كيفية طلب العلم الشرعي والتدرُّج فيه

السؤال
فضيلة الشيخ: كثُرتْ الأسئلة عن كيفية طلب العلم، وكيفية التدرُّج في هذا العلم، وما الكتب المصنفة فيه. وكثير من الإخوة الأطباء يذكر العوائق، ومن ذلك أن الدوام الرسمي ينتهي الساعة الرابعة، ويسألون أسئلة كثيرة حول هذا الأمر، وجدوى تفريغ بعض الأشرطة مثل: أشرطة سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله-، وسماحة الشيخ محمد بن عثيمين -رحمه الله-، فنرجو التفضُّل حول هذه الاستفسارات.
الجواب

الأمر -ولله الحمد- في غاية اليسر والسهولة، لكن لا يعني أن الأطباء يتركون عملهم ويتَّجهون بكليتهم إلى دراسة العلم الشرعي، وأنا أقول: الأمر تيسَّر كثيرًا عن السابق، ففي السابق لا يوجد وسيلة للتحصيل أبدًا إلَّا أن تجلس بين يدي الشيوخ، أما الآن فبإمكانك أن تجلس بين يدي الشيوخ في حال الضرورة في علم لا تُحسن التعامل معه مع الشريط أو مع الكتاب، لكن مع ذلك في تصوري أن العلم ميسَّر بالنسبة لمن يعمل في مجال الطب على وجه الخصوص، أولًا: لأن من يعمل في هذا المجال من الأطباء هم في الأصل مؤهَّلون، فهم من النخبة ممن يتعلَّم القراءة والكتابة ويتدرَّج في التعليم؛ لأنه يُطلب لمن يريد الدخول في هذا المجال نسب عالية، فالتأهيل الغريزي موجود، فهل يمكن أن يوجد طبيب ما يفهم؟ ما يمكن؛ لأن الأصل أن الشرط الأول من شروط القبول في هذا المجال أن يكون نسبته عالية جدًّا، ولا يمكن أن يحصل على نسبة عالية إلا إذا كان متَّصفًا بالأسباب الغريزية التي هي المقومات الأولى للتحصيل، كالحفظ والفهم، نعم هم لم يتَّجهوا إلى العلم الشرعي، فإذا ناظروا بعضَ طلاب العلم، وإن كانوا دونهم في الفهم والحفظ، فلا شك أن مَن طلب العلم الشرعي يفوقهم في هذا الباب، لكن مع ذلك هم مؤهَّلون لأن يحصِّلوا العلم، فيبدؤوا بالكتب الصغيرة؛ لأن الكتب صُنِّفتْ مِن قِبل أهل العلم على طبقات، تبعًا لطبقات المتعلمين، فالمبتدئون لهم كتب، وإذا وُجد طبيب استشاري في الخمسين من عمره أراد من الآن أن يطلب العلم الشرعي، فلا يأنف أن يكون طالب علم مبتدئ، وأيش المانع؟ فيقرأ في كتب الصغار؛ لأنه إن لم يتنـزَّل ويتواضع ويعرف قدر نفسه لن يتعلم؛ لأن هذا العلم لا يُدركه مستحيٍ ولا مستكبر؛ لأن بعضهم يقول: (أنا استشاري عمري خمسون أو ستون، فكيف أجلس مع طلاب صغار؟)، نقول: تجلس يا أخي، وأنت جلستَ من أجل أيش؟ من أجل شرف الدنيا والآخرة، فعليك أن تتحمَّل، لكن في مجال آخر أنت إمام في بابك، فهذا لا يعني أنك صغير في كل المجالات، لكن مع ذلك تواضع واطلب العلم من الكتب الصغيرة، مع الطلاب الصغار، ثم بعد ذلك تنتقل إلى كتب الطبقة الثانية من المتوسطين من طلاب العلم، وبهذا تتدرَّج، أما شخص يقول: (أنا استشاري وما عندي استعداد أن أقرأ في متون صغيرة، بل أريد الكتب الكبيرة)، نقول: لا يا أخي، لن تُدرك شيئًا، فإنك لا تستطيع أن تصعد السطح بدون سلم، فلا بد أن تتدرَّج على ما اختطه أهل العلم لكيفية التحصيل، فتبدأ بكتب الصغار -المتعلمين المبتدئين-، ثم المتوسطين، ثم المتقدمين المنتهين، إلى أن تصير عالمًا.

 وإذا رتَّب الإنسان نفسه وجهده، وأتى العلمَ من أبوابه، واتَّصف بما يُعينه على طلب العلم من التواضع والحرص، فإنه -بإذن الله- سيُدرك العلم، لكن لا بد من التواضع، فهذا العلم لا يُدركه مستكبر إطلاقًا {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ} [الأعراف: 146]، فالذي يتكبر لا يُدرك العلم.

وقد يقول قائل: (إننا نرى بعض العلماء ينهر الناس، وقد يدعوه شخص ولا يلتفت، أو يُسلِّم عليه ولا يرد عليه بكلام يسمعه، فهل هذا متكبر أو لا؟)، الله أعلم، الكبر موطنه القلوب، وله علامات تدل عليه، وله آثار تظهر على الجوارح، لكن ما يُظنُّ بأهل العلم مثل هذا، وإذا وُجد مَن تحقَّق فيه هذا الوصف الذي هو الكِبر، فهذا ليس بعالم شاء أم أبى.

الأمر الثاني: ألَّا يُعجَب بنفسه، فأن يكون الإنسان غنيًّا فهذا ليس بعيب ولا ذم، لكن العيب أن يرى نفسه أنه قد استغنى، {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6-7]، ومثل هذا ليس بغريب أن يكون استشاريًّا كبيرًا، لكن العيب أن يرى نفسه أنه وصل إلى هذا الحد الذي لم يبلغه غيره، فهذا كِبر مقيت مذموم، وعجب بالنفس.

والعجبَ فاحذرهُ إنَّ العجبَ مجترفٌ
 

 

أعمالَ صاحبهِ في سيلهِ العرمِ
 

فالعجب يجترف ويأكل الحسنات -نسأل الله السلامة والعافية-، وقل مثل هذا في جميع الأبواب، فعلى الإنسان أن يتواضع، ويأتي العلم من أبوابه، ويحرص ويسأل عما يُشكل عليه، ويحضر الدورات المكثفة، فلا مانع أن يأخذ الإنسان إجازةَ أسبوعٍ؛ لوجود دورة مكثفة في متون مبادئ العلم، وأسبوع ما يضيره ولا يُخل بعمله، فعليه أن يحرص إذا وَجد مثل هذه الفرص، ووجدنا في صفوف المتعلمين في الدورات كثيرًا من الأطباء، وحقيقة إذا قلت: إن الأطباء أقرب من غيرهم إلى تعلُّم العلم الشرعي، فليس ببعيد؛ لأنهم رأوا من خلال مهنتهم ما يُبهر عقولهم من آيات الله -جل وعلا- فيما يتعلق بمجال عملهم، فأحبوا أن يكونوا على صلة بالله -جل وعلا-، والصلة لا تتقوى إلا من خلال كلامه -عز وجل-، وكلام نبيه -عليه الصلاة والسلام- اللذين هما مصدر العلم الشرعي.