التمسك بأقوال الأئمة بين الإفراط والتفريط

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدِي اللهَ وَرَسُولِهِ} فمن قدَّم على قول الله أو على قول رسوله قول أحد من الناس أو قدم هوى النفس يدخل في هذه الآية؛ لأنه مما يتناوله العموم فقوله: {لَا تُقَدِّمُوا} أي لا تقدموا شيئًا كائنًا من كان ولو كان القول لأبي بكر وعمر.

فعلى طالب العلم أن يتجرَّد، ويجعل المعوَّل على النص من كلام الله وكلام رسوله -عليه الصلاة والسلام-، فبعض طلاب العلم إذا أُوْرِد عليه النص هجم عليه؛ لأنه علق في قلبه ما قرأه لأحدٍ ممن يثق به من أهل العلم، فعندما يقرأ -مثلا- لشيخ الإسلام ابن تيمية تجده -أحيانًا- يلغي فهم النص لثقته بشيخ الإسلام فهو إمام محيط مطَّلع، وكذلك عندما يقرأ كلامًا لابن القيم تجده يلغي فهم النص من أجل ما هجم على قلبه من كلامه -ونضرب المثال بهذين الإمامين لأنهما من الأئمة الموثوق بعلمهم، ومن الذين يصدرون عن النصوص- فلا بد أن يتجرد طالب العلم ولا يقدم بين يدي الله ورسوله قول أحد كائنًا من كان.

أما من تعلَّق بإمام وصار يقلِّده في كل ما يقول ويقدمه على النصوص فمثل هذا لا عبرة به، ففي حاشية الصاوي على الجلالين في تفسير سورة الكهف يقول: ولا يجوز الخروج عن مذاهب الأئمة الأربعة ولو خالفت الكتاب والسنة وقول الصحابي. وكلامه هذا مخالف لقوله تعالى: {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدِي اللهَ وَرَسُولِهِ}. وتجد الشخص المقلِّد لإمام من الأئمة إذا أُوْرد عليه النص يقول الإمام أعرف، وهذا لا يخفى على الإمام أحمد.. يا أخي ما الإمام أحمد هل هو معصوم؟! الإمام أحمد إمام السنة بلا منازع، ويحفظ سبع مائة ألف حديث أكثر مما تحفظه كل الآلات والكمبيوترات الموجودة الآن، ومع ذلك ليس بمعصوم، وقد وُجِد في أقواله وفي مذهبه من الأقوال المرجوحة الشيء الكثير، وإن كان هو الأقرب إلى الدليل والأقوال المرجوحة في مذهبه ليست بأكثر من المذاهب الأخرى. وتجد آخر يقول هل أنت أعلم من مالك نجم السنن؟! فنقول: نحن وأنت ومالك وأبو بكر وعمر كلنا تحت حكم الله وحكم رسوله، طالب العلم عليه أن يتجرَّد فإذا جاءه النص عن الله وعن رسوله عليه أن يقف، يقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: يوشك أن تُنزَّل عليكم حجارة من السماء أقول قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتقولون قال أبو بكر وعمر؟! فكيف بمن إذا قيل له قال رسول الله قال المذهب كذا والمعتمد عندنا كذا؟! وفي قضية عند أحد القضاة أُحضِر الدليل من صحيح البخاري فأجاب بأن ما قال به هو الذي عليه العمل، وهو المذهب، وعليه أئمة الدعوة، وعليه وعليه.. ولا شك أن هذا الكلام لا ينفع، إذ عليه أن يفهم كلام الأئمة وعليه أن يجيب عن هذا الدليل.

وهذا في إطار مذاهب الأئمة أئمة الهدى، فضلا عن أئمة الضلال، فمن الناس من إذا قلت له نصوص القرآن من أوله إلى آخره تنهى عن الشرك وتحكم على المشرك بأنه خالد مخلد في النار ولا يغفر له، يقول لك: شيوخنا كلهم يطوفون على القبر.

فمن توفيق الله -جل وعلا- للإنسان أن يتجرَّد، فكتب أهل العلم وإن كان عمدتها في الأصل الكتاب والسنة، لكن مع ذلك قد يغفل الإنسان عند التطبيق، وقد يخفى عليه الدليل، وقد يفهم الدليل على غير مراد الله ومراده رسوله، وقد يجتهد في فهم الدليل فلا يوفَّق في فهمه، ورب مبلَّغ أوعى من سامع، ومع الأسف أن الناس على طرفي نقيض، فمن الناس من إذا أُوْرِد عليه كلام أهل العلم قال: هم رجال ونحن رجال، ويضرب بأقوالهم عرض الحائط بإطلاق. اعلم يا أخي أنك لا تستطيع فهم الكتاب والسنة إلا بعد أن تُعْنَى بكلام أهل العلم، ثم بعد ذلك تنظر في النصوص إذا تولَّدت عندك الملكة لفهمها من خلال الاطلاع على أقوال أهل العلم -الذين يفهمون الكتاب والسنة- بدءًا من الصحابة ثم من تبعهم بإحسان إلى يومنا هذا. فمن طلاب العلم من يرمي بأقوال أهل العلم عرض الحائط وهذا إفراط، ومنهم من يعتمد أقوال أهل العلم في مقابل النصوص وهذا تفريط، والخير في الوسط بأن يُعرَف لأهل العلم قدرهم، وتُفهَم النصوص من خلال فهمهم، فإن اجتهدوا وأخطؤوا فكل يؤخذ من قوله ويترك إلا المعصوم -عليه الصلاة والسلام-.