شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (035)
المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً و مرحبًا بكم إلى حلقة جديدة ضمن برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح. مع مطلع هذه الحلقة يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، ونشكر له قبول دعوتنا، فأهلاً ومرحبًا بكم شيخ عبد الكريم.
حياكم الله وبارك فيكم.
المقدم: توقفنا عند قول المؤلف -رحمه الله-:
"عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنمًا يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن»."
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
هذا الحديث يرويه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- عن أبي سعيد -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنمٌ يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن».
راوي الحديث أبو سعيد سعد بن مالك بن سنان بن عبيد بن ثعلبة بن عبيد الأبجر، وهو خُدْرَة بن عوف بن الحارث بن الخزرج الأنصاري، خُدْرَة الذي ينسب إليه أبو سعيد، قال ابن سعد: وزعم بعض الناس أن خُدْرَة هي أم الأبجر. استُصْغِر أبو سعيد يوم أُحد فرُدَّ، واستشهد أبوه -رضي الله عنه-، وغزا أبو سعيد -رضي الله عنه- بعد ذلك مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثنتي عشرة غزوة، ولم يكن في أحداث الصحابة أفقه منه، كما ذكره حنظلة بن أبي سفيان الجُمَحي عن أشياخه، توفي بالمدينة سنة أربع وستين، وقيل: أربع وسبعين.
لا شك أنه من فقهاء الصحابة وفضلائهم، من المكثرين من رواية الحديث، أما كونه أفقه أحداث الصحابة يَرِد عليه ابن عباس ونظراؤه.
الحديث ترجم عليه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- بقوله: بابٌ من الدِّين الفرار من الفتن.
قال ابن حجر -رحمه الله تعالى-: عدَل المصنف عن الترجمة بالإيمان، ما قال: بابٌ من الإيمان الفرار من الفتن، قال: عدل المصنف عن الترجمة بالإيمان مع كونه ترجم لأبواب الإيمان، عدل عن ذلك مراعاة للفظ الحديث، فالذي في الحديث: «يفر بدينه» مراعاة للفظ الحديث.
ولما كان الإيمان والإسلام مترادفَين في عُرْف الشرع، وقد قال الله -سبحانه وتعالى-: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ} [سورة آل عمران 19] إذا كان الإيمان مرادف للإسلام في الشرع، وهذا عند الافتراق كما هو معروف عند جمهور العلماء، وهو مرادف للإسلام مطلقًا عند الإمام البخاري، وجاء بإزاء الإسلام الدِّين، كما في قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ} [سورة آل عمران 19] فالدين هو الإسلام، والإسلام هو الإيمان، إذًا «يفر بدينه» يعني بإيمانه، يقول ابن حجر: صح إطلاق الدين في موضع الإيمان؛ لما ترجم الإمام البخاري فقال: بابٌ من الدين كأنه قال: بابٌ من الإيمان؛ لأن الدين هو الإسلام، والإسلام هو الإيمان عند الإمام -رحمه الله تعالى-.
قال الطيبي: اصطلحوا على ترادف الإيمان والإسلام والدين، ولا مشاحَّة في الاصطلاح، اصطلحوا على ترادف الإيمان والإسلام والدين ولا مشاحة في الاصطلاح، وهذه الكلمة تطلق على أساس أنها قضية مسلَّمة لا مشاحَّة في الاصطلاح، لكن ينبغي أن تقيَّد بما إذا لم يخالِف الاصطلاح، ما تعارف عليه أهل علم من العلوم، فإذا تعارفوا على شيء، واتفقوا عليه، وتواطؤوا عليه فإنه حينئذٍ لا تجوز مخالفتهم، ولو اصطلح شخص لنفسه وبين اصطلاحه ووضحه، فإنه حينئذٍ يشاحَح، الأصل ألا مشاحَّة في الاصطلاح؛ يعني: تسمي أبا الزوجة عمًّا أو خالاً لا مشاحَّة في الاصطلاح، من الناس من يقول: خال، لا بأس، من الناس من يسميه عم، لا بأس، لا مشاحَّة في الاصطلاح؛ لماذا؟ لأنه لا يترتب عليه مخالفة حكم لكن لو ألَّف شخص في الفرائض وقال: أنا أسمي أخ الأب خالاً، قلنا: لا، تُشاحَح في اصطلاحك، قال: أنا أبيِّن في مقدمة الكتاب، نقول: لا، النصوص جاءت على خلاف ما تذكر، ولو قال: أسمي أخ الأم عمًا، لقلنا له: لا، تُشاحَح في اصطلاحك.
على كل حال لو اصطلح لنفسه وكتب بالجغرافيا وسمى الجنوب شمالاً، والشمال جنوبًا، يُشاحَح في اصطلاحه وإلا ما يُشاحَح؟ يُشاحَح، لو قال: أنا أقول: السماء تحت والأرض فوق، نقول: تُشاحَح في اصطلاحك، وهذه العبارة التي يطلقها كثير من الناس "لا مشاحة في الاصطلاح" ليست على إطلاقها، بل لا بد من تقييدها، وهنا كما ذكر الطيبي لا مشاحة في الاصطلاح لا سيما وأن الإمام مؤلف الكتاب الذي نعتني به يرى أنه لا فرق بين الإسلام والإيمان، وجاء في النصوص ما يدل على ذلك، لكنَّ جمهور أهل العلم يرون أنهما إذا اجتمعا افترقا، وحُمِل الإيمان على الأعمال الباطنة، والإسلام على الأعمال الظاهرة، وإذا افترقا اجتمعا، فيُطلَق الإسلام في موضع الإيمان، والإيمان في موضع الإسلام، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك.
قال العيني: فإن قلت: لِمَ لَمْ يقل: بابٌ من الإيمان الفرار من الفتن، كما ذكر هكذا في أكثر الأبواب الماضية والأبواب اللاحقة؟ وأيضًا عقد الكتاب في الإيمان؛ فلماذا لَمْ يقل: باب من الإيمان الفرار من الفتن؟ قلتُ -يقول العيني-: إنما قال ذلك ليطابق الترجمةُ الحديثَ الذي يذكره في الباب، فإن المذكور فيه الفرار بالدين من الفتن.
يقول: ولا يحتاج أن يقال: لما كان الإيمان والإسلام مترادفين عنده وقال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ} [سورة آل عمران 19] أطلق الدين في موضع الإيمان، يريد بذلك الرد على ابن حجر، يقول: ولا يحتاج أن يقال: لما كان الإيمان والإسلام مترادفين عنده، وقال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ} [سورة آل عمران 19] أطلق الدين في موضع الإيمان، يقول: لا يُحتاج إلى ذلك؛ لماذا لا يُحتاج؟ الحاجة قائمة، يقول النووي في القطعة التي شرحها من صحيح البخاري: في الاستدلال بهذا الحديث للترجمة نظر؛ لأنه لا يلزم من لفظ الحديث عد الفرار دينًا وإيمانًا، بل هو صيانة للدين، فلعل البخاري -رحمه الله- نظر إلى أن صيانة الدين من الدين، فترجم له هذه الترجمة والله أعلم.
كلام النووي يقول: في الاستدلال بهذا الحديث للترجمة نظر، لماذا؟ يقول: لأنه لا يلزم من لفظ الحديث عد الفرار دينًا وإيمانًا؛ لأنه قال: «يفر بدينه» بل هو صيانة للدين من أجل الحفاظ على الدين، فلعل البخاري -رحمه الله تعالى- نظر إلى أنه صيانة للدين، ومعروف أن الوسائل لها أحكام المقاصد، فترجم له هذه الترجمة والله أعلم.
يقول العيني: قلت: لم يُرِد بكلامه الحقيقة؛ لأن الفرار ليس بدين، وإنما المراد أن الفرار للخوف على دينه من الفتن شعبة من شعب الدين؛ ولهذا ذكره بـ(من) التبعيضية، وتقدير الكلام: باب الفرار من الفتن شعبة من شعب الدين، معنى كلام العيني يقول: لم يُرِد بكلامه الحقيقة، لم يُرِد أن الفرار لذاته من الدين، لكن هل الترجمة قالت: بابٌ الفرار من الدين؟
المقدم: من الدين الفرار من الفتن.
نعم، ما قال: بابٌ الفرار من الدين، ما نَسب الفرار إلى الدين، قال: من الدين الفرار من الفتن، فلا بد أن ذكر المتعلَّق من الفتن بالفرار، هو متعلِّق بالفرار.
نقَل ابن حجر عن بعضهم أنه إن أريد بـ(من) كونها جنسية أو تبعيضية فالنظر متجه، وإن أريد كونها ابتدائية، أي الفرار من الفتن منشؤه الدين فلا يتجه النظر.
وقال الكرماني: لا نظر، إذ كلمة (من) ابتدائية، أي الفرار من الفتن منشؤه الدين، والحديث يدل عليه لأن الباء للسببية.
أقول: لا داعي لهذا كله؛ لأن صيانة الدِّين دِين، والذي يذهب إلى المسجد ليؤدي الصلاة هو في صلاة، فالوسائل لها أحكام المقاصد، فالحفاظ على الدِّين من الدِّين، فالفرار بالدين من الفتن من أجل الدين دين، رغَّب فيه الشرع فصار دِينًا، كما أن الوضوء من أجل الصلاة وهو وسيلة وليس غاية، لكن لما جاءت النصوص ترغب في الوضوء صار دينًا، وإلا فالأصل من أراد أن يتوضأ لا ليصلي هل شأنه مثل شأن من توضأ ليصلي؟
«يُوشِك» بضم الياء وكسر الشين أي يقرب، ويقال في ماضيه: أوشك، وهو من أفعال المقاربة، وقد وُضِع لدُنُوِّ الخبر، أخذًا فيه مثل كاد وعسى في الاستعمال، فيجوز: أوشك زيد يجيء وأن يجيء، وأوشك أن يجيء زيد على الأوجه الثلاثة، وخبره يكون فعلاً مضارعًا مقرونًا بـ(أن) وقد يُسنَد إلى (أن) كما في الحديث، حيث أَسنَد (يوشِك) إلى (أن) والفعل المضارع فسدَّ ذلك مسدَّ اسمه وخبره.
قوله: «خيرَ» بالنصب خبر يكون «وغنمُ» بالرفع اسم يكون، وللأصيلي برفع «خيرُ» ونصب «غنمًا» على الخبرية، ويجوز رفعهما على الابتداء والخبر، «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم» يجوز رفعهما على الابتداء والخبر، ويقدَّر في «يكون» ضمير الشأن قاله ابن مالك، لكن لم تجئ به الرواية، إنما جاءت الرواية رواية الأكثر «يوشك أن يكون خيرَ مال المسلم غنمٌ» ورواية الأصيلي: برفع خير ونصب غنم.
«غنم» اسم مؤنث موضوع للجنس؛ ولذا يقال: «يتْبَع بها» أو «يتَّبِع بها» ويقع على الذكور والإناث جميعًا، وعلى الذكور وحدهم، وعلى الإناث وحدها، فإذا صُغِّر قيل: غُنيمة؛ لأن أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها إذا كانت لغير الآدميين فالتأنيث لازم لها، أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها إذا كانت لغير الآدميين فالتأنيث لازم لها.
«يتَّبِع» بتشديد التاء، ويجوز إسكانها «يتْبَع» التشديد على أنه افتعال من اتَّبَع اتِّباعًا، والإسكان من تَبِع بكسر الموحَّدة يتْبَع بفتحها «بها» أي: بالغنم، وخُصَّت الغنم بذلك لما فيها من السكينة والبركة، وقد رعاها الأنبياء -عليهم السلام- مع أنها سهلة الانقياد، خفيفة المؤونة، كثيرة النفع.
«شَعَف» بمعجمة فمهملة مفتوحتَين، جمع شعَفَة بالتحريك، كأَكَم وأَكَمة؛ رأس الجبل، ويُجمَع أيضًا على شُعُوف وشِعَاف وشَعَفات، وشَعَفة كل شيء أعلاه.
«ومواقِع القطر» أي المطر، والمواقع جمع موقِع، بكسر القاف، وهو موضع نزول المطر، وبطون الأودية والصحاري، وخَصَّها بالذكر لأنها مكان الرعي، أو مظانَّ الرعي.
«يفر بدينه» أي بسبب دينه، فالباء للسببية، فيهرب من هذه الفتن خوفًا على دينه، وطلَبًا لسلامة رأس ماله، فإن الدين هو رأس مال المسلم، فإذا سَلِم الدين فالدنيا تبع؛ لأنه هو الغاية التي من أجلها خُلِق الإنس والجن، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات 56] ما خلقوا لجمع الحطام، ولا لنيل المناصب والمراكز، إنما خلقوا للعبادة، وطلبهم للدنيا، وما أمروا به من أن لا ينسوا نصيبهم من الدنيا من أجل إقامة الدين.
كل كسر فإن الدين جابره |
|
وما لكسر قناة الدين جبرانُ
|
«من الفتن» (من) ابتدائية، أي الفرار بسبب الدين منشؤه الفتن، فيفر طلبًا لسلامته لا لغرض دنيوي، ككثرة العلف في الشَّعَف مثلاً، ويجيء هنا ما جاء في حديث: «من كانت هجرته إلى الله ورسوله؛ فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها؛ فهجرته إلى ما هاجر إليه» نبهنا أن الهجرة والانتقال من بلد إلى بلد من أجل الدنيا، أو من أجل الزواج من المرأة لذاته لا شيء فيه، لكن إذا هاجر من بلد إلى بلد، وأظهر للناس أنه إنما هاجر لله، ومقصوده الدنيا، أو الزواج من المرأة فإنه يُذَم، ولذا سيق مساق الذم في الحديث.
هنا نقول: من تتبَّع شَعَف الجبال بغنمه، وأظهر للناس أنه فعل ذلك امتثالاً لمثل هذا الخبر، ومقصوده بذلك كثرة العَلَف هناك لماشِيَته ودوابِّه يُذَم، لكن يُمدَح إذا كان بالفعل إنما نهزه إلى ذلك، وأخرجه إلى تلك المواقع والمواطن خشيته على دينه، فارًّا بدينه، يمدح ويدخل في هذا الحديث.
والفتن: جمع فتنة، وأصل الفتنة الاختبار، يقال: فتنت الفضة على النار إذا خلصتها، ثم استُعمِلت فيما أخرجه الاختبار للمكروه، ثم كثر استعماله في أبواب المكروه، فجاء بمعنى الكفر، كما في قوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [سورة البقرة 191] وجاء للإثم، كما في قوله تعالى: {أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ} [سورة التوبة 49] وجاء بمعنى الإحراق: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [سورة البروج 10] أي أحرقوهم، وجاء بمعنى الصرف عن الشيء، كما في قوله تعالى: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ} [سورة الإسراء 73] وجاءت بمعنى الانشغال بالشيء، كما جاء في فتنة الرجل في أهله وماله، أي المراد انشغاله بهم، وفي الصحيح من حديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -عليه الصلاة والسلام- صلى في خميصة لها أعلام، فنظر إلى أعلامها نظرة فلما انصرف قال: «اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم، وائتوني بأنبجانية أبي جهم، فإنها ألْهَتني آنفًا عن صلاتي» وفي رواية هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: «كنت أنظر إلى عَلَمها وأنا في الصلاة فأخاف أن تفتنني» هذا في لباس فيه خطوط يسيرة، فما الشأن في زخرفة المساجد، وتباهي الناس في زخرفتها وتشييدها، وإشغال المصلين عن مقصود الصلاة ولُبِّها إلى النظر إلى مثل هذه الأمور الزائفة، والله المستعان.
قال تعالى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [سورة طـه 131] الشأن هنا، أما الدنيا فخير متاعها المرأة الصالحة لا شك، لكنها مع ذلكم إنما تُستعمَل للاستعانة بها على طاعة الله، فإن شغلت عن طاعة الله فهي فتنة كغيرها من متاع الدنيا، والله المستعان.
والجملة إما حالية وذو الحال هو الضمير المستتر في يَتْبَع، ويحتمل أن يكون هو المسلم، والمسلم ما إعرابه؟ «أن يكون خير مال المسلم».
المقدم: مضاف إليه.
نعم، مضاف إليه، هل يجوز إتيان الحال من المضاف إليه؟ ابن مالك يقول -رحمه الله تعالى-:
ولا تُجِز حالاً من المضاف له |
|
إلا إذا اقتضى المضاف عمله
|
وهنا جاء في قوله تعالى: {اتَّبِعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [سورة النحل 123] حنيفًا حال من إبراهيم وهو مضاف إليه، والملة مثل الجزء من الشيء، إذا قلت: قُطِعَت يد زيد قائمًا، فقائمًا حال من زيد وهو مضاف إليه، والمضاف جزء من المضاف إليه {اتَّبِعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [سورة النحل 123] حنيفًا حال من إبراهيم، ومضاف إليه، والمضاف مثل الجزء؛ لأن الملة مثل الجزء من الإنسان، وهنا المال كالجزء من الشيء، وهذا هو المسوِّغ لمجيء الحال من المضاف إليه.
يقول الكرماني: فإن قلت: كيف يُجمع بين مقتضى هذا الحديث من اختيار العُزْلة، وبين ما نَدَب إليه الشارع من اختلاط أهل المَحَلَّة لإقامة الجماعة، وأهل البلدة للجمعة، وأهل السواد مع أهل البلدة للعيد، وأهل الآفاق لوقوف عرَفة؟ وفي الجملة اهتمام الشارع بالاجتماع معلوم؛ ولهذا قال الفقهاء: يجوز نَقْل اللقيط من البادية إلى القرية، ومن القرية إلى البلد لا عكسهما، ما تُخْرِج اللقيط عند أهل العلم من البلد إلى البادية؛ لماذا؟ لأنه يُطلَب له الأصلح، فالبلد أصلح له من القرية، والقرية أصلح له من البادية وهكذا، لا شك أن البادية مظنة هلاك، ومظنة ضياع، ومظنة أن يضل، بخلاف المدن المأهولة والقرى. ولا شك أن الإنسان، هذا تابع كلام الكرماني، ولا شك أن الإنسان مدني بالطبع، محتاج إلى السواد الأعظم، هم يقولون: الإنسان مدني بالطبع، بعضهم يذكر أن هذه أول من قالها ابن خَلدون، وكلام الكرماني هذا قبل ابن خَلدون، وقبله وُجِدَت في كلام ابن القيم.
يقول: ولا شك أن الإنسان مدني بالطبع، محتاج إلى السواد الأعظم، وكمال الإنسانية لا يَحْصُل إلا بالتمدُّن، يقول الكرماني: قلت: ذلك عند عدم الفتنة، وعدم وقوعه في المعاصي، وعند الاجتماع بالجُلَساء الصالحين، وأما اتِّباع الشعف وطلب الخلوة والانقطاع إنما هو في أضداد هذه الحالات.
يقول النووي -رحمه الله تعالى-: في الحديث فوائد كثيرة، منها فضل العزلة في أيام الفتن إلا أن يكون الإنسان ممن له قدرة على إزالة الفتنة فإنه يجب عليه السعي في إزالتها، إما فرض عين، وإما فرض كفاية بحسب الحال، وأما في غير أيام الفتنة فاختلف العلماء في العزلة والاختلاط أيهما أفضل؟ فذهب الشافعي والأكثرون إلى تفضيل الخُلْطَة؛ لما فيها من اكتساب العوائد والفوائد، وشهود شعائر الإسلام، وتكثير سواد المسلمين، وإيصال الخير إليهم، ولو بعيادة المرضى، وتشييع الجنائز، وإفشاء السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعاون على البر والتقوى، وإعانة المحتاج، وحضور جماعاتهم، وغير ذلك مما يَقْدِر عليه كل أحد، فإن كان صاحب علم وعمل ونحو ذلك؛ تأكد فضل اختلاطه، وذهب آخرون إلى تفضيل العزلة لما فيها من السلامة المحقَّقَة، لكن بشرط أن يكون عارفًا بوظائف العبادة التي تلزمه، وما يكلَّف به.
يقول: والمختار تفضيل الخُلْطَة لمن لا يغلب على ظنه الوقوع في المعاصي، وبالله التوفيق.
المقدم: أحسن الله إليكم ونفع بعلمكم.
إذًا يا مستمعيَّ الكرام، هذا جزء من الحديث، حول هذا الحديث ونعدكم -بإذن الله- أن نستكمل ما تبقى من الكلام حول هذا الحديث في حلقة قادمة مع صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض. شكر الله له، شكرًا لكم أنتم على حسن استماعكم، نلقاكم -بإذنه تعالى- في حلقة قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.