وصايا لمن يقرأ ويحضر الدروس كثيرًا لكنه يشعر بقلة الاستفادة

السؤال
أبلغ من العمر أكثر من أربعين عامًا، وقد حاولتُ أن أطلب العلم منذ أكثر من خمس سنوات، وحضرتُ بعض الدروس العلمية والدورات في المساجد، وحاولتُ حفظ شيء من القرآن وبعض المتون، واستمعتُ إلى كثير من الأشرطة، وقرأتُ بعض الكتيبات، ولا أقول: إنني لم أستفد شيئًا ألبتة، ولكن أشعر أنني أدور في فلاة، ولا أدري أين أتجه، أرجو أن ترشدوني ومَن مثلي إلى أقرب طريق، علمًا أنني موظف.
الجواب

بعض الناس الحافظة عنده قريبة من الصفر، وبعض الناس الحافظة عنده قريبة من المائة بالمائة، كما أن القريب من الصفر في الحافظة عنده فهم قريب من المائة بالمائة، والثاني بالعكس، وبين هذين ما يَقرب من هذا، وما يَبعد من هذا.

ونضرب مثالًا بالجلالين صاحبي التفسير: جلال الدين المحلي، وجلال الدين السيوطي، فجلال الدين المحلي إمام من أئمة الشافعية، ومع ذلك في الحافظة يَقرب من الصفر، وقال: إنه حاول أن يحفظ فصلًا من كتاب، فأخذ عليه وقتًا طويلًا جدًّا، أكثر من أسبوع، وارتفعتْ حرارته، وظهر في جسده بثور، وفي النهاية عجز.

والسيوطي يقول: إنه يحفظ أكثر من مائتي ألف حديث، فكيف صار المحلي إمامًا من أئمة الشافعية؟ هناك طريقة لمن هذه صفته، فإذا عجزت استعمل القلم، واكتب ما تريد حفظه، وراجع عليه الشروح، وعلِّق عليه، ومِن كثرة المداولة يثبت في ذهنك.

ومقومات التحصيل: الحفظ، والفهم، وقد يجتمعان في شخص، وقد يُفقدان من شخص بالكلية، فيصير فَدْمًا لا يفهم ولا يحفظ، فهذا يسلك العلم، ويقرأ نظرًا، ويُردِّد القرآن، ويذكر الله -جل وعلا-، ويثبتُ له أجر سلوك الطريق، ولا يُحرَم من الأجر.

وبعض الناس عنده الحافظة قوية، لكن الفهم عنده ضعيف، وبعضهم حافظته ضعيفة، لكن الفهم عنده قوي، فنقول لمثل هذا: أمسك القلم، وكثِّر الأوراق، واقرأ الفاتحة، واكتبها، وراجع عليها التفاسير، وانتقِ من (تفسير ابن كثير) على الفاتحة، ومن (تفسير الشيخ ابن سعدي)، ومن (تفسير الشيخ فيصل بن مبارك)، ومن فلان، ومن فلان، فيجتمع بهذا عندك تصور إجمالي للتفسير، وتكون لديك أهلية لأن تفهم هذا الكلام، ولو احتجت إلى تفسيره فيكون عندك -على ما يقول الناس- خلفيَّة، ولم يكن ذلك إلا من كثرة هذه المعاناة، فرسخ في ذهنك ما كتبتَ وما قرأتَ؛ لأن العلم متين، يحتاج إلى معاناة، ويحتاج إلى حفر في القلوب.

فأقول: مثل هذا الذي لا يستطيع أن يحفظ، عليه أن يعمد إلى كتاب صعب، ما أقول: اذهب إلى (منار السبيل)، أو (منهج السالكين)، أو كتاب سهل يعينك على الغفلة، بل نقول: اذهب إلى أصعب الكتب من المتون الفقهية، والتي لا تعينك على الغفلة، وكل كلمة فيها تحتاج إلى نظرات وليس بنظرٍ واحد، فخذ -مثلًا- (زاد المستقنع)، أو إن كنتَ مالكيًّا فخذ (مختصر خليل) الذي كلامه أشبه ما يكون بالألغاز، وانظر ما قال الشرَّاح حول هذا الكلام، وتصوَّر الكلام، واكتب ما تصوَّرتَ، واكتب ما راجعتَ، وراجع عليه كتب اللغة إن عجزتَ عن معنى كلمة، وراجع عليه كتب لغة الفقهاء؛ لأن الفقهاء لهم لغة صُنِّفتْ فيها الكتب، وراجع عليه الكتب التي هي أسهل منه، واسأل الشيوخ المختصين فيما تعجز عنه، بحيث إذا فهمتَ هذا الكلام الصعب انتقش في قلبك، والذي لا يثبت في القلب إلا بصعوبة، فإنه حينئذٍ لا يخرج منه إلا بصعوبة.

فأنت إذا عانيتَ هذا الكتاب الصعب، وأتقنتَه وفهمتَه من خلال مراجعاتك عليه الكثيرة الشديدة، وحاولتَ جاهدًا أن تفهم هذا الكتاب، استقرَّ في ذهنك في النهاية قدر كبير من هذا الكتاب، وفهمته؛ لأن هذه المعاناة بهذه الطريقة لا بد أن يثبت بها الشيء في الذهن.