عمدة الأحكام - كتاب البيوع (10)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
سم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
قال الإمام عبد الغني المقدسي -رحمه الله تعالى- وغفر له ولشيخنا وللحاضرين:
عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع الولاء وهبته.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:
"عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع الولاء وهبته".
أولاً: "نهى" التعبير عن النهي بلفظه عند عامة أهل العلم بمثابة: "لا تفعلوا" فنهى عن بيع الولاء، يعني لا تبيعوا الولاء، وقال بعضهم: إنه لا يساوي الصيغة، اللفظ لا يساوي الصيغة، حتى ينقل لنا الصحابي اللفظ النبوي، ثم نعرف حكمه، إحنا اللي نقدر ما هو بالصحابة، إحنا اللي نفهم هل هو نهي وإلا ما هو نهي؟ أما إذا قال الصحابي: نهى يمكن يسمع كلام يظنه نهي وهو في الحقيقة ليس بنهي، هذا قاله بعض المتكلمين، لكن هذا الكلام ساقط؛ لأنه إذا لم يعرف الصحابة الألفاظ النبوية من يعرفها بعدهم؟! "فأمرنا أن ننزل الناس منازلهم" يساوي تماماً ما جاء في الرواية الأخرى: ((أنزلوا الناس منازلهم)) فنهى عن بيع الولاء، والأصل في النهي التحريم، والولاء: الإعتاق، بل هو الأثر المترتب على الإعتاق، الإعتاق هو تحرير العبد، والأثر المترتب عليه أن يكون ولاء المعتَق للمعتِق، وهو سبب من أسباب الإرث، ولا يباع؛ لأنه كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب، تستطيع أن تبيع ولدك وإلا أخوك وإلا تهبه لأحد؟ ما يمكن، فالولاء مثله، لا يوهب ولا يباع، مثل النسب؛ لأنه جاء في الحديث: ((لحمة كلحمة النسب)) "نهى عن بيع الولاء وهبته" فالنهي يعود إلى ذات المنهي عنه، إلى ذات العقد، فلو بيع الولاء بطل، ولو وهب الولاء بطلت الهبة؛ لأنه يعود إلى ذات المنهي عنه، فالعلماء إذا جاء النهي منصباً إلى ذات المنهي عنه أو إلى شرطه بطل العقد، مع الإثم، مع التحريم، أما إذا عاد إلى أمر خارج فإنه العقد لا يتأثر عقد صحيح مع التحريم، وأنتم تفرقون بين من صلى وعلى رأسه عمامة حرير، أو على عورته سترة حرير، الذي صلى بعمامة حرير صلاته صحيحة، أو بيده خاتم ذهب؛ لأن هذا لا يعود إلى ذاته، ولا إلى الشرط، أما لو صلى وعليه سترة حرير تبطل صلاته؛ لأنه عاد إلى الشرط، المقصود أن هذا منصب إلى العقد نفسه فهو باطل، وتشبيهه بالنسب يؤكد هذا البطلان.
وفي حديث بريرة الآتي: "كاتبها أهلها على تسع أواق واشترطوا الولاء، وقالت عائشة: أنقدها لكم، التسع الأواق لأنها منجمة على تسع سنين، تدفعها نقداً ويكون الولاء لها، صار هناك محاورة بينهم ورفضوا، فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((اشترطي لهم الولاء)) اشترطت لهم، التزمت بأن يكون الولاء لهم، فخطب النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد هذه المحاورة الطويلة، ثم قال: ((ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولو كان مائة شرط)) لأنه قد يقول قائل: إن النبي -عليه الصلاة والسلام- غرهم، لا، لا ما غرهم، إنما أراد أن يثبت الحكم، بهذه الطريقة يثبت، هم ما ظُلموا، هم لم يظلموا، القيمة بدلاً من أن تكون مقسطة –منجمة- على عدد سنوات دفعت فوراً، وبهذه الطريقة يعني بالترديد الذي حصل بالاشتراط الذي ووفق عليه يجتث الأمر من جذوره، خلاص ما في أحد يفكر أنه يشترط الولاء -خلاص- بعد هذه القضية، لكن لو قال: أخبريهم يا عائشة أن الولاء لمن أعتق، ينقل لنا وكغيره من النصوص لكن ما هو في القوة مثل ما لو قال: وافقي وبعدين يُبين الحكم، الآن اجتث الحكم من جذوره، ما في أحد يفكر بالولاء وهو بايع، إنما الولاء لمن أعتق، نعم.
وعن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: كان في بريرة ثلاث سنن: خيرت على زوجـها حين عتقت، وأهدي لها لحم فدخل علي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والبرمة على النار، فدعا بطعام فأتي بخبز وأدم من أدم البيت، فقال: ((ألم أرَ البرمة على النار فيها لحم؟)) فقالوا: بلى يا رسول الله، ذلك لحم تصدق به على بريرة فكرهنا أن نطعمك منه، فقال: ((هو عليها صدقة، وهو منها لنا هدية)) وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها: ((إنما الولاء لمن أعتق)).
نعم هذه قصة بريرة قصة شهيرة، وأطال العلماء بشرح حديثها، وأفرد في بعض المؤلفات، واستنبط منه أهل العلم أحكام كثيرة جداً، لخصها الحافظ ابن حجر في فتح الباري.
يقول: "عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كانت في بريرة ثلاث سنن" العلماء استنبطوا أحكام كثيرة جداً من قصتها، لكن هذه الثلاث هي القضايا الكبرى في حديث بريرة، هناك قضايا أخرى وفوائد وأحكام وآداب وسنن كثيرة جداً، جمع أطرافها وجمع ما قيل في الحديث ولخصه ابن حجر في فتح الباري، لكن هذه القضايا الثلاث هي القضايا الكبرى في هذا الخبر.
"خيرت على زوجـها حين عتقت" هذه السنة الأولى، والسنة هنا الطريقة الشرعية، وهي أعم من أن تكون واجبة أو مستحبة؛ لأنه يرد في الشرع في العرف الشرعي وفي الحقيقة الشرعية ما يختلف مع الحقائق الاصطلاحية، والأعراف الخاصة عند أهل العلم، وما قد يختلف مع العرف العام، سنن فيها واجبات، وجاء في الحديث: ((غسل الجمعة واجب)) وأهل العلم عامة يقولون: غسل الجمعة سنة، اختلفت الحقيقة الشرعية عن الحقيقة الاصطلاحية والعرف الخاص.
الصحابي يقول: "فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر" والحنفية يقولون: زكاة الفطر واجبة وليست بفرض، نقول: هذه معاندة؟ هذه ليست معاندة، هذا اصطلاح عند أهل العلم استقر عليه أمرهم، لكن كل ما قرب الاصطلاح العلمي والعرف الخاص عند أهل العلم من الاستعمالات الشرعية كان أفضل، لكن قد يكون الاصطلاح الشرعي يختلف من موضع إلى موضع، الآن لو أقسم شخص أن عمري كله إلى الآن ما رأيت جمل أصفر، يقول: والله ما رأيت جمل أصفر، نقول له: كذبت لأن الله -جل وعلا- يقول: {كَأَنَّهُ جمالة صُفْرٌ} [(33) سورة المرسلات] هو يقصد حقيقة غير الحقيقة التي جاءت في القرآن، هل نقول: هذا مكذب لله -جل وعلا-؟ لأن اختلاف الحقائق لا بد من الانتباه له، فاستعمال الواجب في غسل الجمعة واجب لا يعني أنه مطابق للاصطلاح العلمي عند أهل العلم، وليس في هذا معاندة.
المفلس لما سأل النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((... من المفلس؟)) قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال: ((لا، المفلس من يأتي بأعمال أمثال الجبال)) صيام وصدقة وكذا وصلاة، يأتي وفعل وفعل ثم تذهب هذه..، هذا مفلس، لكن لو سأل مدرس عرف التفليس؟ أو من المفلس؟ ثم جاء في الجواب: من لا شيء عنده من متاع الدنيا، أو قال: من كانت ديونه أكثر من أمواله، ويش يصير الجواب خطأ وإلا صح؟ الذي نفاه النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((من لا درهم له ولا متاع)) هو الصحيح في هذا الباب، في باب الحجر والتفليس، فلننظر إلى الحقائق الشرعية وتنزل منازلها مع الحقائق العرفية والاصطلاحية، وأهل العلم لما قرروا هذه الحقائق وهذه الاصطلاحات لم يريدوا بذلك معارضة الشرع أبداً، لكن كلما كان الاصطلاح العلمي والعرف الخاص أقرب إلى الاستعمال الشرعي كان أولى، ولذا العزيز عند أهل العلم ما يرويه اثنان، هذا العزيز، لكن لو قال شخص: العزيز ما يرويه ثلاثة؛ لأن الله -جل وعلا- يقول: {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [(14) سورة يــس] نقول: أهل العلم خالفوا ما جاء في القرآن؟ لا؛ لأن التنزيل تنزيل الاصطلاحات على ما له وجه شرعي أو لغوي لا ينفي الحقائق الأخرى؛ لأن هذه حقيقة عرفية، وهذه حقيقة شرعية، وتلك حقيقة لغوية، المحروم: ناس يسمون الشخص الذي عنده أموال طائلة ويبخل على نفسه وعلى من تحت يده يسمونه محروم، لو جاء واحد بزكاته وأعطاها هذا المحروم؛ لأن الله -جل وعلا- يقول: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ* لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [(24 - 25) سورة المعارج] هذا محروم، تجزئ الزكاة؟ هذا غني هذا؟ لا ما تجزئ الزكاة، هذه حقيقة عرفية وتلك حقيقة شرعية.
على كل حال الكلام في هذا يطول، والذي دعا إليه استعمال السنن في بعض الواجبات.
يقول: "خيرت على زوجها حين أعتقت" زوجها أكثر الروايات على أنه عبد، واسمه: مغيث، وجاء في بعض الروايات أنه حر، رواية الأكثر وهي المتفق عليها أنه عبد، والرواية الأخرى صحيحة أنه حر، لكن أهل العلم حكموا –الجمهور- على أن المحفوظ أنه عبد، والحنفية قالوا: لا، حر، عملاً بالرواية الأخرى، فإذا عتقت الأمة تحت عبد خيرت، خيرت عند الجميع؛ لأن الكفاءة انتفت، عبد تزوج أمة يعني هما متكافئان، لكن عتقت صارت حرة تحت عبد تُخير؛ لأن الكفاءة انتفت، طيب الحنفية؟ يقولون: تُخير ولو كانت تحت حر للروايات الأخرى، هو لما كان حر وهي أمة قبلها على نقصها، فلما عتقت ارتفع قيمتها إلى أن ساوت الحر في الحرية عند الحنفية تُخير، نعم تُخير؛ لأنه قبلها لما كانت أمة، وما يقبلها لما كانت أمة إلا لنقص فيه وهو حر، ارتفع هذا النقص بها، الذي فيها، الملازم لها وهو الرق فساوته في الحرية لكن نقصه الذي من أجله قبلها موجود فتُخير، فلا شك أن الراجح هو قول الجمهور؛ لأن الحرية والكفاءة موجودة، حرة تحت حر ليس لها خيار، وهو رواية الأكثر.
وزوجها مغيث كان يحبها حباً شديداً، وكانت تبغضه، ما تبي تحت عبد، ما دام أن الله -جل وعلا- وهبها هذه الحرية لا تريد النقص، فكان يجري وراءها في سكك المدينة ويبكي، ويتوسل إليها، وطلب من النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يشفع له عندها، شفع النبي -عليه الصلاة والسلام- فقالت: تأمرني؟ فقال: ((لا، إنما أنا شافع)) قالت: لا حاجة لي به، فمثل هذا إذا ارتفع النقص، وارتفعت المكافئة والتكافؤ ثبت لها الخيار، "خيرت على زوجها حين عتقت، وأهدي لها لحم، فدخل علي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والبرمة على النار" البرمة: الإناء الذي يطبخ فيه "فدعا بطعام فأتي بخبز وأدام من أدام البيت" أدام أو أدم بمعنى واحد، وهو ما يؤتدم به، ويلين به اليابس "فقال: ((ألم أرَ البرمة على النار فيها لحم؟)) فقالوا: بلى يا رسول الله، ذلك لحم تصدق به على بريرة فكرهنا أن نطعمك منه" في أول الحديث يقول: "أهدي لها" نعم، كل النسخ على هذا، أهدي لها لحم، قالت: ذلك لحم تصدق به على بريرة، والصدقة والهدية تجتمعان من وجه وتفترقان، المقصود أنهما تجتمعان في انتقال المال من المعطي إلى المعطى، يستوي في ذلك الهدية والصدقة، لكن يفترقان في أن الهدية لها أحكام، والصدقة لها أحكام، الهدية يقبلها النبي -عليه الصلاة والسلام-، ويثيب عليها، أما بالنسبة للصدقة فلا يقبلها؛ لأنها لا تحل له؛ لأنها أوساخ الناس، فأطلق على الصدقة هدية توسعاً، وإلا فهي صدقة.
"ذلك لحم تصدق به على بريرة فكرهنا أن نطعمك منه" لأنه صدقة وأنت لا تأكل الصدقة "فقال -عليه الصلاة والسلام-: ((هو عليها صدقة، وهو منها لنا هدية))" يعني لو دعاك فقير واستضافك على طعام تصدق به عليه تأكل، لو قدر أنك شخص غني ولك زوجة وأولاد، والزوجة والأولاد يذهبون إلى أهل الزوجة، وهم ممن يأخذ الصدقة والزكوات، فأولادك وأمهم يأكلون مع أهلهم، فيكون لهم هدية، لكن لا يسير هذا خطة منك تتنصل من النفقة عليهم، وتأخذ الزكوات لأخوالهم، تجمع تقول: والله عندنا أسرة فقيرة، نعم، وتجمع لأخوال الأولاد وجدتهم وجدهم، وتكدس لهم الأموال من الأغنياء،.... تحل لهم الزكاة، وأنت تقي بذلك مالك، إذا جاء وقت العشاء قلت: روحوا لأهلكم، إذا جاء وقت الغداء روحوا لأهلكم، وبعدين؟ أنت تقي بهذا مالك، حينئذٍ نقول: ممنوع، لكن لو قدر أنهم قدموه، وحضر هؤلاء لا بأس يأكلون، أو أهدي لهم طعام يخشى تلفه وضياعه لأنه ما يصبر، طعام كثير، ودعوهم عليه لا بأس؛ لأن الفقير يملك، يملك ما يتصدق به عليه ملك تام مستقر، يتصرف فيه، لكن لا يأخذ أكثر من حاجته، ويكون هذه عادة وقاعدة مطردة يأخذ أكثر من حاجته، ثم يقي به مال هذا الغني مثلما صورنا.
"((هو عليها صدقة، وهو منها لنا هدية)) وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها: ((إنما الولاء لمن أعتق))" الولاء لصاحب النعمة، وهذا في آخر الحديث لما قال: ((اشترطي لهم الولاء)) وخطب النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: ((ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله)) وهذا تقدم الكلام فيه، نعم...