وليمة العرس جاء الأمر بإجابتها «وإذا دعاك فأجبه» [مسلم: 2162]، وجاء أيضًا «إذا دعي أحدكم، فليجب، فإن كان صائمًا، فليصلِّ، وإن كان مفطرًا، فليطعم» [مسلم: 1431]، بعض العلماء قال: إن هذا الأمر يدل على الوجوب، وأنه لا بد أن يأكل ولو لقمة واحدة امتثالاً لهذا الأمر، ومنهم من يقول: إن هذا أمر إرشاد إن أكل فهو الأفضل، وإن لم يأكل فمجرد إجابة الدعوة كافية، لكن إذا كان عدم الأكل يوقع في نفس الداعي شيئًا فلا شك أن الأكل حينئذٍ يتعين؛ لئلا يقع في نفس أخيه شيء فيجد في نفسه عليه، والإسلام لا شك أنه يأتي بما يؤلف القلوب لا بما ينفرها، وعلى كل حال الحديث فيه الأمر بالأكل، وهو نظير الأمر بالأكل من الهدي والأضاحي {فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير} [الحج: 27]، والظاهرية يحملون هذا الأمر على الوجوب، وجماهير أهل العلم يحملونه على الاستحباب، لكن يزيد ما عندنا في مسألة ما يقع في قلب الداعي أنه إذا حضر المدعو ولم يأكل ذهبت به الظنون كل مذهب: لماذا لم يأكل؟ قد يكون متورعًا عن طعامي، قد يكون شاكًا في دخلي وكسبي...، على كل حال مثل هذه الأمور الشرع يأتي فيها بالتأليف لا بالتنفير، فإذا حضَرْتَ فكل، اللهم إلا إذا كان كسبه خبيثًا لا ترى أن تدخله في جوفك، فهذا الأمر إليك، أما إذا كان الكسب طيّبًا فالمتجه القول بلزوم الأكل.
ومما قد يحدث أنه أحيانًا يدعى الشخص في ليلة واحدة من اثنين أو أكثر، فهذا إن أمكنه إجابة الجميع فهو المتعين، وإذا لم يمكن بدأ بالأقرب لا سيما إذا كان يترتب عليه صلة أو قطيعة، فإن تساووا في القرب بدأ بالأسبق ممن دعاه؛ لأنه أحق، وعلى كل حال في مثل هذه الأمور تُلاحَظ المصالح والمفاسد مع الاعتذار من الطرف الثاني، فإذا تمكن من إجابة قريبه وإن سبقه غيرُه فالقريب أولى، ويعتذر من الثاني ويقول له: إن قريبنا فلان، أخي، أو ابن عمي...، عنده مناسبة في الوقت نفسه. فإن أمكنت إجابة الجميع فهو الأصل، وإن لم تمكن رجَّح بالمرجحات الشرعية.
وإن أمكنت إجابة الجميع والحضور لدى الجميع، لكنه لا يتمكن من الأكل عند الجميع فإنّه يحضر عند الأول مدة تُطَيِّب خاطره، ثم يعتذر منه ويقول: أنا عندي موعد ثانٍ. فيخرج من عنده إلى الموعد الثاني، وهكذا، وهذا يحصل كثيرًا في أيامنا الأخيرة، فكثير من المدعوين يحضرون ثم يعتذرون والداعي لا يجد في نفسه شيئًا إذا اعتُذِرَ منه.