نجاسة الخمر، ونجاسة الكافر

السؤال
ألا نقول في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90]: إن هذه نجاسة معنويَّة، بدليل قوله: {الأَنصَابُ}، وهي حجارة طاهرة، فنجاستها معنويَّة، كذلك {الْمَيْسِرُ} و{الأَزْلاَمُ}، ومن ثمَّ نقول: تكون نجاسة الخمر معنويَّة لا حسيَّة، بل تكون طاهرة حسيًّا على الأصل؟
وكذا في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]، أليست نجاستهم معنويَّة؟
وكون المسلم لا ينجس مأخوذ من مفهوم قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}، مع أن نجاسة الكافر ليست عينيَّة، وذكرتم أن ميتة الإنسان ليست بنجسة، فهل يدخل الكافر في ذلك؟
الجواب

 بالنسبة لحديث: «لا تُنجِّسوا موتاكم» [سنن الدارقطني: 1811]، فالمقصود به إثبات طهارة المسلم حيًّا وميْتًا، ومفهومه -مفهوم المخالفة فيه- إثبات نجاسة الكافر غير المسلم حيًّا وميْتًا.

وقوله -عليه الصلاة والسلام-: «إن المؤمن لا يَنْجُس» [البخاري: 283] -أيضًا- كذلك، فمنطوقه في طهارة المسلم، ومفهومه في نجاسة الكافر. إضافة إلى قول الله -جلَّ وعلا-: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]. فالمقصود الأول من الحديث إثبات طهارة المؤمن، وطهارة المؤمن يدلُّ لها الحديث المختلَف في رفعه ووقفه: «لا تُنجِّسوا موتاكم»، ويدلُّ لها -أيضًا- حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: «إن المؤمن لا يَنْجُس»، ويدلُّ لها -أيضًا- مفهوم الآية. لكن هل في هذا تعرُّض للكافر ونجاسته: هل هي معنويَّة، أو حسيَّة؟ ليس فيه ذلك، إنما المقصود من إيراد الحديث أن المؤمن -أو المسلم- لا يَنْجُس: «لا تُنجِّسوا موتاكم»، «إن المؤمن لا يَنْجُس»، {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}، فهل الاستدلال بمفهوم الآية على طهارة المؤمن فيه إشكال؟ ما فيه إشكال، لكن الكلام في فهم معنى النجاسة المنصوص عليها في الآية، وهي -أيضًا- النجاسة المفهومة من الحديثين: هل هي نجاسة حسيَّة، أو عينيَّة، فمِن أهل العلم مَن يقول: إنها حسيَّة، بمعنى أنه لو صافحك، أو مسستَ شيئًا من بدنه ويدك رطبة، فإنك تغسل يدك، وهذا هو الأصل في النجاسة في نصوص الكتاب والسُّنَّة؛ لأن الشرع إنما يَرد لبيان مصطلحاته، وقد يمنع من إرادة المعنى الشرعي مانع من أدلَّة أخرى، وحينئذٍ نلجأ إلى الحقائق الأخرى، فإما أن نقول: هذه حقيقة لُغويَّة، أو نقول: حقيقة عُرفيَّة. فالنجاسة المعنويَّة هل هي حقيقة شرعيَّة، أو عُرفيَّة؟ فإذا نظرنا في حديث: «لا تُصلُّوا إلى القبور» [مسلم: 972]، والنهي عن الصلاة في المقبرة، هل هذا لنجاسة المقبرة، حتى يقول القائل من أهل العلم: إنه يُفرَّق بين المقبرة المنبوشة والمقبرة غير المنبوشة؛ لأن المقبرة المنبوشة اختلطتْ بدماء الأموات وصديدهم وقَيْحهم وما يخرج منهم، فتكون نجسة، وأما غير المنبوشة؛ فتكون طاهرة، وعلى هذا لو فُرشتِ المقبرة تصح الصلاة عليها؟ نقول: لا، ليس المقصود المنع للنجاسة الحسيَّة، بل المنع من أجل النجاسة المعنويَّة: نجاسة الشرك وما يؤدِّي إليه. وما يكون ذريعة ووسيلة إلى الشرك؛ نعم، نَجِس، لكنها نجاسة معنويَّة.

وعلى هذا فالجمهور على أن الكافر نجس نجاسة معنويَّة، وليست نجاسة حسيَّة، وكلامنا في درس الأمس ليس المقصود به الكافر أبدًا، وإنما المقصود به إثبات طهارة المسلم حيًّا وميْتًا، وهو الذي يدلُّ عليه الحديث، ويدلُّ عليه منطوق حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، ومفهوم الآية.

أما بالنسبة للخمرة: فهل هي طاهرة، أو نجسة؟ ذكرنا أن عامة أهل العلم على القول بنجاستها، حتى أصحاب المذاهب الأربعة وأتباعهم كلهم يقولون بنجاستها، ومن أهل العلم مَن يرى طهارة الخمرة، وأن كونها رجسًا معنويٌّ وليس بحسيٍّ، وذكرنا هذا، وهذا الكلام هو السبب في الإفاضة والاستطراد الذي ذكرناه في مخالفة طالب العلم للأئمة الأربعة، وهل له أن يجرؤ على ذلك، أو لا يجرؤ، بل يتَّهِم نفسه بالقصور والتقصير، فإنه يوجد للأئمة أدلَّة لم نطِّلع عليها؛ لقصورنا، أو تقصيرنا، أو له أن يعمل بما بلغه من الأدلة، وعلى هذا لو ورد في مسألة ما نصٌّ متقدِّم، ونصٌّ متأخِّر، ولم يبلغه الناسخ، فعمل بالمنسوخ، ولنفترض أن مِن أهل العلم مَن قال: الحكم منسوخ، ولم يَذكر الناسخ، وبحثنا ولم نجد ناسخًا، ثم طالب العلم يقول: (أنا والله ما عندي إلا النصُّ المنسوخ، فأعمل بالمنسوخ حتى يبلغني الناسخ)، فهل له ذلك، أو ليس له ذلك؟ أما في وقت التنزيل فقبل بلوغ الناسخ مسوِّغٌ للعمل بالمنسوخ، بدليل أن أهل مسجد قباء صلَّوا إلى بيت المقدس صلاتين بعد نزول الناسخ، لكنه لم يبلغهم، فلما بلغهم امتثلوا، ولم يؤمروا بالإعادة [البخاري: 403]، هذا قبل بلوغ الناسخ، لكن هل نقول بمثل هذا في وقتنا هذا، وأن للإنسان أن يعمل بالمنسوخ حتى يبلغه الناسخ، مع أنه أُشير في كلام أهل العلم إلى أن الحكم منسوخ، ولم يُبدوا الناسخ؟ وعلى هذا يُقرِّر أهل العلم أن الذي لا يعرف الناسخ من المنسوخ ليس له أن يفتي، حتى يعرف الناسخ من المنسوخ، ووقف علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- على قاصٍّ، فقال له: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا، قال: هلكتَ وأهلكتَ.

وإذا قلنا بالتفقُّه من الكتاب والسُّنَّة على الدعوى التي دعا إليها قبل ثلاثين سنة مَن دعا، ولا شك أن الدعاة إلى ذلك على حقٍّ، ولا يُتهَمون، والتفقُّه من الكتاب والسُّنَّة هو الأصل، لكن نتفقَّه من الكتاب، فنبدأ به من الفاتحة إلى الناس، ثم بعد ذلك نبدأ بالسُّنَّة من (صحيح البخاري) إلى آخر ديوان من دواوين الإسلام، فنقرأ في (صحيح البخاري) حديثًا منسوخًا، أو نقرأ في كتاب الله آية منسوخة، ولا نَصل إلى ناسخها إلا في (مسند الإمام أحمد) مثلًا! على القول بأن الآحاد ينسخ القطعيِّ، وهذا قول معروف عند أهل العلم، فمتى يبلغنا الناسخ على هذه الطريقة؟! ودَعنا نفرض أننا بدأنا في السُّنَّة بـ(صحيح البخاري)، واستغرق معنا (صحيح البخاري) ثلاث سنوات مثلًا، و(مسلم) كذلك، و(أبو داود) سنتين أو ثلاثًا، وهكذا بقيَّة السنن، فقد لا نصل إلى الناسخ إلا بعد عشر سنوات، فهذه الدعوى في ظاهرها حقٌّ، لا إشكال فيه، وهي فرض مَن تأهَّل لذلك، لكن مَن لم يتأهَّل فعليه أن ينظر في أقوال أهل العلم، وأن يتفقَّه في متن من المتون الفقهيَّة على مذهب من المذاهب المعتبَرة عند المسلمين، على الجادَّة، وليس معنى هذا أنه ملزَم بمسائل هذا الكتاب، فإذا رأى في مسائل هذا الكتاب مرجوحًا، وعرف الراجح بدليله، رمى بالمرجوح عرْض الحائط، لكن هذه المتون المختصرات مثل خطة البحث التي يسير عليها طالب العلم، ولا يمكن أن يأتي في كتاب فقهيٍّ حكمٌ منسوخ يُذكَر في الباب الأول، وناسخه في الباب الأخير، اللهم إلَّا في حال المنازعة في كون هذا الحكم منسوخًا أو غير منسوخ، وهذا بالاطِّلاع على الكتب الأخرى، ودراسة مسائل الكتاب، والاستدلال لها، وذكر أقوال أهل العلم، يتبيَّن الناسخ من المنسوخ في أول وهلة، فهذه الدعوى لا شك أنها حقٌّ، لكن يخاطَب بها مَن تأهَّل.

وكلام الإخوان في مثل هذا الكلام كلام وجيه، ونجاسة الكافر على قول جمهور أهل العلم نجاسة معنويَّة، بمعنى: أنه لو غَمس يده في ماء؛ ما نجس، ولو صافحك ويده رطبة؛ ما تغسل يدك.

وأما الخمرة؛ فالذي قرَّرناه بالأمس، وأطلنا الكلام فيه، أن عامة أهل العلم على القول بنجاستها نجاسة حسيَّة، ومن أهل العلم مَن يرى أنها طاهرة، وذكروا من الأدلة ما هو مقنِع، والاستدلال بالآية قد لا يستقيم ولا يتمُّ؛ لأن ما قُرِن مع الخمرة وأُخبر عن الجميع بأنه نجس: نجاسته معنويَّة، وليست حسيَّة بالاتفاق، وعلى هذا يحصل التردُّد الذي أبديناه بالأمس، وأطلنا فيه، وقضينا فيه جزءًا من الوقت، وانتقدَنا بعضُ الإخوان بأننا قد نستطرد في بعض المسائل، مما يكون سببًا لعدم المشي في الكتاب، وأنا عندي أن مثل هذه المسائل في غاية الأهمية لطالب العلم، وأعرف أن كثيرًا من الإخوان سمعها مرارًا، لكن لا يمنع من تكرارها.

فهذه الاستدراكات التي ذكروها في محلِّها، لكن ليفهموا كيفيَّة تقرير المسائل بالأمس، فهل نحن قرَّرناها على أساس أنها نجاسة عينيَّة، أو ذكرنا المذاهب ولم نجرؤ على القول بطهارتها، وإن كانت أدلَّة القول بطهارتها وجيهة؟ وهذا لبُّ المسألة التي أطلنا فيها، فهل نجرؤ على تخطئة الأئمة الأربعة بأَتباعهم، ونقول بقول مَن جاء بعدهم، وقال بطهارتها؟ هذا هو أصل المسألة التي ذكرناها بالأمس.