موقف طالب العلم حيال النقاشات في مسائل طاعة ولاة الأمور

السؤال
بعد أن عرفنا وجوب طاعة ولي الأمر في كل الأحوال، وحرمة الخروج عليه بالقول والعمل، وعِظم الفتنة في ذلك، يجد طالب العلم نفسه أحيانًا في مثل هذه الأيام في أحد المجالس مع العامة، سواء كانوا أقارب أو أصدقاء، يتحدثون عن ولي الأمر، وأنه إن كان ظالمًا لا يجب السكوت عنه، أو كثيرًا ما يُسمع اغتيابه، وأنه لا يعرف أحوال المساكين والمظلومين في بلاده، وأن ما نتعرض له من مصائب في العالم الإسلامي بسبب معاصي ولاة الأمر، والرضا بالغرب، والسماح لهم في بلادهم، وقلَّ ما تجد في هذا الزمان مَن لسانه بريء من الكلام في ولاة الأمور، حتى وصل إلى العلماء، وكيف يداهنون ولي الأمر، وكيف أن العلماء لا يدرون عن أحوال العامة وما يقاسونه، ولا يدرون إلَّا عن الخاصة، وأن العالم الفلاني لا يحب إلَّا كذا وكذا، يسمونهم بأسمائهم، فإذا دافعتَ عنهم قالوا: (أنتم لا تعلمون إلَّا عن علماء الدين في الكتب، وأن الواقع غير ذلك)، وقد انتشر هذا الأمر حتى عند بعض الذين درسوا العلم، وتصدَّروا للدعوة، فإذا نظرتَ لمنهجهم وعقيدتهم تجدهم من أهل السنة والجماعة، بل ويحفظون أدلة طاعة ولي الأمر عن ظهر قلب، لكن إذا وقعوا في المشاكل في بعض الدوائر والإدارات قالوا: (هؤلاء عُيِّنوا من قبل ولي الأمر، إذن هو يعلم ما يفعله هؤلاء من ظلم وجور، وأن أحوال الأمة لم تَسِر إلى الأسوأ إلَّا بظلم ولاة أمور المسلمين على شعوبهم)، فإذا قلت: (إن التاريخ يعيد نفسه، وأن ما يحدث الآن هو صورة لما حدث في الماضي، بل علماء الأمة من السلف الصالح منهم مَن مات مسجونًا، ومنهم من مات مقتولًا على يد ولي الأمر، لكن هذا لم يُخرجه إلى معصية ولي الأمر، أو الكلام عليه)، انتقلوا إلى الجدال غير المُجدي، فيَصل طالب العلم إلى اليأس من إقناعهم، وإلى الكفِّ عنهم).
الجواب

 أولًا: ولي الأمر المسلم كغيره من المسلمين عِرضه حرام، وإذا كان عند الإنسان ملاحظة أو انتقاد، فعليه أن ينصح ويبذل النصيحة، فـ«الدِّين النصيحة، الدِّين النصيحة، الدِّين النصيحة» قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم» [مسلم: 55 / أبو داود: 4944]، فأئمة المسلمين بحاجة ماسة إلى النصح، والنصيحة موضعها السر.

يقول السائل: (وأنه لا يعرف أحوال المساكين والمظلومين في بلاده)، لا شك أن التقصير يحصل في مثل هذا، لكن التبعة على مَن ولاه ولي الأمر هذه الجهة، فعليه أن يُبيِّن لولي الأمر هذه الحاجات ويبلِّغه إيَّاها. (وأن ما نتعرض له من مصائب في العالم الإسلامي بسبب معاصي ولاة الأمر) لا، هي مشتركة، {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: ٣٠]، وهذا يشترك فيه الجميع. (والرضا بالغرب، والسماح لهم في بلادهم، وقلَّ ما تجد في هذا الزمان مَن لسانه بريء من الكلام في ولاة الأمور، حتى وصل إلى العلماء، وكيف يداهنون ولي الأمر)، هؤلاء الذين يتحدَّثون لا يعرفون حقيقة الأمر، وأن العلماء لهم جلسات مع ولي الأمر، ولهم أيضًا مناصحات ومكاتبات، وينصحون، ومع ذلك التقصير حاصل -نسأل الله جل وعلا أن يعفو عن الجميع-، لكن الأسباب مبذولة، ولله الحمد، ولا شك أن الوقوع في أعراض أهل العلم أمره عظيم جدًّا، (وكيف يداهنون ولي الأمر)، نعم، قد يوجد مَن يُداهن، وقد يوجد مَن يُبرِّر، لكن أهل العلم الذين هم أهل العلم والعمل من شيوخنا المعروفين، هؤلاء الذين نعرف أن لهم صلة وثيقة بولي الأمر، وأنهم يُبلغونه ما يُحتاج إليه على كافة المستويات، المقصود أن هناك أسبابًا مبذولة، ويوجد أيضًا تقصير -نسأل الله جل وعلا العفو والمسامحة-.

(وكيف أن العلماء لا يدرون عن أحوال العامة وما يُقاسونه، ولا يدرون إلَّا عن الخاصة)، مَن عرف أحوال العلماء وظروف العلماء، لا شك أنه يَعذرهم، فالعلماء بشر كغيرهم، يحتاجون إلى راحة، ويحتاجون إلى وقت استجمام، ويحتاجون إلى استقطاع وقتٍ لأهلهم وذويهم وحاجاتهم الخاصة، ومع ذلك عندهم الدوام الرسمي الذي يأخذ جُلَّ الوقت، من الساعة الثامنة إلى الثانية ظهرًا، فهذا سنام الوقت، ثم بعد ذلك يحتاجون إلى راحة، وفي آخر النهار عندهم الدروس العلمية، واللقاءات بالوفود، المقصود أن أوقاتهم معمورة، لكن على طلاب العلم الذين هم مَن دونهم أن يُبلِّغوهم بما يقفون عليه من حاجات الناس، وما يقع تحت أنظارهم وما يَبلغهم من منكرات تحتاج إلى تغيير، كل هذه مسؤولية مَن دون أهل العلم الكبار، أن يُبلِّغوا الكبار، والكبار صِلتهم بولاة الأمر معروفة. (وأن العالم الفلاني لا يُحب إلِّا كذا وكذا، يسمونهم بأسمائهم، فإذا دافعتَ عنهم قالوا: "أنتم لا تعلمون إلا عن علماء الدين في الكتب، وأن الواقع غير ذلك")، لا شك أننا إذا قارنَّا أنفسنا وطلاب العلم في هذه الأوقات بعلماء السلف -مثلًا-، وجدنا أن هناك فرقًا، ولا يأتي زمان إلَّا والذي بعده شر منه، فلا نطمع أن يكون حالنا مثل حال سلف هذه الأمة، نعم نسعى بقدر الإمكان إلى بلوغ درجة الكمال، والإنسان إذا سعى بنية صالحة أُجِر، وعلى الإنسان أن يبذل ما يستطيع، فعليه أولًا أن يبدأ بإصلاح نفسه، فإذا كان يرتكب المخالفات، وينتقد الناس، فهذا لا يليق، بل عليه أولًا أن يبدأ بإصلاح نفسه، ثم إصلاح مَن ولَّاه الله أمره، ومَن تحت يده، ثم بعد ذلك يسعى إلى إصلاح غيره.

(وقد انتشر هذا الأمر حتى عند بعض الذين درسوا العلم وتصدَّروا للدعوة، فإذا نظرتَ لمنهجهم وعقيدتهم تجدهم من أهل السنة والجماعة، بل ويحفظون أدلة طاعة ولي الأمر عن ظهر قلب، لكن إذا وقعوا في المشاكل في بعض الدوائر والإدارات قالوا: "هؤلاء عُيِّنوا من قبل ولي الأمر)، إن كان الداعي إلى هذا الكلام المصالح الخاصة الشخصية، فلا شك أن هذه حقيقة مُرَّة، لكن إذا كان الداعي إليه الغيرة على الدين، والحُرقة عليه، وما يواجهه الإنسان من منكرات، فهذا الأمر فيه أخف، ويُؤجَر على هذا، لكنه مع ذلك مؤاخذ بما يفلت فيه لسانه من غيبة ونحوها. (إذن هو يعلم ما يفعله هؤلاء من ظلم وجور)، مَن يوليهم ولي الأمر فيهم كثرة كاثرة، ولا يُتصوَّر أو يُتوقَّع أن ولي الأمر يعرف عن كل موظفيه، أبدًا، لكن إذا بلغه عن أحد من موظفيه مخالفة، فعليه أن يستدعيه، أو يُشكِّل له لجنة تناقشه، ويَطَّلع على الحقيقة، (وأن أحوال الأمة لم تَسِر إلى الأسوأ إلَّا بظلم ولاة أمور المسلمين على شعوبهم")، نقول: كارثة الأمة، وكون الأمة وصلت إلى هذا الحد من الذل، لا شك أن هذا بسبب الذنوب والمعاصي، لكن ذنوب مَن؟ أولًا: ما وُجد مثل هؤلاء الولاة الذين يحصل منهم التقصير إلَّا بسبب ذنوب الشعوب، فبذنوب الولاة -وليسوا بمعصومين-، وذنوب شعوبهم، ووقوع المخالفات من الناس عمومًا على كافة مستوياتهم، لا شك أن هذا هو سبب ما وقعتْ فيه الأمة، وهي سبب الكوارث العامة والخاصة.

(فإذا قلتَ: "إن التاريخ يعيد نفسه، وأن ما يحدث الآن هو صورة لِما حدث في الماضي، بل علماء الأمة من السلف الصالح منهم مَن مات مسجونًا، ومنهم مَن مات مقتولًا على يد ولي الأمر، لكن هذا لم يُخرجه إلى معصية ولي الأمر، أو الكلام عليه"، انتقلوا إلى الجدال غير المُجدي)، على كل حال على المسلم مِن متعلِّم وغير متعلِّم، ومِن عالمٍ وطالبِ علم، أن يبذل ما عليه، ويسعى بالطرق المتاحة لتحصيل ما له، وإلَّا فيسأل الله -جل وعلا- أن يُيسِّر له حوائجه. (فيَصل طالب العلم إلى اليأس من إقناعهم، وإلى الكفِّ عنهم)، على كل حال مثل هذا الذي يقع في أعراض الناس تُبذل له النصيحة، ويُخوَّف بالله -جل وعلا-، وأن أعراض المسلمين حفرة من حفر النار، وأن مَن يأكل عرض أخيه كأنما يأكل لحمه ميتًا، وجاء في الغيبة والنميمة الشيء الكثير، المقصود أن مثل هذا تُبذل له النصيحة، فإن أجدتْ، وإلَّا فيُهجَر؛ لأنه إذا سُمع المنكر، فلا بد من أن يُنكَر حتى يزول، أو يُفارَق.