التعليق على الموافقات (1428) - 06

 السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه، وبعد:

قال المؤلف –رحمه الله- في تتمة المسألة السابعة: "فصل: فاعلم أن الحرج مرفوعٌ عن المكلف؛ لوجهين".

الفاء هذه واقعة في ماذا؟

طالب:..........

يعني تفريعية واقعة في شرط مُقدر، إذا عرفت "فاعلم أن الحرج" تفريعية، وهي الفصيحة.

"أحدهما: الخوف من الانقطاع من الطريق، وبغض العبادة، وكراهة التكليف، وينتظم تحت هذا المعنى الخوف من إدخال الفساد عليه في جسمه أو عقله أو ماله أو حاله".

لا شك أن الإكثار من التعبد يُورِث عند بعض الناس الذين لم يصلوا إلى مرحلة التلذذ يُورِث عندهم انقطاعًا، بحيث يوجد الملل والسآمة من العمل، ثم يتركه في النهاية، وهذا كثير في أحوال الناس، كما أنه يُورِث استثقالًا لهذه العبادة، وكراهية لها، فإذا كان العمل بالعزائم، والأخذ بمآخذ السلف، وما تقدم ذكره من حال النبي –عليه الصلاة والسلام- وصحابته الكرام يُورِث مثل هذا فالإكثار من العبادة على هذا الوجه الذي يُوصل إلى هذا الحد لا شك أنه مفضول «اكلفوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا».

أما إذا وصل لمرحلة التلذذ بالعبادة، وصارت ديدنه، وصارت أحب شيءٍ إليه فإنه لا يُلام على الإكثار، فقد أكثر النبي –عليه الصلاة والسلام- من ذلك، وأكثر من ذلك صحابته الكرام، والمؤلف سيذكر أشياء، وتقدم بعض الأمثلة على ذلك.

"والثاني: خوف التقصير عند مزاحمة الوظائف المتعلقة بالعبد المختلفة الأنواع، مثل قيامه على أهله وولده".

نعم إذا أكثر من التعبد، وصار ذلك على حساب ما هو أهم من هذه النوافل لا شك أن مزاولته لهذه النوافل يكون مفضولاً، لو أن طلب العلم زاحمه بِر الوالدين، لا شك أنه يُقدم بر الوالدين عليه؛ لأنه واجب، أو نوافل الصيام مثلاً يُكثر من الصيام، وإذا صام جلس في بيته وصار على حساب ما هو أهم منه من النفع المتعدي للقريب والبعيد فضلاً عن الإخلال بواجب، فإنه حينئذٍ يكون العمل مفضولاً، وإن كان في الأصل فاضلاً؛ لأن أهل العلم يقولون: وقد يعرض للمفوق ما يجعله فائقًا، والعكس.

"مثل قيامه على أهله وولده إلى تكاليف أخر تأتي في الطريق، فربما كان التوغل في بعض الأعمال شاغلاً عنها، وقاطعًا بالمكلف دونها، وربما أراد الحمل للطرفين على المبالغة في الاستقصاء، فانقطع عنهما".

نعم، أراد أن يُوفِّق بين هذه الأعمال، ولم يستطع، يعني شغله طلب العلم عن البِر، شغله الصيام عن التعليم، شغله كثرة التعبد بنوافل الصلاة عن الأمر والنهي وغير ذلك مما هو أهم، فأراد أن يجمع بينها صام، ونصب له للأمر والنهي والتعليم والفُتيا وغير ذلك، ثم عجز عن المواصلة، فاضطر إلى الترك، هذا أيضًا يجعل الإكثار من هذه الأعمال مفضولة.

"فأما الأول، فإن الله وضع هذه الشريعة المباركة حنيفيةً سمحةً سهلة، حفظ فيها على الخلق قلوبهم، وحببها لهم بذلك، فلو عملوا على خلاف السماح والسهولة، لدخل عليهم فيما كُلفوا به ما لا تخلص به أعمالهم، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات:7] إلى آخرها".

نعم لو أطاعهم في تنفيذ ما يُبلغونه به لأصابهم العنت، ومن ذلك القصة التي سيقت في سبب نزول هذه الآيات {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] هذا الفاسق الذي جاء بخبر إلى النبي –عليه الصلاة والسلام- وقال: إن بني عبد المصطلق منعوا زكاتهم، وهو خافهم قبل أن يصل إليهم، فرجع دونهم، ما وصل إليهم، خاف منهم فرجع دونهم، وقال: إنهم منعوا الزكاة، رفضوا أن يُسلموني الزكاة، فأراد النبي –عليه الصلاة والسلام- أن يغزوهم، لو أطاعه النبي –عليه الصلاة والسلام- في كلامه هذا لأصاب النبي –عليه الصلاة والسلام- وأصاب المؤمنين العنت الشديد.

وهذا درس في التثبت في الأخبار، وعدم قبول الإشاعات، وأخبار من لا يثبت الخبر بقوله، وهذا النبي –عليه الصلاة والسلام- المؤيَّد بالوحي، لكن حصول مثل هذه الأمور لا شك أنها في غاية الأهمية في التشريع، يعني قد يقع من النبي –عليه الصلاة والسلام- شيءٌ من هذا؛ ليُشرِّع، كما نسي في الصلاة، ونام عن الصلاة، كل هذا ليُشرِّع، هذه الأعمال مفضولة، لكنها بالنسبة له فاضلة؛ لأنه ينبني عليها من التشريع لأمته إلى قيام الساعة ما ينبني، ولولا هذه القصة ما استطعنا أن نعرف مثل هذه الأحكام التي نزلت الآيات بسببها.

كم من شخص قيل له: إن فلانًا فعل كذا، أو الجهة الفلانية كذا، أو المسؤول الفلاني أصدر كذا، ثم بعد ذلك يتعجل في قبول هذا الخبر، ويتصل بالمسؤول المشار إليه، ويتكلم معه، وقد يُغلظ عليه القول، ثم النتيجة أنه ما صار شيء، هذا يُصيب الناس عنت بسبب هذا، وهذا يُدلك على أهمية التثبت في قبول الأخبار، وأن الإشاعات مهما كثُر ناقلوها، فإنها حينئذٍ لا تُفيد العلم.

"فقد أخبرت الآية أن الله حبب إلينا الإيمان بتيسيره وتسهيله، وزينه في قلوبنا بذلك، وبالوعد الصادق بالجزاء عليه.

وفي الحديث: «عَلَيْكُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا».

وفي حديث قيام رمضان: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَخْفَ عَلَيَّ شَأْنُكُمْ، وَلَكِنْ خشيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ صَلَاةُ اللَّيْلِ فَتَعْجِزُوا عَنْهَا»".

نعم النبي –عليه الصلاة والسلام- صلى بهم ليالٍ من رمضان، ثم كثر الجمع بعد ذلك؛ حتى كاد المسجد أن يغص بالحاضرين، فلم يخرج عليهم النبي –عليه الصلاة والسلام-، فظن بعضم أن النبي –عليه الصلاة والسلام- فقال: «فَإِنَّهُ لَمْ يَخْفَ عَلَيَّ شَأْنُكُمْ» أعرف اجتماعكم، اجتمعتم بالأمس، والبارحة، والتي قبلها، والتي قبلها، لكن الآن «لَمْ يَخْفَ عَلَيَّ شَأْنُكُمْ، وَلَكِنْ خشيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ صَلَاةُ اللَّيْلِ فَتَعْجِزُوا عَنْهَا».

وترك قيام الليل جماعة في رمضان لا نسخًا له، ولا رغبةً عنه؛ وإنما هو لهذه الخشية، خشية أن يُفرض على الناس، ولا يستطيعون القيام به.

ولذا لمَّا تولى عمر –رضي الله عنه- ألزم الناس بقيام الليل، جعلهم يقومون وراء أُبي بن كعب، وأُسيد بن حضير، المقصود أنه أعاد هذه السُّنَّة، وليس هذا ببدعة كما يقول بعضهم؛ لأنه لم يكن ترك النبي –عليه الصلاة والسلام- رغبةً عنها، ولا رفعًا لحكمها الحكم ثابت وباقٍ؛ إنما خشي أن تُفرض عليهم، وبعد فواته أُمِنت الخشية، فيستمر الحكم، وأما قوله: نِعمة البدعة –رضي الله عنه وأرضاه- فإن هذا كما كررناه مرارًا أنه من باب المشاكلة.

"وفي حديث الحولاء بنت تويت حين قالت له عائشة -رضي الله عنها-: هذه الحولاء بنت تويت، زعموا أنها لا تنام الليل. فقال -عليه الصلاة والسلام-: «لَا تَنَامُ اللَّيْلَ؟!»".

تعجب من شأنها «لَا تَنَامُ اللَّيْلَ؟!» نعم.

"«خُذُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ، فَوَاللَّهِ لَا يَسْأَمُ اللَّهُ حَتَّى تَسْأَمُوا»".

هو بمعنى: «لا يمل حتى تملوا» وإثبات الملل والسأم لله –جلَّ وعلا- على وجهٍ يليق بجلاله وعظمته هذا قولٌ معروف عند أهل العلم، لكن منهم من لا يُثبت ذلك؛ لأن هذا ورد في سياق النفي.

وعلى كل حال ورد في سياق النفي مُعلقًا بما يتحقق وقوعه، إذا تحقق وجود الشرط وُجِد الجزاء، وإذا وُجِد الجزاء وجِد الشرط «لَا يَسْأَمُ اللَّهُ حَتَّى تَسْأَمُوا» «لا يمل حتى تملوا»، فإذا وجِد الملل من المخلوق، وهذا أمرٌ مُحققٌ مُؤكد، فإن الله –جلَّ وعلا- يثبت له هذا الوصف المنفي، هذا قول جمع من أهل العلم، ولا يمنع أن يُثبت مثل هذا الوصف، وإن كان في حق المخلوق وصف نقص إلا أنه في حق الخالق وصف كمال، ونفي الولد العقم بالنسبة للمخلوق نقص، وبالنسبة للخالق عدم الولادة كمال، فلا يلزم من كون الوصف يشتمل على نقص بالنسبة للمخلوق أن يكون مشتملاً على نقص بالنسبة للخالق.

ومن قال: إنه من باب المُشاكلة، كما في قول الله –جلَّ وعلا-: {نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67] في مثل هذا لا يُمكن أن تُثبت النسيان؛ لأن الله –جلَّ وعلا- نفاه عن نفسه {نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67] يعني تركوا عبادة الله، فتركهم في العذاب، فهذا من باب المشاكلة والمجانسة في التعبير فقط.

وهنا «لا يمل حتى تملوا»، ومن أهل العلم من يقول: إن «حتى» هنا بمعنى: وإن مللتم، فإن الله لا يمل وإن مللتم، كما في قولهم: فلان الخطيب لا ينقطع أو المخاصم أو المجادل لا ينقطع؛ حتى تنقطع خصومه؛ لأن إذا انقطع إذا انقطعت خصومه هل يُمدح بهذا؟ لا، وإنما المراد أنه لا ينقطع وإن انقطع خصومه، وهذا الكلام نصره كثيرٌ من أهل العلم.

"وحديث أنس: دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المسجد وحبلٌ ممدود بين ساريتين، فقال: «مَا هَذَا؟» قالوا: حبل لزينب تصلي، فإذا كسلت أو فترت أمسكت به فقال: «حلوه، ليُصلِّ أحدكم نشاطه، فإذا كسل أو فَتَرَ، قَعَدَ»".

كما أنه إذا نعس وهو في الصلاة فإنه حينئذٍ ينصرف عن الصلاة، ويأخذ ما يكفيه من النوم، وعله أن يدعو لنفسه فيدعو عليها كما جاء في الحديث، فمثل هذا إذا أُصيب بالنعاس أو الكسل أو الفتور فإنه يترك إلى أن يعود عليه نشاطه، لكن بعض الناس صار من طبعه وديدنه أنه إذا صلى نعس أو إذا قرأ القرآن نعس، إذا باشر أي عمل خير نعس، وإذا تركه نشط، لا شك أن مثل هذا من الشيطان، فتنبغي مُغالبة الشيطان على مثل هذا، ويستمر في عمله، ويُحاول أن يستحضر ما يقرأ وما يدعو به؛ لأنه يترتب عليه أن يكون في تركٍ دائم على هذا.

طالب:........

في ماذا؟

طالب:........

أما ما أجمع عليه سلف الأمة في إثباته هذا ليس لأحد أن يتكلم فيه، إذا اتفق سلف هذه الأمة على إثبات شيء لله –جلَّ وعلا- فليس لأحدٍ أن ينفيه بتأويل ولا بغير تأويل، أما ما اختلفوا فيه فللرأي فيه مجال، وللترجيح محل، يعني صفة العزم لله –جلَّ وعلا- اختلف فيها السلف على قولين، لماذا؟ لأنه ما فيه نص صحيح صريح مرفوع يُثبت صفة العزم لله –جلَّ وعلا- قراءة {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ} [آل عمران:159].

أم سلمة كما في كتاب الجنائز من صحيح مسلم، قالت: "فعزم الله علي فقلتها".

والإمام مسلم في مقدمة الصحيح، يقول: "فإذا عُزِم لي تمامه فأول من يستفيد منه أنا".

هذه النصوص مجتمعة من أهل العلم من أثبت بها صفة العزم لله –جلَّ وعلا- ومنهم من نفاه؛ لأنه لا يوجد نص مُلزم يُثبت.

في مثل هذه الصفة إذا رجحت أي قول من هذه الأقوال ما تُبدَّع ولا تُضلل، ولا يُقال: إنك أثبت ونفيت على حسب الهوى لا؛ لأن لكل واحدٍ منهما مستمسك، الذي يُثبت يقول: إن أم سلمة ما يُمكن أن تقول هذا الكلام الذي يلزم أنه وصف لله –جلَّ وعلا- من تلقاء نفسها، بل له حكم الرفع؛ ولذا قال شيخ الإسلام: واختلف السلف في إثبات العزم على قولين:

الأول وهو الأصح: إثبات صفة العزم لله -جلَّ وعلا-.

معروف أن العزم من مراتب القصد الذي هو دون الفعل المُحقق، يعني بالنسبة للمخلوق ما فيه جزم بأن هذا العمل يُعمل، لكن بالنسبة للخالق فهذا كمال إذا أثبتناه، ومن نفاه فله وجه.

طالب:........

صفة اليد هل جاء عن أحد من سلف هذه الأمة من يُقتدى به من أئمة الإسلام من أوَّل؟

طالب:........

خلاص انتهينا هذا محل إجماع، ليس لأحدٍ أن ينظر فيه، الساق مثلاً نقول: الساق مختلفٌ فيه، فلك أن تُثبت ولك أن تنفي، على حسب ما يترجَّح، لا على هوى، إذا ترجح عندك الإثبات أثبت؛ لأنك سلفي إذا ترجح لك النفي نفيت لأنك سلفي، لكن القدم والرجل ما يجوز لك أن تنفي؛ لأنه ورد فيها نصٌّ صحيح، واتفق السلف على إثباتها: كاليد، والوجه، والعين، والسمع، والبصر...إلى آخره.

"وحديث معاذ حين قال له النبي -عليه الصلاة والسلام-: «أفتانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ» حين أطال الصلاة بالناس، وقال: «إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيَتَجَوَّزْ، فَإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ، وَالْكَبِيرَ، وَذَا الْحَاجَةِ».

ونهى عن الوصال رحمةً لهم.

ونهى عن النذر، وقال: «إِنَّ اللَّهَ يَسْتَخْرِجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ، وَإِنَّهُ لَا يُغْنِي مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا» أو كما قال، لكن هذا كله معللٌ معقول المعنى بما دل عليه ما تقدم من السآمة والملل والعجز، وبغض الطاعة وكراهيتها".

وكل هذه العلل منصوصٌ عليها، وإذا كانت العلة منصوص عليها فإن الحكم يدور معها وجودًا وعدمًا، بخلاف ما إذا كانت العلة مستنبطة، يعني استنبطها أهل العلم فإن الحكم حينئذٍ تنفع في باب القياس والإلحاق، لكنها لا يدور معها الحكم وجودًا وعدمًا.

"وقد جاء عن عائشة -رضي الله عنها- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلُوا فِيهِ بِرِفْقٍ، وَلَا تُبَغِّضُوا إِلَى أَنْفُسِكُمْ عبادةَ اللَّهِ، فَإِنَّ المُنبَتَّ لَا أرضًا ولا ظهرًا أبقى»".

«لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى».

طالب: هنا ساقطة.

ساقطة ألحقها.

«لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى» هذا الحديث أوله «إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلُوا فِيهِ بِرِفْقٍ» هذا له ما يشهد له، فيرتقي إلى درجة الحسن وبقيته ضعيف.

"وقالت عائشة -رضي الله عنها-: نهاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الوصال رحمة لهم، قالوا: إنك تواصل. فقال: «إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي»".

وهذا الطعام والشراب المنصوص عليه في الحديث لا يخلو إما أن يكون حقيقيًّا أو معنويًّا، فإن كان حقيقيًّا يأكل مادة محسوسة، ويُطعم شرابًا محسوسًا، فإن مثل هذا لا يُقال معه: وصال، النبي –عليه الصلاة والسلام- يُواصل وما قال لهم: إني لا أواصل؛ لأني أُطعَم وأُسقى، هو يُواصل، فدل على أنه لا يأكل ولا يشرب طعامًا حقيقيًّا ولا شرابًا حقيقيًّا إنما قال: «إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ» أنا لي أن أواصل؛ لأني أُطعَم وأُسقى، ولو كان حقيقيًّا لما كان مواصلاً.

هذا الطعام المعنوي هل يدل عليه حقيقة لغوية، يعني في لغة العرب ما يُسمى طعامًا وشرابًا وهو غير حقيقي، ما يُتناول بالفم؟ وهل في عُرف الناس ما يُسمى طعامًا وشرابًا غير حقيقي؟ لا، الطعام الشرعي، والشراب الشرعي في حقيقته الشرعية يُفطِّر، إذًا ماذا نقول عن مثل هذا؟ هل يلزم أن نقول: إن هذا مجاز عن الطعام والشراب ونحن لا نعترف بالمجاز؟ الذي لا يعترف بالمجاز هل يستطيع أن يقول: مجاز مع نفي الحقائق الثلاث؟ يعني هل في لغة العرب لو بحثت عن القواميس وجدت أن إنسانًا يأكل ويشرب أشياء معنوية؟ إذ لا يأتي هذا إلا على سبيل المشاكلة، قالوا: اقترح شيئًا، نوجد لك طبخة، قلت: اطبخوا لي جُبةً وقميصًا، يُمكن أن يقول: أكلت القميص باعتبار أنه لبسه يعني: من باب المشاكلة.

 لكن مثل هذا، نقول: لا مانع أن يكون للفظ أكثر من حقيقة شرعية، لا مانع من أن يكون للفظ الواحد أكثر من حقيقة شرعية، فيكون الطعام والشراب الحسي تتضافر فيه الحقائق الثلاث: اللغوية، والعُرفية، والشرعية.

والطعام المعنوي حقيقة شرعية؛ لأنها جاءت عن الشارع، وسماه طعامًا هو طعام معنوي، كما في المُفلس، المُفلس له أكثر من حقيقة شرعية «من وجده متاعه عند رجلٍ قد أفلس فهو أحق به» ما معنى أفلس؟

طالب:.........

نعم.

طالب:.........

ليس عنده شيء «فهو أحق به» وقال النبي –عليه الصلاة والسلام-: «أتدرون من المُفلس؟» قالوا: من لا درهم له ولا متاع، قال: «لا، المُفلس من يأتي بأعمالٍ أمثال الجبال» فالمفلس له أكثر من حقيقة شرعية، والطعام والشراب هنا له أكثر من حقيقة شرعية ولا مانع من ذلك.

طالب: يعني هذا ما يتنافى مع دلالة الصوم الاصطلاحية الشرعية من أنه وقت بيان الخيط الأبيض من الأسود إلى وقت غروب الشمس على اعتبار أن الإطعام وقت المبيت «أَبِيتُ يُطْعِمُنِي»؟

نعم، يبيت يُطعمه، لكنه يُطعمه شرابًا وطعامًا حقيقيًّا أم لا؟

طالب: قصدي أنه ما هو مُخل، يعني إن هذا ما يُفطِّر؟

لا يُخل بالوصال، الرسول –صلى الله عليه وسلم- يُواصل؛ ومُقتضى ذلك أنه لا يأكل بالليل ولا يشرب، ما معنى الوصال؟ متابعة الصيام أيامًا متعددة بدون فطر.

طالب: هل الفترة من الوصال هذه تُعد صيام يعني في الدلالة الاصطلاحية؟

لا، هو وصال لمَّا نهاهم عن الوصال، قالوا: أنت تواصل، ما قال: لا أنا ما أواصل أُطعَم وأُسقى، قال: «إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ» أنا أواصل وأختلف عنكم؛ لأني أبيت عند ربي يُطعمني ويُسقيني أو «أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي» فهو أثبت الوصال مع أنه يُطعم ويُسقى، فلو كان طعامًا وشرابًا حقيقيًّا ما صار وصالًا.

"وحاصل هذا كله أن النهي لعلةٍ معقولة المعنى مقصودةٍ للشارع، وإذا كان كذلك، فالنهي دائرٌ مع العلة وجودًا وعدمًا، فإذا وجد ما علّل به الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان النهي متوجهًا ومتجهًا، وإذا لم توجد، فالنهي مفقود؛ إذ الناس في هذا الميدان على ضربين:

ضربٌ يحصل له بسبب إدخال نفسه في العمل تلك المشقة الزائدة على المعتاد، فتؤثر فيه أو في غيره فسادًا، أو تُحدِث له ضجرًا ومللاً، وقعودًا عن النشاط إلى ذلك العمل، كما هو الغالب في المكلفين، فمثل هذا لا ينبغي أن يُرتكب من الأعمال ما فيه ذلك، بل يترخص فيه بحسب ما شرع له في الترخص، إن كان مما لا يجوز تركه، أو يتركه إن كان مما له تركه، وهو مقتضى التعليل، ودليله قوله -عليه الصلاة والسلام-: «لَا يقضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ» وقوله: «إِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا»، وهو الذي أشار به -عليه الصلاة والسلام- على عبد الله بن عمرو بن العاص حين بلغه أنه يسرد الصوم، وقد قال بعد الكبر: ليتني قبلت رخصة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

والضرب الثاني شأنه أن لا يدخل عليه ذلك الملل ولا الكسل، لوازعٍ هو أشد من المشقة، أو حادٍ يسهل به الصعب، أو لما له في العمل من المحبة، ولمَّا حصل له فيه من اللذة، حتى خف عليه ما ثقل على غيره، وصارت تلك المشقة في حقه غير مشقة، بل يزيده كثرة العمل، وكثرة العناء فيه نورًا وراحة، أو يحفظ عن تأثير ذلك المشوش في العمل بالنسبة إليه أو إلى غيره، كما جاء في الحديث: «أَرِحْنَا بِهَا يَا بِلَالُ».

وفي الحديث: «حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ ثَلَاثٌ...» قال: «وجُعلت قرة عيني في الصلاة»".

كلمة «ثلاث» غير محفوظة كما قرر ذلك أهل العلم، إنما فيه «حُبب إلى من دنياكم النساء والطِّيب» هذه نعم من أمور الدنيا، «وجُعِلت قُرة عيني في الصلاة» هذا ليس من أعمال الدنيا ولا من أمورها، إنما هي من أعظم أمور الدين؛ ولذا حكم جمعٌ من أهل العلم أن اللفظة ليست محفوظة، شاذة.

طالب: يعني يُريد سعادة الدنيا؟

كيف؟

طالب: «وجُعِلت قُرة عيني» يعني: سعادتي الدنيوية؟

نعم، لكن الواو هذه استئناف «حُبب إلى من دنياكم النساء والطِّيب» هذا من أمور الدنيا «وجُعِلت قُرة عيني في الصلاة» هذا كلام الحُفاظ قالوا هذا.

"وقال لما قام حتى تورمت أو تفطَّرت قدماه: «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟!»

وقيل له -عليه الصلاة والسلام-: أنأخذ عنك في الغضب والرضى؟ قال: «نعم».

وهو القائل في حقنا: «لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ»، وهذا وإن كان خاصًا به، فالدليل صحيح.

وجاء في هذا المعنى من احتمال المشقة في الأعمال والصبر عليها دائمًا كثير.

ويكفيك من ذلك ما جاء عن الصحابة والتابعين ومن يليهم -رضي الله عنهم- ممن اشتهر بالعلم وحمل الحديث، والاقتداء بعد الاجتهاد: كعمر، وعثمان، وأبي موسى الأشعري، وسعيدٍ بن عامر، وعبد الله بن الزبير؛ ومن التابعين: كعامر بن عبد قيس، وأويس، ومسروق، وسعيد بن المسيب، والأسود بن يزيد، والربيع بن خُثيم، وعروة بن الزبير، وأبي بكرٍ بن عبد الرحمن راهب قريش، وكمنصورٍ بن زاذان، ويزيد بن هارون، وهُشيم، وزر بن حبيش، وأبي عبد الرحمن السلمي، ومن سواهم ممن يطول ذكرهم، وهم في اتباع السُّنَّة والمحافظة عليها ما هم".

وهم من اتباع.

طالب: وهم من؟

نعم.

يعني منزلتهم معروفة من اتباع السُّنَّة، على كل حال من أراد أخبار مثل هؤلاء، فليرجع إلى الحلية حلية الأولياء، ويجد فيها الشيء الكثير من عباداتهم أو في السير (سير أعلام النبلاء) وغيرهما من كتب التراجم.

"ومما جاء عن عثمان -رضي الله عنه- أنه كان إذا صلى العشاء أوتر بركعةٍ يقرأ فيها القرآن كله".

وهذا صحيح عن عثمان –رضي الله عنه- ثابتٌ عنه، فهل يُقال: إن عثمان خالف السُّنَّة، يعني لمَّا قال النبي –عليه الصلاة والسلام- لعبد الله بن عمرو «اقرأ القرآن في سبع ولا تزد» هل هذا عام لجميع الناس؟ وقال النبي –عليه الصلاة والسلام-: «لا يفقه من يقرأ القرآن في أقل من ثلاث» هل هذا يتناول جميع الناس أو أن غالب الناس على هذا؟ وبعض الناس ممن تفرغ للقرآن يفقهه في أقل من ذلك، والقرآن يُمكن قراءته في ست ساعات، يعني إذا صلى العشاء أو انتظر قليلاً، ثم شرع في ركعته هذه قرأ القرآن في ست ساعات، وهذا ثابت عن عثمان –رضي الله عنه وأرضاه-.

"وكم من رجلٍ منهم صلى الصبح بوضوء العشاء كذا وكذا سنةً، وسرد الصيام كذا وكذا سنة".

ممن ذُكر عنه أنه عاش أربعين سنة يُصلي الصبح بوضوء العشاء الإمام أبو حنيفة –رحمه الله-، وهذا ذُكِر أيضًا في أكثر من ترجمة، هذا يدل على أنهم يُحيون الليل كله، مع أنه -كما قالت عائشة-: لم يقم النبي –عليه الصلاة والسلام- ليلةً كاملة، بينما كان يقوم وينام ما حُفظ عنه أنه أحيا الليل كله، والخلاف في العشر الأواخر من رمضان، منهم من يُثبت ومنهم من ينفي، وشأنه في العشر الأواخر من رمضان لا شك أنه يزيد في الاجتهاد في الطاعة، كان يُحيي ليله كما جاء في بعض الروايات، يشد المئزر، ويترك أهله.

على كل حال ليس من هديه –عليه الصلاة والسلام- أنه يقوم الليل كله، الليالي المتتابعة، ولا يسرد الصوم كذا كذا وسنة، لكن إذا وجِد هذا من بعض أهل العلم الذين هم من اتباع السُّنَّة بما كان، هل يُقال: أنهم خالفوا السُّنَّة، كما فعل عثمان، وكما يُذكر عن أهل أنهم يُصلون الفجر بوضوء العشاء أو نقول: إن هذا مسابقة ومسارعة ومنافسة في الخيرات، ولا يعقوهم هذا عما هو أهم منه؟ والخشية من الإكثار والإفراط في هذا الأمر من الملل والسآمة، وهم لا يُتصور ذلك منهم؛ لأنهم يتلذذون بهذه العبادات، بل بعضهم إذا نام عن ورده يُعاد من الغد مريض، وشيخ الإسلام يجلس بعد صلاة الصبح إلى أن تنشتر الشمس، ويقول: هذه غدوتي، يعني: لو تركها ما استطاع أن يعمل في بقية يومه، فهم يتلذذون بهذه الأمور، وتنشطهم وتُعينهم على العبادات الأخرى.

وعلى كل حال دين الله بين الغالي والجافي، ومن فُتح له باب خير فليلزمه؛ لأنه ما يدري متى يفجئه الأجل، ويموت على تفريط يُسوِّف، يُؤمِّل أمالًا، بعضهم يُعلِّق أماله على التقاعد، يقول: إذا تقاعدت –إن شاء الله- أتعبد، صار عمره ستين، وهو يمكن الآن توظف أو قبل الوظيفة أثناء الطلب، يقول: إذا تقاعدت سأتفرغ للعبادة –آمال-، وما يدري متى يموت، لعله يموت في لحظته، في ساعته، في يومه، في غده، فعلى الإنسان أن يُبادر للأعمال الصالحة، وعليه أن يُسدد ويُقارب، وأن يَكلف من العمل ما يُطيق، ولا يُكلف نفسه تكليفًا يجعله يكره العبادة أو يتركها.

"وروي عن ابن عمر، وابن الزبير أنهما كانا يواصلان الصيام، وأجاز مالكٌ صيام الدهر".

مع أنه جاء في الحديث الصحيح «لا صام من صام الأبد»، لكن بعض أهل العلم يُجيزون صيام الدهر، ويجعلون الحديث خاصًّا بمن لا يُفطر ولا يومًا بما في ذلك الأيام التي لا يجوز صيامها كالعيدين، وأيام التشريق، فيُحمل على هذا، وأما صيام بقية العام فهو جائزٌ عند جمع من أهل العلم، وأكثرهم لا يُجيزه، ويجعل أفضل الصيام صيام داود، كما جاء بذلك الخبر.

وكان أويسٌ القُرني يقوم".

القَرني.

"وكان أويسٌ القَرني يقوم ليلة حتى يُصبح، ويقول: بلغني أن لله عبادًا سجودًا أبدًا".

هذا فُسِّر عن أويس أنه يقوم ليلةً كاملة، فإذا خشي الصبح أتمها بالركوع والسجود الخفيف، ومن الغد يُخفف القراءة، ثم يُطيل الركوع، فإذا خشي طلوع الصبح أتمها بسجودٍ خفيف وسلَّم، فإذا كان من الليلة الثالثة أطال السجود وهكذا، ولا شك أن مثل هذا لم يرد به شرع، وأويس سيد من سادات التابعين، ومعروف أنه أفضل التابعين على الإطلاق عند جمع من أهل العلم؛ للنص الصحيح الوارد فيه في صحيح مسلم، وعمر –رضي الله تعالى عنه- أُمر أن يستغفر له أويس، ومن التابعين كان الإمام أحمد –رحمه الله- يُفضِّل سعيد بن المسيب على سائر التابعين، ولعله في باب العلم هو اسمه مثل سعيد في العلم، والله المستعان.

طالب: القَرني نسبة...؟

إلى قَرَن.

طالب: قَرن.

قبيلة نعم.

وقرنٍ، وعدنٍ، ولاحقٍ

 

وهيلةٍ، وشذقمٍ، وواشق

وهِم صاحب الصحاح في الميقات قرن المنازل، فقال: وبفتح الراء وإليه يُنسب أويس، وهذ ليس بصحيح.

"ونحوه عن عبد الله بن الزبير.

وعن الأسود بن يزيد أنه كان يُجهد نفسه في الصوم والعبادة، حتى يخضر جسده ويصفر، فكان علقمة يقول له: ويحك! لم تعذب هذا الجسد؟ فيقول: إن الأمر جد.

وكرر "إن الأمر جِد" ثانية؟

طالب: مكررة.

مكررة نعم.

على كل حال الأسود بن يزيد الجرشي من خيار التابعين، من أهل العلم والعمل، من أهل العبادة مشهور بهذا؛ حتى إن معاوية –رضي الله عنه- استسقى به، ما معنى استسقى به؟ جعله يدعو فأمَّنوا، لكن الأسود هذا قال: إنك فضحتني يا معاوية، فدعا الله أن يقبضه فقُبض.

وعن ابن سيرين أن امرأة مسروق".

عن أنس بن سيرين.

طالب: أنس؟

أنس بن سيرين.

طالب: مكتوبة أنس عندك؟

نعم، أخو محمد.

"أن امرأة مسروقٍ قالت: كان يصلي حتى تورمت قدماه، فربما جلست أبكي خلفه مما أراه يصنع بنفسه.

وعن الشعبي، قال: غُشي على مسروقٍ في يوم صائفٍ وهو صائم، فقالت له ابنته: أفطر! قال: ما أردتِ بي؟ قالت: الرفق. قال: يا بنية! إنما طلبت الرفق لنفسي في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنة.

إلى سائر ما ذكر5 عن الأولين من الأعمال الشاقة التي لا يُطيقها إلا الأفراد؛ هيأهم الله لها، وهيأها لهم وحببها إليهم، ولم يكونوا بذلك مُخالفين للسُنَّة، بل كانوا معدودين في السابقين، جعلنا الله منهم؛ وذلك لأن العلة التي لأجلها نهى عن العمل الشاق مفقودةٌ في حقهم، فلم ينتهض النهي في حقهم، كما أنه لما قال: «لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ» وكان وجه النهي وعلته تشويش الفكر عن استيفاء الحُجج اطرد النهي مع كل ما يشوش الفكر، وانتفى عند انتفائه، حتى إنه منتفٍ مع وجود الغضب اليسير الذي لا يشوش، وهذا صحيحٌ مليح".

ويبقى أنه مع ما ثبت عن هؤلاء من اجتهادهم في العبادات أن الاقتداء واتباع ما جاء عن النبي –عليه الصلاة والسلام- هو الأصل، ومن ذُكر عنهم ممن ذُكر من هؤلاء السادة من الأعمال الكثيرة التي يجزم كثيرٌ ممن لا يعرف حال القوم بأن هذا ضربٌ من الخيال لا شك أنه على حساب أمور أخرى، هذا على حساب أمورٍ أخرى.

وحال النبي –عليه الصلاة والسلام- هو التكامل في جميع ما طلب الله –جلَّ وعلا- من النفع الخاص والعام، من العبادات الخاصة، ومن الأمور المتعدية، فالنبي –عليه الصلاة والسلام- ما حُفِظ عنه أنه فعل مثل هذا.

لكن إذا أُمرنا بالمسارعة، وأُمرنا بالمسابقة، وأمرنا بالمنافسة، فعلينا أن نفعل ونعمل، لكن لا يكون على حساب ما هو أهم من ذلك، لكن بعض الناس يُفتح له باب ديدنه قراءة القرآن يختم كل يوم، لكن إذا أراد أن يسجد سجدة تلاوة شقَّت عليه؛ لأنه ما فُتح له في باب الصلاة شيء، تجده مقتصرًا على الفرائض، وأكثر الرواتب تفوته ولا يقضيها؛ لأنه يستثقل هذه العبادة ما فُتح له بابها.

وبعض الناس الصيام أشق عليه من جبل، وبعض الناس عنده استعداد يُنفق الأموال الطائلة في سبيل الله، لكن لا يركع ركعتين، وبعض الناس العكس مستعد أن يقوم الليل، ويصوم النهار ولا يُنفق درهمًا.

فعلى كل حال الناس يتفاوتون في مثل هذا، وتنوع العبادات من أعظم المصالح الشرعية، ومن أعظم الحِكم الشرعية، يعني من نِعم الله –جلَّ وعلا- على المسلمين أن نوَّع هذه العبادات؛ لأن الناس ميولهم مختلفة، وما جُبلوا عليه يختلف بعض الناس تجود نفسه بالصيام، لكن لا يستطيع أن يصلي، تثقل عليه الصلاة، نقول: أدِم الصيام، وبعض الناس يُسهل عليه أمر القيام كذلك؛ لأنه لو ترك مثل هذا ليس له بديل؛ لأنه لو قيل له هذا الذي يقرأ القرآن كل يوم، قال له: يا أخي الرسول –عليه الصلاة والسلام- قال لعبد الله بن عمرو: «اقرأ القرآن في سبع» وصار يقرأ في سبع ما فيه بديل.

 يعني لو أن هناك بديلًا يُقال له: اقرأ القرآن في سبع، وصم الاثنين والخميس، وثلاثة أيام من كل شهر، وصلِّ كذا ركعة في كل يوم، ونوِّع العبادات، وانفع الناس، وزُر المرضى، واتبع الجنائز، وصلِّ عليها، وادفن... يعني لو كان هناك بديل لهذا التخفيف هذا المنهج النبوي، لكن لو أنه ترك ما فيه بديل؛ لأنه ما فُتح له من أبواب الخير أمور أخرى، فمثل هذا هذا ديدنه، وهذه عادة من يُذكر عنه مثل هذه الأشياء، وكل خير في اتباع النبي –عليه الصلاة والسلام- لكن لا يُلام من فُتح له باب خير فولجه.

"فالضرب الأول حاله حال من يعمل بحكم عهد الإسلام، وعقد الإيمان من غير زائد، والثاني حاله حال من يعمل بحكم غلبة الخوف، أو الرجاء، أو المحبة، فالخوف سوطٌ سائق، والرجاء حادٍ قائد، والمحبة تيارٌ حامل".

انظر الجُمل الثلاث؛ لأن بعض الناس يكون لديه شيءٌ من الخوف، لكنه لا يبعثه على العمل؛ إنما يبعثه على القنوط واليأس، هذا ما يجوز، هذا من عظائم الأمور، هذا من الكبائر، ومنهم من عنده رجاء، لكن هذا الرجاء لا يقوده إلى العمل؛ وإنما يقوده إلى التفريط، هذا أيضًا الأمن من مكر الله من الموبقات.

"والمحبة تيارٌ حامل" لكن المحبة لابد لها من برهان يدل عليها، فقوله: "فالخوف سوطٌ سائق" يحدوك على العمل الخوف الصحيح.

"والرجاء حادٍ قائد" كلام متين؛ لأن بعض الناس يرجو وينام ويُفرِّط، هذا ليس برجاء، "والمحبة تيارٌ حامل" يعني: تحمل القدمين إلى المحبوب، وهذا محسوس وملموس.

"فالخائف يعمل مع وجود المشقة، غير أن الخوف مما هو أشق يحمل على الصبر على ما هو أهون وإن كان شاقًا".

نعم، هذا الذي قام حتى تفطرت قدماه، هذا خائف مما هو أشد من عذاب النار خائف الذي لا يحتمله الصُّم الرواسي الجبال ما تحتمله، فمادام خائفًا من أمرٍ أشد يهون عليه ما دونه.

"والراجي يعمل مع وجود المشقة أيضًا، غير أن الرجاء في تمام الراحة يحمل على الصبر على تمام التعب".

نعم الراجي يحدوه هذا الرجاء إلى العمل؛ لأنه يرجو أعظم من ذلك، يرجو الراحة التامة في الجنة، فيتحمل هذا التعب وهذه المشقة.

"والمحب يعمل ببذل المجهود شوقًا إلى المحبوب، فيسهُل عليه الصعب".

نعم؛ ليصل إليه، لو أن إنسانًا له امرأة يُحبها حبًّا شديدًا، وهي في بلدٍ آخر تحمَّل المشقة والسفر إلى البلد الآخر.

"ويقرب عليه البعيد".

ولو قالت: لا تقدم؛ حتى تأتي معك بالمتاع الفلاني، لحمله على ظهره، وذهب به إليها، يتحمل المشقة من أجلها، فكيف إذا كان المحبوب هو المتفضل بالوجود، المتفضل بالنِّعم، المتفضِّل بجزيل المنن؟! والله المستعان.

طالب:........

نعم.

طالب:........

ماذا؟

طالب:........

تعبُّد أين؟

طالب: بالمحبة يقولون.

المحبة فقط؟

طالب:........

ما يُمكن، لابد من الخوف والرجاء والمحبة من الثلاثة كلهم، وقرر أهل العلم أن التعبد بالخوف فقط فهذا شأن الخوارج، والتعبد بالرجاء فقط هذا عمل المرجئة، وأما بالنسبة للتعبد بالمحبة فهذه زندقة، من دون خوف ولا رجاء، لا يرجو الله ولا يخافه هذا زنديق، كما وصل الأمر إلى بعض زنادقة الصوفية الذين لا ينظرون إلى جنة ولا نار ولا شيء كما يُذكر عن رابعة وغيرها.

"ويُفنى القوي ولا يرى أنه أوفى بعهد المحبة، ولا قام بشكر النعمة، ويعمــر

الأنفاس، ولا يرى أنه قضى نُهمته، وكذلك الخوف على النفس أو العقل أو المال يمنع من العمل المسبب، لذلك إن كان لخيرة الإنسان، ويُرخص له فيه إن كان لازمًا له، حتى لا يحصل في مشقة ذلك؛ لأن فيه تشويش النفس كما تقدم.

ولكن العمل الحاصل والحالة هذه، هل يكون مجزئًا أم لا إذا خاف تلف نفسه أو عضوٍ من أعضائه أو عقله؟

هذا مما فيه نظرٌ يُطَّلع على حقيقة الأمر فيه من قاعدة: الصلاة في الدار المغصوبة، وقد نُقل منع الصوم إذا خاف التلف به عن مالكٍ والشافعي، وأنه لا يُجزئه إن فعل، ونُقل المنع في الطهارة عند خوف التلف، والانتقال إلى التيمم، وفي خوف المرض أو تلف المال احتمال، والشاهد للمنع قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمَ} [النِّسَاءِ:29] وإذا كان منهيًّا عن هذه الأشياء وأشباهها بسبب الخوف، لا من جهة إيقاع نفس تلك العبادات، فالأمران متفرقان".

مفترقان.

"فالأمران مفترقان، فإن إدخال المشقة الفادحة على النفس يُعقل النهي عنها مجردةً عن الصلاة، والصلاة يُعقل الأمر بها مجردةً عن المشقة، فصارت ذات قولين".

وعلى هذا تكون الجهة منفكة، وإذا انفكت الجهة صحت العبادة مع الإثم، وإذا قلنا: إن الجهة غير منفكة واحدة، قلنا: يأثم والصلاة باطلة، والعمل الذي تحمَّل فيه ما لا يُطيق لا يصح باطل.

"وأيضًا فيدخل فيها النظر من قاعدةٍ أخرى، وهي أن يقال: هل قصد الشارع رفع المشقة لأجل أن ذلك حق الله".

لله.

"وهي أن يقال: هل قصد الشارع رفع المشقة لأجل أن ذلك حقٌّ لله أم لأجل أنها حقٌّ للعبد؟ فإن قلنا: إنها حقٌّ لله، فيتجه المنع حيث وجهه الشارع، وقد رفع الحرج في الدين، فالدخول فيما فيه الحرج مضادّ لذلك الرفع، وإن قلنا: إنه حقٌّ للعبد، فإذ سمح العبد لربه بحظه كانت عبادته صحيحة، ولم يتمحض النهي عن تلك العبادة".

وبهذا علّل أهل العلم صنيع عبد الله بن عمرو بن العاص لمَّا نُهي عن قراءة القرآن في أقل من سبع، عبد الله بن عمرو فهم أن هذا النهي إنما هو لمصلحته وللرفق به، وتنازل عن هذه المصلحة، فما رأى في هذا بأسًا، ووافقه جمهور أهل العلم على أن قراءة القرآن في أقل من سبع جائزة؛ لأن النهي إنما هو لأجل مصلحة المكلَّف، وشفقةً عليه، ورأفةً به، وتحمَّل هو المشقة والعزيمة وجاد بها، لا يُوجد ما يمنع من وجهة نظري.

ومنهم من رأى أنه إذا مُنِع والمنع من قِبل الله –جلَّ وعلا- فيكون حقًّا له، فلا يجوز تخطيه؛ لأنه نهيٌ شرعي لا يجوز تعديه.

"والذي يُرجح هذا الثاني أمور منها:".

أنه حقٌّ للمخلوق، حقٌّ للعبد.

"أن قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء:29] قد دلّ بإشارته على أن ذلك من جهة الرفق بالعباد؛ لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29] يشير بذلك إلى رفع الحرج عنهم؛ لأنه أرفق بهم، وأيضًا فقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] وأشباهها من الآيات الدالة على وضع الشريعة لمصالح العباد.

ومنها: ما تقدم من الأدلة على رفع الحرج وإرادة اليُسر، فإنما يكون النهي منتهضًا مع فَرض الحرج والعسر".

مع فرضِ.

طالب: مع فرضِ؟

نعم.

"فإذا فرض ارتفاع ذلك بالنسبة إلى قوم ارتفع النهي، ومما يخص مسألتنا قيام النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى تفطرت قدماه، أو تورمت قدماه، والعبادة إذا صارت إلى هذا الحد شقت ولا بد، ولكن المُر في طاعة الله يحلو للمحبين، وهو -عليه الصلاة والسلام- كان إمامهم، وكذلك جاء السلف ترداد البكاء حتى عميت أعينهم، وقد روي عن الحسن بن عرفة، قال: رأيت يزيد بن هارون بواسط، وهو من أحسن الناس عينين، ثم رأيته بعينٍ واحدة، ثم رأيته وقد ذهبت عيناه، فقلت له: يا أبا خالد! ما فعلت العينان الجميلتان؟ فقال: ذهب بهما بكاء الأسحار.

وما تقدم في احتمال مُطلق المشقة عن السلف الصالح عاضدٌ لهذا المعنى، فإذًا من غلَّب جانب حق الله تعالى منع بإطلاق، ومن غلَّب جانب حق العبد لم يمنع بإطلاق، ولكن جعل ذلك إلى خيرته".

لاسيما مع ورود النصوص العامة التي تدل على طلب كثرة التعبد، فالنبي –عليه الصلاة والسلام- قال للذي طلب مرافقته في الجنة، قال: «أعني على نفسك بكثرة السجود»، ولذا يُذكر عن أهل العلم أنهم ضربوا في كل باب من أبواب الدِّين بشيءٍ لا يُصدقه المفرِّط الغافل، البطال الكسلان، الإمام أحمد يُصلي في اليوم والليلة ثلاثمائة ركعة، من يُطيق هذا في وقتنا؟ تحتاج على أقل تقدير إلى ثلاثمائة دقيقة، والحافظ عبد الغني صاحب (العمدة) وغيرها ذُكِر في ترجمته أنه يُصلي ما بين ارتفاع الشمس إلى زوالها ثلاثمائة ركعة، كل هذا يُذكر عن أهل العلم، وفي تقريرنا وقياسهم على أنفسنا أن هذا شيء لا يُطاق، لكن من جرَّب عرف، والله المستعان.

لأن المسألة تحتاج إلى هِمَّة، وتحتاج إلى مِران، وتحتاج إلى قهرٍ للنفس، وتحتاج إلى تفرغ من شواغل الدنيا، ومعرفة الموعود، موعود الله –جلَّ وعلا- بالثواب العظيم التسبيحة الواحدة فيها شجرة تُغرس في الجنة، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ونعرف أناسًا لا يفترون عن ذِكر الله؛ لأنهم عرفوا حقيقة الأمر، وأن استغلال الأنفاس هو المطلوب من المسلم؛ لأن الوعد عظيم، والرب كريم «أقرئ أمتك مني السلام» يقوله إبراهيم الخليل –عليه السلام- «وأخبرهم أن الجنة قيعان، وأن غراسها التسبيح والتحميد والتهليل»، هذا لا يُكلِّف شيئًا، «سبحان الله وبحمده مائة مرة حُطت عنه خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر».

 وعرفنا أُناسًا لا تفتر ألسنتهم من ذِكر الله إلى أن ماتوا، حتى بعد مرضهم ودخولهم في العناية المركزة، وفقدهم الوعي التام يذكرون الله –جلَّ وعلا- ومنهم من يُسمع منه القرآن كاملًا، ووجِد من يقرأ القرآن وهو نائم، بحيث ينام وهو في جزءٍ مُعين من القرآن يسمعه الناس، فإذا أصبح فإذا هو بعده بخمسة أو ستة أجزاء.

في عُرفنا وما نعيشه نعتبر هذا الكلام خياليًّا ما هو بصحيح، لكن الذي يزور المرضى، ويتفقد أحوالهم، ويُكثر الترداد عليهم يجد من هذا أنواعًا، {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل:4] سمعنا من يذكر الله، سمعنا من يُؤذِّن، سمعنا من يقرأ القرآن، وسمعنا من يُطلق اللعن والسب والشتم، الإنسان على ما تعوَّد، والله المستعان.

اللهم صلِّ على محمد.

طالب:..........

أحيانًا يترجَّح للإنسان نفع هذا الكلام؛ ليُقتدى به، فتُغتفر هذه المفسدة، ويكون أيضًا مما يزيد الحسنات إذا قصد بذلك، العالم إذا كان ممن يُقتدى به، وأظهر العبادة للناس مع أنه يجزم بأنه لا يُصيبه شيءٌ من الرياء، حينئذٍ يكون له أجر العمل، وأجر الاقتداء.

وإذا اتُهم الإنسان بأنه مُفرِّط، ووقع الناس في عرضه بسبب ذلك عليه أن يدفع عن نفسه بشيءٍ من الإظهار {لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ} [النساء:148] ابن عمر اتُهم بالعي، فقال: "كيف يكون عييًا من في جوفه كتاب الله"، والله المستعان.

طالب:..........

نعم.

طالب:..........

مشكلة، هذا أمرٌ مشكِل؛ لأن هذا مما يُعبد من دون الله، فأثره واضح، نص كثيرٌ من أهل العلم على أن الصلاة باطلة في مثلها.

طالب: جزاك الله خيرًا.

بارك الله فيكم.

طالب:..........

نعم.

طالب:..........

لو اعتقد كفر، ما هي بمسألة بطلان صلاة، يعني مثل ما يُقال في الصلاة تلقاء النار، يعني: يُصلي وفي جهة القبلة نار موقدة، جمعٌ من أهل العلم يمنع من ذلك قالوا: لا بد أن يعتزل، فإذا اعتقد كفر انتهى، ما نقول: المسألة صلاة باطلة فقط لا، مع أن هذا القول البخاري –رحمه الله- رجَّح غيره؛ لأن النبي –عليه الصلاة والسلام- عُرِضت له النار في صلاة الاستسقاء، وصلى إليها في قبلته، وعلى كل حال الكراهة متجهة.