لا شك أن الأرزاق مكتوبة والآجال محدَّدة، ولكن بذل السبب مطلوب شرعًا، وإلا لقيل: (مادامت الأرزاق مكتوبة لماذا لا يجلس الإنسان في بيته ويأتيه رزقُه، ولن ينقص من رزقه الذي كُتب له شيء؟)، وإنما مزاولة التجارة والضرب في الأرض وجلب السلع وبيعها والتعب عليها والصناعة والزراعة كلها من الأسباب التي يُجلب بواسطتها الرزق بإذن الله -جل وعلا-، وكذلك الدعايات، فقد يكون المحل مغمورًا غير مشهور لا يلتفت إليه الناس ولا يعرفونه فإذا وُجدت هذه الدعايات عرفه الناس واتجهوا إليه واشتروا بضائعهم منه، فهذه مجرد أسباب لا تؤثر في زيادة الرزق وقلَّته، مع أنه جاء في الحديث الصحيح «من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أجله فليصل رحمه» [مكارم الأخلاق للخرائطي: 269 / ويُنظر: البخاري: 2067] وهذا أيضًا من الأسباب، فمن أسباب بسط الرزق وتأخير الأجل صلة الرحم، ولا شك أن الرزق محدَّد، فماذا يعني بسط الرزق؟ وكذلك الأجل محدود {لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: ٣٤]، فماذا يعني تأخير الأجل؟
كثير من أهل العلم على أن المقصود بذلك البركة، وأن الرزق محدَّد «فإن نفسًا لن تموت حتى تستوفي رزقها» [ابن ماجه: 2143]، فالرزق محدَّد برقم معيَّن، ومع ذلك إذا وصل رحمه بورك له في هذا الرزق، وانتفع به على الوجه المطلوب، فيكون نفعُ رزقِه وانتفاعُه به وإن قلَّ أكثر من انتفاعِ غيرِه برزقِه ولو كَثُر، وانتفاعُه بسنيِّ عمره التي كُتبت له إذا وصل رحمه أكثر بكثير من انتفاع بعض من لم يصل رحمه ولو طال عمره، وهذا مشاهد، فبعض الناس دخله محدود وتجده ينفق منه بسخاء ويتصدق منه ويوسِّع على أهله وذريته بل ومعارفه بسبب صلة الرحم، وكذلك العمر، تجد من أهل العلم -بل من عامة الناس- من عمره قصير، ولكن نفعه عظيم، فمثلًا عمر بن عبد العزيز عمره أربعون سنة أو لم يُكمل الأربعين ومع ذلك آثاره في الأمة من سنة مائة إلى قيام الساعة، ويلاحظ أيضًا في أهل العلم من خلال كتب التراجم والسِّيَر مَن كان قصير العمر بالنسبة للسنين، كبير الأثر في الأمة من حيث نشر العلم بكثرة الآخذين من الطلاب، وكثرة المؤلفات، مع قِصر العمر، وذلك بسبب الصلة المنصوص عليها في الحديث الصحيح، وكذلك الرزق، فبعض الناس يكون دخله محدودًا كخادمٍ –مثلًا- أو موظفٍ صغير ومع ذلك تجده يقرض الموظفين الكبار في إدارته وعلى رأسهم مدير المؤسسة، وهذا موجود، وسببه ما جاء في هذا الحديث، وهذا يطَّرد لكن لا ينعكس، فليس معنى هذا أننا إذا رأينا شخصًا دخله كبير أو عمره طويل وإنتاجه قليل أنه لم يصل رحمه، لكن هذا مؤشر إلى أنه إذا وُجد هذا السبب أنه يُزاد في رزقه بالبركة، ويُزاد في أجله وينسأ فيه بالبركة.
ومنهم من يقول: إن الزيادة حقيقية، وأن الذي لا يزيد ولا ينقص ما في علم الله -جل وعلا-، وأن الذي يزيد بسب الصلة هو ما في علم الملائكة، وما في الصحف المكتوبة، إلى غير ذلك من الأقوال الموجودة في الشروح.
فهذه الدعايات لا تؤثّر ولا تقدح في التوكل، ولذلك جاء في الخبر «لو أنكم توكلتم على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا، وتروح بطانًا» [ابن ماجه: 4164]، فلم يقل: (تجلس في أوكارها ويأتيها رزقها) لا، بل: «تغدو...وتروح» يعني تبذل السبب، مما يدل على أن بذل السبب لا ينافي التوكل، وكذلك النبي -عليه الصلاة والسلام- بذل السبب ولبس المِغفر في فتح مكة وغيرها، فكان يلبس المغفر ويتَّقي بآلات الحرب، ويتَّقي من الحر والبرد، كغيره من البشر؛ لأن هذه أسباب، والأسباب على مذهب أهل السنة والجماعة تنفع بجعل الله -جل وعلا- النفع فيها، ولا يقال كما تقول بعض طوائف البدع: إنها تنفع بذاتها وتؤثر بذاتها، لا، إنما هي مؤثرة بجعل الله -جل وعلا- الأثر فيها، ولا يقال أيضًا بالمقابل: إن وجودها كعدمها، فالبصر –مثلًا- سبب للإبصار، وهو مُؤثر ويُرى بواسطته، لكن بجعل الله -جل وعلا- هذا الأثر فيه، ولا يقال أيضًا كما تقول بعض طوائف البدع: إن السبب لا قيمة ولا أثر له، فيجوز -على ما قالوا- أن يَرى أعمى الصين بقَّةَ الأندلس؛ لأن البصر لا قيمة له ووجوده مثل عدمه، هذا منصوص بالحرف في كتبهم، وهذا كلام يخالف المعقول، ويخالف الحس والواقع، مع ذلك يقوله بعض طوائف البدع ويقررونه في كتبهم، مع أن فيهم أذكياء ويمر عليهم مثل هذا الكلام -والله المستعان-، في المقابل بعض الطوائف تقول: إن الأسباب مؤثرة بذاتها ولا تتوقف على تأثير الله، بأن يكون جَعْل التأثير فيها من الله -جل وعلا-، وهما على طرفي نقيض، والخير في الوسط، وهو قول أهل السنة والجماعة أن الأسباب مؤثرة لكن بجعل الله -جل وعلا- الأثر فيها، ولذلك أحيانًا يتأخر الأثر مع وجود السبب، فتجد الإنسان في الأيام الشاتية يلبس من الملابس الشيء الكثير مما لو لبس نصفه لكفاه، ومع ذلك يصاب بالبرد ويمرض، وقد يموت مع وجود هذا السبب.