مسائل عن الإجازات في القرآن الكريم، وما يحتفُّ بها من أعمال

السؤال
قد انتشر في السنوات القريبة مسألة إجازات القرآن الكريم في مدارس التحفيظ التابعة للقسم النسائي، وقد جرت العادة أن يكون للختم برنامج معيَّن كالتالي:
أولًا: يُدعى أهل الطالبة التي ستُجاز، وأهل المدرسة، وربما غيرهم لحضور الختم، وهم يقصدون بركة الدعاء حين الختم.
ثانيًا: تقرأ الطالبة من أواخر المصحف، وغالبًا ما يكون من سورة الكوثر، ثم بعد انتهائها من سورة الناس تبدأ بالفاتحة، ثم تقرأ حوالي خمس آيات من سورة البقرة، ثم تبدأ بالدعاء، والحاضرات يُؤَمِّنَّ، ومن الحاضرات مَن ترفع يديها حال الدعاء، ثم تأخذ المُجيزة بقراءة السند، ثم تُوزَّع بعض المأكولات والمشروبات.
وبعد البحث وجدنا أنه لم يصح حديث في فضل الدعاء عند الختم، إلَّا حديثًا واحدًا عن أنس -رضي الله تعالى عنه- رواه الدارمي: "وكان أنس بن مالك -رضي الله عنه- إذا ختم القرآن جمع أهله ودعا"، وكذلك الحديث الذي يعتمدون عليه في مسألة الرجوع بعد الختم إلى التلاوة من أول المصحف، ويُعرف بحديث الحَالِّ المُرتَحِل، رواه الترمذي، وضعَّفه المحقِّقون، كالشيخ الألباني -رحمه الله-، والشيخ بكر أبو زيد، فنريد أن نعرف حكم البرنامج المذكور نقطة نقطة.
الجواب

أولًا: مسألة الإجازة في القرآن لا شك أنها شهادة من الشيخ لمن قرأ عليه وحفظ عليه، ومثلها الإجازة في الحديث، وهي طريقة متَّبعة عند أهل الحديث، وعند أهل الله الذين هم أهل القرآن، لمن أخذه بحقِّه، والفائدة منها هي مجرد إبقاء خَصيصة هذه الأمة التي هي اتصال الأسانيد من آخرها إلى نبيها -عليه الصلاة والسلام-، هذه هي الفائدة من حصول الأسانيد، وأما ما في الشرع من كتاب وسنة فهو ثابت بدون هذه الأسانيد المتأخرة، فبعد أن دُوِّن القرآن وجُمع بين الدفتين، صار الناس يُجيز بعضهم بعضًا به؛ للشهادة بأن هذا المُجاز قد حفظ القرآن وأتقنه على قراءة، أو على قراءات، على شيخ بعينه، أو على عدة شيوخ، المقصود أن هذه شبه شهادات، لكنها لا قيمة لها من حيث الثبوت وعدمه، فالقرآن ثابت بدونها، وقل مثل هذا في السنة، فالمُعوَّل كان على الأسانيد في أول الأمر، لكن لمَّا دُوِّنت السنة وحُفظتْ في دواوين الإسلام من صحاح، ومعاجم، ومسانيد، وسنن، ومصنفات، وغيرها، ما جاء بعدها من أسانيد لا تزيدها قوة، ولا تضيرها ولا تؤثِّر فيها ضعفًا، وإنما يحرصون لمجرد إبقاء سلسلة الإسناد الذي هو خَصيصة هذه الأمة.

إذا عرفنا هذا، فطالب العلم يحرص على أن يحصل على إسناد من شيخ يَشرُف بالانتساب إليه، لا ما يفعله كثير من الناس، من أنه يلهث وراء الأسانيد ولو كانت عن أناس غير مَرْضِيِّين؛ لأن بعض مَن لديه بعض الأسانيد عندهم مخالفات عقدية، ومخالفات سلوكية، وعملية، والناس يذهبون إليهم، ويأخذون هذه الأسانيد؛ ليقال: إن عنده إجازة، أو إجازتين، أو عشر إجازات، أو ما أشبه ذلك، أو إن عنده ثَبْتًا مملوءًا بالإجازات، فإن كانت الفائدة المرجوَّة من هذا التعب واللهث وراء هذه الإجازات مثل هذا، فلا شك أنها حقيقة مُرَّة تدلُّ على خدش في الإخلاص، لكن إذا أُخذتْ عن أهل العلم الموثوقين الذين يُتشرَّف بالانتساب إليهم، فهذه سنة مَن سَلَف، فطالب العلم تكون لديه إجازة، أو إجازتان، ولا يُكثر منها، بحيث تكون على حساب غيرها، على أن المُجاز ينبغي أن يكون أهلًا للإجازة، ولذا ابن عبد البر -رحمه الله- اشترط في صحة الإجازة ألَّا تكون إلِّا لماهرٍ بالصناعة، وأما أن يُجاز الناس كلهم، فيُجاز الفسَّاق، ويُجاز العوام، و(أجزتُ لمن قال: لا إله إلا الله)، و(أجزتُ لعموم المسلمين)، و(أجزتُ لأهل الإقليم الفلاني)، فالإجازة في أصلها فيها ضعف في الرواية بها، فكيف إذا اقترن مع هذا الضعف هذا التوسُّع الشديد؟! المقصود أن الإجازة بالنسبة لمن يستحقها، ولمن تُؤخذ عنه من أهل التوثُّق وممن يُشرَف بالانتساب إليه، سنة مَن قد سَلَف.

إذا عرفنا هذا، فبقي ما يَحتفُّ بالإجازة من أعمال، فإذا قرأ الطالب أو الطالبة على الشيخ القرآن كاملًا، وضبطه وأتقنه على قراءة معيَّنة، أو على قراءات، أجازه الشيخ، إلى هذا الحدِّ لا إشكال فيه، وقل مثل هذا في السنة. و(دعوة أهل الطالبة التي ستُجاز، وأهل المدرسة، وربما غيرهم لحضور الختم)، إن كان المقصود بذلك حثَّ الهمم والاقتداء بهذه الطالبة التي أتمَّتْ حفظ القرآن وأتقنتْه، فهذا لا بأس به -إن شاء الله تعالى-؛ لأن الأمور بمقاصدها، وإن كان المقصود بذلك حفلًا وقدرًا زائدًا على ذلك، وقد يُزاول فيه بعض الأمور التي لا تَحسُن ولا تُحمد عقباها، فمثل هذه تُمنع؛ لأن المسألة مسألة علم يُراد به ما عند الله -جل وعلا-، وما عند الله لا يُنال بسخطه. (وهم يقصدون بركة الدعاء حين الختم)، لا شك أن المُؤَمِّن على الدعاء داعٍ، وله نصيبه من هذه الدعوة.

(ثانيًا: تقرأ الطالبة من أواخر المصحف، وغالبًا ما يكون من سورة الكوثر)، إذا كان المراد بذلك معرفة مدى إتقان هذه الطالبة، ومدى تجويدها وضبطها للقرآن، فلا بأس، وإلَّا فالأصل أنها أتمَّت القرآن قبل ذلك على مَن يريد إجازتها، وإن كانت قد وقفتْ قبل ختم القرآن عند هذه السورة، وبدأت بها عند هؤلاء الحضور؛ من أجل دعاء الختم؛ لأنه يكون بعد الفراغ من سورة الناس -هذا على تقدير ثبوته- فلا بأس، لكن لو وقفتْ على سورة الناس قبل ذلك عند المعلمة، ثم بعد ذلك أعادتْ، فما صادفت الختم؛ لأن الختم حصل قبل ذلك عند قراءة سورة الناس على المعلمة، لكن إن وقفتْ على هذه السورة، ثم بدأتْ بها عند الحضور، وقرأتْ ما بعدها، ثم دعتْ دعاء الختم، كما هو المأثور عن أنس -رضي الله عنه-، فلا بأس إن كان بهذا القصد.

تقول: (ثم بعد انتهائها من سورة الناس تبدأ بالفاتحة، ثم تقرأ حوالي خمس آيات من سورة البقرة، ثم تبدأ بالدعاء)، هذا عمدته حديث الحَالِّ المُرتَحِل، وهو حديث مضعَّف عند جماهير العلماء، على أنها إذا قرأت من آخر القرآن، ووصلتْ إلى سورة الناس، ثم قرأت الفاتحة وخمس آيات من سورة البقرة، ثم دعتْ، فما صار الدعاء عند ختم القرآن، وإنما يتحقَّق الدعاء عند ختم القرآن الوارد في خبر أنس بن مالك -رضي الله عنه- عند الفراغ من سورة الناس.

ومثل ما أُشير في السؤال: (وبعد البحث وجدنا أنه لم يصح حديث في فضل الدعاء عند الختم، إلَّا حديثًا واحدًا)، أولًا: الحديث ليس بمرفوع، بل موقوف من فعل أنس -رضي الله تعالى عنه- "كان أنس إذا ختم القرآن، جمع ولده وأهل بيته، فدعا لهم" [سنن الدارمي: 3517]، وجاء عن بعضهم أن «عند ختم القرآن دعوة مستجابة» [المعجم الكبير للطبراني: 647 / وشعب الإيمان: 1920]، المقصود أن مَن اقتدى بهذا الصحابي الجليل في مثل هذا، ودعا عند ختم القرآن فلا شيء عليه، ولو حضره أُناس وأمَّنوا على دعائه فلا بأس به -إن شاء الله تعالى-.

تقول: (ثم تبدأ بالدعاء، والحاضرات يُؤَمِّنَّ، ومنهنَّ مَن ترفع يديها حال الدعاء)، على كل حال رفع اليدين في الدعاء أمر معروف، ومستفيض، وجاءت فيه الأحاديث المتواترة في مواطن كثيرة: القوليَّة، والفعليَّة، المقصود أنه لا بأس برفع اليدين في الدعاء، لا سيما خارج الصلاة، (ثم تأخذ المُجيزة بقراءة السند)، أي: على العادة، تقرأ إسنادها عن شيخها، عن شيخه، إلى آخر الإسناد، إلى الحضرة النبوية، (ثم بعد ذلك تُوزَّع بعض المأكولات والمشروبات)، هذه أمور لا تُعرف عند سلف هذه الأمة، اللهم إن كانت من باب إكرام مَن حضر، فلا بأس به -إن شاء الله تعالى-، أما إذا كان اقترانها بالختم وأن الختم لا يتمُّ إلَّا بهذا، فلا.