شرح المقدمة من نونية ابن القيم - (09)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد،

فيقول المؤلف –رحمه الله تعالى- في صاحب القلب الثاني يقول: "قد طاف على أبواب الآراء والمذاهب يتكفف أربابها".

"قد طاف على أبواب الآراء والمذاهب"؛ لأن صاحب القلب الأول اليقظ الحي يكتفي بالكتاب والسُّنَّة، وما يُعينه على فهم الكتاب والسُّنَّة من كلام سلف الأمة وأئمتها، هذا الذي نكَّب عن الكتاب والسُّنَّة وأعرض عنهما، ما البديل عنده؟ 

"طاف على أبواب الآراء والمذاهب يتكفف أربابها"، يسألهم بكفِّه، كما يسأل الفقير المحتاج الغني من ماله بكفِّه، هذا يدور على فلان وفلان من أصحاب الآراء والمذاهب الباطلة المخالفة للكتاب والسُّنَّة يتكفف أربابها وأصحابها، تجده يقرأ لفلان وفلان من رؤوس المبتدعة، وفي النهاية يضل الطريق، ولا يهتدي إلى الحق سبيلًا، ومن استعرض مصنفات القوم وجد ذلك عيانًا، لا تجد عندهم استدلالًا بالكتاب والسُّنَّة، وإن استدلوا بآية حرَّفوا معناها، وصرفوه إلى ما يُريدون مما يؤيد بدعهم.

وأما الحديث، السُّنَّة فقد ارتاحوا منها من أول الأمر، قالوا: ظنون لا تُفيد يقينًا، القرآن لا يستطيع أحدٌ منهم أن يقول: إنما يُفيد الظن، يعني في ثبوته، فهو قطعي، لكن قد يُشككون في دلالته على المراد، فإفادته قطعية الثبوت ظنية الدلالة، وبهذا يصلون إلى ما يريدون، ومن قرأ في (المواقف) للإيجي أو شرحها في (شرح المواقف) يجد هذا الكلام بحذافيره، تجده يقرأ الصفحة والصفحتين والثلاث والعشر وأكثر من ذلك وأقل ما يهتدي إلى سبيل، ولا ينتفع لا قلبه ولا عقله بشيء منها.

طالب: .............

منطق نعم.

طالب: .............

لا، هو في علم الكلام، (المواقف) في علم الكلام الذي هو التوحيد عندهم.

ولأبي إسماعيل الهروي كتاب عظيم اسمه (ذم الكلام وأهله)، ووقفت على رسالةٍ مطبوعةٍ قبل ثمانين سنة لأبي الحسن الأشعري في فضل علم الكلام، وهي لا تتجاوز بضع صفحات لعلها عشر، اثنتي عشرة صفحة، وفي مقدمتها هدمٌ لها كلها. قد يقول قائل: إن علم الكلام لم يرد عن الله ولا عن رسوله ولا عن صحابته، وأنه لا يُوصِل إلى فهم الكتاب والسُّنَّة، وأنه يصد عن ذِكر الله وعن كذا وكذا، فنقول: خلاص انتهينا، صحيح انتهينا، وإذا صارت فيه هذه الأشياء، فما الفائدة فيه؟

كتاب صغير جدًّا، وأظن إن كانت نسبته أو ناسبه إلى الأشعري -يعني بعد رجوعه عن مذهبه الأول إلى الثاني- ما أتصور أنه يثبت عنه.

طالب: .............

مطبوع بالهند قبل سبعين أو ثمانين سنة.

طالب: موجود عندنا؟

ماذا تُريدني أقول لك؟ ابحث وتجده، وقَل أن تجده، بل أجزم أنك لن تجده. 

طالب: .............

هو ما يحتاج إلى قراءة، بجلسة واحدة ينتهي، لكن مقدمته هدم لجميع الكتاب، الذي يقوله أهل العلم من شيخ الإسلام وغيره في ذم الكلام جاء به في المقدمة كله.

هذا صاحب القلب الثاني –كما تقدم في المقطع السابق- "مُزجى البضاعة من العلم النافع الموروث عن خاتم الرسل والأنبياء" ما عنده شيء؛ ولذلك يقول أهل العلم: لما أعيتهم الآثار أن يحفظوها رجعوا إلى الآراء؛ ولذلك تجد كثيرًا من طلاب العلم يصعب عليه الحفظ، ويشق عليه، فيلجأ إلى ما يُسميه بالفهم، ويُشقق الكلام كما كان عند الفقهاء من المتقدمين، تجد من أوتي مَلكة في تشقيق المسائل وتنظيرها وكثرة التفريعات، تجده يندر أن يكون عنده مخزون من الموروث النبوي، فلما أعيتهم –كما نص على ذلك أهل العلم- لما أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها لجأوا إلى الآراء.

 فمثل هذا ما دام مُزجى البضاعة من العلم الموروث النافع المورث عن خاتم الرُّسل والأنبياء طاف على أبواب الآراء والمذاهب يتكفف أربابها، وحينئذٍ يكون علمه أو قلبه مليئًا بالشكوك والشُّبَه والجدال والمراء، خلعَ عليه الكلام الباطل خِلعة الجهل والتجهيل، خِلعة الجهل، هو في نفسه جاهل، والإشكال أنه لا يعلم أو لا يعرف أنه جاهل، وحينئذٍ يكون جهله من المركَّب.

قال حمار الحكيم يومًا: لو أنصف الدهر كنت أركب، أنا جاهلٌ بسيطٌ وصاحبي جاهلٌ مركَّب، وهو عند نفس الحكيم وعند غيره من أحكم الناس وأعلمهم، وهو في الحقيقة لا شيء.

طالب: .............

نعم.

طالب: .............

ذكر شيخ الإسلام أن عندهم ذكاءً، لو ما عندهم ذكاء ما فهموا هذا الكلام، ما فهموه ولا أدركوا منه شيئًا، أوتوا ذكاءً ولم يُعطوا زكاءً، ما الفائدة من الذكاء إذا لم يُعطَ الإنسان زكاء يُرشِّد هذا الذكاء ويستعمله فيما يُرضي الله- جلَّ وعلا-؟ كم في الأسواق من عوام المسلمين في البيع والشراء ويتحايلون الحيل وهم عباقرة، لكن ما كتب الله لهم أن يسلكوا طريق العلم في مجالس الناس، تُشاهده تجد هذا من أذكى الناس، ويستغفل الناس، ويضحك عليهم، ويحسبونه على خير، وهو يكسب سيئات، وهو في حقيقة الأمر هو ذكي، لكنه ما سلك ما يُرشِّد به هذا الكلام.

يقول: "خلعَ عليه الكلام الباطل خِلعة الجهل والتجهيل، فهو يتعثر في أذيال التكفير لأهل الحديث، والتبديع لهم والتضليل"؛ لأنه إذا ما كفَّرهم ولا ضلَّلهم ولا بدَّعهم قُبِل قولهم فيه، واضح؟

طالب: يتضح.

هو يُصعِّد المسألة، يقضي عليهم قبل أن يحكموا عليه، فإذا قضى عليهم بالتكفير والتضليل والتبديع والتجهيل حين تكلموا فيهم، قالوا: أنت محترق منتهٍ، لكن لو أثنى عليهم ومدحهم، فماذا يقولون لو قالوا فيه كلمة؟ هذا الذي أنت تمدحه.         

"وقد طاف على أبواب الآراء والمذاهب يتكفف أربابها؛ فانثنى بأخس المواهب" الموهبة: العطية، والمواهب: العطايا.

هو يتكفف ما الذي حصَّل في يديه في كفِّيه؟ أخس العطايا، بل الذي يشحت من الناس يُعطونه شيئًا يستفيد منه من أموالهم قَل أو كثُر، لكن الذي يسأل مثل هذه الأمور التي لا تنفعه ولا تُفيده، بل تضره وتصده.

"بأخس المواهب والمطالب، عَدل عن الأبواب العالية الكفيلة بنهاية المراد، وغاية الإحسان؛ فابتُلي بالوقوف على الأبواب السافلة المليئة بالخيبة والحرمان". سُنَّة إلهية، الذي لا يُجالس الصالحين يُبتلى بمجالسة غيرهم.

"قد لبس حُلةً منسوجةً مِن الجهل والتقليد والشُّبه والعناد".

"حُلةً منسوجةً مِن الجهل والتقليد"؛ لأنهم قلَّدوا شيوخهم وصاروا يُقلدون في أي شيء هو قلَّدهم؟ علم؟ العلم: قال الله وقال رسوله، وهم ما عندهم شيء من هذا، فالذي عندهم في حقيقته جهل وليس بعلم، والتقليد بعضهم لبعض ورؤوسهم المقدسة والمقدمة عندهم من هذا النوع، فالفلاسفة الذين يُسموهم فلاسفة الإسلام تلقوا عن فلاسفة القدماء.

"والشُّبه والعناد" اقرأ لابن سينا، واقرأ للفارابي، واقرأ لفلان وعلان، ولا تجد فيهم إلا من تاب الله عليه وأصلح وبيَّن، لا بُد من هذا، إلا من تاب وأصلح وبيَّن أنه على ضلال، لا بُد من ذلك، وإلا فما شأن الذين قلَّدوه وضلُّوا بسببه؟ عليه أوزارهم إلى يوم القيامة، لكن من تاب وأصلح وبيَّن، قال: أنا على خطأ، والصواب كذا، مثل ما قال الأشعري: أنا على عقيدة أحمد بن حنبل، وإن كان بقي عنده شيء، لكن هذا الأصل فيه أنه رجع إلى عقيدة السلف، فلا بُد من البيان حينئذٍ، لكن عندهم العناد، تقول له: قال الله، وقال رسوله، قال: قال الله يحتمل كذا، ويُؤوَّل، يعمدون إلى الاحتمال المرجوح، ويجعلونه هو العمدة عندهم والمعوَّل عليه.

"والعناد" الذي ما عنده علم في الغالب يُعاند، المُقلِّدة من أتباع المذاهب إذا أُشرِبت قلوبهم التقليد، ومشوا عليه، ودرجوا عليه تقول له: المسألة حُكمها كذا، يقول لك: قال الإمام أبو حنيفة كذا أو قال الإمام أحمد كذا، لكن الدليل من كتاب الله قول الله –جلَّ وعلا- كذا، تقول له، يقول لك: لا لست أنت أعرف من أحمد، ولا أعرف من أبي حنيفة، ثم تقول له: الدليل من السُّنَّة كذا، يقول لك: ولو، هذا مجرد عناد يعني ما يرجع إلى... حتى لو وضع خط رجعة، وقال: يمكن أن عند الإمام من الدليل ما ليس عندي ولا عندك، وخلِنا نرى المسألة ونتقصى، ولعلنا نصل، هذا مرن، أما أن يقول لك: لا، أبدًا ولو، قاله الإمام أحمد خلاص، وكم في كُتب المذاهب من الأحاديث التي اعتمدوا عليها، وبنوا عليها، وأصَّلوا عليها، وقعَّدوا عليها من الأحاديث الضعيفة، بل فيها ما هو أسوأ من ذلك.

ولا يعني أننا نزهد أو نُزهِّد في كُتب الفقه، كلا، ما يتخرَّج طالب العلم إلا بعد أن يمر عليها بعد أن يمر على هذه الكُتب، ويتفقَّه على طريقة أهل العلم، ثم بعد ذلك إذا تأهل للنظر في الأدلة نظر، وأثبت الراجح ونفى المرجوح، هذه هي الطريقة المعروفة، أما أنه مباشرةً يُقال له: تفقه من الكتاب والسُّنَّة وهو لا يعرف العام من الخاص، ولا الناسخ من المنسوخ، ولا المطلق من المقيد، ولا يعرف شيئًا، فهذا يضيع بهذه الطريقة، أو يُقال له: هذه الدساتير لا تحيد عنها، هذه المتون هذا متن مُعتمد في المذهب الحنبلي لا يجوز الخروج عليها، هذا متن معتمد في المذهب الحنفي وهكذا، هذا ليس بصحيح؛ لأنه كلام بشر يُصيبون ويُخطئون.

وفي (زاد المستقنع) الذي بقدر الكف أكثر من ثلاثين مسألة خالف فيها المؤلف المذهب، ومن باب الفائدة من أراد الاطلاع عليها هي مشارٌ إليها في (الروض المربع) لأنه يذكر المسألة، يقول: كذا قال، وهو عند فلان، وفلان، وفلان، والمذهب كذا، دليلٌ على أن ما صدَّر به الكلام ليس هو المذهب.        

"فإذا بُذِلت له النصيحة ودُعي إلى الحق أخذتهُ العزة بالإثم" أنت أعرف من فلان؟ لكن النص فوقي وفوقك وفوق فلان، معك واحد من القضاة نُقِل عنه أنه لا يرد السلام في مجلس القضاء، فناقشته، وقال: صحيح في كُتب أدب القضاء إذا كان رد السلام يُضعِف هيبة القاضي، فلا يرد السلام، يا شيخ عندكم هكذا؟

طالب: .............

ما أدري والله، يقول: في كُتب أدب القضاء.

طالب: .............

قلت له: انظر العلم وكُتب أهل العلم على الرأس، لكن هذا الحكم بالذات الذي تشبَّثت به يُسلمون عليك ولا ترد عليهم، هذا لو قاله أبو بكر، قلنا: لا سمع ولا طاعة؛ لأن الله –جلَّ وعلا- يقول: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86]، والنبي –عليه الصلاة والسلام- ردَّ السلام وأمر برد السلام، وأظن الذي يُذهِب الهيبة هو عدم ردِّه للسلام، عدم ردِّه للسلام أكثر إذهابًا للهيبة.

طالب: .............

إجماع على الوجوب نعم.

طالب: .............

يقول: هو من باب المصلحة -حسب زعمه- من باب المصلحة أن الخصوم لا بُد أن يهابوا القاضي، فإذا تنزَّل لهم وردَّ السلام خفَّت هيبته، نقول: العكس إذا تكبَّر وترفَّع ضاعت هيبته، والله المستعان.

"فإذا بُذِلت له النصيحة، ودُعي إلى الحق أخذتهُ العزة بالإثم، فحسبه جهنم ولبئس المهاد" يزيد عناده، وهو مع الأسف أنه حتى بعض طلاب العلم إذا تبنى مسألة أو أدلى برأي، فقيل له: الصواب كذا، أصر على كلامه، ثم قد يصل الأمر إلى العداوة بينه وبينه، هذا -نعوذ بالله- من أخذ العزة بالإثم، وفي الآية: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:206]، نعوذ بالله، فهذا إذا قيل له: الحكم كذا، حكم الله في كتابه وفي سُنَّة نبيه كذا، أصر على ما تبناه من رأي؛ لأنه الذي يصعب على النفس البشرية أن تضعف أمام خصمها، وهذا يظهر في المناظرات، في المناظرات، قد تجد من يُصر على باطل وهو يعرف أنه باطل، كل هذا من أجل ألا يضعف أمام الخصم.

طيب كم يرتفع العالم بقوله: لا أدري؟ الشيخ/ ابن باز في البرامج المذاعة على العالم يُسأل عن مسألة، ويقول: ما أدري، نبحث المسألة، سمعته مرارًا يقول هذا: ما أدري، نبحث المسألة، وقد سُئل سؤالًا لو سُئل عنه آحادكم أجابه، عن معن بن زائدة هو بصحابي أو ليس بصحابي؟ قال: ما أدري، أراجع كُتب الصحابة، قال له المذيع: نمسح السؤال إلى أن تراجع؟ قال: لا لا، اتركوه، لماذا؟ لأنه فيه تربية لطلبة العلم، إذا كان هذا الإمام الكبير الجبل الذي يحفظ من النصوص ما لا يحفظه كثيرٌ من أهل العلم، ويعتني بالوحيين عنايةً شديدة، ومع ذلك يقول: ما أدري، ويعرف من الرجال وأحوال الرجال –رجال الحديث- الأمر المهول، ومع ذلك يقول: لا أدري! معن بن زائدة في آخر القرن الثاني، متأخر، فيه شخص معن بن زائدة ذُكِر في بعض الأسانيد على أنه صحابي، وذكره في (الإصابة)، لكن ليس بصحيح.

فالشيخ إذا حصل عنده مثل هذا فقد يعرف هذا الكلام وهذا الكلام، لكن يُريد أن يتأكد، فهيبة النص هي التي تُورِث الرِّفعة لطالب العلم، وهي التي تُورثه الخشية، فيكون خوفه من الله –جلَّ وعلا-، وكان بعض شيوخنا يقول: إذا سُئِلت فانظر الخلاص لنفسك قبل خلاص السائل، انظر الخلاص لنفسك؛ لأنك توقِّع عن الله –جلَّ وعلا- قبل أن تنظر إلى خلاص السائل.   

"فما أعظم المصيبة بهذا وأمثاله على الإيمان" لا شك أن الإيمان هو عمل القلب وقول القلب واللسان والجوارح، لا شك أنه يتأثر بما يرد إليه مما يزيده، كما أنه يتأثر بما يرد عليه مما ينقصه.

"وما أشد الجناية به على السّنّة والقرآن"، انظر إلى التفاسير، وبعض الشروح لكتب السُّنَّة التي تولاها وتصدى لها بعض المبتدعة في تفاسير كثيرة للمبتدعة؛ ولذلك الوصية بأخذ العلم من أهله، والعناية بكتب التفسير من العلماء الموثوقين الثقات من أهل السُّنَّة والجماعة الذين يُعظمون النصوص.

"وما أحبّ جهاده بالقلب واليد واللسان إلى الرحمن" الجهاد كما يكون باليد والسِّنان يكون أيضًا بالقلب واللسان، وجهاد الأعداء باللسان سابقٌ على جهادهم بالسنان؛ {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:52]، يعني بالحُجة والبيان، والرد على المخالفين، وتفنيد الشُّبه، هذا جهاد، وكما سيأتي.

"واليد واللسان إلى الرحمن، وما أثقل أجرَ ذلك الجهاد في الميزان" إذا كان الجهاد بالسنان، وهذا المجاهد الصنديد الشجاع له أثر في الإسلام، بلا شك، لكنه يموت بموته، بخلاف الجهاد بالحُجة والبيان يبقى يتناقله الناس سواءً كان عن طريق الطلاب أو عن طريق المؤلفات، فأثره كبير، والمنتفع به كثير، وله مثل أجور المنتفعين، والله المستعان.

نعم.

قال المؤلف –رحمه الله تعالى-: "والجهادُ بالحجّة والبيان مقدمٌ على الجهاد بالسيف والسنان؛ ولهذا أمر به تعالى في السور المكية، حيث لا جهاد باليد إنذارًا وتعذيرًا، فقال تعالى: {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:52].

وأمر تعالى بجهاد المنافقين والغلظة عليهم، مع كونهم بين أظهر المسلمين في المقام والمسير؛ فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة:73]. 

فالجهاد بالعلم والحجة جهاد أنبياء الله ورسله، وخاصته مِن عباده المخصوصين بالهداية والتوفيق والاتفاق، ومَن مات ولم يغزُ ولم يحدِّث نفسه بغزوٍ مات على شُعبةٍ مِن النفاق، وكفى بالعبد عمى وخذلانًا أن يرى عساكر الإيمان وجنود السنة والقرآن قد لبسوا للحرب لأمته، وأعدوا له عدته، وأخذوا مصافّهم، ووقفوا مواقفهم، وقد حَمِيَ الوطيس، ودارتْ رحى الحرب، واشتد القتال، وتنادت الأقران: نزال نزال، وهو في الملجأ والمغارات والمُدَّخل مع الخوالف كمين، وإذا ساعد القدر، وعزم على الخروج، قعد فوق التل مع الناظرين، ينظر لمن الدائرة؛ ليكون إليهم من المتحيزين، ثم يأتيهم وهو يقسم بالله جهد أيمانه: إني كنت معكم، وكنت أتمنى أن تكونوا أنتم الغالبين.

 فحقيقٌ بمن لنفسه عنده قدرٌ وقيمة أن لا يبيعها بأخس الأثمان، وأن لا يعرضها غدًا بين يدي الله ورسوله لمواقف الخزي والهوان، وأن يثبِّت قدمه في صفوف أهل العلم والإيمان، وأن لا يتحيز إلى مقالةٍ سوى ما جاء في السُّنَّة والقرآن، فكأن قد كُشِف الغطاء، وانجلى الغبار، وأبان عن وجوه أهل السُّنَّة مُسفرةً ضاحكةً مستبشرة، وعن وجوه أهل البدعة عليها غبرة، ترهقها قترة، {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106].

قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: تبيض وجوه أهل السُّنَّة والجماعة، وتسود وجوه أهل البدعة والفُرْقة، فوالله لَمفارقةُ أهل الأهواء والبدع في هذه الدار أسهل من مرافقتهم إذا قيل: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات:22]"

طالب: ............

في بعض النُّسخ "والفُرقة الضالة"، وفي بعضها "والفُرقة والضلالة" هذه في نُسخ.

طالب: ............

هذا الذي عندنا.

نعم.

"قالَ أميرُ المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه - وبعده الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-: أزواجُهم: أشباههم ونظراؤهم، وقد قال تعالى: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} [التكوير:7] فجُعِلَ صاحب الحق مع نظيره في درجته، وصاحب الباطل مع نظيره في درجته، هنالك والله يعضُّ الظالم على يديه إذا حصلت له حقيقة ما كان في هذه الدار عليه، {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا} [الفرقان:27-29]".

حسبُك.

يقول المؤلف –رحمه الله تعالى-: "والجهادُ بالحجّة والبيان مُقدمٌ على الجهاد بالسيف والسنان" هو مُقدَّم وجودًا، فوجوده قبل وجود الجهاد بالسيف والسنان؛ لأنه في أول الأمر ما أُمِر النبي –عليه الصلاة والسلام- ولا أُذِن له حتى نزل قوله –جلَّ وعلا-: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج:39] قبل ذلك ما فيه جهاد، وإنما فيه مُحاجة ومناظرة بالنص بكلام الله –جلَّ وعلا-، وبما يصدر عن نبيه –عليه الصلاة والسلام- مما يُلزم به الخصم، وقد يُحتَاج إلى أدلةٍ عقلية تُستنبط من الواقع ومن الاعتبار والنظر في مخلوقات الله –جلَّ وعلا- لكن المعوَّل أولًا وآخرًا على الكتاب والسُّنَّة، وإذا كان الخصم كافرًا لا يؤمن بكتابٍ ولا سُنَّة، فإنه يُناظر بما يعترف به، وكم من شخصٍ ناظر شخصًا ذا قدرٍ وله منزلة بين قومه، وله نظر، وله رأي، وناظره صاحب الحق بما عنده، وإن كان أقل منه في المستوى فغلبه؛ لأن الحق غالب، والباطل زهوق.

وعلى كل حال الجهاد بالبيان مُقدَّمٌ وضعًا ورُتبةً وزمانًا على الجهاد بالسنان، حتى أذِن الله لنبيه ولأصحابه بالقتال، {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39] ولو بغير جهاد، الله قادر على نصرهم، لكن من باب ربط الأسباب بالمسببات، وترتيب النتائج على المقدمات، وإلا فالله –جلَّ وعلا- قادر على أن يجعل الخَلق كلهم هداة مُهتدين، ولكن خلق الخلق وقسمهم قسمين «هؤلاء إلى النَّارِ وَلَا أُبَالِي، وَهَؤُلَاءِ إلَى الْجَنَّةِ وَلَا أُبَالِي»، ويسَّر لهم لكل فريقٍ ما يُناسبه مما يعمله ومما يُوصله إلى المرتبة أو المنزلة التي كُتِبت له إما إلى الجنة، وإما إلى النار.

"ولهذا أمر به تعالى في السور المكية حيث لا جهاد باليد إنذارًا وتعذيرًا"؛ لقيام الحُجة على الخصم شُرِع الجهاد باللسان بالحُجة والبيان؛ لتقوم الحُجة على المخالف والمعاند، ثم بعد ذلك إن اهتدى وإلا فالمرحلة اللاحقة التي شُرِع فيها القتال بالسيف والسنان يُرغمه على الدخول في الإسلام كما حصل.

"إنذارًا وتعذيرًا" يقول في التعليق: كذا بالعين في جميع النُّسخ، فهل استعمل المؤلف التعذير بمعنى الإعذار وهما ضدان؟ فالإعذار المبالغة في الأمر، والتعذير التقصير فيه، وبعضهم يرى أنها بدل تعذيرًا تحذيرًا وهو مناسبٌ للإنذار. 

"فقال تعالى: {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:52]"، {وَجَاهِدْهُم بِهِ} يعني: بالقرآن، جاهد الكفار بالقرآن {جِهَادًا كَبِيرًا} يعني: احرص على هدايتهم وبيان الحق لهم، وعدم ترك الشُّبه لديهم إلا وتجلوها وتُوضِّحها وتُبينها؛ إقامةً للحُجة؛ {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ} [النساء:165].

"وأمر تعالى بجهاد المنافقين والغلظة عليهم، مع كونهم بين أظهر المسلمين في المقام والمسير" يعني المناسب للدعوة في أول الأمر، ولا يزال الأمر كذلك أن يُناقشوا بما قال الله –جلَّ وعلا-: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125]، فهذا أدعى للقبول، لكن إذا لم يقبل وأصر وعاند {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة:73].

"فالجهاد بالعلم والحُجة جهاد أنبياء الله ورسله، وخاصته مِن عباده المخصوصين بالهداية والتوفيق والاتفاق".

"فالجهاد بالعلم والحُجة جهاد أنبياء الله" كم حصل له –عليه الصلاة والسلام- مع صناديد قريش وكبراؤهم من مناظرات ومناقشات ومحاورات؟

"جهاد أنبياء الله ورسله، وخاصته مِن عباده المخصوصين بالهداية" الذين هداهم الله ووفقهم. "والتوفيق والاتفاق" خصَّهم بالهداية والتوفيق والاتفاق، ما الاتفاق هذا؟

طالب: ..............

اتفاق على الحق وعدم الاختلاف فيه؛ لأن الاختلاف علامة الضعف، "كفاهم عيبًا تناقض قولهم"، فإذا عرفت المجموعة أقوالهم متناقضة، فاعلم أن فيهم من الضعف ما فيهم، وأن مآلهم إلى الاضمحلال، بخلاف ما إذا اتفقوا على الحق فإنه لا يستطيع أحدٌ أن يصدهم أو يردهم.  

"ومَن مات ولم يغزُ" والغزو شاملٌ للغزو والجهاد باللسان الذي يتداوله الناس ما يُسمى بالغزو الفكري، تعرف الغزو الفكري؟

طالب: .............

"ومَن مات ولم يغزُ ولم يحدِّث نفسه بغزوٍ" سواءً كان باللسان إذا كان من أهل القدرة والاستطاعة من أهل العلم وممن أوتي البيان والحُجة فيتعين عليه أن يُجاهد بلسانه.

"ولم يحدِّث نفسه بغزوٍ" أو بقتال العدو بالسيف "مات على شُعبةٍ مِن النفاق"، وفي الحديث: «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بغزوٍ، مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ»، رواه مسلم.

ومن سأل الشهادة بصدق أُعطيها ولو مات على فراشه، بصدق ما يقول: اللهم ارزقني الشهادة في سبيلك في وِرده الصباح والمساء وفي كل وقت، ثم إذا جاء المُوجِب هرب وانخنس، بُحِث عنه فلم يُوجد، هذا فعله يدل على كذبه، وأنه ليس بصادق.

عندك شيء؟

طالب: عندي سؤال.

هاته.

طالب: سؤالي يا شيخ عن أفضل من اختصر النونية، هناك بعض العلماء انتقوا من هذه القصيدة بعض الأبيات انتقاءً للحفظ، أظن مثل الشيخ/ ابن عثيمين –رحمه الله- والشيخ/ ابن سعدي وغيرهما انتخبوا بعض الأبيات انتخابًا، هل شُرِحت فهذا سؤالي عمَّا هو الأفضل من هذه الانتخابات لتُحفظ؟

لا شك أن بعض الأبيات سواءً كان في هذه القصيدة أو في غيرها من القصائد المطولات تكون أهميته أشد من غيره، فمثل هذا يُحرَص عليه.

طالب: ..............

لا شك أن الأبيات متفاوتة، وبعض الأبيات تامة المعنى مستقلة وتامة المعنى كالحِكَم، فهذه لا مانع أن يُنتقى هذا البيت ويُحفَظ، ومجموعة من الأبيات تحمل معنًى واحدًا لا مانع أن تُنتقى وتُحفَظ، لكن كثيرٍ من الأبيات مرتبط بعضها ببعض وهذا لا يُمكن، ومن ذلك اختصار الشيخ/ حمد بن معمَّر لمنظومة ابن عبد القوي، ونزَّل الاختصار على مختصر المُقنع؛ لأن ابن عبد القوي ناظم المُقنع، وابن معمَّر جعل اختصاره يُوافق الزاد، زاد الزوائد، وحذف ما حذفه صاحب المتن.

المقصود أنه أضُطر أحيانًا أن يأتي بشطر بيت، ويترك الشطر الثاني، لماذا؟ لأن الشطر الثاني لا يحتاجه في المختصر.

طالب: ..............

لا، ليس مسألة أهم، هو مُختصِر للكتاب بما يُوافق كتابًا آخر، لكن ما المانع أن يُكمَل الشطر بكلامٍ لا يتعلق بالمتن الأول؛ حتى يعرف أنه مُختصر، أو يُعرَف أنه مُختصر يأتي بشطر بيتٍ يحث فيه على طلب العلم مثلًا ما يضر، أما أن يأتي بشطر بيت من دون باقيه، فهذا أعتبره عيبًا في الاختصار.

طالب: ..............

والله، إني ما يحضرني الآن، يعني كاملة من أولها إلى آخرها؟

طالب: ..............

كلٌّ ينتقي.

طالب: ..............

كلهم اختصر، وغيرهم اختصر، وأنت لو تُريد تبحث على النونية وترى هذا البيت يُناسبك وتضع عليه علامة.

طالب: ..............

لكن ما أعرف أحدًا اختصر النونية من أولها إلى آخرها بدلًا من ستة آلاف بيت تقريبًا اختصرها بألف أو ألفين، ما أعرف مثل هذا.

طالب: ..............

ابن سعدي انتقى أبياتًا، وهذا ليس اختصارًا، ما يُسمى اختصارًا هذا.

طالب: ..............

المُنتخب كلٌّ ينتخب، وبإمكانك أنت أن تنتخب، وأنا أعرف أن كلًّا يأخذ منها ما يهتم بها، أنا أعرف مجموعة من الإخوان ليسوا من طلبة العلم المبرزين، لكنهم أصحاب عبادة، ينتقون من القسم الأخير الذي هو وصف الجنة.

طالب: ..............

هات الخبر.

طالب: ..............

من الكافية أحصى من الكافية الخلاصة.

طالب: ..............

لهم طرق أنت اقرأ في مُقدمة (الإنصاف) وخاتمته، وفي (المدخل) لابن بدران تجد أشياء تنفعك.

طالب: مسألة السلام على القاضي ذكرها..........

ماذا يقول؟

طالب: ..............

على كل حال لو جاء به من جاء به، هو مسألة الذي يُسلِّم يُريد أن يدخل على قلب القاضي، فينظر إليه أكثر من خصمه هذا مقصد آخر، لكن أصل رد السلام يُذهِب هيبة القاضي أو يُخففها ليس بصحيح.

طالب: ..............

لا، هذا غير صحيح.

طالب: ..............

هو إذا لم يكونوا مشغولين بما هو أهم من قراءة وتقرير علم فلا مانع أن يُصافح، إذا كانوا مشغولين يُلقي السلام مرة واحدة ما فيه إشكال.

طالب: ..............

إذا أمكن وأنت بعيد العهد عنهم المصافحة تحط الخطايا.