شرح كتاب الأربعين النووية (01) - مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح كتاب الأربعين النووية (1)
مقدمة الأربعين النووية
الشيخ / عبد الكريم الخضير
قال الإمام النووي -رحمه الله-:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، قيوم السموات والأرضين، مدبر الخلائق أجمعين، باعث الرسل صلواته وسلامه عليهم إلى المكلفين لهدايتهم، وبيان شرائع الدين بالدلائل القطعية، وواضحات البراهين، أحمده على جميع نعمه، وأسأله المزيدَ من فضله وكرمه، وأشهد أن لا إله إلا الله الواحد القهار، الكريم الغفار، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، أفضل المخلوقين، المكرم بالقرآن العزيز المعجزة المستمرة على تعاقب السنين، وبالسنن المستنيرة للمسترشدين، المخصوص بجوامع الكلم، وسماحة الدين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين، وآل كل وسائر الصالحين. أما بعد:
فقد روينا عن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، ومعاذ بن جبل، وأبي الدرداء، وابن عمر، وابن عباس، وأنس بن مالك، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري -رضي الله تعالى عنهم- من طرق كثيرات بروايات متنوعات، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من حفظ على أمتي أربعين حديثًا من أمر دينها بعثه الله يوم القيامة في زمرة الفقهاء والعلماء))، وفي رواية: ((بعثه الله فقيهًا عالمًا)), وفي راوية أبي الدرداء: ((وكنت له يوم القيامة شافعًا وشهيدًا))، وفي رواية ابن مسعود: (( قيل له: ادخل من أي أبوب الجنة شئت))، وفي رواية ابن عمر: (( كتب في زمرة العلماء، وحشر في زمرة الشهداء)).
واتفق الحفاظ على أنه حديث ضعيف وإنْ كثرت طرقه، وقد صنف العلماء -رضي الله تعالى عنهم- في هذا الباب ما لا يحصى من المصنفات. فأول من علمته صنف فيه عبد الله بن المبارك، ثم محمد بن أسلم الطوسي العالم الرباني، ثم الحسن بن سفيان النسوي، وأبو بكر الآجري، وأبو بكر محمد بن إبراهيم الأصفهاني، والدارقطني، والحاكم، وأبو نعيم، وأبو عبد الرحمن السلمي، وأبو سعد الماليني، وأبو عثمان الصابوني، ومحمد بن عبد الله الأنصاري، وأبو بكرٍ البيهقي، وخلائق لا يحصون من المتقدمين والمتأخرين. وقد استخرت الله- تعالى- في جمع أربعين حديثًا اقتداء بهؤلاء الأئمة الأعلام وحفاظ الإسلام. وقد اتفق العلماء على جواز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال، ومع هذا فليس اعتمادي على هذا الحديث؛ بل على قوله -صلى الله عليه وسلم- في الأحاديث الصحيحة: ((ليبلغ الشاهد منكم الغائب))، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((نضَّر الله امرًا سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها)). ثم من العلماء من جمع الأربعين في أصول الدين، وبعضهم في الفروع، وبعضهم في الجهاد، وبعضهم في الزهد، وبعضهم في الآداب، وبعضهم في الخطب، وكلها مقاصد صالحة- رضي الله تعالى عن قاصديها.
وقد رأيت جمع أربعين أهم من ذلك كله، وهي أربعون حديثًا مشتملة على جميع ذلك، وكل حديث منها قاعدة عظيمة من قواعد الدين، وقد وصفه العلماء بأن مدار الإسلام عليه، أو هو نصف الإسلام، أو ثلثه، أو نحو ذلك. ثم ألتزم في هذه الأربعين أن تكون صحيحة، ومعظمها في صحيح البخاري ومسلم، وأذكرها محذوفة الأسانيد؛ ليسهل حفظها ويعم الانتفاع بها -إن شاء الله تعالى-، ثم أتبعها بباب في ضبط خفي ألفاظه. وينبغي لكل راغب في الآخرة أن يعرف هذه الأحاديث؛ لما اشتملت عليه من المهمات، واحتوت عليه من التنبيه على جميع الطاعات، وذلك ظاهر لمن تدبره، وعلى الله اعتمادي وإليه تفويضي واستنادي، وله الحمد والنعمة، وبه التوفيق والعصمة.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: "بسم الله الرحمن الرحيم"، "مقدِّمة"، وقد تُفتَح الدال "مقدَّمة" فهي مقدِّمة باعتبار أنها متقدمة على الكلام كله، وهي مقدَّمة باعتبار أن المؤلف قدمها على هذا الكلام، فيجوز في الدال الفتح والكسر، وإن كان الأشهر والأكثر هو الكسر.
ثم بعد ذلك قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: "الحمد لله رب العالمين" ولسنا بحاجة إلى إعادة ما مر بنا مرارًا من الكلام على الحمد، وأن كثيرًا من أهل العلم يفسره بالثناء على الله- جل وعلا-، وأن ابن القيم -رحمه الله تعالى- انتقد هذا التعريف بحديث أبي هريرة- رضي الله عنه- في صحيح مسلم: ((قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين: فإذا قال العبد: {الحمد لله رب العالمين} قال: حمدني عبدي، فإذا قال: {الرحمن الرحيم} قال: أثنى علي عبدي)) فالثناء ليس هو الحمد، بل هو الحمد المكرر المثنى مرتين وثلاثًا، فتكرار المحامد هي: الثناء على الله -جل وعلا -؛ ولذلك ما قال الله -جل وعلا- في الحديث الصحيح: إذا قال العبد: {الحمد لله رب العالمين} قال: أثنى علي عبدي، إنما قال: حمدني عبدي، فإذا قال: {الرحمن الرحيم} يعني كرر هذا الثناء وهذا الحمد سمي ثناءً، قال: أثنى علي عبدي. والتعريف المرضي عند ابن القيم -رحمه الله- أن الحمد: هو ذكر الله -جل وعلا- بأوصافه التي بجميعها يستحق المدح. فجميع أوصاف الله -جل وعلا- متضمنة للمدح والحمد، فذكره -جل وعلا- بهذا الأوصاف هو حمده، وتكرار هذا الحمد هو الثناء، فالثناء هو الحمد المكرر. والحمد والشكر بينهما عموم وخصوص عند أهل العلم، والكلام في هذه المسألة يطول.
"الحمد" (أل) للاستغراق, فجميع أنواع المحامد لله -جل وعلا-. "لله" وهذه اللام لام الملك والاختصاص، فالحمد مملوك كله لله -جل وعلا- ومختص به -سبحانه وتعالى-.
"رب العالمين" بدل من لفظ الجلالة ولذلك جُرَّ؛ لأن البدل له حكم المبدل منه, أو هو عطف بيان. "العالمين" جميع ما سوى الله -جل وعلا-، كل ما سوى الله عالم وقد يطلق على الخلائق من أولهم إلى آخرهم عالم -وهذا هو الإطلاق الأصلي-، وقد يطلق على أهل جيل من الناس أو أمة من الأمم فيقال لهم عالم. فبنو إسرائيل فضلوا على العالمين يعني على عالمي زمانهم، وإلا فهذه الأمة أفضل منهم بلا شك, "قيوم السموات والأرضيين" يعني القائم بأمر السموات وأهل السموات، والأرضيين وأهل الأرضيين. "السموات والأرضيين" السموات السبع، والأرضين السبع؛ لقوله- تعالى: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [(12) سورة الطلاق] يعني سبع كذلك. "مدبر الخلائق أجمعين" لا يخرج أحد عن تدبيره وتصرفه -جل وعلا- فهو المدبر لجميع الخلائق، ولا يمكن أن يستقل شيء من المخلوقات بنفسه دون الله -جل وعلا-.
"باعث الرسل" باعث الرسل إلى أممهم، وباعث النبي محمد -عليه الصلاة والسلام- إلى الثقلين الجن والإنس.
"وصلوات الله وسلامه عليهم أجمعين"، الصلوات جمع صلاة، "وصلوات الله" يختلف فيها أهل العلم، منهم من يقول: إنها الثناء عليهم، ومنهم من يقول: الدعاء لهم بالرحمة.
"إلى المكلفين" من بلغ سن التكليف فالمكلفون هم الإنس والجن ممن تعدى مرحلة رفع القلم، فهم جميع الإنس والجن ماعدا الثلاثة الذين رفع عنهم القلم: ((الصغير حتى يبلغ، والمجنون حتى يفيق، والنائم حتى يستيقظ)) مع أن النائم مكلّف، بمعنى أن رفع القلم عنه مؤقت، زوال رفع القلم عنه أسرع من زواله عن الصغير وعن المجنون؛ لأن الصغير قد يقرب من بلوغ الحلم وقد يبعد لكنه رفع عنه القلم حتى يحتلم، والمجنون حتى يفيق، قد يفيق وقد لا يفيق، أما النائم فنومه ساعات ثم يستيقظ فيعود عليه التكليف، لكنه أثناء النوم القلم عنه مرفوع وهذا في حقوق الله -جل وعلا-، أما في حقوق الخلق وما يكون التكليف فيه من باب ربط الأسباب بالمسببات فيكون من الحكم الوضعي لا من التكليفي، فجمهور أهل العلم يرون أن الصبي والمجنون تجب عليهم الزكاة، والثلاثة تلزمهم قيم المتلفات وأروش الجنايات، ولا يقال: إن القلم مرفوع عنهم فلا تجب عليهم هذه الأمور؛ لأنها ليست من الأحكام التكليفية وإنما هي من الأحكام الوضعية: ربط الأسباب بالمسَببات, فإذا وجد السبب وجد المسبب. مثاله نائم إذا انقلب أو تحرك فكسر متاعًا لغيره يضمن، وصغير يضمن في مثل هذه الصورة، ومجنون جنى يضمن. والمراد بالضمان ضمان وليه في المال، على كل حال هذه مسألة معروفة عند أهل العلم.
قوله -رحمه الله-: "لهدايتهم"، باعث الرسل إلى الخلق أجمعين لهدايتهم، ودلالتهم وإرشادهم إلى الصراط المستقيم، إلى تحقيق الهدف الذي من أجله خلقوا وهو تحقيق العبودية لله -جل وعلا-. "وبيان شرائع الدين" لهم، فالأنبياء يهدونهم ويدلونهم ويبينون لهم الشرائع ليعملوا بها، قال الله -تعالى-: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [(48) سورة المائدة] كل نبي ورسول من هؤلاء الرسل له شريعة ومنهاج وإن كان أصل الدين واحدًا كما جاء في الحديث الصحيح: ((نحن معاشر الأنبياء أولاد علّات، وديننا واحد)) وهو الإسلام الذي هو الأصل، وإن كانت الشرائع تختلف من شريعة إلى أخرى. {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [(48) سورة المائدة] جاء في صحيح البخاري شرعة ومنهاجًا: أي سبيلًا وسنة، فالشرعة هي السنة، والمنهاج هو السبيل؛ لأن أهل العلم يقولون: إن هذا من اللف والنشر المشوَّش، شرعة ومنهاجًا: سبيلًا وسنة، الشرعة هي السنة، والمنهاج هو السبيل.
"بالدلائل القطعية وواضحات البراهين"، التي يأتي بها الرسل عن الله -جل وعلا-، وما يقوله أو ما ينقله الرسول- صلى الله عليه وسلم- عن ربه -جل وعلا- بلفظه مثل: القرآن، والكتب المنزلة: كالتوراة والإنجيل والزبور قبل التحريف, وصحف إبراهيم وموسى، وغيرها مما يعرف ومما لا يعرف, فهذه كلها من عند الله -جل وعلا- يجب الإيمان بها، بل الإيمان بالكتب ركن من أركان الإيمان.
"الدلائل القطعية" تكون بنصوص الوحي المنزَّل وبما ينقله النبي- صلى الله عليه وسلم- عن ربه -جل وعلا-؛ لأن ما يقوله ويتكلم به وينطق به هو وحي كما في قوله -جل وعلا-: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [(3-4) سورة النجم].
ثم كرر الحمد فقال: "أحمده على جميع نعمه، وأسأله المزيد من فضله وكرمه" هو المستحق للحمد فهو المنعم, الحق، وأما ما يُحمد به الناس أو يمدحون عليه فباعتبارهم تولوا القسمة, وإلا فالمعطي هو الله -جل وعلا- كما جاء في الحديث الصحيح ((إنما أنا قاسم والله يعطي)). والله -جل وعلا- يقول للأغنياء: {وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [(33) سورة النــور], فالبشر المال بأيديهم عارية، وضع في أيدي بعض الناس ليبتليهم ويبتلي بهم. وبالمقابل هناك من الناس من لا مال عنده ليبتلى, هل يصبر؟ فالغني يبتلى هل يشكر ويستعمل هذا المال فيما يرضي الله -جل وعلا-، أو يكفر هذه النعمة فيجحدها ويجحد نسبتها إلى الله -جل وعلا-، ويستعملها فيما لا يرضي الله -جل وعلا- . كما أن الفقير يبتلي هل يصبر ويرضى ويسلِّم ويحمد الله على نعم كثيرة أخرى لا يستطيع عدَّها؟ يقول ابن عبد القوي -رحمه الله-:
وكن صابرًا للفقر وادرع الرضى |
|
بما قدر الرحمن واشكره واحمدي |
إن بعض الناس قد يبلغ به من الفقر والحاجة مبلغًا عظيمًا، ثم إذا قيل له: "احمد ربك, واشكر ربك", كما قال -تعالى-: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا} [(18) سورة النحل] قال: "على أي شيء أحمد الله وأنا فقير, مدقع, محتاج؟!" نقول: لا يا أخي ما تدري لو أن الأذن دخل فيها حشرة وطلب منك ما على وجه الأرض من أموال لبذلتها، أو لو احتبس فيك البول وطلب منك ما على وجه الأرض من المليارات من الذهب والفضة دفعتها، أليست هذه نعم؟ نعمة البصر، نعمة السمع، نعم لا تُعَدُّ ولا تُحصى.
تصور أن أصبعًا من أصابعك أصغر الأصابع عندك صلب لا تستطيع أن تثنيه ماذا يكون من دون ألم؟ تتأذى به أذىً شديدًا ولو لم يؤلمك، ولذا هذه النعم يعني نعم المفاصل نعم لا يقدر قدرها إلا من فقدها. تصور أن شخصا رِجلُه متصلبة لا تنثني، فَسَيواجه من العنت والحرج ما لا يدرك, ولو لم يكن فيها ألم. ولذا يصبح على كل سلامى من الناس صدقة، فثلاثمائة وستين مفصل تحتاج إلى ثلاثمائة وستين صدقة، لكن الله -جل وعلا- لطيف لا يكلف الفقير أن يتصدق بالدراهم وهو لا يجدها، ولذا كل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة.... إلى آخره، ويكفي من ذلك ركعتان تيكعهما الأنسان من الضحى في مقابل ثلاثمائة وستين صدقة.
فعلى الإنسان أن يحمد الله -جل وعلا-، وأن يلهج بذكره وشكره، ولا يجحد هذه النعم وإن كان يغفل عنها, فهناك كثير من الناس في غفلة تامة عن هذه النعم، لكن مع ذلك عليه أن يتذكر وعليه أن يشكر, قال -تعالى-: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [(7) سورة إبراهيم].
قولع -رحمه الله- : "أحمده على جميع نعمه"، هناك النعم الظاهرة، وهناك النعم الخفية, والله -جل وعلا- أسبغ النعم على عباده، وأعظم هذه النعم على الإطلاق نعمة الإسلام، وهذا هو رأس المال. هل يمكن أن تقارن حالة أقل المسلمين شأنًا في أمور الدنيا بأعظم الكفار شأنًا في أمور الدنيا؟ أبدًا، ولذا المؤمن كخامة الزرع، المصائب تعتريها من كل وجه، وأما الكافر مثل الأرْزة -شجرة صلبة متينة عريضة لا تحركها الرياح- فلا تعتريها العوارض. ولذا الإنسان يحمد الله -جل وعلا- أن جعله من هذه الأمة ويفتخر بإسلامه ويرفع رأسه بدينه؛ لأن الله -جل وعلا- يقول: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [(33) سورة فصلت]، فيعتز بدينه ويفتخر به.
"وأسأله المزيد من فضله وكرمه"، يطلب ويسأل الله -جل وعلا- بلسانه وبفعله. ولا يحقق المزيد شيء أعظم من الشكر، فالدعاء ينفع, لكن المضمون هو الشكر, قال الله -تعالى-: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ}؛ لأن الدعاء قد يجاب بما طلب وقد لا يجاب بنفس الطلب، قد يؤخر الطلب إلى يوم القيامة، وقد يدفع عنه من الشر والمكروه أعظم مما طلبه، لكن الشكر نتيجته المزيد {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ}. وضد الشكرِ الكفر, وليس معناه الكفر المخرج من الملة، إنما كفر هذه النعمة في مقابل الشكر.
"وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له" بدأ بالبسملة، ثم ثنى بالحمد، ثم ثلث بالشهادة, وقد جاء في ذلك الأحاديث المعروفة ومن طرق كثيرة: ((كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر))، و((كل أمر ذي بال -يعني شأن يهتم به شرعًا- لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع أو أجذم)) و((كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذمى)). على كل حال العلماء يمتثلون هذه الأحاديث وإن كانت لا تَسْلَم من مقال، بل بعض العلماء حكم على جميع ألفاظها بالضعف، وأما الرواية التي فيها (الحمد) -على وجه الخصوص- فقد حسنها النووي، وجمع من أهل العلم كابن الصلاح وغيره. ولا يعني أننا إذا ضعفنا الأحاديث بجميع ألفاظها وطرقها أننا لا نبدأ بالبسملة، فالقرآن ابتدئ بالبسملة، والحمدُ ابْتُدِئَ به القرآنُ أي بفاتحة الكتاب, وخطب النبي -عليه الصلاة والسلام- تفتتح بالحمد والشهادة أيضًا.
وبعض الناس إذا سمع التضعيف قال: لا داعي لأن نبدأ بالبسملة, والحمدلة, والشهادة ما دامت الأحاديث ضعيفة، والعمل بالحديث الضعيف لا يجوز العمل به -على ما سيأتي تقريره في هذه المقدمة. ومن يقول: إن الحديث الضعيف لا يعمل به مطلقًا، ثم يأتي إلى مثل هذا الحديث ويقول: الأحاديث في هذا الباب ضعيفة, فيدخل في مراده مباشرة أنه يُبدأ بغير البسملة والحمدلة والشهادة. ومع الأسف فقد وجد بعض الكتب، ووقفت على واحدها موضوعه شرعي، يقول صاحبه: "كانت الكتب التقليدية تبدأ بالبسملة والحمدلة", فرأى هذا المجدد أن البسملة والحمدلة لا داعي لذكرهما مع ضعف الأحاديث. وهذا قصور في الفهم، فهو لا يفرق بين ما ثبت بأصول متضافرة متكاثرة، وبين ما لم يرد إلا في هذا الحديث الضعيف.
"وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد القهار"، هذه الشهادة المنْجِية, يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله...)).
"وأشهد أن سيدنا محمدًا" الشهادة الأولى لا تصح إلا بالثانية، كما أن الثانية لا تصح إلا بالأولى. فمن يشهد أن لا إله إلا لله وحده لا شريك له، ولا يشهد أن محمدًا عبده ورسوله فشهادته باطلة؛ لأن الأولى مستلزمة للثانية والثانية من شرطها النطق بالأولى وكل واحد منهما مستلزمة ومتضمنة للأخرى. "وأشهد أن سيدنا" الرسول -عليه الصلاة والسلام- يقول: ((أنا سيد ولد آدم ولا فخر)) فهو سيد الثقلين، وأشرف الخلق أجمعين، وأعلم الناس, وأعرفهم, وأتقاهم, وأخشاهم لله -جل وعلا- فهو السيد فهو سيدنا.
لا مانع من القول (سيدنا محمد) في الكلام المرسَل المطلَق الذي لا يتعبد بلفظه، لكن في الألفاظ المتعبد بها كالتشهد مثلًا لا يجوز أن تقول: وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله؛ لأن هذه متعبد بها, وال عبادات توقيفية لا تجوز الزيادة فيها.
"وأشهد أن سيدنا محمدًا عبدُه, ورسولُه" فهذا مقام العبودية، ومقام الرسالة. فالنبي-عليه الصلاة والسلام- يدعى بالعبد في أشرف المواضع، كقوله -تعالى-: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [(19) سورة الجن], وقوله -تعالى-: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [(1) سورة الإسراء]. "عبدُه, ورسوله, وحبيبه, وخليله, أفضل المخلوقين" فهو -بلا نزاع- أفضل الرسل فضلًا عن غيرهم، وجاء عنه -عليه الصلاة والسلام-: ((لا تفضلوا بين الأنبياء ولا تفضلوني على يونس بن متَّى)) فمنع -عليه الصلاة والسلام- التفضيل, وهذا محمول على حالة واحدة وهي: إذا اقتضى المقام تنقص المفضل عليه، فحينئذ يقال: لا تفضلوا الأنبياء، وإلا فالتفضيل بين الأنبياء في منطوق الكتاب العزيز: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [(253) سورة البقرة]. فالمنع من تفضيل الأنبياء في قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((لا تفضلوا بين الأنبياء)) معروف أنه حينما يقتضي هذا التفضيل التنقص للمفضول, كما هو ظاهر في الحديث: ((لا تفضلوني على يونس بن متَّى))؛ لأن ما حصل من يونس -عليه السلام- قد يتطاول عليه بعض السفهاء الذين لا يعرفون منازل الأنبياء والرسل -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-. فالذي يقرأ عن يونس -عليه السلام- قد يقع في نفسه شيء من التنقص له، لكن الله -جل وعلا- أنجاه: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ* لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [(143- 144) سورة الصافات], {لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [(87) سورة الأنبياء]. فهذه دعوة ذي النون، وليست خاصة به، بل له ولغيره ممن يقولها في هذه المضايق؛ لأن الله -تعالى- قال: {وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ} [(88) سورة الأنبياء] فهي ليست خاصة بيونس. على كل حال إذا اقتضى التفضيل تنقص المفضول منع وحسمت مادته بقوله -عليه الصلاة والسلام-: ((لا تفضلوا بين الأنبياء))، وإلا فالأصل أن التفضيل واقع وثابت في منطوق القرآن.
"المكرم بالقرآن العزيز"، هذا القرآن شرف لمحمد -عليه الصلاة والسلام- ولأمته, قال الله -عز وجل-: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} [(44) سورة الزخرف] يعني شرف لك ولقومك, فهو مكرَم, ومفضَّل على غيره.
"بالقرآن العزيز" بكلام الله -جل وعلا- المحفوظ, الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، المعجز بألفاظه ومعانيه وأحكامه وأسراره.
"المعجزة المستمرة على تعاقب السنين", الرسالة خالدة إلى قيام الساعة, فمعجزة نبيها خالدة؛ لأن المعجزة تبقى وتدوم ببقاء الدين، فلما كان هذا الدين إلى قيام الساعة كانت المعجزة قائمة إلى قيام الساعة، بخلاف معجزات الأنبياء فهي باقية ببقائهم.
"وبالسنن المستنيرة للمسترشدين"، فهو -عليه الصلاة والسلام- مكرم بالقرآن العزيز, ومكرم أيضًا بالسنن، والمراد بالسنن سنته -عليه الصلاة والسلام- شقيقة القرآن. "المستنيرة للمسترشدين"، المبينة للقرآن, يعني دلالات القرآن؛ لأن في كثير منها إجمال وقد بُيِّن هذا الإجمال بالسنة, فهي منيرة لطالبي الرشاد.
"المخصوص بجوامع الكلم"، فالأصل الكلم الجامع, وهذا من إضافة الصفة إلى موصوفها، وهو ما يجمع المعاني الكثيرة بالألفاظ القليلة.
"وسماحة الدين" النبي -عليه الصلاة والسلام- بعث بالحنيفية السمحة، قال -عليه الصلاة والسلام- : ((إن الدين يسر -ولله الحمد- ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه)), وقال -عليه الصلاة والسلام-: ((وعليكم من الدين ما تطيقون))، وقال -عليه الصلاة والسلام-: ((بشرا ولا تنفرا، يسرا ولا تعسرا)). الدين سمح ميسر كما أن دستوره الخالد القرآن ميسر, قال الله -تعالى-: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [(17) سورة القمر], فالدين يسر والله الحمد. وكون الدين يسر لا يعني أن الإنسان يتفلت من الأوامر والنواهي مستشهدا بأن الدين يسر, بل هو دين تكاليف أيضًا, قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((حفت الجنة بالمكاره)). يقول الله -جل وعلا- عن بيته المحرم-: {لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ} [(7) سورة النحل], فالحج فيه مشقة، والصيام في أيام الصيف الحارة فيه مشقة، والصلاة في الليالي الشديدة البرد شاقة، والجهاد شاق. إذًا الدين يسر يعني فيما يحتمله المكلف في ظروفه العادية؛ لأن الإنسان مستعد أن يعمل من طلوع الشمس إلى غروبها، وقد يعمل من طلوع الشمس إلى نصف الليل في تجارته، ويحمل الأثقال ويصبر على الحر والبرد فهذا محتمل، ولا يقول: إننا لا نطيق الصيام في الحر ومع ذلك يزاول تجارته في الحر، فهذا هو الضابط لليسر. أما ما أوجبه الله -جل وعلا- فلا مساومة عليه، بخلاف ما يفعله المكلف مما وراء ذلك من مستحبات فيقال فيها: ((اكلفوا من العمل ما تطيقون))، (( لن يشاد الدين أحد إلا غلبه)) يعني الإنسان. النبي -عليه الصلاة والسلام- منع من أراد أن يصوم النهار ويقوم الليل، ومن أراد أن يصوم ولا يفطر وأن يقوم ولا ينام، ومنع ابن عمر -رضي الله عنه- أن يقرأ القرآن في أقل من سبع, فقال له: ((اقرأ القرآن في سبع ولا تزد)). وكل هذا من أجل الاستمرار؛ لأن أحب الدين إلى الله أدومه وإن قل. فهذه الشريعة -ولله الحمد- سِمَتُها أنه ليس فيها آصار, ولا أغلال, ولا تكليف بمحال, وما لا يطاق، ولكن فيها تكاليف، فيها ما فيه مخالفة لهوى النفس وهذا من أشق الأمور؛ ولذا صبر الكفار على القتل في مقابل ألا يخالفوا هواهم، والله المستعان.
"صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين وآل كل وسائر الصالحين" جمع بين الصلاة والسلام امتثالًا للأمر في قوله -جل وعلا-: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [(56) سورة الأحزاب], فلم يقتصر على الصلاة فقط دون السلام أو العكس، بل أطلق النووي -رحمه الله تعالى- الكراهة على من صلى فقط ولم يسلم أو العكس, كما في شرحه على صحيح مسلم، وذلك حين صلى الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- على النبي -عليه الصلاة والسلام- ولم يسلم عليه؛ لأن الصلاة فقط, أو السلام فقط لا يتم به امتثال الأمر في الآية. والحافظ ابن حجر خص الكراهة بمن كان ديدنه ذلك: يعني يصلى دائمًا ولا يسلم، أو يسلم دائمًا ًولا يصلي, فهذا تتجه الكراهة في حقه، أما من كان يجمع بينهما أحيانًا، يصلي أحيانًا، يسلم أحيانًا فهذا لا تتجه الكراهة في حقه.
ثم بعد ذلك عطف على النبي -عليه الصلاة والسلام- سائر النبيين. فالأنبياء يصلى عليهم ويسلم استقلالًا، وأما من عداهم فيصلى عليهم ويسلم تبعًا. فإذا ذكروا بعده -عليه الصلاة والسلام- يصلى عليه, مثل قولنا: "اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه وسلم"، فيصلى عليهم تبعًا لا استقلالًا في قول أكثر أهل العلم, ومنهم من جوز الصلاة على غير الأنبياء. وهذه المسألة بحثها ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كتابه "جلاء الأفهام" وفي غير موضع من كتبه. فمن العلماء من يرى جواز الصلاة على غير الأنبياء على جهة الاستقلال، لكن لا يتخذها شعارًا لواحد بعينه، فلا يقال لأبي بكر : "صلى الله عليه وسلم" باستمرار, ولا يقال لغيره؛ لأن هذا يبين عن شيء في النفس، لكن لو قيل مرة, كمثلا ذكر أبو بكر أو عمر أو ما أشبه ذلك, فقيل: "صلى الله عليه وسلم". وأكثر أهل العلم على أن الصلاة خاصة على سبيل الاستقلال بالأنبياء، والترضي عن الصحابة، والترحم على من بعدهم, فكما أنه لا يقال: محمد -عز وجل- وإن كان عزيزًا جليلًا, لا يقال: أبو بكر -صلى الله عليه وسلم-، فهذا العرف العلمي عند أهل العلم.
ويستدل من يرى الجواز على ألا يكون شعارًا لواحد بعينه بما ورد أنه لما جاء أبو أوفى بزكاته قال له النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((اللهم صل على آل أبي أوفى)), فالنبي -عليه الصلاة والسلام- امتثل الأمر في قول الله -جل وعلا-: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [(103) سورة التوبة].
قوله -رحمه الله-: "وآل كل"، بالتنوين هذا تنوين عوض أي وآل كل واحد منهم, والأصل في الآل أنها تطلق على الأهل، ويدخل فيهم الأزواج والذرية والأقارب، وكذلك يدخل فيهم الأتباع.
"وسائر الصالحين" "سائر" تطلق ويراد بها الباقي، وتطلق ويراد بها الكل. وهنا باقي الصالحين, يعني بعد أن صليت وسلمت على الآل, تصلي وتسلم على الذي يبقى من الصالحين تبعًا للأنبياء.
"الصالح" هو القائم بحقوق الله -جل وعلا- وحقوق عباده. فهذا الوصف لا بد أن يحرص المسلم على الاتصاف به فيكون صالحًا؛ لئلا يحرم نفسه من دعاء الناس له بالسلامة, كما في أثناء التشهد: "السلام علينا، وعلى عباد الله الصالحين"، وهذه الجملة تقال من وقت محمد -عليه الصلاة والسلام- إلى آخر مسلم يقولها ويكررها في كل صلاة، فالذي يتصف بضد الصلاح قد حَرم نفسه من دعوات المسلمين على مر العصور والأزمان، وهذا حرمان عظيم ألا تحب أن يدعى لك وأنت لا تشعر من قبل الملايين، تحرم نفسك من هذه الدعوة، عليك أن تسعى جاهدًا لتحقيق هذا الوصف.
"أما بعد": "أما": حرف شرط وتفصيل. "بعد": قائم مقام الشرط مبني على الضم لحذف المضاف مع نيته؛ لأن بعد وقبل والجهات الست كلها لا تخلوا إما أن تضاف فتعرب كما في قوله -تعالى- {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ} [(137) سورة آل عمران]، أو تقطع عن الإضافة يعني يحذف المضاف إليه مع عدم نيته، وحينئذٍ تعرب منونة, كما
فصاغ لي الشراب وكنت قبلًا
|
|
............................ |
أو يحذف المضاف إليه مع بقاء نيته وكأنه مذكور وحينئذ تبنى على الضم. وجوابها المتصل بالفاء "فقد روينا" إلى أخره...
والإتيان بها في الخطب والمراسلات والدروس سنة ثابتة نقلها أكثر من ثلاثين صحابيًا عن النبي -عليه الصلاة والسلام-. والإتيان فيها بـ(أما) سنة ولا يقوم غيرها مقامها، وإبدال الواو بأما هذا عرف عند المتأخرين، ويقولون: "إن الواو تقوم مقام أما"، لكنه لا يحصل به الامتثال والاقتداء بالنبي -عليه الصلاة والسلام-. والفائدة من الإتيان بها الانتقال من موضوع إلى موضوع، من المقدمة إلى صلب الموضوع، أو من موضوع إلى موضوع أخر.
ولو أن النبي -عليه الصلاة والسلام- تكلم بها مرة أو مرتين، أو تركها أحيانًا، وفعلها أحيانًا، كان بإمكاننا أن نقول أنها ليست سنة، لكنه -عليه الصلاة والسلام- ما دام التزم بها في خطبه، وفي مكاتباته، نقول: إن التزامها سنة.
قد اختلف العلماء في أول من قالها على أقوال ذكرها الناظم في قوله:
جر الخُلف أما بعد من كـان بادئـًا ويعقوب أيوب الصبور وآدم |
|
بها عد أقوال وداود أقرب |
ولكن الأكثر على أنه داود -عليه السلام-, وهي فصل الخطاب الذي أوتيه.
قوله -رحمه الله-: "فقد رُوِّينا عن علي بن أبي طالب -أمير المؤمنين-، وعبد الله بن مسعود بن غافل الهذلي، ومعاذ بن جبل، وأبي الدرداء، وابن عمر، وابن عباس، وأنس بن مالك، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري -رضي الله عنهم- من طرق كثيرات بروايات متنوعات". النووي يروي عن هؤلاء الصحابة -رضي الله عنهم- بواسطة يعني بالأسانيد، ولذا رأي ابن الصلاح في مثل هذا أن يقال: رُوِّينا، ولا يقال: روَيْنا.
الحديث الذي سيذكره النووي مروي عن جمع غفير من الصحابة، وكل صحابي له رواة، وكل تابع له رواة، فالأسانيد كثيرة جدًا، والطرق لهذا الحديث كثيرة، لكنه ضعيف بجميع طرقه وألفاظه. اتفق الحفاظ على ضعفه، وطرق هذا الحديث كلها شديدة الضعف، ولذا أورد ابن الجوزي هذا الحديث في كتابه "العلل المتناهية" بطرقه وبين أنها كثير منها موضوع، ومنها ما هو شديد الضعف, فلا يجبر بعضها بعضًا, بخلاف الضعيف الذي ليس ضعفه بشديد إذا جاء من طرق يجبر بعضها بعضًا ويرتقي إلى الحسن لغيره، وإن كان السيوطي وبعض المتأخرين يجعلون شديد الضعف كالضعيف, لا سيما إذا تعددت طرقه تعددًا كثيرًا؛ لأنه إذا وُجِد ضعيفٌ ليس ضعفه بشديد ووجد مثله, يرتقي به الأول إلى الحسن لغيره. وعلى طريقة السيوطي ومن يقول بقوله، شديد ضعف مع شديد ضعف يرتقي إلى ضعيف ليس ضعفه بشديد على جهة الترقية، ثم الثاني, والثالث, فكل واحد يخفف هذا الضعف إلى أن يكون مثل الضعيف خفيف الضعف، وبيانه أننا إذا قلنا: إن الضعيف بحديث أخر مثله مساوٍ له أو فوقه يرتقي إلى الحسن لغيره، فشديد الضعف مثله يرتقي إلى الضعيف، يعني على طريقتهم في ترقية الضعيف إلى الحسن، والحسن إلى الصحيح، الشديد الضعف يرتقي إلى الضعيف، ومثله مع مثله مع مثله يخف الضعف، إلى أن يصل إلى الحسن لغيره عند السيوطي. وعامة أهل العلم على أن الضعيف شديد الضعف وجوده مثل عدمه؛ ولذا اتفق الحفاظ -كما سيأتي في كلام المؤلف- على أنه ضعيف وإن كثرت طرقه، وهذا هو المعمول به عند أهل العلم.
"أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (( من حفظ على أمتي أربعين حديثًا من أمر دينها بعثه الله يوم القيامة في زمرة الفقهاء والعلماء))"، في "أمر دينها" يعني: لو جمع شخص أربعين حديثًا في البيوع، أو في الأطعمة، أو في الطب هل يدخل في مثل هذا الحديث أو لا يدخل؟
المعاملات من الدين إذا قصد بذلك معرفة ما يجوز وما لا يجوز، وجمعت الأحاديث الدالة على العقود الصحيحة, والفاسدة, والباطلة فهذا من الدين. الدين أعم من أن يكون مجرد عبادات, أو معاملات, أو جنايات, أو غير ذلك، الدين يكون دينا بجميع أبوابه على ما سيأتي في حديث جبريل -عليه السلام- لما سأل النبي -عليه الصلاة والسلام- عن الإسلام, والإيمان, والإحسان, ثم قال -عليه الصلاة والسلام- : ((هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم))، يعني جميع أبوب الدين. فيطلق الدين على جميع الأبواب، لكن منْ جَمَع أربعين حديثًا في الطب، فهل نقول: إن الطب من الدين؟ كتب السنة فيها أبواب للمرضى والطب. وكذلك من جمع أربعين حديثًا في الأطعمة، حديثًا في العسل، حديثًا في كذا، حديثًا في كذا, يعني ما جاء في الأطعمة، فيُنظر في الباعث: إن كان من أجل أن يتدين بمعرفة الحلال منها والحرام، وما يحبه النبي -عليه الصلاة والسلام- وما يكرهه فهذا داخل، وإن كان يقصد بذلك منفعة بدنه غير ناظر إلى أمر دينه فلا يدخل.
((من حفظ على أمتي أربعين حديثًا من أمر دينها)) هل يكفي أن يعمد إلى الحفظ، ويحفظ هذه الأربعين أو غيرها من الأربعينيات، فيدخل في الحديث لعموم ((من حفظ)) والحفظ حفظ الصدر كما هو الأصل؟ أو لا بد أن يؤلف ويجمع للناس أربعين حديثًا مثل ما فعل النووي وغيره؟
الحفظ أعم من أن يكون حفظ صدر، أو حفظ كتاب.
((بعثه الله يوم القيامة في زمرة الفقهاء والعلماء))، وكما هو معلوم هذا حديث ضعيف شديد الضعف عند أهل العلم، وفي رواية ((بعثه الله فقيهًا عالمًا))، وفي راوية أبي الدرداء ((وكنت له يوم القيامة شافعًا وشهيدًا))، وفي رواية ابن مسعود -رضي الله عنه- ((قيل له: ادخل من أي أبواب الجنة شئت)) وفي رواية ابن عمر -رضي الله عنه- ((كتب في زمرة العلماء، وحشر في زمرة الشهداء)).
ولا شك أن هذا ترغيب عظيم في جمع الأربعين لو صح، لكنه -كما قال النووي-: "اتفق الحفاظ على أنه حديث ضعيف وإن كثرت طرقه"، "وإن كثرت طرقه"، وهذه الكثرة لم تحصل مثلها لكثير من الأحاديث الصحيحة، كالحديث الأول من الأحاديث التي معنا, حديث عمر -رضي الله عنه- ما رواه عن النبي -عليه الصلاة والسلام- مما يثبت بالأسانيد إلا عمر بن الخطاب، وما رواه عن عمر إلا علقمة على ما سيأتي، وما رواه عن علقمة إلا محمد بن إبراهيم التيمي، وما رواه عنه إلا يحيى بن سعيد الأنصاري، وأجمع العلماء على صحته. وهذا مروي عن جمع غفير من الصحابة، واتفق الحفاظ على ضعفه. فالعبرة بالأسانيد ونظافتها وصحتها، وصحة النسبة إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: "وقد صنف العلماء -رضي الله عنهم- في هذا الباب ما لا يحصى من المصنفات"، كتبٌ كثيرةٌ في الأربعين لا يمكن حصرها ولا عدها في أبواب متفرقة متنوعة متكاثرة من أبواب الدين.
قوله -رحمه الله-: "فأول من علمته صنف فيه عبد الله بن المبارك" الإمام الزاهد المجاهد عبد الله بن المبارك، "ثم محمد بن أسلم الطوسي العالم الرباني"، العالم الرباني الذي تعلم, وعلم, وعمل, وعلّم، وربى الناس على العلم بدءًا بصغاره قبل كباره -كما يقول ابن عباس -رضي الله عنه-، والمقصود أنه متصف بهذا الاسم. "ثم الحسن بن سفيان النَّسوي أو النسائي وأبو بكر الآجري"، الأول: صاحب النسائي، والثاني: صاحب أبي داود، "وأبو بكر محمد بن إبراهيم الأصفهاني, والدارقطني" الإمام أبو الحسن المعروف، "والحاكم" أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن البيّع النيسابوري، "وأبو نعيم الأصبهاني, وأبو عبد الرحمن السلمي، وأبو سعد الماليني، وأبو عثمان الصابوني، وعبد الله بن محمد الأنصاري، وأبو بكر البيهقي، وخلائق لا يحصون من المتقدمين والمتأخرين". ألّف بعضهم أربعين أربعين، يعني أربعين كتابًا كلها أربعين، وكل أربعين في باب من أبواب الدين. يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: " وقد استخرت الله تعالى في جمع أربعين حديثًا اقتداء بهؤلاء الأئمة الأعلام وحفاظ الإسلام"، هل العبرة بما ثبت عن الله وعن رسوله -عليه الصلاة والسلام-، أو بما ثبت عن غير الله وعن غير رسوله -عليه الصلاة والسلام- مهما رسخت قدمه في الإسلام وعلا شأنه؟ العبرة بما ثبت عن الله وعن رسوله.
العلم قال الله قال رسوله |
|
............................ |
هذه هي الحجج الملزمة, لا كونه ثبت عن فلان أو علان أو فعل كذا. لا شك أن كون الإمام السابق من أهل الاقتداء, والائتساء, والاتباع تستروح النفس وتميل إلى تقليده؛ لأن عادته وديدنه ألّا يعمل إلا بشيء له أصل، لكن يبقى أن الاقتداء وأن الأسوة إنما تكون بالنبي -عليه الصلاة والسلام-.
إن كان الحفاظ اتفقوا على أنه حديث ضعيف, فلماذا عمل به أهل العلم، وصنفوا الأربعينات؟ يقول المؤلف: "وقد اتفق العلماء على جواز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال".
هذا الاتفاق منقوض لوجود المخالف، فمن أهل العلم من لا يرى العمل بالضعيف مطلقًا، بل منهم من لا يرى العمل بالحسن مطلقًا، ومنهم من لا يرى العمل بالحسن لغيره ويرى العمل بالحسن لذاته، كل هذا وارد على قوله: "وقد اتفق العلماء على جواز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال".
أبو حاتم الرازي لا يرى العمل بالحسن يعني ومن باب أولى الضعيف، البخاري ومسلم صنيعهما يدل على أن الضعيف لا يعمل به مطلقًا, وشنَّع الإمام مسلم في مقدمة صحيحه على من يروي الأحاديث الضعيفة ويلقي بها إلى العامة وشدد في هذا الأمر. أبو بكر بن العربي أيضًا شدد على من يحتج بالضعيف في الفضائل وغيرها. شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم أيضًا لا يريان العمل بالضعيف مطلقًا، وكذا الشوكاني والألباني وجمع من أهل العلم يرون عدم العمل بالضعيف مطلقًا. فكيف ينقل النووي الاتفاق على جواز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال؟ هذا الاتفاق الذي ذكره نقله عنه الـمـُلا علي قاري في "شرح المشكاة".
النووي -رحمه الله- متساهل في نقل الإجماع لا سميا في "شرح المهذّب"، و"شرح مسلم"، فينقل الاتفاق ثم ينقل قول المخالف، وإذا وجد المخالف انتفى الاتفاق. وقد ينقل الاتفاق في مسائل الخلاف فيها معروف، كما نقل الاتفاق على أن عيادة المريض سنّة، مع أن الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- ترجم في صحيحه "باب وجوب عيادة المريض"، ونقل الاتفاق على أن صلاة الكسوف سنّة مع أن أبا عوانة في صحيحه ترجم "باب وجوب صلاة الكسوف"، ومسائل كثيرة. فبالاستقراء والتتبع ظهر أن عند النووي مسائل ينقل فيها الاتفاق وقد ينقل الخلاف هو بنفسه ممن يعتد بخلافه. أما كونه ينقل الاتفاق ثم ينقل رأي الظاهرية هذا لا يستدرك به عليه؛ لأنه لا يعتد بقولهم، فقد صرح بأنه لا يعتد بقول داود؛ لعدم عمله بالقياس الذي هو أحد أركان الاجتهاد.
فما دام الأمر كذلك وهو أن النووي -رحمه الله- متساهل في نقل الإجماع وأن هناك من العلماء من خالف في هذه المسألة وفي غيرها مما نقل فيه الاتفاق هذا يجعلنا لا نهاب هذا الاتفاق، مع أن الأصل أن على طالب العلم أن يهاب الاتفاق والإجماع؛ لئلا يشذ، لكن هذا الاتفاق الذي ذكره النووي -رحمه الله- لوجود المخالف بكثرة يجعلنا لا نهابه. وإن كان الشوكاني توسع في مثل هذا وقال: "دعاوى الإجماع، تجعل طالب العلم لا يهاب الإجماع، مع أن الأصل أن على طالب العلم أن يهاب الإجماع"، لكن الإجماع بعينه منقوض فلا يُهاب، ويبقى أنه قول الأكثر وحينئذ نقول: إن العمل بالضعيف في فضائل الأعمال هو قول الأكثر هو قول الجمهور بشروط يشترطونها، وهي:
1- ألا يكون الضعف شديدًا.
2- أن يندرج تحت أصل عام.
3- أن لا يعتقد عند العمل به ثبوته.
نأتي إلى الشرط الأول وهو ألا يكون الضعف شديدًا. حديث الباب ((من حفظ على أمتي أربعين حديثًا)) شديد الضعف، فانتفى أول شرط من شروط العمل بالضعيف, فلا يصلح أن يُستدلَّ به للعمل على مثل هذه الأربعين، ولذلك لم يقل النووي -رحمه الله-: "ألفتها عملًا بالحديث"، وإن كان قوله: "وقد اتفق العلماء على جواز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال" يستروح إلى العمل بهذا الحديث بعينه، إلا أنه قدَّم الاقتداء بأهل العلم بهؤلاء الأئمة الأعلام، قدم الاقتداء بهم على العمل بهذا الحديث لشدة ضعفه.
الشرط الثاني: أن يندرج تحت أصل عام. الاندراج تحت أصل عام ذكره النووي في مقدمته، وذلك قوله: "ومع هذا فليس اعتمادي على هذا الحديث بل على قوله -صلى الله عليه وسلم- في الأحاديث الصحيحة ((ليبلغ الشاهد منكم الغائب))، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((نضر الله امرًا سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها))،" ومعنى ذلك أن هذا الحديث اندرج تحت هذه الأصول, فالشرط الثاني متحقق.
الشرط الثالث: أن لا يعتقد عند العمل به ثبوته. معناه أنك أثناء تأليفك لأربعين لا تعتقد ثبوت حديث ((من حفظ على أمتي)) وإنما تعتقد الاحتياط؛ لأنه إن ثبت ثبت الموعود به وإلا فلا ضرر فهذا مرادهم. وذلك بخلاف لو أن إنسانًا استصحب الحث على النوافل، نوافل الصيام أو نوافل الصلاة مثلًا فقال: "أنا أستصحب هذا الأصل العام، وأصلي في كل يوم ما بين الساعة التاسعة إلى العاشرة عشر ركعات", جعل هذا ديدن له, لا يخلفه في سفر ولا حضر, والترغيب في كثرة الصلاة هو قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((أعنّي على نفسك بكثرة السجود)). هل يصح هذا أو نقول: ابتدع؟
لا يصح ذلك؛ لأن العبادة ينظر إليها من جهات: في كيفيتها, وفي قدرها, وفي وقتها, وفي مكانها، لو التزم مكانًا معينًا فقال: "إنه جاء الحث على الصلوات فأصلي عشرين ركعة كل يوم في هذه الزاوية لا أتعداها"، فكونه يرى أن هذه الزاوية أبعد له وأحفظ لصلاته هذا مقصد شرعي، لكن ليست لها ميزة بحيث لا يتعداها، الأمور العبادية ينظر فيها إلى مقاصد الشرع, وما ورد عن الشرع هو الأصل، فلا بد أن نهتم بهذا.
هذا يصلي عشر ركعات من الساعة التاسعة والعاشرة صباحًا ومساءً بحيث لا يتعداه، بصلوات ثابتة -يعني بركعتين بركوع وسجود وقراءة ليس لها صفة زائدة-، يعني لو قال: أنا أصلي صلاة الرغائب، أو صلاة التسبيح، جاء الحث على الصلاة والحديث الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال، وهذه من الفضائل ولا أعتقد ثبوته، أعتقد الاحتياط نقول: مصيب وإلا غير مصيب؟ على كلام النووي نصلي صلاة الرغائب ونصلي صلاة التسبيح؛ لأنها تندرج تحت الأصل العام مع أن الحديث ضعيف، وهم يشترطون أن لا يكون شديد الضعف، ولا يعتقد عند العمل به ثبوته إنما يعتقد الاحتياط.
فتخصيص المكان أو الزمان بدون مخصص شرعي ابتداع -إحداث في الدين-، طيب تخصيص يوم من أيام الأسبوع لختم القرآن بدعة وإلا ليست ببدعة؟
نفترض أن الشخص يختم القرآن في كل يوم جمعة أو في كل يوم سبت أو في كل يوم اثنين أو هكذا، يعني هل هذا يدل عليه نص أو لازم دلالة النص؟
يدل عليه لازم دلالة النص وهو قوله -صلى الله عليه وسلم: ((اقرؤا القرآن في سبع)) والأسبوع سبعة أيام، ومن لازم قراءة القرآن في سابع أن يكون يوم الختم واحد. وهذا ليس من عمل السلف إنما هو من لازم عملهم حينما يحزِّبون القرآن إلى سبعة أحزاب، مقتضاه أن الحزب الأول في يوم السبت مثلًا الحزب الأخير في يوم الجمعة فهذا من لازم النص ومن لازم عمل السلف أيضًا، يعني لو كان الأسبوع ثمانية أيام وقال: أنا أختم يوم الجمعة، كل يوم جمعة قلنا لا؛ لأنه ليس من لازم النص، والمقصود أن مثل هذه الأمور ينتبه لها فلا ينزلق الإنسان في بدعة وهو لا يشعر.
وقولهم: "كونه يندرج تحت أصل عام"، الأصل العام لا يخلو إما أن يدل عليه دلالة مطابقة أو دلالة موافقة في الجملة، موافقة من وجه ومخالفة من وجه، فإذا دل النص -الأصل العام- على مطابقة فهذا لا مانع من العمل به، مثل من جلس حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين، ركعتين ليس لهما صفة زائدة عما جاء عن النبي -عليه الصلاة والسلام- ركعتين كما يصلي تحية المسجد، وكما يصلي ركعتي الفجر، فليس لها صفة زائدة، فنقول: إذا جلس حتى تطلع الشمس بفعل النبي -عليه الصلاة والسلام- ثم صلى ركعتين ليس لهما صفة زائدة جاز, سواء كان ذلك باعتبارهما صلاة مذكورة في حديث: ((من صلى الصبح في جماعة ثم جلس يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين فكان له أجر حجة))، وكان يقصد هذا الثواب فلا إشكال فيه, أم كان ذلك باعتبارها صلاة الضحى: سواء كانت هذه أو ذاك لا إشكال فيها؛ لأنه ليس لها صفة زائدة.
لكن ماذا عن صلاة التسابيح أو صلاة الرغائب؟ فيها أوصاف كثيرة زائدة عما شرعه الله -جل وعلا- فمثل هذه لوجود هذه المخالفة لا يتعبد بها؛ لأن الأصل العام لا يدل عليها، الأصل العام يدل على الركعتين بعد طلوع الشمس، لكن الأصل العام لا يدل على صلاة الرغائب ولا على صلاة التسابيح؛ لأن لها صفات زائدة لم ترد في الأصل العام، فيُفَرَّقُ بين هذا وهذا.
قولهم: "ألا يعتقد عند العمل به ثبوته" وإنما يعتقد الاحتياط. والاحتياط معروف عند أهل العلم وذلك مثل قول النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((هو لك يا عبد بن زمعة، واحتجبي منه يا سودة)) وهذا احتياط شرعي؛ لأن له سببًا، وهو الشبه البيِّن بعتبة، يعني الحكم الشرعي هو لابن زمعة، ومقتضى ذلك أن يكون أخًا لسودة وما دام أخًا لها فهي تكشف له، ولكن قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((احتجبي عنه يا سودة)) لأن له شبها بيِّنا بعتبة. الحكم الشرعي الظاهر ((هو لك يا عبد بن زمعة))، والشبهة قائمة وقوية وهي الشبه بين بعتبة. وهذا الشبه بمفرده لا يؤثر في الحكم وإن كانت شبهة تؤثر في الطرف الآخر فيُحتجَب منه, وهذا احتياط، ولكن كما يقول شيخ الإسلام: "إذا أدى الاحتياط إلى ارتكاب محظور أو ترك مأمور فالاحتياط في ترك هذا الاحتياط". أحيانًا ما تجد لك مفرًا: إن احتطت للواجب فرطت في المحرم أو العكس، فأنت حينئذٍ لا بد أن تعمل بالراجح، ولا تحتاط في مثل هذه المسألة؛ لأن الاحتياط يلزم عليه ارتكاب محظور أو ترك مأمور. وليس العمل بالاحتياط جادة مضطردة وإنما إذا وجد المبرر، ولا يترتب عليه ارتكاب محظور ولا ترك مأمور، فحينئذ يعمل بالاحتياط.
هناك شروط أخرى زادها السخاوي في "القول البديع", وقبله ابن حجر في "تبيين العجب فيما جاء في فضل رجب" وأوصلوها إلى عشرة.
المقصود أن هذه الشروط لا يمكن تحقيقها؛ لأن أصل المسألة فيه ما فيه؛ لأن فضائل الأعمال يراد بها الأعمال التي يرتب عليها ثواب أو التي يرجى ثوابها. وهي مندوبات والسنن التي نرجو ثوابها ولا نخشى عقاب تركها كما هو حد المندوب, والمندوب حكم من الأحكام التكليفية، فكيف نقول: نتساهل في الفضائل، ولا نتساهل في الأحكام والفضائل حكم من الأحكام؟ إذا ما دام الفضائل هي المندوبات والمندوب من الأحكام التكليفية، فأصل المسألة يشاحَحُ فيه، وينازع.
يذكر عن الإمام أحمد -رحمه الله-, وابن مهدي, وجمع غفير من أهل العمل أنهم يقولون: "إذا روينا في الأحكام تشددنا، وإذا روينا في الفضائل تساهلنا"، و يُصنَّف هؤلاء ممن يقولون بالتفريق بين الفضائل والأحكام، نعم هم يقولون بالتفريق لكن أي تفريق؟ شيخ الإسلام -رحمه الله- يرى أن الإمام أحمد لا يعمل بالضعيف في الأحكام ويعمل به في الفضائل، لكنه يرى أن الضعيف عند الإمام أحمد ليس هو الضعيف عند المتأخرين، إنما هو قسم من أقسام المقبول فهو الحسن عند من جاء بعده.
وذلك؛ لأن شيخ الإسلام يرى عدم العمل بالضعيف مطلقًا، الذي هو الضعيف المصطلح عليه عند المتأخرين، فهو يقول: إن الضعيف عند الإمام أحمد وغيره من المتقدمين المراد به قسم من أقسام المقبول لا المردود فيجعله هو الحسن، فالحسن بالنسبة إلى الصحيح ضعيف، لكنه في إطار القبول. ويذكر شيخ الإسلام أن الحسن لم يكن معروفًا قبل الترمذي. لكن الحسن معروف قبل الترمذي عند طبقة الإمام أحمد معروف الحسن، والأمر الآخر: أن قول شيخ الإسلام يترتب عليه أن الإمام أحمد لا يرى العمل بالحسن في الأحكام, وبيانه أن الضعيف يساوي الحسن، والضعيف لا يحتج به في الأحكام، إذًا الحسن لا يحتج به في الأحكام، وهذا غير معروف في مذهبه -رحمه الله-، لا من قوله ولا من قول أتباعه من بعده. كيف الإمام أحمد لا يرى العمل بالحسن في الأحكام؟ بل الضعيف في كلامه -رحمه الله تعالى-: المراد به الذي لم يصل إلى درجة القبول، أما من وصل إلى درجة القبول فهو الحسن وقد يرتقي إلى الصحيح كما هو معروف.
العلماء يتفقون على أن الضعيف لا يحتج به في العقائد والأحكام أيضًا، إلا أن الباحث في كتب الفقه: في الأحكام -في الحلال والحرام- يجد أن هذه الكتب مملوءة بالأحاديث الضعيفة، فكيف يقررون ويقعِّدون أن الضعيف لا يعمل به في الأحكام، ومع ذلك كتب الأحكام فيها أحاديث ضعيفة، حتى كتب أحاديث الأحكام فيها أحاديث ضعيفة؟ كيف نقرر كلام نظري ثم عند العمل والتطبيق نخالف؟
يعني لو رجعت إلى المجموع للنووي وجدت فيه أحاديث ضعيفة، وهو ممن يجمع بين الفقه والحديث، وإذا رجعت إلى المغني فيه أحاديث ضعيفة، إذا رجعت إلى كتب الحنيفة كذلك، كتب المالكية كذلك، فكيف يقولون: "إن الضعيف لا يعمل به في الأحكام", ويتفقون على هذا ثم بعد ذلك نجد كتبهم مملؤة بمثل هذه الأحاديث؟ مرد ذلك إلى عدم علمهم بهذه الصَّنعة، يوردون الأحاديث ويتناقلونها بعضهم عن بعض وهم لا يعرفون ضعفها، وقد يحتاجون إلى تعليل الأحاديث. قد يقول قائل: "النووي من أهل الصنعة ويعلل الأحاديث ويصحح ويضعف"، نقول: هو قد يتساهل في التصحيح، وقد يكتفي بتصحيح الترمذي، وقد يكتفي بسكوت أبي داود ثم يدخل عليه الدخل من هذه الحيثية. أما صاحب المغنى وغيره ليس بمثابة النووي في علم الحديث، لكنه مع ذلك له يد في التصحيح والتضعيف بالنقل عن غيره، وأكثر ما تجده يتعرض للتصحيح والتضعيف في أحاديث التي يستدل بها الفقهاء الخصوم - كما يسميهم- وهذه التسمية غير مقبولة، لكن جرت العادة على هذا، ومن الفقهاء من يسميهم الخصوم، مثل الزيلعي في "نصب الراية" يكثر من قوله: "استدل الخصوم"، "ولنا وللخصم"، وكذا، هذا على طريق سبيل المناظرة يعدونه خصما؛ لأنه يخاصم ينازع في حكم هذه المسألة، يعني بينهما نزاع في حكم هذه المسألة والنزاع هو الخصام, وهو في الأصل من أهل العلم ومن أهل الفضل. لكن النزاع أخف والخلاف أخف من النزاع, كما قال -تعالى-: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ} [(46) سورة الأنفال].
والمقصود أن من الفقهاء من يتعرض للتصحيح والتضعيف يصحح أحاديث التي يستدل بها، وقد ينقد الأحاديث التي يستدل بها مخالفه، وإن كان ابن قدامة عنده شيء من الاعتدال والإنصاف، وهو قد يخرج عما يقرره في المذهب لقوة دليله، إلا أن مخالفة النووي للشافعية أكثر من مخالفة ابن قدامة للحنابلة تبعًا للدليل.
قلنا: إنّ إيراد هذه الأحاديث الضعيفة في كتب الأحكام مع أنه لا يحتج بها في الأحكام اتفاقًا إنما هو من باب غفلة مؤلفيها عن الصَّنعة الحديثية. ناهيك عما في كتب التفسير، وما في كتب المغازي، وما في السير، وما في التواريخ والأدب من الأخبار الضعيفة والباطلة والواهية هذا فيه كثير.
وإذا قلنا: إن الضعيف لا يحتج به مطلقًا سَد الباب على أمثال أولئك الذين يشغلون طلاب العلم بما لم يثبت عما ثبت، ويشغلون العامل بالعمل بما لم يثبت عن العمل بما ثبت. فتجد كثيرًا ممن غلب عليه جانب العمل عنده شيء من الغفلة عن العلم، وتجد كثيرًا من أعماله مبناه على أحاديث ضعيفة، وإذا تشبث الإنسان بالضعيف لا شك أنه سيغفل -لا محالة- عما ثبت عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، ولذا لو كان معوَّل طالب العلم وعمدته على الصحيحين قبل غيرهما، فإذا أتقن الأحاديث الصحيحة طلب المزيد مما صح من غيرهما,كان تمسكه بالصحيح فيه مشغلة عن التمسك بما لم يصح. بخلاف من اعتمدوا على أحاديث وعلى كتب وعظية، وكتب ترغيب، وكتب ما يكتبه العبّاد ويستدلون به وغالبه من الضعيف، بل فيه كثير من الموضوعات، وانشغلوا بأعمال بناء على ما رُتِّب عليها من أجور عما صح عن النبي -عليه الصلاة والسلام-.
فالقول بحسم المادة وعدم العمل بالضعيف مطلقًا، هو الذي يجعل طالب العلم يعمل بما صح ويسدد ويقارب ويحرص على استيعاب ما صح، وفيه ما يشغله عما لم يصح.
قول المؤلف -رحمه الله-: "ومع هذا فليس اعتمادي على هذا الحديث، بل على قوله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح ((ليبلغ الشاهد منكم الغائب))" نعم هذا أصل للتبليغ, لكن هل يصلح أن يكون أصلًا للعدد؟ ما يصلح أن يكون أصلًا للعدد. فالإنسان إذا بلغ أربعين حديثًا يدخل في قوا النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((ليبلغ الشاهد منكم الغائب)), لكن الالتزام بالعدد ما الذي يصلح أن يكون أصلًا له -وقد قلنا إن الحديث ضعيف بل شديد الضعف-؟ فالمعوَّل في هذه المسألة على هؤلاء العلماء الأعلام. ونعود فنقول إنهم جمع غفير لا يحصون، فإن ثبت الخبر فهذا هو المطلوب، وإن لم يثبت فالمعول على من صنف في الأربعين سلف من هؤلاء الأئمة -وهم أعلام مشهود لهم بالفضل والعلم والورع. وعلى كل حال لو انشغل الإنسان بما هو أصح من هذا وألف تأليفًا مرسلًا مطلقًا كان أولى من أن يقتصر على هذا العدد لأمرين:
الأمر الأول: أن الاقتصار على هذا العدد لا يوجد ما يدل عليه.
الأمر الثاني: أنه يكون على حساب غيره؛ وذلك أن التقيد بالأربعين يحرم من أحاديث كثيرٌ منها أهم مما ذكر في الأربعين. ولذا نجد النووي -رحمه الله تعالى- لم يتقيَّد بالأربعين بدقة بل جعلها اثنين وأربعين حديثًا. وقد يقال: إن هذا جاري على طريقة العرب في حذف الكسر، لكن يبقى أن الإنسان يؤلف وهو مرتاح، بلغت ستين، بلغت سبعين، فيؤلف بقدر الحاجة وهذا هو الأصل. أما أن يحصر نفسه بعدد معين ثم يترتب على ذلك تسطير المرجوح وترك الراجح كل هذا محافظة على العدد، هذا لا شك أن الذي جر إليه هو اعتماد هذا العدد الذي لا يدل عليه دليل.
اعتنى العلماء بهذه الأربعين وشرحوها بشروح كثيرة، ولا يحصى كم من شرح مطول ومختصر ومتوسط على الأربعين للنووي من المتقدمين ومن المتأخرين، من المطبوع والمخطوط، ومن المسموع والمقروء, كتب كثيرة جدًا.
حتى من أشد الناس تحريًا للاتباع يشرحون الأربعين؛ لا لأنها أربعون، بل لأن هذه الأحاديث التي جمعت في الأربعين أحاديث في غاية الأهمية. لو أنها سبعين بهذه القوة والجودة وهذا الانتقاء، هل نقول: إن العالم الفلاني الذي شرحها على أساس أنها أربعين لو عرف أنها سبعين ما شرح؟ لا، إنما شرحها, واهتم بها أهل العلم لما لها من ميزة، فهذه أحاديث كما سيأتي في كلام المؤلف إنها من جوامع الكلم، وقيل في كثير منها: إن مدار الإسلام عليها، وربع الإسلام، وثلث الإسلام أو يدخل في جميع أبواب الدين، وهكذا على ما سيأتي إجمالًا في المقدمة، وتفصيلًا عند قراءة كل حديث.
"وقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((نضَّر الله امرءًا سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها))" فوعاها: يعني عقلها وحفظها. فأدَّاها أي إلى غيره, كما سمعها يعني بحروفها، لم يغير فيها شيئًا. الذي يروي الحديث بالمعنى يدخل في هذه الدعوة وإلا ما يدخل؟
ظاهر اللفظ أن من روى الحديث بالمعنى لا يدخل؛ لأنه لا بد أن يؤديها كما سمعها، والذي يؤدي بالمعنى لا يكون أداها كما سمعها، لكن قد يدخل في قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((ليبلغ الشاهد الغائب))، ويدخل في نصوص كثيرة؛ ولذا جمهور أهل العلم على أن رواية الأحاديث بالمعنى جائزة بشروطها. ولذا حديث ((الأعمال بالنيات)) مروي في صحيح البخاري في سبعة مواضع يختلف بعضها عن بعض زيادة ونقصًا، ففي بعضها: ((امرأة ينكحها))، وفي بعضها: ((امرأة يتزوجها))، وفي بعضها: ((دنيًا يصيبها)). والمقصود أنها الألفاظ في صحيح البخاري فضلًا عن غيره وهي متفاوتة. وكذلك حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنه- فروي: ((مشتبهات)), وروي: ((متشابهات)), وروي: ((مشبّهات)) وألفاظ كثيرة فيها زيادة ونقص، وسيأتي شيء من ذلك -إن شاء الله تعالى-.
على كال حال من روى الحديث بلفظه كما هو الأصل، ومن رواه بالمعنى حصل له فضله.
ولروية الحديث بالمعنى يشترط العلماء شروطا منها:
أن يكون عارفًا بمدلولات الألفاظ وما يحيل المعاني.
وألّا يكون المتروك يعني المحذوف، يغير المذكور في الحديث له ارتباط به.
وألا يكون أيضًا النص مما يتعبد بلفظه, مثل حديث النوم -حديث البراء بن عازب- لما ذكر النبي -عليه الصلاة والسلام- الحديث ((ونبيك الذي أرسلت)) قال عند عرض الحديث على النبي -عليه الصلاة والسلام-: "ورسولك الذي أرسلت" قال: ((لا، قل: ونبيك الذي أرسلت)).
"ثم من العلماء من جمع الأربعين في أصول الدين" يعني في العقائد. "وبعضهم في الفروع" يعني في أحاديث الأحكام، فبعضهم في العبادات، بعضهم في المعاملات. "بعضهم في الجهاد، وبعضهم في الزهد، وبعضهم في الآداب، وبعضهم في الخطب" ومن آخر ما أُلّف "الأربعون المكية" يعني الكتاب فيه أربعون حديثًا في فضائل البلد الحرام، وألف من قِبَل مشروع تعظيم البلد الحرام, فهذا من أخر ما أُلّف. قول المؤلف -رحمه الله-: "وكلها مقاصد صالحة"، أي جيدة, فالذي يؤلف في الأصول له مقصد حسن وأن الاعتقاد هو الأصل، ومن ألف في الفروع، في العبادات أو المعاملات، ومن ألف في الجهاد -كل واحد منهم ألّف في باب يرى أن الحاجة داعية إلى التأليف فيه- فمقصده صالح - رضي الله عن هؤلاء المؤلفين.
قال: "وقد رأيت جمع أربعين أهم من هذا كله"، هذه الأحاديث الأربعون جوامع وهي أصول للدين، لكن هل هي أهم من الأربعين في أصول الدين في العقائد؟ يقول: "وقد رأيت جمع أربعين" -وهي في حقيقتها اثنان وأربعون حديثًا لكنه جاري على طريقة العرب في حذف الكسر- "أهم من هذا كله وهي أربعون حديثًا مشتملةٌ على جميع ذلك"، يعني فيها من جميع الأبواب المذكورة، منتقاة من الأبواب المذكورة. "وكل حديث منها قاعدة عظيمة من قواعد الدين" وسيأتي تقرير ذلك أثناء شرح الأحاديث.
يقول: "قد وصفه العلماء بأن مدار الإسلام عليه". يعني كل حديث منها.
قال الناظم:
عمدة الدين عندنا كلمات |
|
أربع من قول خير البرية |
سيأتي -إن شاء الله تعالى- أن مدار الإسلام عليه, أو أنه نصف الإسلام، أو ثلثه، أو نحو ذلك.
"ثم ألتزم في هذه الأربعين أن تكون صحيحة"، اشترط المؤلِّف أن تكون هذه الأربعين صحيحة, لكن ذلك من وجهة نظره, فقد صحح بعض الأحاديث التي يخالَف ويختلف في تصحيحها وهي يسيرة، اثنين، أو ثلاثة، أو أربعة لا تزيد على الخمسة, لكن المحقق اثنان والثالث يعني النزاع فيه قوي.
"ومعظمها في صحيحي البخاري ومسلم، وأذكرها محذوفة الأسانيد؛ ليسهل حفظها"، وأذكرها محذوفة الأسانيد يعني من بعد الصحابي إذ العادة أن لا يذكر التابعي إلا إذا دعت الضرورة إليه بأن يكون طرفًا في المتن يعني سأل الصحابي فأجابه.
"ليسهل حفظها ويعم الانتفاع بها -إن شاء الله تعالى-"، ومما يعين على الحفظ صغر الحجم، قلة الألفاظ.
"ثم أُتبعها بباب في ضبط خفي ألفاظها" يعني بعد أن ذكر الأحاديث الاثنين والأربعين ذكر بابًا فيه الألفاظ الغريبة التي وردت في ثنايا الكتاب -في الأحاديث-. لو ذكر هذه اللفظة مع الحديث لكان أولى بدلًا من أن يفرد لها بابا. وبعض الناس لا يخطر على باله أن المؤلف شرح هذا الكلمة في آخر الكتاب، ولا شك أن ذكرها بعد الحديث أيسر وأسهل. "وينبغي لكل راغب في الآخرة" يعني كل حريص على نجاته، "أن يعرف هذه الأحاديث" يحفظ هذه الأربعين، ويفهم هذه الأربعين، ويقرأ ما كتب حولها لا سيما ما كتبه الحافظ ابن رجب في: "جامع العلوم والحكم" فليحرص طالب العلم عليه وليعضه بنواجذه.
"لما اشتملت عليه من المهمات، واحتوت عليه من التنبيه على جميع الطاعات وذلك ظاهر لمن تدبره " صحيح أنها احتوت على جميع الطاعات، يأتي في حديث جبريل أنه اشتمل على كثير من أبواب الدين، ويأتي حديث بني الإسلام على خمس، ويأتي في غيرهما من الأحاديث ما يدل على ذلك.
"وعلى الله اعتمادي"، يعني اعتمادي على الله لا على غيره، وتقديم الجار والمجرور المعمول على عامله لإفادة الحصر، مثل قوله -عز وجل-: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [(5) سورة الفاتحة]. "وإليه تفويضي واستنادي، وله الحمد والنعمة، وبه التوفيق والعصمة".
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.