عليه السلام- مَن يُرويهم إياها؟ لكن يعرفون الحوادث القريبة منهم، يعرفون القصص التي أدركها آبائهم وأجدادهم وحدثوهم بها، أما ما انقطعت بها الأسانيد فإنهم لا يعرفونها إلا من طريق القرآن.

"لكنها من جنس ما كانوا ينتحلون".

يعني من جنس أفعالهم يعني في الأمم السابقة من الأفعال ما توارثه الأجيال، حتى وصل إلى زمن الجاهلية التي قبيل الرسالة.

"قال تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ}[آل عمران:44] الآية.

وقال تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـذَا}[هود:49].

وفي الحديث قصة أبيهم إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- في بناء البيت وغير ذلك مما جرى.

ومنها: ما كان أكثره باطلاً أو جميعه كعلم العيافة، والزجر، والكهانة، وخط الرمل، والضرب بالحصى، والطيرة، فأبطلت الشريعة من ذلك الباطل ونهت عنه كالكهانة والزجر، وخط الرمل".

على ما تشتمل عليه من ادعاء الغيب والزجر للطير لينفر فيُنظر يطير يمينًا أو شمالاً فيُتشاءم به أو يُتفاءل به، وخط الرمل كما هو معروف عند الكهان.

وجاء في الخبر أن نبيًّا كان يخط من وافق خطه، من وافق خطه خطه أصاب إلى آخره، لكن لا شك أن هذا يحتاج إلى مُقرر شرعي، يقول: إنك وافقت أو ما وافقت، فيبقى الباب على أصله في المنع؛ لأن بعضهم يقول: مادام الحديث في موافقة خط ذلك النبي، نقول: أولاً هذا لا يُوجد ما يُقره شرعًا، من يُدريك أنك وافقت أو لم توافق لابد أن يُقرك معصوم أم معصوم.

"وأقرت الفأل لا من جهة تَطلب الغيب".

نعم "لا من جهة تَطلب الغيب" فإن الفأل الحسن يُحبه النبي –عليه الصلاة والسلام- ويُعجبه، لكن لا يعني أنك إذا تفاءلت بكلمة أو برجل أو بعمل أو بأي شيء من الأشياء التي يُمكن أن تتفاءل به أن النتيجة تكون على ضوء ما تفاءلت لا ما يظن أو أنك تجزم بهذا لأنها غيب.

"فإن الكهانة والزجر كذلك، وأكثر هذه الأمور تخرصٌ على علم الغيب من غير دليل، فجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- بجهةٍ من تعرف علم الغيب مما هو حق محض، وهو الوحي والإلهام، وأبقى للناس من ذلك بعد موته -عليه السلام- جزءٌ من النبوة، وهو الرؤيا الصالحة، وأنموذجٍ من غيره لبعض الخاصة وهو الإلهام والفراسة".

نعم الإلهام والفراسة للمؤمن المُتبِع؛ لأنها كرامة لا، ولا يتمسك بمثل هذا الكلام أهل التخريف من المتصوفة وغيرهم الذين يدعون لأوليائهم شيئًا من علم الغيب، وأنهم يتفرسون ويُلهمون هذا مثل هذه الشطحات التي وُجِدت على ألسنتهم وفي كتبهم، وتوسعوا فيها توسعًا جعلوا شيوخهم جعلوهم في مصاف الأنبياء، بل فوق الأنبياء –نسأل الله السلامة والعافية-، ويدَّعون لهم ما يدَّعون من هذه الإلهامات وتلك الفراسة؛ لكنها للمؤمن الموحد؛ لأنها نوع كرامة، فإن كان عملهم موافقًا لِما جاء عن الله وعن رسوله صدقت فراسته وإلا فلا، وإن صدقت فراسة من يُدعى فيه الفراسة، وكان مُخالفًا للكتاب والسُّنَّة فإن هذا ليس من هذا الباب، وإنما هو من باب إعانة الشياطين لهم.

"ومنها: علم الطب، فقد كان في العرب منه شيءٌ لا على ما عند الأوائل، بل مأخوذٌ من تجاريب الأميين".

"لا على ما عند الأوائل" من الطب المنتظم المُرتب طب الأولين القدماء مُرتب مُنظم فيه مؤلفات ومصنفات وله أهله ورجاله، أما بالنسبة لعمل الطب عند العرب فهو نظير ما عند من يتعاطى الطب الشعبي جرب هذا العلاج لفلان فنفعه أو استعمله في نفسه فنفع فيصفه للناس كلهم، وقد يُوافق وقد لا يُوافق؛ لأن العلاج لابد أن يكون مُطردًا، والأطباء الشعبيون إذا جرَّب على نفسه أو على غيره شيئًا فنفع عممه على الناس كلهم ممن فيه مثل مرضه، وهذا لا يصح هذا، لابد أن يطَّرد، يعني الأدوية الحديثة من الأطباء والشركات التي تصنع الدوية لا تُقر إلا إذا جُرِّبت على قطيع من الناس أو على عددٍ كبير بحيث يطَّرد نفعه لهذا المرض.

وفي كتاب (التذكرة) لداود الأنطاكي شيءٌ من هذا جرَّب مرة واحدة ونفع، فصار يُعممه للناس، وفيه حواشٍ على (التذكرة)، يعني هي لمجرد شخص واحد يقول: أُصبت بمسمارٍ في باطن القدم، فوضعت عليه لبخةً من عجينٍ وملح فبرئ بإذن الله، يبرأ بإذن الله، لكن هل هذا مُطرد؟ قد يكون فيك مما يُعارض هذا العلاج أو يتفاعل مع هذا العلاج فيزداد.

والمقصود أن علم العرب الأولين الذين قبل الهجرة علمهم مثل نظير ما عند الشعبيين، علم ليس بمُطرد إنما يصفون من مجرد موافقة هذا العلاج في حالةٍ واحدة، وأما ما كان عند الأقدمين من علم فهو مُرتب، وله رجاله نظير الطب الحديث؛ ولذا قال المؤلف: يختلف عما عند الأوائل.

"فقد كان في العرب منه شيءٌ لا على ما عند الأوائل" علمًا بأن الأوائل أيضًا طبهم فيه خللٌ كبير؛ لأنه ليس مرتبط بشرع، بل فيه ما يُخالف ويُعارض الشرع؛ ولذا تجدون فيمن يُوافق الأقدمين في علم الطب المرتب عندهم كابن سينا وغيره (القانون) لابن سينا هذا في الطب، وهو مبني على علوم الحكماء الأقدمين على ما يزعمون، وفيه مخالفات صريحة للنصوص وللدين عمومًا قد يصف الخمر علاج لبعض الناس، وقد يصف أمورًا مُحرَّمة يُعالج بها بعض الناس لا شك أن هذا لا يجوز، الخمرة داء وليست بدواء.

والنووي –رحمه الله- اقتنى كتاب (القانون) لابن سينا وأراد أن يتعلم، يقول: أنه أظلم قلبه وصعب عليه الحفظ والفهم، حتى أخرج الكتاب من بيته، ثم عاد إلى وضعه الطبيعي؛ لِما فيها من مُخالفات، كثير من كتب الطب فيها شعوذة، فيها طلاسم يعني كتب الطب مثل كتاب (الرحمة) (تسهيل المنافع) كتب كثيرة في هذا الباب فيها سحر، وفيها طلاسم، وفيها شعوذة فيُحذر منها أشد الحذر –والله المستعان-.

"غير مبنيٍّ على علوم الطبيعة التي يقررها الأقدمون، وعلى ذلك المساق جاء في الشريعة، لكن على وجهٍ جامعٍ شاف قليلٍ يُطلع منه على كثير".

جاء في النصوص عن النبي –عليه الصلاة والسلام- شيء ينفع في هذا الباب وجُمِع في مؤلفات خاصة فـ(الطب النبوي) لابن القيم مأخوذ من النصوص، كذلك الذهبي له كتاب بهذا الاسم (الطب للمستغفري) (الطب لأبي نُعيم) في الحديث له مصنفات في الطب يعني فيما جاء عن النبي –عليه الصلاة والسلام- في بعض الأدوية.

طالب:........

نعم.

طالب:........

يظهر منه أنه وحي كما إذا وصف علاجًا فلم ينفع في أول الأمر ولا ثاني الأمر، ثم في النتيجة والغاية نفع مثل العسل لا شك أنه وصِف لاستطلاق البطن فزاد، فلا شك أن مثل هذا بتوجيه، والعسل جاء وصفه بأنه شفاء، فهذا ما يحتاج إلى اجتهاد، ومنه ما هو اجتهاد من النبي –عليه الصلاة والسلام-، واجتهاد المعصوم معصوم.

"فقال تعالى: {كُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ}[الأعراف:31].

وجاء في الحديث التعريف ببعض الأدوية لبعض الأدواء، وأبطل من ذلك ما هو باطل، كالتداوي بالخمر، والرقى التي اشتملت على ما لا يجوز شرعًا.

ومنها: التفنن في علم فنون البلاغة، والخوض في وجوه الفصاحة، والتصرف في أساليب الكلام، وهو أعظم منتحلاتهم".

هذا الجانب هو الذي برز فيه العرب؛ ولذا وقع فيه التحدي بخلاف بني إسرائيل على عهد فرعون اشتهروا بالسحر، فجاءت معجزة نبيهم موسى –عليه السلام- بما يُشبه سحرهم إلا أنه شرعي بالعصا، واشتهر قوم عيسى بالطب، فجاءت معجزة نبيهم -عليه السلام- بالطب وهكذا، ولما كان اهتمام العرب أو بروزهم في هذا الجانب في فنون البلاغة والفصاحة تُحدوا في ذلك، وجاءت معجزة النبي –عليه الصلاة والسلام- بالقرآن.

"فجاءهم بما أعجزهم من القرآن الكريم، قال تعالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}[الإسراء:88]".

هذا التحدي بالقرآن كاملاً، ثم حصل التحدي بعشر سور، ثم صار التحدي بسورة، وعجزوا عن ذلك كله عجزوا حتى عن أقصر السور، ولم يقع التحدي بآية؛ لأن من آيات القرآن ما هو كلمة، والعربي لا يعجزه أن يقول هذه الكلمة، فلم يقع التحدي بكلمة، بآيةٍ واحدة لم يقع التحدي، {ثُمَّ نَظَر}[المدثر:21] العربي لا يُعجزه أن يقول: {ثُمَّ نَظَر}[المدثر:21] ولا يعجزه أن يقول: {مُدْهَامَّتَان}[الرحمن:64] هذه آية لم يقع بها التحدي، لكن آية بقدر سورةٍ قصيرة يقع بها التحدي كلمة {ثُمَّ نَظَر}[المدثر:21] أو {مُدْهَامَّتَان}[الرحمن:64] في موضعها بعد ما تقدمها وقبل ما يتلوها يعجز العربي أن يأتي بمثلها في مكانها.

"ومنها: ضرب الأمثال وقد قال تعالى:{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ}[الروم:58] إلا ضربًا واحدًا، وهو الشعر، فإن الله نفاه وبرأ الشريعة منه، قال تعالى في حكايته عن الكفار: {أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُون * بَلْ جَاء بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِين}[الصافات:36-37]".

يعني جعل الشعر في مقابل الحق، الشعر في مقابل الحق ولا شك أن الشعر كلام مثل النثر مُباحه مباح وحقه مقبول، وباطله مردود، وحرامه حرم، إلا أنه في الغالب أن الشعر يُصاحبه شيء قد لا يُصاحب النثر؛ ولذا جاء الحديث الصحيح «لئن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا حتى يريه خيرٌ له من يمتلئ شعرًا»، ونفى الشعر عن النبي –عليه الصلاة والسلام- {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ}[يس:69] فاتّهم النبي –عليه الصلاة والسلام- بأنه شاعر {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُون * بَلْ جَاء بِالْحَقِّ}[الصافات:36-37] لا بالشعر جعل الحق في مقابل الشعر، فحينئذٍ الشعر في خدمة النص، يعني تحويل القرآن إلى شعر هذا لا شك أنه مُحرَّم، يعني لو جاء شاعر ونظم سورة من السور يجوز أم ما يجوز؟ لا يجوز، الله –جلَّ وعلا- نفى الشعر {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ}[يس:69] لكن لو نظم الحديث؟ يستطيع أن ينظم الشاعر ما يخدم الكتاب والسُّنَّة، ما يُعين على فهم الكتاب والسُّنَّة ينظِم في غريب القرآن، ينظِم في علوم القرآن لا بأس، ينظِم في القراءات لا إشكال، لكن ينظم سورة يجوز ولا ما يجوز؟ ما يجوز بحال.

وقُل مثل هذا في الحديث ينظُم علوم الحديث، ينظم غريب الحديث ما في إشكال، ينظِم علل الحديث ينظِم أي باب من أبواب الحديث، لكن يُحوِّل كلام الرسول الذي نفى الله –جلَّ وعلا- عنه الشعر فيجعله شعر، يعني وُجِد من ينظم (بلوغ المرام) الصنعاني نظم الحديث هو جاء من المعاصي لمن نظم الحديث، لكن في تقديري أن مثل هذ نفاه الله –جلَّ وعلا- عن نبيه، فكيف نُحول كلامه إلى شعر؟ هذا أقل أحواله الكراهية الشديدة، يعني ما يجرؤ الإنسان يقول: مُحرَّم، لكن ظاهر في كون إثبات أمرٍ نفاه الله –جلَّ وعلا- عن نبيه، ونحن نحول كلامه إلى ما نفاه الله عنه هذا لا شك أنه لا ينبغي.

"أي: لم يأت بشعر، فإنه ليس بحق، ولذلك قال: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ}[يس:69] الآية، وبيَّن معنى ذلك في قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُون * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُون * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُون}[الشعراء:224-226]".

ولذلك تجدون الشعراء يختلف وضعهم عن غيرهم، يعني إذا حصل له موقف إما وفاة عزيز أو موقف سار بالنسبة له أو تعلق بشيءٍ من الأشياء، ونظم في قصيدة تجد التخلص منه عسرٌ جدًّا، تجد إن مات له قريب أو حبيب أو كذا، ثم نظم له قصيدة وأخذ يُرددها يستمر معه الحزن، إذا تعلق بامرأة ونظم فيها ما يدل على تعلقه بها صعب الانفكاك منه، بينما غير الشاعر يمر على خاطره أيام ثم يزول، من نِعم الله –جلَّ وعلا- على كثيرٍ من الناس أنه لم يكن بشاعر؛ لأنه قد يموت له امرأة يُحبها أو زوجة يُحبها، فينساها إذا لم يكن شاعر، لكن إذا نظم فيها أبيات ورددها وترنم بها الشعراء لا شك أنه يُعانون من هذا الباب.

"فظهر أن الشعر ليس مبنيًّا على أصل، ولكنه هيمان على غير تحصيل، وقولٌ لا يصدقه فعل، وهذا مضادٌ لما جاءت به الشريعة إلا ما استثنى الله تعالى.

فهذا أنموذجٌ ينبهك على ما نحن بسبيله بالنسبة إلى علوم العرب الأمية، وأما ما يرجع إلى الاتصاف بمكارم الأخلاق وما ينضاف إليها، فهو أول ما خوطبوا به، وأكثر ما تجد ذلك في السور المكية، من حيث كان آنس لهم، وأجري على ما يُتمدح به عندهم، كقوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى}[النحل:90] إلى آخرها.

وقوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}[الأنعام:151] إلى انقضاء تلك الخصال.

وقوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ}[الأعراف:32].

وقوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ}[الأعراف:33]. إلى غير ذلك من الآيات التي في هذا المعنى.

لكن أدرج فيها ما هو أولى من النهي عن الإشراك والتكذيب بأمور الآخرة، وشبه ذلك مما هو المقصود الأعظم، وأبطل لهم ما كانوا يعدونه كرمًا وأخلاقًا حسنة وليس كذلك، أو فيه من المفاسد ما يُربي على المصالح التي توهموها، كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ}[المائدة:90].

ثم بيَّن ما فيها من المفاسد خصوصًا في الخمر والميسر، من إيقاع العداوة والبغضاء، والصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهذا في الفساد أعظم مما ظنوه فيهما صلاحًا؛ لأن الخمر كانت عندهم تشجع الجبان، وتبعث البخيل على البذل، وتُنشط الكسالى، والميسر كذلك كان عندهم محمودًا؛ لِما كانوا يقصدون به من إطعام الفقراء والمساكين، والعطف على المحتاجين، وقد قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا}[البقرة:219].

والشريعة كلها إنما هي تخلق بمكارم الأخلاق؛ ولهذا قال -عليه السلام-: «بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ»".

نعم نزل القرآن وبُعث الرسول على أمةٍ لها عناية بشيء من الأخلاق من الجود، والكرم، والشجاعة، وغيرها من الأخلاق المحمودة إلا أنه يعتري هذه الأخلاق، وإن كانت في الأصل محمودة يعتريها ما يجعلها مذمومة، وفيهم أيضًا أخلاق وأوصاف مذمومة، فوجه ما يمكن توجيهه، وأبطل ما لا يُمكن تعديله.

"إلا أن مكارم الأخلاق إنما كانت على ضربين:

أحدهما: ما كان مألوفًا وقريبًا من المعقول المقبول، كانوا في ابتداء الإسلام إنما خوطبوا به، ثم لما رسخوا فيه تمم لهم ما بقي، وهو:

الضرب الثاني: وكان منه ما لا يُعقل معناه من أول وهلةٍ فأُخِّر، حتى كان من آخره تحريم الربا، وما أشبه ذلك، وجميع ذلك راجعٌ إلى مكارم الأخلاق، وهو الذي كان معهودًا عندهم على الجملة".

نعم مثل الربا الذي لم ينشأ في الإسلام يستنكر تحريم الربا مع جواز الدَّين، يقول: ما الفرق بين الربا والدَّين؟ إن كان القصد مصلحة المحتاج وأنه لا يُزاد عليه، فمن مصلحته ألا يُزاد عليه في الدَّين، فالزيادة حاصلة حاصلة سواءً كانت بدينٍ شرعي أو بربا، فمثل هذا لا يعقل معناه عندهم، لكن مع ذلك الحكمة ظاهرة مثل الشمس فرقٌ بين أن تأخذ ربا صريحًا دراهم بدراهم مع الزيادة، وبين أن تشتري سلعةً ينتفع بها جميع الأطراف، ينتفع بها صانعها، ينتفع بها حاملها، ينتفع بها بائعها، ينتفع بها مشتريها، ينتفع منه المشتري منه.

أما دراهم بدراهم فمن ينتفع به؟ ما ينتفع به إلا الذي يأخذ الربا فقط، وإن كان بعض الناس لا يرى فرقًا يقول: إن مسألة التورق هي عين الربا إلا أنها بالتحايل، فيرى أنها أشد من الربا، نقول: أبدًا ليست بأشد من الربا، ولم يخف هذا على عامة أهل العلم الذين أجازوها، الأئمة الأربعة كلهم أجازوها، فهل يخفى عليهم مثل هذا؟ لا يخفى عليهم، فعِلة تحريم الربا مُنتفية في حِل البيع.

"ألا ترى أنه كان للعرب أحكامٌ عندهم في الجاهلية أقرها الإسلام، كما قالوا في القراض، وتقدير الدية وضربها على العاقلة، وإلحاق الولد بالقافة".

"القراض" المضاربة، المضاربة كانوا يفعلونها في الجاهلية، يُعطي الشخص ماله لآخر يُضارب به، ويبيع ويشتري، والربح بينهما، فأقرها الإسلام؛ لأن ما فيها ضررًا على أحد، وفيها مصلحة ظاهرة.

"تقدير الدية" قُدِّرت في الجاهلية مثلاً بقدر جاء الإسلام وأقرها اثني عشر ألف درهم أو ألف دينار أُقرت في الإسلام؛ لأنها مناسبة، وكونها على العاقلة أيضًا الحكمة من ذلك معروفة، فمثل هذا لا يُنكر.

"وإلحاق الولد بالقافة، والوقوف بالمشعر الحرام".

نعم "الوقوف بالمشعر الحرام" للجميع وأقره الإسلام، لكن الخروج عن الحرم بالنسبة للحمس قريش لا يجوز لهم الخروج من الحرم؛ ولذا لا يقفون بعرفة -أعني الحُمس- فمثل هذا لا يقره الإسلام، بل قريش وغيرهم سواء، فأمرهم بالوقوف مع الناس، فقد فعل -عليه الصلاة والسلام- وقال: «خذوا عني مناسككم» وجعل الوقوف بعرفة هو الحج «الحج عرفة».

"والحكم في الخنثى، وتوريث الولد الذكر مثل حظ الأنثيين، والقسامة، وغير ذلك مما ذكره العلماء.

ثم نقول: لم يُكتفَ بذلك حتى خوطبوا بدلائل التوحيد فيما يعرفون من سماءٍ، وأرضٍ، وجبالٍ، وسحابٍ، ونبات وبدلائل الآخرة والنبوة كذلك، ولما كان الباقي عندهم من شرائع الأنبياء شيءٌ من شريعة إبراهيم -عليه السلام- أبيهم، خوطبوا من تلك الجهة ودُعوا إليها، وأن ما جاء به محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- هي تلك بعينها: كقوله تعالى: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ}[الحج:78].

وقوله: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا}[آل عمران:67] الآية.

غير أنهم غيروا جملةً منهم، وزادوا، واختلفوا، فجاء تقويمها من جهة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وأخبروا بما أنعم الله عليهم مما هو لديهم وبين أيديهم، وأُخبروا عن نعيم الجنة".

أُخبروا التي في الأول "أُخبروا بما أنعم الله عليهم".

"وأُخبروا عن نعيم الجنة".

بما أنعم الله، أُخبروا كلاهما أُخبروا.

"عن نعيم الجنة وأصنافه بما هو معهودٌ في تنعماتهم في الدنيا، لكن مُبرأٌ من الغوائل والآفات التي تلازم التنعيم الدنيوي".

وإن كان على ما قال ابن عباس: إنه ليس في الدنيا أو في الجنة مما في الدنيا إلا الأسماء، لكنها ذُكِرت بأسمائها التي يعرفونها في الدنيا.

"كقوله: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِين * فِي سِدْرٍ مَّخْضُود *وَطَلْحٍ مَّنضُود * وَظِلٍّ مَّمْدُود}[الواقعة:27-30] إلى آخر الآيات.

وبيَّن من مأكولات الجنة ومشروباتها مما هو معلومٌ عندهم، كالماء، واللبن، والخمر، والعسل، والنخيل، والأعناب، وسائر ما هو عندهم مألوف دون الجوز، واللوز، والتفاح، والكمثرى، وغير ذلك من فواكه الأرياف وبلاد العجم، بل أجمل ذلك في لفظ الفاكهة.

وقال تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[النحل:125].

فالقرآن كله حكمة، وقد كانوا عارفين بالحكمة، وكان فيهم حكماء، فأتاهم من الحكمة بما عجزوا عن مثله، وكان فيهم أهل وعظٍ وتذكير، كقس بن ساعدة وغيره، ولم يجادلهم إلا على طريقة ما يعرفون من الجدل، ومن تأمل القرآن وتأمل كلام العرب في هذه الأمور الثلاثة، وجد الأمر سواءً إلا ما اختص به كلام الله من الخواص المعروفة.

وسِر في جميع ملابسات العرب هذا السير، تجد الأمر كما تقرر، وإذا ثبت هذا وضح أن الشريعة أميةٌ لم تخرج عما ألفته العرب".

طالب:........

بلا شك.

طالب:........

هو نزل على أمةٍ أمية.

طالب:........

ما فيه تعارض، بل على العكس الدِّين الذي استطاع أن يُخرج هذه الأمية أو هذه الأمة الأمية إلى أن يكونوا قادة العالم، ونجحوا في ذلك، وضربوا في جميع أبواب العلوم بسهمٍ وافر، ألا يدل على عظمة هذا الدِّين؟

طالب:........

ما هو بمعنى استمروا أيتها الأمة على ذلك لا، لكن هذا واقعنا، ومع ذلك نصل إلى النتائج الشرعية الصحيحة.

طالب:........

لا يعني أننا لا نتعلم الحساب والكتابة.

طالب:........

لا ليس معنى هذا أن تعلم الحساب والكتابة بدعة، لا؛ لأن الرسول لا يحسب ولا يكتب، لا، هو بالنسبة له وصف كمال –عليه الصلاة والسلام- وبالنسبة لغيره نقص.

طالب: يعني في أول ابتداء الشريعة .......... للأمة لتكون للعامة والخاصة.

ومازالت إلى قيام الساعة معناه أنه لا تُحجب هذه الشريعة عن غير متعلم، فيدخل فيها الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب، ومن باب أولى من يقرأ ومن يكتب.

طالب:........

نعم.

طالب:........

 ماذا فيه؟

طالب:........

 

نعم إنه يُدرك الحكم الشرعي المبني على هذه الأمية كل أحد. 

"