شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (092)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً بكم إلى حلقة جديدة ضمن برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح.
مع مطلع هذه الحلقة يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، فأهلاً بكم شيخ عبد الكريم.
حياكم الله وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.
المقدم: لازلنا في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- وتحدثنا في الحلقة الماضية عن بعض ألفاظه حول قوله -صلى الله عليه وسلم-: «وإذا تطاول رعاة الإبل البُهمِ في البنيان».
نستكمل ما تبقى من ألفاظ الحديث -أحسن الله إليكم-.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
بعد هذا في الحديث: «في خمس لا يعلمهن إلا الله» ثم تلا النبي -صلى الله عليه وسلم-: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [سورة لقمان 34] الآية.
«في خمس» هو خبر مبتدأ محذوف، أي: علم الساعة في جملة خمس، علم وقت الساعة في جملة خمس، وحذْف متعلَّق الجار والمجرور سائغ، كما في قوله تعالى: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ} [سورة النمل 12] أي اذهب إلى فرعون بهذه الآية في جملة تسع آيات، وفي رواية عطاء الخراساني قال: فمتى الساعة؟ قال: «هي في خمس من الغيب، لا يعلمها إلا الله».
يقول القرطبي: لا مطمع لأحد في علم شيء من هذه الأمور الخمسة لهذا الحديث، وقد فسر النبي -صلى الله عليه وسلم- قوله تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} [سورة الأنعام 59] بهذه الخمسة، وهو في الصحيح.
قال: فمن ادعى علم شيء منها غير مسنده إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان كاذبًا في دعواه، مع أنه لو أسند إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- علم شيء من هذه الخمس كان كاذبًا أيضًا؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أسندها إلى الله -عز وجل- «لا يعلمهن إلا الله».
قال: وأما ظن الغيب، ظن؛ لأن المنفي {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ} [سورة لقمان 34] إذًا الظن ما دون العلم...
المقدم: ممكن؟
هذا كلام القرطبي، قال: وأما ظن الغيب فقد يجوز من المنجِّم وغيره إذا كان عن أمر عادي، وليس ذلك بعلم.
تقدم الكلام في مسألة الكسوف، وأن من أهل العلم من قال: إن من أخبر عنه قبل وقوعه فهو من ادعاء علم الغيب، هذا يقوله ابن العربي وغيره، لكن كثيرًا من أهل العلم يرون أنه مما يدرك بالحساب، ونبهنا سابقًا إلى أن الإخبار عنه قبل وقوعه يذهب الفائدة والمصلحة المترتبة منه.
وقد نقل ابن عبد البر الإجماع على تحريم أخذ الأجرة والجعل وإعطائها في ذلك، يعني شخص يدعي علم الغيب، أو حتى يدعي ظن الغيب، لا يجوز دفع الأجرة إليه، ولا يجوز له أخذها.
مجرد الاحتمالات، ابداء الاحتمال أنه سيكون كذا، أو بناءً على مقدمات، ليستخرج نتائج تتوقع مستقبلاً مثل التحليلات.
المقدم: مثل الأحوال الجوية مثلاً؟
مثل التحليلات التي بدت مقدماتها، فيتوقع أن تكون نتائجها كذا، هذه مجرد احتمال، ومجرد الاحتمال لا يعني الجزم بذلك، بدليل عدم وقوعه في كثير من الأحيان، أنه يقع خلاف ما ظُن، التنبؤ وتوقع ما سيكون غدًا من الأحوال الجوية هو من هذا الباب، إذا كان مجرد احتمال، مجرد إبداء احتمال، ويقرنونه بإذن الله -عز وجل-، وأنه سوف يكون كذا مثل هذا قد لا يكون فيه مصادَمة صريحة للآية وإلا هو على خطر، أقول: هو لا شك أنه لا يعلم ما في غد إلا الله -عز وجل-، لكن إذا كان مجرد احتمال مبني على مقدمات قد تكون نتائجها دقيقة وقد لا تكون دقيقة، وربط بإذن الله وعِلْم الله -عز وجل-، الأمر يكون أخف -إن شاء الله تعالى-.
المقدم: الأدهى من هذا -أحسن الله إليكم- خروج بعض المنجِّمين والكذبة والدجالين في القنوات الفضائية، وصرْف أوقات كثير من الشباب والفتيات مع الأسف الشديد لمشاهدتهم والاتصال بهم، حتى أن بعض حلقاتهم يستمر أكثر من ساعتين وثلاث لا يستطيع المتصل أن يمسك الخط كما يقولون، فيتصل ويقول: أنا فلان، ووضعي كذا، ويقول له: ارفع كفك الأيمن عن طريق الشاشة، ثم يخبره ببعض أحواله وكذب ودجل، الحقيقة أولاً: نود منكم التكرم بالتحذير من هؤلاء وأمثالهم، وأيضًا الحكم في مشاهدتهم والاتصال بهم هل يدخل ضمن إتيان الكهنة والعرافين؟
أولاً: هذا سببه البُعْد عن المصادر، مصادر التلقي في الدين، وهي الكتاب والسنة، فمتى بَعُد الإنسان عن المصادر الصحيحة المعطية للعلم الشرعي الصحيح متى بعد الإنسان أخذ يلتفت يمينًا وشمالاً يبحث عن مخارج؛ لأن كل إنسان له قضية، كل إنسان له ضائقة، كل إنسان تمر به أزمة، كل إنسان تمر به محنة، فإذا لم يتجه إلى الحلول الشرعية لا شك أنه يتجه إلى حلول أخرى.
أيضًا هو شيء جديد وغريب في حياة الناس، والناس معجبون بالجديد عمومًا، وإن كان محظورًا، وإعجابهم بهذا لا يعني تبريره لهم، بل هو محرم، بل من عظائم الأمور، بل من الموبقات، ومع ذلكم أيضًا مشاهدة المحرم محرمة، لا تجوز مشاهدتها بحال من الأحوال.
المقدم: ولا الاتصال.
ولا الاتصال، ولا أي ارتباط بهؤلاء، بهذه الفئة، والاتصال بهم كإتيانهم، والله المستعان.
وفي شرح الكرماني يقول: فإن قلت: من أين يستفاد الحصر من الآية؟ {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [سورة لقمان 34] من أين يستفاد الحصر من الآية حتى يوافق الحصر الذي في الحديث: «في خمس لا يعلمهن إلا الله» الحصر في الحديث ظاهر «لا يعلمهن إلا الله» النفي والاستثناء.
المقدم: أما في الآية؟
أما في الآية من أين يستفاد؟ {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ}.
المقدم: {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [سورة لقمان 34].
عنده.
المقدم: عنده؟ الحصر في عنده.
يقول: من أين يستفاد الحصر من الآية حتى يوافق الحصر الذي في الحديث؟
المقدم: عنده.
قلت: من تقديم "عنده" كما في قوله -جل وعلا-: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [سورة الفاتحة 5] فتقديم المعمول يفيد الحصر بلا شك.
قلت: من تقديم "عنده" وأما بيان الحصر في أخواتها فلا يخفى على عارف بالقواعد، وأما الانحصار في هذه الخمس مع أن الأمور التي لا يعلمها إلا الله كثيرة، فإما لأنهم كانوا يسألون الرسول -عليه الصلاة والسلام- عن هذه الخمس فنزلت جوابًا لهم، وإما لأنها عائدة إلى هذه الخمس، يعني ما عدا هذه الخمس ترجع إلى هذه الخمس، هذه كليات، كليات الأمور الغيبية، يرجع ما عداها إليها، أو لأن السؤال كان وقع عنها في وقت من الأوقات فنزلت الآية، وقررها النبي -عليه الصلاة والسلام- بقوله.
قوله: "الآية" وهذه يحتاجها كل طالب علم {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [سورة لقمان 34] الآية.
المقدم: هذه قالها النبي -عليه الصلاة والسلام-؟
أين؟
المقدم: الآية كذا؟
لا، ما قال: الآية؛ لكن إذا قيلت في مثل هذا السياق، يعني احتمال النبي -عليه الصلاة والسلام-، وكَل باقيها إلى حفظهم، أو أنه أتمها كما في بعض الروايات، المقصود أنها توجد كلمة الآية، والحديث إذا اقتُصِر على البعض، ثم قيل: الآية، أو قيل: الحديث بالنصب، منصوبة بفعل محذوف نحو اقرأ الآية، أو أكمل الآية، أو تلا الآية إلى آخر السورة، وجوَّز الكرماني الرفع بأنه مبتدأ، وخبره محذوف، أي الآية مقروءة إلى آخرها، وجوَّز الجر أي إلى الآية، أي إلى مقطعها، وتمامها قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [سورة لقمان 34] في آخر سورة ماذا؟ لقمان.
"ثم أدبر" أي الرجل السائل "فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" للصحابة: «ردوه» أي استرجعوه، فلم يروه، وفي الحديث: فلم يرَوا شيئًا، وإنما قال: شيئًا ولم يقل: فلم يروه، أو فلم يروا أحدًا مبالغة، يعني ما وجدوا شيئًا لا عينًا ولا أثرًا، حتى أثره على الأرض ما وجدوا، لم يجدوا شيئًا لا الرجل ولا أثره في الأرض "فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «هذا جبريل»" فيه أن الملَك يجوز أن يتمثَّل لغير النبي، وأن يراه غيره قائلاً سامعًا، وقد ثبت عن عمران بن حصين أنه كان يسمع تسليم الملائكة عليه، هذا في صحيح مسلم.
«جاء يعلم الناس» قال الكرماني: فإن قلت: هو سؤال فقط، والناس تعلموا الدين من الجواب لا منه...، فقال: «هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم».
يقول الكرماني: فإن قلت: هو سؤال فقط، والناس تعلموا الدين من الجواب لا منه، الجواب قلت: لما كان هو السبب فيه أُطلِق المعلِّم عليه، أو لما كان غرضه التعليم أُطلِق عليه، وصورة هذه الحالة، يقول الكرماني: وصورة هذه الحالة كصورة المعيد إذا امتحنه الشيخ عند حضور الطلبة ليزيده طمأنينة في أن يعيد الدرس ويلقي إليهم المسألة كما سمع من الشيخ بلا زيادة ولا نقصان.
المعيد بالنسبة للشيخ يتمرَّن ويتأهل للتعليم، فيطلب منه الشيخ إعادة الدرس، ولذا سمي معيدًا، فإذا ألقى الدرس كما سمعه صار متأهلاً، وتعلم الطلاب منه بدلاً من أن يعيد الشيخ الدرس مرة ومرتين ليفهموا، يعيده مرة، ويعيده المعيد ثانية، وهكذا حتى يثبت في أذهان الطلاب، يعني لو أعاده الشيخ هذا فيه أكثر من فائدة، لو أعاده الشيخ مل الطلاب، لكن تغيير الأصوات ينشط، هذا من جهة، الأمر الثاني: فيه أيضًا تمرين لهذا المعيد، واختبار لقدرته، فهذا فيه فوائد، هذه الطريقة أعني طريقة التعليم على طريقة السؤال والجواب، طريقة ناجحة، بل من أنجح طرق التدريس، ومن أنفع وسائل التحصيل، على طريقة السؤال والجواب، يظهر هذا في اللقاءات العلمية التي يقيمها أهل العلم مع طلابهم، يعني في الكلام العادي المرسَل الإلقاء، قد يغيب ويعزب عن بال الشيخ بعض القضايا التي الطلاب الحاضرون بأمَسِّ الحاجة إليها، لكن إذا سئل فأجاب، ففيه أيضًا تنبيه للشيخ عن المهم بالنسبة لهؤلاء الحاضرين، وفيه أيضًا شد للطلاب؛ لأن هذه الطريقة فيها حوار بين الشيخ والطالب، فينتبه هو وينتبه غيره، وهي أيضًا لا تكون في موضع واحد في الغالب، ففيها تنوع في الموضوعات، مما ينشط الطلاب، ويسهل عليهم الأخذ.
يقول ابن حجر: اتفقت هذه الروايات على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر الصحابة بشأنه بعد أن التمسوه فلم يجدوه، وأما ما وقع عند مسلم وغيره من حديث عمر في رواية كهمس: "ثم انطلق، قال عمر: فلبثت مليًّا، ثم قال: «يا عمر أتدري من السائل؟» قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «فإنه جبريل». فقد جمع بين الروايتين بعض الشراح بأن قوله: "فلبثت مليًّا" أي زمانًا بعد انصرافه، فكأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أعلمهم بذلك بعد مضي وقته، ولكنه في ذلك المجلس.
حديث الباب يدل على أنه في المجلس، "ثم أدبر فقال: «ردوه» فلم يروا شيئًا" فقال، العطف بالفاء، تعقيب، يعني في المجلس، وفي حديث عمر: "فلبثت مليًّا" يعني مكث زمانًا بعد انصرافه، النبي -عليه الصلاة والسلام- أعلمهم بذلك بعد مضي وقته، ولكنه في ذلك المجلس، يعني لكونه في المجلس ساغ أن يكون مليًّا لطوله، ولكونهم لم يتفرقوا ساغ العطف بالفاء أيضًا.
لكن يعَكِّر على هذا الجمع قوله في رواية النسائي والترمذي: "فلبثت ثلاثًا" لكن ادعى بعضهم فيها التصحيف، وأن "مليًّا" صغرت ميمها فأشبهت "ثلاثًا" لأنها تكتب بلا ألف، ثلاثًا بدون ألف، ثلاث في صورة الثلث، إلا أنهم يجعلون ألفًا صغيرة بعد اللام وبين...
المقدم: تدل على المد.
تدل على المد.
لأنها تُكتَب بلا ألف، وهذه الدعوى مردودة، يقوله ابن حجر، فإن في رواية أبي عوانة: "فلبثنا ليالي" هذا ما يمكن فيها التصحيف "فلقيني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد ثلاث" ولابن حبان: "بعد ثالثة" ولابن منده: "بعد ثلاثة أيام" هذا يُبعِد التصحيف، إذًا كيف يجمع بين هذا وحديث الباب؟
جمع النووي بين الحديثين بأن عمر لم يحضر قول النبي -عليه الصلاة والسلام- في المجلس، بل كان ممن قام، إما مع الذين توجهوا في طلب الرجل، أو لشغل آخر، ولم يرجع مع من رجع لعارض عرض له، فأخبر النبي -عليه الصلاة والسلام- الحاضرين في الحال، ولم يتفق الإخبار لعمر إلا بعد ثلاثة أيام، ويدل عليه قوله: "فلقيني" وقوله: "فقال لي: «يا عمر» فوجه الخطاب له وحده، بخلاف إخباره الأول، وهو جمع حسن. هذا كلام النووي يقول ابن حجر: وهو جمع حسن.
قال ابن رجب: هذا الحديث قد اشتمل على أصول الدين ومهماته وقواعده، ويدخل فيه الاعتقادات والأعمال الظاهرة والباطنة، فجميع علوم الشريعة ترجع إليه من أصول الإيمان والاعتقادات، ومن شرائع الإسلام العملية بالقلوب والجوارح، ومن علوم الإحسان، ونفوذ البصائر في الملكوت، وقد قيل: إنه يصلح أن يسمى "أم السنة" لرجوعها كلها إليه، كما تسمى الفاتحة "أم الكتاب" و"أم القرآن" لمرجعه إليها، والقائل إنه ينبغي أن يسمى أم السنة القرطبي.
المقدم: أقول لا غضاضة أن أخذنا فيها الحلقات الطويلة ومن باب التوضيح؛ لأن بعض المستمعين يقول ربما أطلتم فيه لهذا السبب.
سبق أن تمنينا أن لو قام بارع يحسن الصياغة لعامة الناس بأسلوب يناسبهم، يشرح الحديث شرحًا، يبسطه بسطًا مناسبًا لهم، ويوزَّع على البيوت، لكان نفعه عظيمًا.
دقيقة هنا يقول: يصلح أن يسمى أم السنة لمشابهة أم الكتاب لرجوعها، لكن عندنا حديث وسورة، يعني ساغ أن نقول: أم الكتاب وأم القرآن لأنها سورة مؤنثة.
المقدم: أما حديث فمذكر.
حديث يصلح أن نقول: حديث أم السنة؟ يصلح؟
المقدم: ما يصلح.
هو مذكَّر، هم قالوا: يصلح أن يكون أم السنة ليقابل أم الكتاب، لتمام المقابلة، لكن أم الكتاب سورة يصدق عليها لفظ أم، لكن الحديث مذكَّر فهل يصدق عليه أن نقول: أم السنة؟
الأخ الحاضر:......
كيف؟
الأخ الحاضر: ألفاظه.
كيف ألفاظه؟
الأخ الحاضر: ألفاظ الحديث.
الألفاظ جمع لفظ، مذكَّر.
الأخ الحاضر: مفردات الألفاظ يا شيخ مثل أشراط الساعة.
لا أدري، لكن لعلهم من باب أن المذكَّر أشرف من المؤنث، من باب الأدب ألا يُشرَّف ما في الحديث على الكتاب، من هذا الباب، من هذه الحيثية، كل هذه استنباطات.
يقول الإمام البخاري بعد ذلك بعد رواية الحديث: قال أبو عبد الله المراد به البخاري المؤلف: جعل ذلك كله من الإيمان، أي الإيمان الكامل المشتمل على هذه الأمور كلها.
قال الكرماني: فإن قلت: قال: أولاً يعني في الترجمة ماذا قال؟ ثم قال: جاء جبريل -عليه السلام- يعلمكم دينكم، قال: أولاً يعني في الترجمة جعل ذلك كله دينًا، فجعل ذلك كله دينًا في الترجمة، وهنا قال في النهاية بعد رواية الحديث: جعل ذلك كله من الإيمان، هل هناك اختلاف بين العبارتين؟ هل هناك فرق بين الدين والإيمان؟ الدين أشمل، أشمل من الإيمان، بحيث يتناول الإسلام والإحسان؛ لأنه لما ذكر الإيمان والإسلام والإحسان قال: جاء جبريل يعلمكم دينكم، فهذا أشمل الدين، لكن على اصطلاح الإمام البخاري إذا كان الدين يشمل الإسلام والإيمان الإحسان، والإسلام والإيمان بمعنى واحد عند الإمام البخاري، فسواءً عبَّر بالدين أو عبَّر بالإيمان لا اختلاف بينهما، ولذا قال في الترجمة: فجعل ذلك كله دينًا، وفي النهاية: جعل ذلك كله من الإيمان، ومذهبه كما تقدم مرارًا أنه لا فرق عنده بين الإسلام والإيمان.
قلت: أما جعْله دينًا فظاهر، كيف جعله دينًا فظاهر؟ لأنه لفظ الحديث: «هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم» وأما جعله إيمانًا يقول الكرماني: فـ(من) إما تبعيضية، والمراد بالإيمان هو الإيمان الكامل المعتبر عند الله تعالى وعند الناس، فلا شك أن الإسلام والإحسان داخلان فيه، وإما ابتدائية، ولا يخفى أن مبدأ الإحسان والإسلام هو الإيمان بالله تعالى، إذ لولا الإيمان بالله لم تتصور العبادة له، ظاهر أو ليس بظاهر؟
المقدم: أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ فيما يتعلق بهذا الحديث قول جبريل له: وسأخبرك عن أشراطها هل يُفهَم منه أنه لا ينص على أن الشيء من أشراط الساعة حتى يدل على ذلك دليل، بمعنى أن ثم من أشراط الساعة التي يعدها البعض لم ينص نص على أنها من الأشراط، كما في حديث جابر الموقوف في مسلم يوشك أهل العراق ألا يوجب إليهم قفيز ولا درهم، فهل مثلاً ما يحصل في الواقع يقال: إنه تفسير أو إنه من أشراط الساعة هذا من جهة؟
السؤال الثاني -أحسن الله إليك-: هل يعمد البعض إلى تنزيل أشراط الساعة على الوقائع مباشرة، هل لهذا منهج شرعي بحيث أنه ليس كل واقعة يقال: إنها من أشراط الساعة إلا بضوابط معينة؟
أما ما ذكر في الحديث فهو من أشراط الساعة بالنص، ويوجد أشراط لم تذكر في الحديث، ذكرت في أحاديث أخرى، بل زيد على الحديث، كما في الأحاديث الأخرى، الشرائع كملت، تتكامل شيئًا فشيئًا، وكذلك الأشراط تتكامل شيئًا فشيئًا، وزيد عليها في أحاديث كثيرة، وألفت فيها المؤلفات، فليس هذا على سبيل الحصر، ليس ما جاء في الحديث على سبيل الحصر، وهناك أشراط كثيرة، ذكرت بعد ذلك، وسُطِّرَت ودُوِّنَت، وأُلِّفَت فيها المؤلفات.
أما تنزيل هذه الأشراط على ما وقع أو سيقع لا شك أنه بحسب فهم من أوقع ذلك، وحسب ظهور الأمر له وخفائه على غيره، ويبقى أن هذه التنزيلات أمور ظنية، يجتهد فيها العالم إن أصاب فيها له أجره، وإن أخطأ فهو أجره مغفور، وله أجر الاجتهاد، لكن لا ينبغي التسارع في مثل هذا الأمر من متوسطي طلاب العلم، ينبغي هذا أن يربط بالكبار؛ لأن هذه عظائم، ويرتب عليها أمور، فمثل هذه لا يدركها إلا الراسخون تنزيلها، ويشبه هذا إلى حد كبير تنزيل بعض النصوص الشرعية على كثير من النظريات التي وجدت، وما لبثت أن ألغيت هذه النظريات، فهل تلغى النصوص التي نزلت عليها؟ لا شك أن مثل هذا مزلق خطير، ينبغي أن يحذر منه طالب العلم، فلا يتسرع فيه، وإذا ظهر ظهورًا واضحًا بينًا لأهل العلم، ونزلوه عليه فالنصوص الشرعية لا بد من وقوع ما جاء فيها، لا بد من أن يقع ما جاء فيها.
والحديث خرَّجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في موضعين:
الأول: هنا في كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي -عليه الصلاة والسلام- عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة، وبيان النبي -عليه الصلاة والسلام- له، ثم قال: «جاء جبريل -عليه السلام- يعلمكم دينكم» فجعل ذلك كله دينًا، وما بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- لوفد عبد القيس من الإيمان، وقوله تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} [سورة آل عمران 85].
قال -رحمه الله-: حدثنا مسدد قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم قال: أخبرنا أبو حيان التيمي عن أبي زرعة عن أبي هريرة، قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- بارزًا يومًا للناس... فذكره.
وسبق ما يتعلَّق بالمناسبة وشرح الترجمة.
الموضع الثاني: في كتاب التفسير، باب {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [سورة لقمان 34] يقول الإمام البخاري: حدثنا إسحاق عن جرير عن أبي حيان عن أبي زرعة عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يومًا بارزًا للناس إذ أتاه رجل يمشي، فقال: يا رسول الله ما الإيمان؟ فذكره بنحوه، والمناسبة ظاهرة {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [سورة لقمان 34] مذكورة في الحديث، والحديث متضمن للآية، والآية مناسبة جدًّا لكتاب التفسير، فالمناسبة ظاهرة.
أخرجه أيضًا مسلم، فالحديث متفق عليه، وهو أيضًا مخرَّج من حديث عمر -رضي الله عنه- في مسلم وغيره، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المقدم: جزاكم الله خيرًا وأحسن إليكم ونفع بعلمكم.
أيها الإخوة والأخوات، كان معنا في هذه الحلقة صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، شكر الله له، شكرًا لكم على طيب المتابعة. نلقاكم -بإذن الله تعالى- مع حلقة قادمة لنشرح حديثًا آخر في باب الإيمان.
حتى ذلكم الحين نستودعكم الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.