معنى قول الله تعالى: {وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين}، وسبب استثناء الخاشعين

السؤال
ما مراد الله تعالى بقوله: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ}؟ ولماذا استثنى الخاشعين؟
الجواب

الخشوع في الصلاة والخضوع لا شك أنه هو لُبُّ الصلاة، وقد يكون الخشوع -خشوع القلب وخشوع الجوارح وخضوعها- في الصلاة وغيرها، فهذه الصفة صفة أولياء الله –جلَّ وعلا-، والخشوع -كما يقول أهل العلم- هو لُبُّ الصلاة، وهو دليلٌ على الاستحضار، مما يستحق به المصلي الأجر الكامل أو ما يقرب منه، فهذا الخاشع المستحضِر لصلاته المتقرِّب بها إلى الله –جلَّ وعلا- لا شك أن الصلاة خفيفة عليه، ويُقبل عليها بقلبه وقالبه، ويلجأ إلى ربِّه ويضرع إليه، فتكون عليه خفيفة، بخلاف غير الخاشع الذي يَحضر إلى الصلاة ببدنه فقط، فإن هذا تكون عليه الصلاة ثقيلة.

وشواهد الأحوال من المصلين واضحة وظاهرة، فبعض الشباب يستثقل الصلاة ولو كانت خفيفة، فيدخل في الصلاة وهو غافل ببدنه فقط، وقلبه يجول في كل مكان، فهو ينتظر السلام ويَعُدُّ الركعات، والمسألة كلها دقائق! بينما تجد المصلي الآخر حاضر القلب ولو كان شيخًا كبيرًا، يتمنى أن لو طالت الصلاة، بل عرفتُ شيخًا ناهز المائة ويُصلي صلاة التهجد خلف إمامٍ قراءته متوسطة، ويُصلي في التسليمة بجزءٍ كامل في صلاة التهجد، وهذا الشخص يُناهز المائة وهو معتمدٌ على عصاه يُصلي واقفًا، وفي يوم من الأيام خفَّف الإمام التسليمة الأخيرة، فنقص عن الجزء شيئًا يسيرًا، فلما سلَّم أقبل إليه هذ الشيخ الكبير يلومه: لماذا خفَّفتَ؟ العجلة على ماذا؟ بأسلوبه يقول: (يوم جاء وقت الحاجة واللزوم آخر الليل خفَّفتَ!)، وبعض الشباب يجلس أو يخرج من المسجد! وكم سُئلنا من بعض الأئمة عن آية الدَّين، وهل تجوز قسمتها، والأئمة شباب ويُصلي خلفهم شباب!

فحقيقةً الخشوع والإقبال على الصلاة بالقلب والقالب هو الذي يُخفِّفها، لا سيما وأن هذا المُقبل على ربِّه الماثل بين يديه يرجو ما عند الله، ويُريد أن يزيد؛ لتزداد حسناته، ويكون له من صلاته الأجر الوافر، بينما الذي يأتي إلى الصلاة وهو غافل ليس له من صلاته إلا ما عقل، وتجده يستثقلها، والنبي –عليه الصلاة والسلام- يقول: «يا بلال، أرحنا بالصلاة» [أبو داود: 4986]، ولسان حال كثير من الشباب -هدانا الله وإياهم- يقول: أرحنا منها؛ ولذلك تكثر الشكاوى، وكثُرت الصلاة على الكراسي، ويجلس الشخص ولو لم يكن هناك حاجة، مع أن النافلة تصح من جلوس، لكن الأجر أقل: على النصف من صلاة القائم.

 

ولا شك أن هذا تفريط، وثبت أن التعامل مع الله –جلَّ وعلا- بالقلب لا بالبدن؛ ولذلك الشاب يتذمَّر ويُراوح بين رجليه والصلاة خفيفة، بينما الشيخ الكبير المقبل على صلاته، وهذا الوصف ليس بمطَّرد، أعني: كونه شابًا أو شيخًا هذا ليس بمطَّرد، فقد رأينا من الشباب مَن يضرب أروع الأمثلة في طول القيام -وهو القنوت- وما أشبه ذلك، ورأينا من الشيوخ من يُصلي تسليمة أو تسليمتين ويخرج، وبعضهم يتذمَّر، فالوصف غير مطَّرد، لكنه كثير في الشباب –هدانا الله وإياهم- عدم التحمل، وبالنسبة للشيوخ الذين عاشوا الأيام قبل انفتاح الدنيا وعاصروا الحياة تجده يتحمَّل أكثر من الشباب في هذا الباب، والله المستعان.

نعود إلى تفسير الآية وهي قوله –جلَّ وعلا-: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} [البقرة: 45]، الضمير يعود على الصلاة، {لَكَبِيرَةٌ} يعني شاقة، لماذا؟ لأن الجنة حُفَّتْ بالمكاره، وهذه الصلاة من طُرق الجنة، فهي في الأصل شاقة، لكن يُستثنى من ذلك أهل الخشوع الذين يُقبلون على الله ويُقبلون على صلاتهم بقلوبهم متلهفين لهذه الصلاة، فتكون خفيفةً عليهم، ويودون أن لو مكثوا في صلاتهم وقتًا أطول، والله المستعان.

أما كيف يصل المرء إلى التلذُّذ بالصلاة والخشوع فيها، وعدم الالتفات إلى مسألة الطول، وإنما يكون نظره وهمه كله في هذه الصلة بينه وبين ربه؟

فالمسألة تحتاج إلى جهاد، والعبادات كلها مما يُوصِل إلى الجنة وقد حُفَّتْ بالمكاره، هذا الأصل، ثم بعد ذلك إذا جاهد نفسه وثابر بصدقٍ وإخلاص ولجأ إلى الله –جلَّ وعلا- صارت العبادات يُتلذَّذ بها.

وقال بعض السلف: إنه جاهد نفسه عشرين سنة في قيام الليل، ثم تلذَّذ به عشرين سنة، يعني إلى أن مات وهو يتلذَّذ، ونرى هذا في شيوخنا الذين عاصرناهم ومَن قبلهم في بذل العلم، تجد العالِم يجلس غالب وقته للتعليم متلذِّذًا بذلك، يرجو ثواب الله في تعليم الناس؛ ليكون له مثل أجورهم، وبعضهم يُساهم في التعليم، لكنه عليه ثقيل، فمثل هذا لا يزال في مرحلة المجاهدة، والأول تجاوز مرحلة المجاهدة، وبدأ في التلذُّذ.

ويُذكر عن الطيبي شارح (المشكاة) والمُحشِّي على (الكشاف) وغيرها من المؤلفات أنه يجلس من صلاة الفجر إلى صلاة الظهر للتفسير، وبعد الظهر إلى العصر لـ(صحيح البخاري)، ومن صلاة العصر إلى غروب الشمس في كتابٍ آخر -يُستثنى من ذلك الضروريات، لكن هذا الأصل- وبعد المغرب لدرسٍ رابع إلى أن يؤذِّن العشاء، ومات وهو ينتظر صلاة الظهر بعد الفراغ من درس التفسير، هل مثل هذا يُطاق أو يُتصوَّر؟!

وسمعنا من يُصلي في اليوم والليلة أعدادًا كبيرة من الركعات، وسمعنا مَن يقرأ من السلف وغيرهم ممن جاء بعدهم القرآن في يوم، هذا يحتاج إلى مجاهدة، فلا يأتي مباشرةً لكن الإنسان يُمرِّن نفسه على الطاعة، ويقصد الخير ويُخلص لله –جلَّ وعلا- ويُعينه على ذلك، والله المستعان.