القلب والعقل

قال -صلى الله عليه وسلم-: ((ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب))، بعضهم يمثل القلب بالملِك، والأعضاء بالرعية، وأن هذا الملك إذا أمر هذه الرعية امتثلت.

والقلب الذي هو بهذه المثابة هو محل العقل الذي هو مناط التكليف. وهذه مسألة كبرى، مسألة محل العقل من البدن مسألة كبيرة جداً، ومعضلة من المعضلات، فالنصوص الشرعية كلها تخاطب القلب، مع أنها تقرر أن مناط التكليف العقل، قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((رفع القلم عن ثلاثة: والمجنون حتى يعقل...))، فهناك ارتباط بين القلب والعقل لا محالة. يعني: من نظر إلى النصوص جزم بهذا وقطع به بدون تردد؛ ولذا يقرر أهل العلم أن محل العقل القلب. ويشكل على هذا من حيث الواقع، أنه لو نُقِل قلب من إنسان إلى إنسان ما تأثر المنقول إليه بأفكار المنقول منه، ولو تعرض الرأس لخلل تأثر العقل وإن كان القلب سليماً، فاعلاً، فهذا إشكال. لكن هل من أجل هذا الإشكال نقضي على النصوص التي منها قوله -تعالى-: {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَاَ} [سورة الأعراف:179]؟ هل يمكن أن نقضي على مثل هذا وعلى الجمع بين النصوص التي تخاطب القلب، وتجعل مناط التكليف العقل مما يدل على أنهما شيء واحد، أو أحدهما ظرف، والثاني مظروف، كل النصوص على هذا؟ هل نقضي عليها بمثل قولهم: "إن القلب قد يكون سليماً والعقل مختلا أو العكس؟ قد يكون القلب سقيماً من الناحية الطبية، والعقل سليما الذي هو مناط ومتعلق التكاليف الشرعية. هل نقول: إن العقل شيء مستقل استقلالاً تامًّا -كما يقوله الأطباء- عن القلب الذي هو المضغة؟ حتى قرر بعضهم: أن هناك قلبا متعلقا بالبدن، قلب محسوس، وهو المضغة، وقلب متعلق بالشعور، -وهو المعقول اللامحسوس- المتعلق بالدماغ. هذا يقوله بعضهم.

لكن الحديث يقول في الجسد، ومضغة يعني: محسوسة، وهذا واقع القلب المعروف المعلق في داخل القفص الصدري. يعني: إذا فتح الرأس يوجد فيه مضغة تعرف بالقلب؟ بإجماع الأطباء لا؟ فهذا الحديث الصحيح المتفق عليه يقرر أن القلب الذي يتعلق به الصلاح والفساد هو هذه المضغة؟ وهل مع هذا البيان ما يُحتاج إليه من بيان، مع النصوص الأخرى الواردة في الكتاب والسنة؟ لا. يعني: وإن قلنا بقول -هو رواية عن الإمام أحمد- أن له اتصالا بالدماغ، محله القلب وله اتصال بالدماغ، بمعنى: أنه يتأثر بتأثر الدماغ وبذلك تجتمع الأقوال، ويكون المحل الأصلي، والمقر الأصلي للعقل هو القلب، ويكون هناك مؤثر آخر وهو الدماغ. وذلك كما يتركب الكهرباء من السالب والموجب، ولا يمكن أن يقوم الكهرباء بواحد منهما. وعلى كل حال القول المحقَّق أن العقل محله القلب كما يقرره عامة أهل العلم.