شرح علم أصول الفقه من النقاية (1)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

ففي هذه الدروس الثلاثة في هذه الليلة ويوم الغد- إن شاء الله تعالى- نشرح رسالة موجزة غاية في الإيجاز في أصول الفقه من كتاب النُّقاية، وكتاب النُّقاية تحدثنا عنه في أكثر من مناسبة وهو أنه كتاب يضم أربعة عشر متنًا من متون العلم، منها ما حاجته ماسة، ومنها ما لا تمس الحاجة إليه؛ ولذا ذكرنا أننا سوف نقتصر من هذه المتون على ما تمس الحاجة إليه، وتقدم أو سبق شرح علوم القرآن من هذا الكتاب ثم أردفناه بشرح علوم الحديث في هذا المكان، واليوم نثلث بعلم أصول الفقه ويتلوه- إن شاء الله- العلوم الأخرى، فالمؤلف تعرَّض لهذا العلم وعرضه بشكل موجَز جدًّا، مناسب لمستوى غيره من المتون التي ذكرها وتحدث عنها في معدَّل ورقة لكل فن هذا المتن، ثم شرحه بشرح أيضًا مختصر شبيه بالمتون بكتاب أسماه إتمام الدراية في شرح النُّقاية وكلاهما مطبوع قديمًا على حاشية كتاب مفتاح العلوم للسكاكي أكثر من مرة، ثم طبع مفردًا طبعات حديثة في مطابع لا تعتني بالتحقيق ولا بالتصحيح، فنحن نحتاج إلى الطبعات القديمة وعمدتنا ومعوَّلنا عليها، اقتنيت الطبعات الجديدة وما استفدت منها وفي الدرس أو في الدورة الماضية كان معنا طبعة من الطبعات الحديثة وقد ضبطوا النِّقاية بكسر النون ومؤلفها يقول هذا كتاب أشرح فيه النُّقاية بضم النون وفي نفس الموضع كسروا النون، فهذه الطبعات التجارية لا ينبغي أن يعتمد عليها ويعوِّل عليها طلاب العلم بل عليهم أن يهتموا، كل طالب علم يعتني بكتابه ويضبطه ويتقنه؛ لأنه إذا ضبط اللفظ سهل عليه فهم المعنى، وإذا تساهل في الضبط في أول الأمر صعب عليه تصحيحه فيما بعد؛ ولذا في كتب علوم الحديث فصول عن كيفية كتابة الحديث وضبطه وشكله وإتقانه، كل هذا لئلا يتطرق إليه التصحيف في اللفظ أو في المعنى؛ لأن القراءة الصحيحة يترتب عليها الفهم الصحيح، المقصود أن هذا المتن أو هذا الفن من هذا الكتاب في ورقة، الإخوان طبعوه على طريقتهم في بدايات الأسطر ونهايتها، وبعض الأسطر فيها كلمة واحدة أو كلمتين في صفحتين ونصف لا، ثلاث صفحات يعني منفوش، على كل حال هو متن متين ولو حفظه طالب العلم لما كان كثيرا على مثله، ونظرا لضيق الوقت فإننا لا نحتاج إلى مقدمات ولا مهدات فإننا ندخل في المتن مباشرة، فالمؤلف- رحمه الله تعالى- يقول: علم أصول الفقه" يعني العلم المسمى بهذا الاسم والملقَّب بهذا اللقب، وإضافة الأصول أو إضافة العلم إلى أصول والأصول إلى الفقه لا شك أن هذا يشعر بمدحه؛ لأن الفقه مبني على الأصول فإضافته إلى الفقه تشعر بمدحه، ولا شك أن الفقه ممدوح «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين » كما جاء في الحديث الصحيح حديث معاوية وغيره، لكن الفقه المراد به هنا أخص من الفقه المراد به في الحديث، المراد في الحديث أعم وأشمل إنما يشمل جميع أبواب الدين ولا يختص بالأحكام فقط كما هو الفقه العرفي عند أهل العلم، والفقه بمعناه العام هو الذي جاء مدحه بقوله -عليه الصلاة والسلام- «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين» وعليه يدل حديث أبي هريرة وحديث عمر رضي الله عنهما في قصة جبريل، وقد قال النبي -عليه الصلاة والسلام- فيه «هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم» بعد أن شرح له الإسلام والإيمان والإحسان فهو أعم من الأحكام العملية، يقول: "علم أصول الفقه أدلته الإجمالية وكيفية الاستدلال بها وحال المستدل" أولا أصول الفقه لقب مركَّب من مضاف ومضاف إليه، ولا بد لمعرفة هذا اللقب من معرفة جزئي المركب قبل ذلك فهو مركَّب من أصول وهو مضاف والفقه مضاف إليه، فالأصول جمع أصل والأصل في اللغة ما يُبنَى عليه غيره، ويقابله الفرع الذي يبنى على غيره، يطلق الأصل على حقيقته اللغوية كأصل الجدار، ويطلق في الاستعمال العرفي عند أهل العلم بإزاء الأصل في القياس الذي يقاس عليه الفرع، ويطلق على ما منه الشيء كالأب أصل، والورثة أصول وفروع وحواشي، ويُطلَق على الدليل، وهنا عرَّف أصول الفقه بأدلته الإجمالية، قال: "أدلته الإجمالية" الدليل من الكتاب والسنة والإجماع والقياس الأدلة الإجمالية، ويقولون في الاستدلال للمسائل: والأصل في ذلك الكتاب والسنة والإجماع، ويطلق على الرجحان كما يقال أكل الميتة على خلاف الأصل، وله إطلاقات ذكرها أهل العلم، اختصار الكتاب الشديد لا يناسب الإطالة في الشرح وأيضا المدة المضروبة لشرح هذا المتن لا تناسب أيضًا، يقول: "علم أصول الفقه أدلته الإجمالية" أدلته الكتاب والسنة والإجماع والقياس، هذه الأصول المتفق عليها وأما المختلف فيها فكثير، "أدلته الإجمالية" لا التفصيلية، فالأدلة التفصيلية من موضوع الفقه، فإذا استدللت على مسألة بعينها من الكتاب أو من السنة هذا دليل تفصيلي ويدخل في علم الفروع لا في علم الأصول، أما الأصول الإجمالية الأدلة الإجمالية الكتاب والسنة أنت لا تبحث في الكتاب هنا على اعتبار أن هذه الآية تدل على كذا، أو في السنة على أن هذا الحديث يستنبط منه كذا، هذا موضوعه كتب الفروع، لكن دلالة الكتاب ومعوَّل أهل العلم على الكتاب في الاستنباط إجمالا وأنه هو المصدر الأول من مصادر التشريع، وكذلك السنة والإجماع على أنها حجة هذا أصل، وكذلك الإجماع والقياس، "أدلته الإجمالية وكيفية الاستدلال بها" كيفية الاستدلال بها يعني كيفية التعامل معها على طريقة أهل العلم؛ لأن حفظ النصوص سهل واستحضار النصوص قد يكون متيسِّرا لمن يحفظ القرآن ويحفظ من السنة ما يحفظ لكن كيف يستنبط من هذا النص من جهة وكيف يتعامل مع غيره من النصوص المتعارضة أو المعارضة لهذا النص؟ هذا من مباحث علم الاصول، "وكيفية الاستدلال بها" يعني كيفية التعامل مع هذه النصوص على طريقة أهل العلم "وحال المستدل" الذي هو المجتهد الذي يستدل ويستنبط، هل يتسنى لكل أحد أن يستدل من الكتاب والسنة أو يستنبط منها مباشرة؟ إذا تأهل لذلك ووصل إلى رتبة الاجتهاد آن له أن يستنبط من الكتاب والسنة ويتعامل معها على طريقة أهل العلم بالجادة المعروفة عندهم، حال المستدل الذي هو المجتهد هذا تعريف علم الأصول الذي هو الجزء الأول من جزئي المركب، والجزء الثاني المضاف إليه هو الفقه، والفقه في اللغة: الفهم {يَفْقَهُوا قَوْلِي} [سورة طـه:28] يعني يفهموه، وفي الاصطلاح: معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد، مثل المسائل المدوَّنة في كتب الفقه: كشرائط الصلاة، أو شرائط الوضوء، أو الحج، أو واجباتها، أو سننها ومندوباتها وهكذا، يعني معرفتنا بأن النية شرط لصحة الصلاة هذه مسألة عقدية أو فقهية؟ فقهية، معرفة الأحكام الشرعية، طيب توجد أحكام بعضها يطلق عليه ما يطلق على الأحكام التكليفية فيقال واجب وهل يدخل في الحد أو لا يدخل؟ قد يقال يجب كذا مثل قول النحاة يجب رفع الفاعل هل هذا حكم شرعي؟ بحيث يأثم تاركه مثل ما يأثم في ترك الواجبات؟ نقول لا، لأن هذا ليس حكما شرعيا، الأحكام الشرعية يخرج بها الأحكام في العلوم الأخرى، في الطب مثلا، في النحو، في غيرها من العلوم، يجب مد الحرف في القراءة أربع حركات، يجب الإدغام في هذا الموضع، يجب الإظهار في هذا الموضع، هل هو من الأحكام الشرعية أو لا؟ بمعنى أنه هل يأثم إذا ما مد أربع حركات؟ إذا ما أظهر أو ما أخفى هل يأثم؟ علماء التجويد يقولون من لم يجوِّد القرآن آثم، إذا ترتب عليه إثم دخل هنا، لكن هل هذا حكم فرعي يمكن أن يُدخَل في الفقه العملي باعتبار أنه يأثم فيعاقَب على تركه؟ هو داخل في الحكم التكليفي الذي هو الوجوب الشرعي، لكن هل نقول أن هذا من فروع الفقه أو مما يتعلق بالأصل الأول وهو الكتاب فيكون داخلا في مباحث الكتاب التي هي من مباحث أصول الفقه وليست من مباحث الفقه، "التي طريقها الاجتهاد" الاجتهاد يعني ما طريقه الظن الغالب لا القطع، فأما المسائل المقطوع بها فإنها عندهم على هذا الحد لا تدخل في حد الفقه، يعني الصلوات الخمس مثلا حكمها الوجوب بدليل قطعي ما تحتاج إلى استدلال ولا يخفى حكمها على أحد فمن عرف أن الصلاة واجبة أو أن الزنى محرم هل يقال له فقيه في هذه المسألة؟ لا يقال له فقيه؛ لأن هذه ليس طريقها الاجتهاد، يقول:  "والحكم" وهو خطاب المتعلِّق بأفعال المكلَّفين ينقسم إلى قسمين حكم تكليفي وحكم وضعي، والمؤلف لم يتعرض لتعريف النوعين وإنما مثَّل لهما مستوعبًا أقسام الحكم التكليفي دون الوضعي، قال: "والحكم إن عُوْقِب تاركه فهو واجب" وهل يلزم في الحد أن يقال ويثاب فاعله؟ ما يثاب فاعله ويعاقب تاركه هذا الواجب، لكن الفصل في الحد الذي يخرج غير الواجب ما ذُكِر، إن عوقب تاركه فهو واجب، وعلى هذا لا يدخل في ذلك المندوب؛ لأنه لا يعاقَب تاركه، ولا يدخل في ذلك الحرام؛ لأنه بالعكس على النقيض يعاقَب فاعله، ولا يدخل المكروه ولا المباح، فإن عوقب تاركه فهو واجب، وهل نضيف إلى ذلك بعد قوله تاركه نضيف امتثالا، إن عوقب تاركه فهو واجب هل نقول امتثالا كما سيأتي في المحرم والمكروه؟ لأن الترك لا يحتاج إلى نية، ترك الواجب يحتاج إلى نية الامتثال؟ هذا ينافي الامتثال، ترك الواجب منافٍ للامتثال فلا يحتاج أن يضاف قولنا امتثالا، "فإن عوقب تاركه فهو واجب أو فاعله فهو حرام" إذا عوقب فاعله فهو حرام، وهل يثاب تاركه كما قلنا في الواجب عوقب تاركه ويثاب فاعله، وهنا يعاقَب فاعله وهل يثاب تاركه؟ لا بد من الامتثال، لا يثاب إلا إذا امتثل، وإلا فالشخص إذا جلس في مجلس وطال مكثه فيه سواء كان مجلس علم أو في مسجد ينتظر الصلاة أو مع أهله أو مع إخوانه وأقرانه أو في مجلس مباح أقل أحواله الإباحة، هل نقول أنه في هذا المجلس الذي مكث فيه الساعات يثاب على ترك المحرمات التي لم يفعلها؟ هو في هذا المجلس ما سرق ولا زنى ولا شرب خمر ولا فعل هل يثاب على ترك هذه الأشياء؟

طالب: ...........

بالنية نعم امتثالا إذا امتثل أنه يجلس في المسجد ليحفظ نفسه من المحرمات التي لا يسلم منها غالب المحافِل يثاب على هذا؛ ولذلك يضيفون امتثالا في ترك المحرم، أما مجرد تركه إما سهوا أو غفلة أو عدم تمكن فإنه لا يثاب عليه، "أو عوقب فاعله فهو حرام" يعني ويثاب فاعله إذا امتثل ونوى بذلك البعد عما حرَّم الله- جل وعلا- "أو أثيب فاعله" يعني ولم يعاقَب تاركه كالواجب "فهو ندب" أو أثيب فاعله ولم يعاقب تاركه وبهذا ينفصل عن الواجب فهو المندوب، "أو أثيب تاركه ولم يعاقب فاعله" "أو أثيب تاركه" يعني امتثالا كما قلنا في المحرَّم "ولم يعاقَب فاعله فهو كُرْه" أي مكروه مثل ندْب أي مندوب، مثل أي محمول وهكذا فهو مصدر بمعنى اسم المفعول "أو لم يثب ولم يعاقب" يعني مستوي الطرفين لا ثواب ولا عقاب لا على فعله ولا على تركه فهو المباح وبهذا تتم القسمة؛ لأن المأمور به إما أن يكون مع الجزم وهو الواجب، أو لا وهو المندوب، والمنهي عنه كذلك مع الجزم هو المحرَّم أو لا فهو المكروه، أو يستوي الطرفان وهو المباح، هذه أحكام أو أقسام الحكم التكليفي الخمسة، الوجوب، والندب، والحظر الذي هو التحريم، والكراهة، والإباحة، وأما الحكم الوضعي الذي يوضَع علامة على الصحة أو البطلان أو يوضَع علامة على حلول شيء ووقت شيء كالأسباب والشروط والموانع والصحة والفساد واقتصر على بعضها فقال: "أو نفذ واعتُدَّ به فهو صحيح" الصحيح من العبادات والعقود والمعاملات الصحيح ما نفذ واعتُدَّ به وترتبت آثاره عليه، "ما نفذ واعتُدَّ به وترتبت آثاره عليه فهو صحيح" بمعنى أنه تبرأ به الذمة ويسقط به الطلب، اعتُدَّ به هذا صحيح بحيث لا يؤمر بإعادته، ترتبت آثاره عليه في العقود بمعنى أن المبيع انتقل من البائع إلى المشتري والثمن من المشتري إلى البائع، ترتبت الآثار عليه بمعنى أن المشتري ينتفع بالسلعة انتفاعا تاما والبائع ينتفع بالثمن انتفاعا تاما هذا معنى ترتب الآثار هذا هو الصحيح، "وغيره باطل" الذي لا ينفذ ولا يعتد به ولا تترتب آثاره عليه هذا باطل، يقول: "وتصوُّر المعلوم على ما هو به علم وخلافه جهل" تصوُّر المعلوم على ما هو به يعني على ما يطابق الواقع، تصوُّر المعلوم على ما يطابق الواقع علم وخلافه جهل، الخلاف هذه، "تصوُّر المعلوم على ما هو به علم" "تصوُّر" مبتدأ مضاف "والمعلومِ" مضاف إليه، "على ما هو به" جار ومجرور، "علم خبر" تصور، "خلافه" هل هي مجرورة أو مرفوعة؟ هل يقول تصوُّر وخلاف وخلافُه أو تصور المعلوم وخلافِه يعني تصور خلافِه، يعني هل الجهل عدم التصور أو عدم تصور المعلوم على ما هو به، ما الذي يترتب على هذا؟

طالب: ...........

لا، نحن لا بد أن نرفع أو نخفض إما نجر أو نرفع؟

طالب: ...........

معطوف على تصور أو على المعلوم تصورُ المعلومِ وخلافُه..

طالب: ...........

طالب: ...........

لا، خلافه يعني غيره ضده.

طالب: ...........

ما هو؟

طالب: ...........

نعم لأنه ترتب عليه شيء وهو أن عدم التصور جهل، وتصور الشيء على خلاف ما هو عليه جهل، لكن هل هو جهل واحد أو جهلان؟

طالب: ...........

عدم التصور أصلا هذا جهل لكنه بسيط، والتصور على خلاف ما هو به جهل لكنه مركب وعبارته تحتمل الأمرين، والسيوطي نفسه نص على هذا يقول: "عبارة المتن تصلح للمذهبين بأن يُضبَط خلافه على الأول بالجر عطفا على المجرور أي وإدراكه على خلاف ما هو به والثاني بالرفع عطفا على تصور أي وخلاف التصور على ما هو به وهو صادق بتصوره على غير ما هو به وبعدم التصور أصلا" المقصود أن من أهل العلم من يقسم الجهل إلى بسيط ومركب، ومنهم من يقول كله جهل ولا نحتاج إلى مثل هذا التفصيل، لكن أيهما أسهل كونك ما تدري ما تحت الأرض تُسأل عنه تقول ما أدري والله أنت جاهل، أو تقول ما تحت الأرض كذا لا تدري أو تُسأل عما وراء هذا الحائط أو وراء  هذا الجدار، كونك تقول ما أدري هذا جهل بسيط وكونك تقول وراءه بستان وفي الحقيقة شارع ليس ببستان هذا جهل مركَّب مثل ما يقولون:

قال حمار الحكيم يوما

 

لو أنصف الدهر كنت أركب

ومادام القائل حمارا وإلا الدهر ما ينصف ولا يظلم.

قال حمار الحكيم يوما

 

لو أنصف الدهر كنت أركب

فأنا جاهل بسيط

 

وصاحبي جاهل مركَّب

الذي هو الحكيم؛ لأن الحكيم أو من يزعمون الحكمة تكلموا بأمور أمور لا يمكن إدراكها من قِبَل البشر، تكلموا في الأفلاك وتكلموا في تأثير هذه الأفلاك وبدون مستند ولا علم، يكون جهلهم بسيطا أو مركَّبا؟ مركَّب؛ لأن تصورهم للشيء على خلاف ما هو به، "وتصور المعلوم على ما هو علم وخلافُه جهل والمتوقِّف على نظر واستدلال مكتسب وغيره ضروري" العلم ينقسم إلى قسمين ضروري ومكتسب، فالضروري ما لا يحتاج إلى نظر واستدلال، والمكتسب ما يحتاج إلى نظر واستدلال، يعني ما يكتسب بطريق الحواس هذا علم ضروري، المرئيات المدركات بالبصر المسموعات هذه مدرَكة بالحواس إذًا ضرورية لماذا؟ لأنها لا تحتاج إلى نظر واستدلال، والعلم النظري المكتسَب يحتاج إلى نظر واستدلال والنتيجة واحدة أو لا؟ لأنه علم والعلم ما لا يحتمل النقيض يعني نتيجته مائة بالمائة سواء كان يحتاج إلى نظر واستدلال أو لا يحتاج، يعني فرق بين أن يقال لك كم نصف العشرة؟ يوجد أحد يتردد في أنها خمسة؟! لكن إذا قيل لك بسرعة ثلاثة عشر ألفا ومائة وثلاث وسبعين كم سبعها؟ تأتي بآلة وتقسم تحتاج إلى نظر واستدلال، لكن النتيجة مقطوع بها؛ لأنك إذا ضربت خمسة في اثنين خرج الناتج عشرة، وإذا ضربت الناتج بعد القسمة بالآلة والنظر والاستدلال في المقسوم عليه طلعت نفس النتيجة، كله علم يعني نتيجته مائة بالمائة لا يحتمل النقيض، لكن هذا يحتاج إلى نظر واستدلال؟ يحتاج إلى مقدمات لنصل إلى النتيجة؟ لا يحتاج إلى نظر واستدلال هذا ضروري وهذا مكتسب، "والنظر الفكر" يعني النظر المذكور المتوقف على نظر واستدلال، ما النظر؟ "النظر الفكر" وترديد ما يراد علمه أو تقريره في النفس في ذهن الإنسان، "النظر الفكر"، طيب أحيانا يكون هناك ترديد في الذهن لكنه لا يستقر كحديث النفس مثلا والخواطر والهواجس هذه تدخل في النظر المذكور هنا؟ عندنا نظر ينتج عنه علم مكتسب، فهل حديث النفس ينتج عنه علم مكتسب أو الهواجس والخواطر؟ لا ينتج عنها علم مكتسب إذًا لا تدخل في النظر، "والنظر الفكر والدليل هو المرشِد" والدليل هو المرشد يعني ما الذي يرشدك ويدلك على الحكم الشرعي في هذه المسألة؟ الهوى، أو الأخذ من المصادر التي تتلقف من يمين وشمال كما يفعله كثير من الناس الآن غير المصادر التي نص عليها هنا الكتاب والسنة والإجماع والقياس؟ ما الذي يرشدك إلى الحكم الشرعي في أي مسألة من المسائل وفي أي قضية من القضايا؟ ما الذي يرشدك ويدلك عليها؟ هو الدليل؛ ولذلك يقول الدليل هو المرشد هو الذي يقودك إلى الحق "والظن راجح التجويزين" هو ذكر العلم الذي لا يحتمل النقيض مثل ما قلنا أن نتيجته مائة بالمائة ويحلف عليه، ولو طلق رجل امرأته على مسألة علمية بأن الخمسة نصف العشرة تطلق أو ما تطلق؟ هذا لا يحتمل نقيضا لكن ماذا عما يحتمل النقيض يعني ليست نتيجته مائة بالمائة، تسعون، ثمانون، سبعون، خمسون، أربعون، الخمسون وهي احتمال الأمرين على حد سواء هذا هو الشك، ثم إذا ترجح أحد الطرفين على الآخر الراجح ظن والمرجوح وهم، قال: "والظن راجح التجويزين ومقابله وهم والمستوي شك" فعندنا العلم الذي لا يحتمل النقيض، الاحتمال الراجح هو الظن، الاحتمال المرجوح الوهم، والمساوي شك، إذا بلغك مجيء زيد من طريق جماعة كلهم ثقات عندك، كلهم جاؤوك وأخبروك بأن زيدًا قدم بحيث لا تتردد في قبول خبرهم ما هذا؟ علم، لو جاءك مجموعة قالوا إن زيدا قدم لكن لا يصل خبرهم إلى حد تحلف عليه لكنه يغلب على ظنك أنه قدم بمجموعهم هذا ظن، ولو قال لك شخص أنه لم يقدم بغض النظر عن القواعد الأخرى التي فيها المثبت مقدم على النافي وكذا لكن هؤلاء المجموعة الذين أخبروك أنه قدم أوثق عندك ممن ذكر أنه لم يقدم يكون الظن الغالب مع الأوثق بلا شك أو مع الأكثر فيكون هو الظن ومقابله الوهم، لو جاءك خمسة وقالوا زيد قدم وخمسة قالوا زيد ما قدم والمسألة مجردة عما يحتف بها من المثبت مقدم على النافي أو مسائل أخرى تأتي في التعاريض والترجيح خمسة وخمسة مستوي الطرفين فهو شك، قال: "والمستوي شك ثم بعد ذلك الأدلة المتفق عليها أربعة" عندنا المتن مطبوع على هامش هذا الكتاب وفي التعامل معه صعوبة وإلا هو متن متقن مضبوط، وهذه الرسالة أشبه ما تكون بالألغاز، بعد هذا مباحث الكتاب المفترض أن يقول: الأدلة المتفق عليها: الكتاب والسنة والإجماع، ثم يفصل ويتكلم على مباحث الكتاب، ومباحث السنة، ومباحث الإجماع والقياس، قال: "مباحث الكتاب" الذي هو الأصل الأول من الأصول التي هي الأدلة أصول التشريع الإسلامي، المصدر الأول هو الكتاب ويبحث فيه من جوانب متعددة: أولا مسألة حجيته لا تحتاج إلى نظر فمن العلم الضروري المتقرر عند كل مسلم، وثبوته أيضًا قطعي لا يحتاج إلى نظر ولا استدلال، يبقى مسألة دلالته على المراد التي منها ما هو قطعي ومنها ما هو ظني، منها ما هو قطعي ثبوته قطعي كله، حجته قطعية بلا ريب، دلالته منها ما هو قطعي ومنها ما هو ظني {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [سورة الكوثر:2] دلالة صَلِّ على صلاة العيد مثلا هل هي قطعية أو ظنية؟ ظنية، أما ثبوت الآية بلا شك قطعي ودلالتها ظنية، من الآيات ما دلالته قطعية أيضًا وهذا كثير، إذا كانت الآية نصا في الموضوع الذي تحدث فيه، إذا كانت نصا فهي قطعية على ما سيأتي في أنواع الدلالات.

قال: "مباحث الكتاب الكلام أمر ونهي" يعني الكتاب، والسنة أيضًا فيها "أمر ونهي وخبر واستفهام وتمنٍّ وعرض وقسم وحقيقة ومجاز"، أمر {أَقِيمُواْ الصَّلاَةَ} [سورة البقرة:43] ونهي {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى} [سورة الإسراء:32] وخبر، الأمر وصيغته افعل والمضارع افعل بالفعل الأمر والمضارع المقترن بلام الأمر لتفعل، والنهي صيغته لا تفعل، ويدخل في صيغة الأمر والنهي أمرنا ونهانا، تدخل في صيغته، التعبير عن الأمر والنهي، أمر ونهي أمر ونهي وخبر وهذا كثير، واستفهام هل قام زيد؟ خبر جاء زيد، والأمر افعل، والنهي لا تفعل، واستفهام وتمنٍّ ليت الشباب يعود يومًا، وعرْض ألا تنزل عندنا فنكرمك، وقسم والله لتفعلن كذا، وحقيقة ومجاز، الحقيقة يعرفها أهل العلم بأنها استعمال اللفظ فيما وضع له، استعمال اللفظ أو استعمال الكلمة فيما وضعت له، والمجاز استعمال اللفظ في غير ما وضع له لقرينة صارفة، فكلمة أسد إذا استعملتها في الحيوان المفترس صارت حقيقة، وإذا استعملتها في الرجل الشجاع صارت مجازا، وهذا على قول من يقول بوجود المجاز سواء مطلقًا كما يقول به جمع من أهل العلم في النصوص وغيرها، ومنهم من يقول أنه لا يوجد في نصوص الكتاب والسنة ويوجد في لغة العرب، ومنهم من ينفيه مطلقا على خلاف معروف عند أهل العلم، فالأمر طلب الفعل ممن هو دونه بافعل {اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [سورة آل عمران:102] هذا أمر، لكن إذا كان الطلب من المساوي تقول لزميلك أعطني الكتاب هذا أمر لكن هل يمكن أن يقال هذا أمر؟ يسمونه عند علماء البلاغة ماذا؟ التماسا، والأمر ممن هو دونه يقولون دعاء، رب اغفر لي هذه الصيغة صيغة أمر لكن ممن دون المأمور فيكون دعاءً، "والأمر طلب الفعل ممن هو دونه بافعل وهي" يعني هذه الصيغة "للوجوب عند الإطلاق"، يعني إذا تجردت عن القرائن، إذا تجردت هذه الصيغة عن القرائن فهي للوجوب، والأصل في الأمر عند أهل العلم الوجوب، تجدون أوامر صريحة بصيغة افعل في الكتاب والسنة وجمهور أهل العلم يقولون للندب وذلكم لوجود صارف لهذا الأمر من الوجوب إلى الاستحباب، "وهي للوجوب عند الإطلاق" يعني حينما لا يوجد صارف "لا لفور أو تكرار"، الأصل أنه إذا اتجه الأمر إلى المكلَّف فإنها تبرأ عهدته وذمته بفعله مرة واحدة فلا يلزم تكراره "ولا للفور" متى ما امتثل الأمر في وقت الإمكان برئت ذمته منه، قال: "لا لفور أو تكرار" فيحصل الإجزاء ولو مع التراخي ولو بمرة واحدة ما لم يدل الدليل على الفورية، أو يدل الدليل على أن هذا الأمر مطلوب تكراره، "وهو نهي عن ضده" الأمر بالشيء قرر المؤلف أنه نهي عن ضده وعكسه النهي عن الشيء أمر بضده، ويُطلِق كثير من أهل العلم هذا الكلام، وبعضهم يفصِّل فيما إذا كان له ضد واحد أو له أضداد، فما كان له ضد واحد فهو أمر بضده في حال النهي ونهي عن ضده في حال الأمر وهو نهي عن ضده، فإذا قال لك قم فهو نهي عن الجلوس، وهل هو نهي عن الاضطجاع؟ يقولون القيام والقيود ضدان بينما الجلوس قد يكون من قيام وقد يكون من اضطجاع فله أكثر من ضد، فمن نهاك عن الحركة فقد أمرك بالسكون، ومن نهاك عن السكون فقد أمرك بالحركة، ويقرر المؤلف هذا باطراد وللعلماء في المطولات تفاصيل ليس هذا محل ذكرها، "وهو نهي عن ضده وعكسه الأمر بالشيء نهي عن ضده"، وقلنا أنه إذا كان له ضد واحد فلا إشكال، وإذا كان له أضداد فالنظر جارٍ فيه بين أهل العلم والخلاف معروف، "ويوجِب ما لا يتم إلا به" يعني ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، لا يتم الوضوء إلا بالبحث عن الماء فالبحث عن الماء واجب لأنه لا يتم الواجب الذي هو الوضوء وهو شرط للصلاة إلا به وهكذا، "ويوجِب ما لا يتم إلا به ويدخل فيه" أي في الأمر "المؤمن المكلف" يعني المكلَّف يتجه إليه الخطاب بالأوامر والنواهي ذكرًا كان أو أنثى، حرا كان أو عبدا إلا ما دل الدليل على خروجه منه كالأوامر المتجهة للنساء لا يدخل فيها الرجال، والأوامر المتجهة للرجال لا يدخل فيها النساء وإلا فالأصل أن التشريع واحد، "ويدخل فيه المؤمن المكلَّف لا ساهٍ" الساهي والغافل والنائم حال السهو والغفلة والنوم لا يؤاخذون «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك» وقل مثل هذا في الصبي الذي لم يبلغ حد التكليف والمجنون الذي فقد مناط التكليف وهو العقل، هؤلاء ارتفع عنهم التكليف لحديث: رفع القلم عن ثلاثة فذكر النائم وذكر الصبي وذكر المجنون "والمكرَه" المكره لا يؤاخذ {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [سورة النحل:106] فإذا أكره على كلمة الشرك وقلبه مطمئن بإيمانه فإنه لا يؤاخذ، وإذا كان هذا في الشرك فما دونه بالنسبة لحقوق الله تعالى من باب أولى، لكن الإكراه بالنسبة لحقوق العباد يتجه أو لا يتجه؟ يعني مكلَّف أو غير مكلَّف حقوق العباد، النائم بالنسبة لحقوق العباد الصبي والمجنون يضمن، نائم انقلب على ذات اليمين أو ذات الشمال على آلة لفلان من الناس فانكسرت نقول نائم رفع القلم عن ثلاثة؟ لا، هل هو مكلَّف؟ كيف نكلفه وهو غير مكلَّف نقول لا، هذا ليس من باب الحكم التكليفي وإنما هو من باب الحكم الوضعي من باب ربط الأسباب بالمسببات، فهو سبب لإتلاف هذا المال فهو ضامن له، المكرَه الله-جل وعلا-ذكر أنه إذا أكره على كلمة الكفر فإنه لا يؤاخذ مادام قلبه مطمئنا بالإيمان {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ} [سورة النحل:106] لكن هل يتصور الإكراه في كل شيء؟ أكره على قتل شخص، يؤاخذ أو ما يؤاخذ؟ يؤاخذ، طيب ولو أدى إلى قتله؟ ولو أدى إلى قتله؛ لأن حفظ نفسه ليس بأولى من حفظ نفس أخيه، أكره على الزنى، وهذه المسألة التي يختلف فيها أهل العلم، الآن دماء المسلمين تُسفَك وتستباح بحجة الإكراه ويتذرع من يقتل المسلمين بأنه مكرَه هذا ليس بحجة له ولا يجوز له أن يطيع مخلوقا في معصية الخالق، في جريمة من أعظم الجرائم في الأديان كلها ويقول مكره؟ {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [سورة النحل:106] مطمئن بماذا؟! بطاعة هذا المخلوق في معصية الخالق هذا نوع من العبادة لهذا المخلوق، إذا أطيع في معصية الله كما في حديث عدي {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} [سورة التوبة:31] قال ما اتخذناهم أربابا ولا رهبانا، قال: يحرمون الحلال فتطيعونهم ويحلون الحرام فتطيعونهم تلك عبادتهم، أُكرِهَ على الزنى، امرأة أكرهت على الزنى يتصور أو لا يتصور؟ يتصور، ورجل أكره على الزنى يتصور أو لا يتصور؟ من أهل العلم يقول لا يتصور الإكراه على الزنى ولا يعذر إذا باشر هذه الجريمة ولو مكرها؛ لأنه لا يتصور أصلا أن يكره على الزنى؛ لأنه مع الإكراه إذا لم تحصل الرغبة منه والاستجابة النفسية ما حصل الجماع لا ينتشر، فإذا انتشر فهذا دليل على أنه راغب في هذه المعصية وحينئذ ينتفي عنه الإكراه، لكن إذا رأى بارقة السيف ألا يمكن أن يتغافل عن حكم الزنى وتحريم الزنى من أجل أن ينجو فيحصل منه ما يحصل؟ متصور أو غير متصوَّر؟ متصوَّر، فمن ينفي وجود الإكراه على الزنى قال أبدا هذا فيه تناقض، كيف يحصل إكراه والرغبة لا تأتي إلا مع عدم الإكراه؟ ومنهم من يقول: بلى يتصور الإكراه على الزنى ويتنشر من أجل أن يسلم من القتل أو مما دونه، على كل حال مسألة خلافية بين أهل العلم ولا أرى ما يمنع من الانتشار مع وجود الإكراه دفعًا عن النفس، لكن إذا وجدت الرغبة- نسأل الله العافية- وفرح بهذا الإكراه بعضهم يقول الظاهر مكره وليس عليه حد ولا عليه شيء يؤاخذ أو ما يؤاخذ؟ يؤاخذ، كما أن من عذر عن الجهاد من أعمى وأعرج ومريض إذا فرح أنه أعرج من أجل ألاَّ يجاهد هذا مشابهٌ لمن لم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق، فكيف يتمنى أن لو كان أعمى ويتمنى لو كان أعرج، هذا يختلف عن حال الصحابة ابن أم مكتوم أعمى وقال إنه رجل أعمى لا يستطيع أن يفر عند اشتداد القتال، فقال: أعطوني الراية واجعلوني في الوسط أعمى، وبعض المبصرين يتمنى أن لو كان أعمى من أجل ألاَّ يجاهد فرق بين هذا وهذا، المقصود أن المكرَه غير مكلَّف لكن إذا حصل منه رغبة فيما أكره عليه أو محبة لما أكره عليه فإنه لا شك أنه وإن لم يؤاخذ في الظاهر لأن الظاهر أنه مكره يؤاخذ في الباطن؛ لأن الله- جل وعلا- يطلع على ما أخفاه، يطلع على السر وأخفى، يعلم السر وأخفى "والكافر مخاطَب بالفروع وشرطها" والكافر مخاطب بفروع الشريعة يقول الله- جل وعلا- في حقهم {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [سورة المدثر:42-44] فأول ما ذكروا فروعا، فدل على أنهم مخاطَبون بالفروع بالواجبات وبترك المحرمات، وما معنى تكليفهم بها؟ تكليفهم بالنسبة للمحرمات إلزامهم بتركها، وبالنسبة للواجبات زيادة عذابهم عليها وإلا ففي الدنيا لا تصح منهم إذا أدوها في حال كفرهم لفقد الشرط الذي هو الإسلام، ولا يطالَبون بها إذا أسلموا ترغيبا لهم في الإسلام، فمعنى تكليفهم بها أنهم يعذبون عليها في الآخرة، "والكافر مخاطَب بالفروع وشرطها" الذي هو الإسلام؛ لأنها لا تصح إلا به، الحنفية يرون أن الكافر غير مخاطَب بفروع الشريعة، كيف يخاطَب بصلاة وزكاة وصيام وهو غير مسلم وهي لا تصح منه إذا أداها ولا يطالَب بها إذا أسلم؟ نقول زيادة في عقوباتهم كما يطالَب المصلي ولو لم يُعلَم أنه متوضئ أو غير متوضئ، أنت إذا رأيت في طريقك إلى المسجد والصلاة قد أقيمت شخصا جالسا تأمره بالصلاة أو ما تأمره؟ أو تقول والله لا أدري هو متوضئ أو ليس متوضأ تأمره بالصلاة ومع ذلك يلزمه أن يصلي ويلزمه أن يستكمل شروط ما أوجب الله عليه، وهنا يلزمه أيضا شرط هذه الفروع وهو الإسلام، الحنفية لا يرون مخاطبة الكفار بالفروع مطلقا، والمالكية يرون مخاطبتهم بالنواهي دون الأوامر؛ لأن النواهي يمكن امتثالها ويمكن تركها من غير شرطها، لكن الأوامر لا يمكن أن تمتثل من غير وجود شرطها وهو الإسلام، "ويرد الأمر لندب" الأصل فيه الوجوب عند الإطلاق لكنه يرد لندب إذا وجد صارف {إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [سورة البقرة:282] هذا أمر لكن هل هو للوجوب؟ ليس للوجوب لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- استدان وما كتب، والتجارة الحاضرة أيضا لا يلزم كتابتها {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا} [سورة البقرة:282] الكتابة مستحبة والحازم لا يترك شيئا دون تقييد لاسيما إذا خشي من العواقب، وقل مثل هذا في من يطلِّق عليه أن يقيد لئلا يطول به العهد مثلا وينسى هذه الطلقة، فالحزم مع كتابة ما له وما عليه؛ ولذا جاء الحث على كتابة الوصية بما للإنسان وما عليه، يرد الأمر للندب لوجود صارف وإلا فالأصل فيه عند الجمهور الوجوب، كما يرد للإباحة ويمثلون بقوله- جل وعلا- {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ} [سورة المائدة:2] {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا} [سورة الأحزاب:53] يقولون الأمر بعد الحظر للإباحة مع أنه في القول المرجح عند أهل العلم أن الأمر بعد الحظر يرجع إلى ما كان عليه قبل الحظر، طيب حكم الاصطياد في وقت الإحرام أو في الحرم حرام لكن قبله؟

طالب: .............

اصطياد شخص جائع يكاد يهلك تقول مباح الاصطياد؟

طالب: .............

يجب عليه أن يصطاد ويجب عليه أن يأكل، وشخص محتاج لكسبه وكسب ولده يتسبب لهم هذا يستحب له أن يصطاد أو يأخذ حبل فيحتطب أو ما أشبه ذلك، على كل حال الأمر بعد الحظر يرجع إلى ما كان عليه قبل، وهم يطلقون أن الأمر بعد الحظر للإباحة {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا} [سورة الأحزاب:53] {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا} [سورة الجمعة:10] هل يقال لكل من صلى الجمعة يذهب إلى الأسواق ويبيع ويشتري؟ إذا كان محتاجا للبيع والشراء على حسب قوة الحاجة وداعيها يتجه إليه الأمر، وتهديد {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [سورة فصلت:40] هذا تهديد، وتسوية {اصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا} [سورة الطور:16] ويأتي أيضًا للتعجيز {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ} [سورة البقرة:23] ويقولون أيضا للتكوين نحو {كُونُواْ قِرَدَةً} [سورة البقرة:65] وغيرها من المعاني التي يرد لها الندب مما محله مطوَّلات كتب الأصول، "والنهي استدعاء الترك" الآن انتهينا من الأمر لأن الكلام أمر ونهي، الأمر طلب الفعل ممن هو دونه، والنهي استدعاء الترك لأنه ضد النهي وضد الأمر، وسبق أن ذكر المؤلف أن الأمر بالشيء نهي عن ضده، والنهي عن الشيء أمر بضده فهو ضده فذاك طلب الفعل وهذا استدعاء الترك أو طلب الترك "وفيه ما مر لأنه" قال: "ممن هو دونه"، "ربنا لا تؤاخذنا" هذا يسمى ماذا؟ يسمى دعاء، لماذا لأنه من الدون، وإذا طُلِب من الأعلى إلى الأسفل سمي أمرا، ومن الأسفل إلى الأعلى دعاء، ومن النظير التماس، "وفيه ما مر" يعني من المباحث مباحث الأمر، وصيغته صيغة الأمر افعل لأنه يقول طلب الفعل ممن دونه بافعل، وصيغة النهي لا تفعل، والتعبير عن النهي أيضا في حكم صيغة النهي كقوله: نهانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو نهينا عن كذا تأخذ حكمها، "والأصل فيه التحريم" كما أن الأصل في الأمر الوجوب، فالأصل فيه التحريم "ويرد في مقابل الأمر" الأمر يرد للندب كما أن الأصل فيه الوجوب يرد هذا أيضا للكراهة كما أن الأصل فيه التحريم لوجود صارف يصرفه من التحريم إلى الكراهة، وهناك قال لا للفور ولا للتكرار وهنا لا بد فيه من الفور؛ ولذا من شروط التوبة الإقلاع فورًا عن المعصية وفيه ما مر، "والخبر أمر ونهي وخبر" الخبر ما يحتمل الصدق والكذب ويقابله الإنشاء، يحتمل الصدق والكذب لذاته، يعني بغض النظر عن قائله فخبر الله وخبر رسوله -عليه الصلاة والسلام- لا يحتمل الكذب، وخبر مسليمة لا يحتمل الصدق وكلها أخبار؛ لأنها لذاتها تحتمل الصدق والكذب، وأما بالنظر إلى قائليها فإنها لا تحتمل الصدق في خبر مسيلمة، ولا تحتمل الكذب في خبر الله وخبر رسوله -عليه الصلاة والسلام- "وغيره إنشاء" يعني يقابل الخبر الإنشاء، والإنشاء: لا يحتمل الصدق والكذب، فإذا قلت: بعتك هذا الثوب بعشرة تقول صدقت أو كذبت؟ تقول اشتريت أو ما اشتريت، هذا لا يحتمل صدقا ولا كذبا فهذا إنشاء لعقد.

ونقف على العام والخاص.

والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدرس الثاني بعد صلاة العصر غدا والثالث بعد صلاة المغرب. 

"