التعليق على تفسير سورة الفاتحة من تفسير الجلالين (05)

ثم قال القرطبي بعد ذلك: "وقد احتج بعضهم على أن مالكاً أبلغ -يعني من ملك- لأنه فيه زيادة حرف الألف، فلقارئه عشر حسنات زيادةً عمّن قرأ ملك" وهذا نظر إلى الصيغة لا إلى المعنى، كونه يزداد أجراً لا يعني أنه أبلغ من غيره، بدليل أن حذر أبلغ من حاذر، نعم القاعدة عندهم أن الزيادة في المبنى تدل على زيادة المعنى، وبذا رجحوا الرحمن على الرحيم، قالوا: لإن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، لكن الثواب المرتب على القراءة غير البلاغة، والمسألة في أيهما أبلغ؟ وقد يتكلم الإنسان بكلامٍ طويل فيه إطناب أو مساواة، وأبلغ منه الاختصار والإيجاز، فكونه فيه زيادة حرف، ويترتب على القراءة به زيادة الفضل، مسألة خارجة عن كونه أبلغ أو أقل بلاغة، لكن إذا قلنا: إن هذا أبلغ، وهذا أكثر أجر، فماذا نرجح؟ إذا قلنا: ملك كما نقول: حذر أبلغ من مالك كحاذر، ومالك فيه زيادة حرف، وفيه زيادة عشر حسنات، فأيهما أرجح؟

طالب:.......

لماذا؟

طالب:.......

أكثر حسنات، أولاً: نعرف أن القراءتين متواترتان، فبأيهما قرأ القارئ فمصيب، لكن ما الذي يختاره الإنسان لنفسه؟ هل يقرأ مالك؛ لأن فيه زيادة حرف، وفيه زيادة عشر حسنات، أو يقرأ ملك لأنها أبلغ؟

طالب:.......

لكن إذا قرأ ملك فرط بعشر حسنات، أولاً: ما المراد بالحرف الذي يرتب عليه الثواب؟ نعم هل هو حرف المبنى أو حرف المعنى؟ معنى وإلا مبنى؟

طالب:.......

ما قال: (أ َ) حرف؟ لكن أيهما أكثر ثواباً (ألف لام ميم) أو (ألم)؟ إذا قلنا: إن المقصود حرف المبنى، قلنا: أن (ألم) في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ} [(6) سورة الفجر] مثل: {الم} [(1) سورة البقرة] لا فرق، بل نحتاج إلى أن نقول: {الم} ما هي ثلاثة حروف، تسعة حروف، والفرق ليس بالشيء اليسير، إما أن يكون القرآن ثلاثمائة ألف حرف أو سبعين ألف حرف، الفرق كبير، إما أن تكون الختمة بثلاثة ملايين حسنة، أو سبعمائة ألف حسنة، الفرق ليس باليسير، وعلى كلٍ في لغة العرب يطلق الحرف ويراد به هذا، ويراد به ذاك، وشيخ الإسلام -رحمه الله- يميل إلى أن المراد بالحرف حرف المعنى، ولذا لو قرأت: مالك وملك أجرك واحد، يعني إذا قلنا: مالك وملك حرف واحد، وإذا قلنا: ملك ثلاثة حروف، ومالك أربعة على أن المراد حرف المبنى اختلف، لكن على أن المراد حرف المعنى الكلمة حرف واحد، كلها كلمة واحدة ملك ومالك، ما في فرق، والذي يراه الأكثر أن المراد حروف المباني، ولا شك أن فضل الله -سبحانه وتعالى- وما يرجوه المسلم ثواب عظيم جزيل في قراءة القرآن يطمعه في أن يكون المراد حرف المبنى، وإن عظم القائل بالقول الآخر، بل ثقتنا بفضل الله -سبحانه وتعالى- وكرمه وجوده أعظم من ثقتنا بعلم شيخ الإسلام وقوة حجته ودليله، نعم.

طالب:.......

الكلمة حرف عندهم، سواءً كانت حرف أو اسم أو فعل، هي حرف، فملك حرف، وكيف حرف، والهمزة بمفردها حرف.

طالب:.......

هو ما قاله زميلك قبل قليل، لكن تظن أن قولك: {الم} [(1) سورة البقرة] فيها من الأجر مثل (ألم)؟ {الم} [(1) سورة البقرة] مثل (ألم)؟

طالب:......

لا، أنت إذا نطقت بالكلمة خرج لك من {الم} [(1) سورة البقرة] تسعة حروف، ما هي ثلاثة ها؟

طالب:......

وش الصوت؟

طالب:......

طيب الفاء هذه أليس لها اعتبار في ألف؟ ما لها أجر وليس لها ثواب؟ لا، لا، المسألة ترى ما هي بسهلة مثل ما تتصور.

طالب:.......

أن تكون {الم} [(1) سورة البقرة] حرف واحد، لا، لكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف، نفى أن يكون {الم} [(1) سورة البقرة] الثلاثة الحروف نفى أن تكون حرفاً واحداً.

طالب:.......

كيف كلمة واحدة؟ لا، إذا فصلتها ثلاث كلمات، ألف كلمة، ولام كلمة، وميم كلمة.

والله إني بعيد العهد جداً، وكأن ابن الجزري نقله عنه أيضاً، بعيد عن موضعه من كلام شيخ الإسلام.

طالب:.......

الحرف الذي ينطق به، باسمه غير الذي ينطق بلفظه، فرق بين أن تقول: (أ َ) وألف؟ وبين أن تقول: (كَ) وكاف؟

طالب: يعني لو كتبت (كَ) إذا سئل ما هذا الحرف قال: كاف، ولو قيل له انطق: قال: (كَ) إن كان في كلمة، وإن كان مفرد قال: كاف، فكيفية نطق الحرف.......... تركيبه من عدمه..؟

لكن الثواب المرتب على النطق وإلا على الصورة؟

طالب: الثواب مرتب على أن يقرأ هذا الحرف أيِّ كان على صفته التي أنزله الله بها.

تأمل، تأمل تجد، على كلٍ كون القرآن ثلاثمائة ألف حرف أحسن للقارئ من أن يكون سبعين ألف حرف، والمراد بالحرف الكلمة.

في صحيح البخاري: الدين الجزاء في الخير والشر، كما تدين تدان، وقال مجاهد: بالدين الحساب، مدينين: محاسبين، قال ابن حجر: "وللدين معانٍ أخرى منها: العادة والعمل والحكم والحال والخلق والطاعة والقهر والملة والشريعة والورع والسياسة وشواهد ذلك يطول ذكرها" {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [(76) سورة يوسف] إيش معنى دين الملك؟ من معاني الدين السياسة، من معاني الدين الشريعة، وقوله: ومن قرأ مالك فمعناه مالك الأمر كله في يوم القيامة، أي هو موصوف بذلك دائماً كغافر الذنب، فصح وقوعه صفةً للمعرفة، هو الآن يريد أن يتنصل من إشكال، وإلا ما الداعي لذلك كله، مالك معناه مالك الأمر كله في يوم القيامة، وينتهي الإشكال، لكن قال: أي هو موصوف بذلك دائماً، فصح وقوعه صفةً للمعرفة، وقوله: أي هو موصوف بذلك دائماً، أي بكونه مالكاً بالألف، وهذا جواب عن سؤال، وهو أن إضافة اسم الفاعل إضافة غير حقيقية، فلا تكون معطيةً بمعنى التعريف، فكيف ساغ وقوعه صفةً للمعرفة؟ الآن مالك يوم الدين صفة لإيش؟ لله، والله معرفة، بل هو أعرف المعارف على ما تقدم عند سيبويه، مالك يوم الدين اسم فاعل مالك، وإضافة اسم الفاعل تفيد التعريف وإلا ما تفيد؟ لأنها غير حقيقية، إضافة لفظية، فكيف يوصف المعرفة بما لم يستفد التعريف من المضاف إليه؟ الجواب كما في قول المفسر أنه موصوف بذلك دائماً، فهو موصوف بذلك بكونه مالك على الاستمرار والدوام، وحينئذٍ تكون إضافته حقيقية، إذا كان موصوف بذلك على الدوام كانت إضافته حقيقية، لماذا؟ لأنه إنما تكون إضافة اسم الفاعل غير حقيقية إذا أريد باسم الفاعل الحال أو الاستقبال، وحينئذٍ تكون الإضافة في تقدير الانفصال كقولك: مالك الدار الساعة أو غداً، فأما إذا قصد المضي أو الاستمرار كانت الإضافة حقيقية، كما في قوله تعالى: {غَافِرِ الذَّنبِ} [(3) سورة غافر] أي أنه -سبحانه وتعالى- يغفر الذنوب دائماً، يغفر الذنوب في الحال وفي الاستقبال، كما أنه يغفرها في الماضي، ظاهر وإلا ما هو بظاهر؟ فمعناه مالك الأمر كله في يوم القيامة، أي هو موصوف بذلك دائماً، الآن عندنا الأصل القواعد، القواعد هي الأصل، وما خالف القواعد يحتاج إلى تأويل، هذا عند من؟ عند النحاة، وإذا كان المخالف من النصوص حديث هذا لا يشكل عليهم كثيراً؛ لأنهم يقولون: الحديث مروي بالمعنى، والراوي قد يكون ممن لا يحتج به في اللغة، لكن إذا كان المخالف للقاعدة آية من كتاب الله متواترة يحتاجون أن يؤولوا، وأن يقدروا من أجل أن تنضبط قواعدهم {إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ} [(1) سورة الإنشقاق] {إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ} [(1) سورة الإنفطار] السماء مرفوع إيش؟ فاعل بإيش؟ بفعلٍ محذوف يفسره المذكور، لا بد أن تقول: إذا انشقت السماء انشقت، إذا انفطرت السماء انفطرت، على شان إيش؟ على شان تنضبط قاعدتهم، لماذا لا نضبط القواعد على القرآن؟ المحفوظ من التغيير والتبديل، علماً بأن هذه القواعد مهما حاولوا وجدّوا في ضبطها فهي مخرومة، سواء كانت بالنصوص، أو كانت لغات العرب الأخرى، ولذا تجدون الخلاف الطويل العريض  بين الكوفيين والبصريين، وعلل النحاة تكاد تنضبط، فهم يحاولون أن ينزلوا النصوص على قواعدهم، الآن إذا كان معك ساعة تريد أن تضبط الساعة أنت تضبطها على الشمس وطلوعها وغروبها زوالها، أو تحكم على الشمس بزوالها وغروبها وطلوعها تحكم على ذلك بساعتك؟ أيهما الأصل أن تضبط ساعتك على الثوابت التي تعرف بها الأوقات، بخلاف من يضبط هذه الأوقات بالساعة، لو افترضنا أن ساعته قدمت أو أخرت، ضعف الحجر أو نسي؛ لأنه كانت الساعات ما هي على الأحجار تتعبى، يعشيها نعم، هذا نظير ما عندنا، يعني نضبط الثابت بالمتغير، والأصل العكس أن نضبط المتغير بالثابت، الآن القرآن محفوظ من التغيير والتبديل، ولذلك تجدون الإشكال كبير عندهم في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ} [(69) سورة المائدة]

طالب:.......

لا المشكلة إيش؟ الصابئون، هذه التي تشكل عليهم، وهذه التي تحتاج إلى جواب؟ ليس البرُّ أن تولوا، أو ليس البرَّ؟ على كلٍ هذه أمرها سهل؛ لأن أنّ وما دخلت عليه في تأويل مصدر اسم ليس، هذا ما فيه إشكال، الإشكال في مثل قوله تعالى: {وَالصَّابِؤُونَ} [(69) سورة المائدة] وهي معطوفة على اسم (إنّ) فتحتاج أن تقدر لـ(إنّ) خبر، لكي تكون الجملة قد تمّت، ثم تستأنف.

وجائز رفعك معطوفاً على

 

معمول إنّ بعد أن تستكملا

هنا كلامهم كثير في كتب التفسير من أجل أن إضافة اسم الفاعل لفظية، وليست محضة معنوية، وحينئذٍ كيف يوصف المعرفة بما إضافته لفظية؟ لم يكتسب التعريف من الإضافة، فاضطروا أن يقولوا مثل هذا الكلام أن مالك يوم الدين يقصد به الاستمرار، كيف يقصد الاستمرار وهو مضاف إلى يوم الدين؟ هو في المعنى مستمر بلا شك؛ لأنه -سبحانه وتعالى- مالك ليوم الدين، وما قبل يوم الدين، فهو موصوف بـ(مالك) على الاستمرار، وصفه بالملك مستمر، وحينئذٍ ساغ وصف المعرفة به.

{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [(5) سورة الفاتحة] أي نخصك بالعبادة من توحيد وغيره ونطلب المعونة على العبادة وغيرها.

{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} أي نخصك بالعبادة من توحيدٍ وغيره وبطلب أو ونطلب؟ نخصك بالعبادة ونخصك بطلب المعونة على العبادة وغيرها؛ لأن الاختصاص كما جاء في العبادة جاء في الاستعانة، جاء في طلب الاستعانة، والاختصاص مأخوذ من أين؟ من تقديم المعمول على عامله، والاختصاص بالعبادة، يعني نخصك بالعبادة من توحيدٍ وغيره، وهو أيضاً مخصوص بطلب المعونة على العبادة وغيرها من الأمور، في حاشية الجمل يقول: "لما ذكر الحقيقة بالحمد، ووصفه بصفاتٍ عظامٍ تميّز بها عن سائل الذوات خوطب بإياك نعبد، والمعنى: يا من هذا شأنه نخصك بالعبادة والاستقامة ليكون أدل على الاختصاص والترقي من البرهان إلى العيان، والانتقال من الغيبة إلى الشهود، وكأن المعلوم صار عياناً، والمعقول مشاهداً، والغيبة حضوراً، كيف جاء الترقي؟ ترقي بعد أن كنت تثني على الله -سبحانه وتعالى-، فتقول: الحمد لله، وأنت تتصوره غائباً عنك، لكن لما زدت في ثنائك عليه قلت: لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، كأنك وصلت إلى الحضرة، فكأنك تراه وتخاطبه، ولهذا التفت من الغيبة إلى الخطاب فقلت: إياك، ما قلت: إياه، الحمد لله إياه، هذا مناسب، لكن فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب فقلت: إياك نعبد وإياك نستعين، هذا يسمونه التفات، ابن جني -أبو الفتح- يسمي الالتفات شجاعة العربية، كأنه عنى أنه دليل على حدة ذهن البليغ، وتمكّنه من تصريف أساليب كلامه كيف شاء، كما يتصرف الشجاع في مجال الوغى بالكر والفر، شجاعة العربية، من أمثلة الالتفات قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم} [(22) سورة يونس] ما قال: وجرين بكم ويقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى-: "وتحول الكلام من الغيبة إلى المواجهة بكاف الخطاب مناسب" لماذا؟ لأنه لما أثنى على الله -سبحانه وتعالى- فكأن اقترب وحضر بين يديه، فلهذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [(5) سورة الفاتحة] وفي هذا دليل على أن أول السورة خبر من الله تعالى بالثناء على نفسه الكريمة بجميل صفاته الحسنى، وإرشاد لعباده أن يثنوا عليه بذلك، يقول: في هذا دليل على أن أول السورة خبر من الله تعالى، بالثناء على نفسه الكريمة بجميل صفاته الحسنى، خبر، وتقدم لنا في الدرس الماضي في قول المفسر أنه لا بد أن يقدّر، ويقدّر في أولها قولوا ليكون ما قبل إياك نعبد مناسباً له لكونها من مقول العباد، نعم هو من الله -سبحانه وتعالى- ابتداءً، وهو إرشاد للعباد بأن يقولوا هذا الذكر.

و{إِيَّاكَ} بتشديد الياء في قراءة السبعة، وقرأ عمرو بن فايد بتخفيفها مع الكسر، وين أبو عمر؟ من عمرو بن فايد هذا؟ يقولون: وقرأ عمرو بن فايد بتخفيفها مع الكسر، بن فايد، إيا، إيا، قالوا: وهي قراءة شاذة مردودة، قال ابن كثير: لأن إيا ضوء الشمس.

طالب:.......

لا، لا، هذا عمرو بن فايد، وقراءته هذه شاذة مردودة، قال: لأن إيا ضوء الشمس، على هذا كأنهم قالوا: ضوء شمسك نعبد، هذا مردود بلا شك، وقرأ بعضهم: أيّاك، بفتح الهمزة وتشديد الياء، وقرأ بعضهم: هياك بالهاء بدل الهمزة، وإياك ضمير خطاب، ضمير نصب، قالوا: والأظهر أن كلمة إيا جعلت ليعتمد عليها الضمير، يعني ليست بجزء من الضمير، إنما جيء بها ليعتمد عليها الضمير، لماذا؟ لأن الضمير الكاف ضمير متصل، وضمير المتصل ضابطه لا يُبتدئ به، ضابطه أن لا يُبتدئ به، ولا يقع بعد إلا في حالة الاختيار، يعني جاء في حالة الاضطرار مثاله؟

طالب:.......

هاته، صحيح، على كلٍ إيا هنا جيء بها ليعتمد عليها الضمير، ليصح أن يقع في أول الكلام، وإلا فالضمير هو الكاف، ولذلك لزمها الضمائر نحو: إيّاي وإياك وإياهم، ومن النحاة من جعل إيَّ ضميراً منفصلاً ملازماً حالةً واحدة، وجعل الضمائر التي معه أضيفت إليه للتأكيد، وجعل الضمائر التي معه أضيفت إليه للتأكيد، ومنهم من جعل إيا اسماً ظاهراً مضافاً للمضمرات، يعني ومنهم من جعل إياك كلها ضمير نصب، كما جعل إياهم وإياي وإيانا وإياكِ..الخ.

{نَعْبُدُ} [(5) سورة الفاتحة]  قرأ الحسن وأبو المتوكل وأبو مجلز: يُعبد، بضم الياء وفتح الباء، اختلف في المراد بالعبادة على ثلاثة أقوال، أحدها: أنها بمعنى التوحيد، روي عن علي وابن عباس في آخرين، والثاني: أنها بمعنى الطاعة، كما في قوله تعالى: {أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [(60) سورة يــس] والثالثة: أنها بمعنى الدعاء كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [(60) سورة غافر] والعبادة في اللغة التذلل، يقال: طريق معبد، وبعير معبد، أي مذلل، وفي الشرع عبارة عما يجمع كمال المحبة والخضوع والخوف، قاله ابن كثير، وقال شيخ الإسلام: "اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، ويقول ابن القيم -رحمه الله- في نونيته:

وعبادة الرحمن غاية حبه

 

مع ذل عابده هما قطبانِ

و{نَسْتَعِينُ} [(5) سورة الفاتحة] بفتح النون في قراءة الجميع سوى يحيى بن وثاب والأعمش فإنهما كسراها قالوا: نِستِعين، هي موجودة في قراءة بعض العوام من بعض الجهات، وهي لغة بني أسد وربيعة وبني تميم وقيس، وقدّم الضمير المفعول، وكرر للاهتمام والحصر، إياك نعبد وإياك نستعين، قدم للاهتمام والحصر، أي لا نعبد إلا إياك، ولا نستعين ولا نتوكل إلا عليك، وهذا هو كمال الطاعة، قال الحافظ ابن كثير والدين كله يرجع إلى هذين المعنيين، وهذا كما قال بعض السلف، الفاتحة سر القرآن، وسرها هذه الكلمة: إياك نعبد وإياك نستعين، فالأول تبرؤ من الشرك، والثاني تبرؤ من الحول والقوة والتفويض إلى الله -عز وجل-، وهذا المعنى في غير ما آيةٍ من كتاب الله -سبحانه وتعالى-، كما قال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [(123) سورة هود]وقال: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} [(29) سورة الملك] ولابن القيم -رحمه الله تعالى- كتاب عظيم أسماه: مدارج السالكين من منازل إياك نعبد وإياك نستعين.