شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (031)
المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً بكم إلى حلقة جديدة ضمن برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح. مع مطلع هذه الحلقة يسرني أن أرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وأشكر له قبول دعوتنا، فأهلاً ومرحبًا بكم شيخ عبد الكريم.
حياكم الله وبارك فيكم.
المقدم: توقفنا عند قول المؤلف: "باب علامة الإيمان حب الأنصار.
وعنه -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار»."
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:
"وعنه -رضي الله عنه-" أي: عن أنس بن مالك، راوي الحديث السابق، والترجمة التي قرأها لا توجد في المختصَر كغيرها، نبهنا على ذلك مرارًا، زادها المحقق من الأصل، وهو اجتهاد منه -وفقه الله-، لكن الأصل أن تبقى الكتب كما هي لا يُتصرف فيها، إن احتيج إلى شيء يُوضع في الحاشية، وصنيع كثير من المحققين المحافظة على الأصل، ووضع العناوين والأبواب والتراجم في الحاشية، في يمين الصفحة.
الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- ترجم على الحديث بقوله: بابٌ علامة الإيمان حب الأنصار، ومناسبة الحديث للترجمة ظاهرة؛ لأن لفظه: «آية الإيمان حب الأنصار» والآية هي العلامة التي ترجم بها الإمام -رحمه الله تعالى-، وعلامة الشيء وآيته منه، كما أن آية النفاق بغض الأنصار، ومناسبته لما قبله مناسبة هذا الباب لما قبله كما قال ابن حجر: لما ذكر في الحديث السابق: «أن يحب المرء لا يحبه إلا لله» أعقبه بما يشير إليه من أن حب الأنصار كذلك؛ لما ذكر في الحديث السابق أن يُحب المرء لا يحبه إلا لله عقَّبه بما يُشير إليه من أن حب الأنصار كذلك؛ لأن محبة من يُحبهم من حيث هذا الوصف وهو النصرة، إنما هو لله تعالى، فهم وإن دخلوا في عموم قوله: لا يُحبه إلا لله، لكن التنصيص بالتخصيص دليل العناية، هم داخلون في الحديث السابق، بعموم الحديث السابق دخولاً أوليًّا، ونُصَّ عليهم في هذا الحديث، وخُصُّوا بهذا الأمر لمزيد العناية والاهتمام.
يقول ابن رجب -رحمه الله تعالى-:
هذا المعنى يرجع إلى ما تقدم من أن حب المرء لا يحبه إلا لله من علامات وجود حلاوة الإيمان، وأن الحب في الله من أوثق عُرى الإيمان، وأنه أفضل الإيمان، فالأنصار نصروا الله ورسوله، فمحبتهم من تمام حب الله ورسوله.
خرَّج الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- من حديث سعيد بن زيد عن النبي -عليه الصلاة والسلام-: «لا يؤمن بالله من لا يؤمن بي، ولا يؤمن بي من لا يحب الأنصار».
وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد وأبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يُبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر».
المقدم: الحديث الأول أين يا شيخ؟
الأول في المسند، الحديث السادس صفحة (382) من حديث سعيد بن زيد.
قوله: «آية الإيمان» الآية العلامة، كما ترجم الإمام -رحمه الله تعالى-، وهي بمد الهمزة، وياء تحتانية مفتوحة، وهاء تأنيث، والإيمان مجرور مضاف إليه، وهذا هو المعتمد في ضبط الكلمة في جميع الروايات «آية الإيمان» ووقع في إعراب الحديث لأبي البقاء العُكبَري: «إِنَّه الإيمان» بدل «آية الإيمان» «إِنَّه الإيمان» بهمزة مكسورة، ونون مشددة وهاء، والإيمان مرفوع «إِنَّه الإيمانُ» خبر (إن)، الإيمان مرفوع، وهذا تصحيف منه.
قال ابن حجر: فيه نظر من جهة المعنى؛ لأنه يقتضي حصر الإيمان بحب الأنصار وليس كذلك «إنه الإيمان» فإن قيل: اللفظ المشهور: «آية الإيمان حب الأنصار» أيضًا يقتضي الحصر، اللفظ المشهور المثبَت في جميع الروايات: «آية الإيمان» يقتضي الحصر أيضًا، وكذا ما أورده المصنف في فضائل الأنصار من حديث البراء بن عازب: «الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن» فالجواب عن الأول: أن العلامة كالخاصة تَطَّرد ولا تنعكس -وهذا الكلام لابن حجر-، الجواب عن الأول: أن العلامة كالخاصة تَطَّرد ولا تنعكس، فإن أُخذ من طريق المفهوم فهو مفهوم لقب لا عبرة به. الأنصار علَم، فإذا أُخذ بهذا المفهوم فهو مفهوم لقب، ومفهوم اللقب لا عبرة به، قالوا في مفهوم اللقب: إنه تعليق الحكم بالاسم العلم نحو: قام زيد، أو اسم النوع نحو: في الغنم زكاة، ولم يعمل به أحد ممن يُعْتَدُّ بقوله إلا الدَّقَّاق وبعض الشافعية، وعليه لوازم باطلة.
قال بعضهم: إنه يُعمل به في أسماء الأنواع لا في أسماء الأشخاص، ولم يأتِ من قال به بحجة لا لغوية ولا شرعية ولا عقلية، ومعلوم من لسان العرب أن مَن قال: رأيت زيدًا لم يقتضِ أنه لم يرَ غيره قطعًا، يعني: عندنا قام زيد، إذا قال شخص: قام زيد، هل مفهوم هذه العبارة أنه لم يقم غير زيد؟
المقدم: لا.
إلا على القول بمفهوم اللقب، إذا قال: في الغنم زكاة، هل مفهوم هذه العبارة أنه ليس في البقر زكاة ولا في الإبل زكاة؟ لا، هذا من اللوازم التي تلزم على القول بمفهوم اللقب، العيني تعقَّب ابن حجر، يقول: قلتُ: هذا الحصر يفيد الحصر، يفيد حصر المبتدأ على الخبر، ويفيد حصر الخبر على المبتدأ، وهو نظير قولك: الضاحك الكاتب، فإن معناه حصر الضاحك على الكاتب، وحصر الكاتب على الضاحك، وكيف يُدَّعى فيه الاطِّراد دون الانعكاس؟ -يعني الذي مَر في كلام ابن حجر- وكيف يُدَّعى فيه الاطراد دون الانعكاس؟ فإن آية الإيمان كما هي محصورة على حب الأنصار كذلك حب الأنصار محصور على آية الإيمان، بمقتضى هذا الحصر، ولكن قد قلنا: إن هذا الحصر ادعائي فلا يلزم منه المحظور، هناك أساليب تفيد الحصر صراحة، لكن قد يكون الحصر حقيقيًّا، وقد يكون الحصر إضافيًّا، فالحصر هنا إضافي، فإذا قلت: إنما الشاعر حسان مثلاً، حصرْتَ، هذا أسلوب حصر، وإذا قلت: ما الشاعر إلا حسان، هذا أيضًا حصر، لكنه حصر إضافي، وليس بحصر حقيقي، ويسمونه ادعائي، حصر ادعائي للمبالغة، وعلى هذا فلا يرِد هذا الكلام.
يقول ابن حجر: سلَّمْنا الحصر، لكنه ليس حقيقيًّا، بل ادعائيًّا للمبالغة، أو هو حقيقي، لكنه خاص بمن أبغضهم من حيث النصرة، حصر حقيقي: «آية النفاق بغض الأنصار» إن أبغضهم لذواتهم أو أبغض بعضهم لذاته، أو لما وقع بينه وبينهم من خصومة أو نزاع أو قتال، أو ما أشبه ذلك فلا يدخل في هذا، ليس بعلامة على النفاق، ما سيأتي تقريره، لكن إن أبغضهم للوصف الذي ذُكِروا به وهو النصرة لا شك أن هذا نفاق.
يقول: والجواب عن الثاني: أن غايته ألا يقع حب الأنصار إلا لمؤمن، وليس فيه نفي الإيمان عمَّن لم يقع منه ذلك، بل فيه أن غير المؤمن لا يُحبهم، فإن قيل: فعلى الشق الثاني هل يكون من أبغضهم منافقًا، وإن صدَّق وأقر؟ على الشق الثاني: «وآية النفاق بغض الأنصار» الشق الثاني من الحديث، هل يكون من أبغضهم منافقًا وإن صدَّق وأقر؟ فالجواب كما قال ابن حجر: إن ظاهر اللفظ يقتضيه، لكن لماذا يقتضيه؟ لأنه من أساليب الحصر على ما تقدم في الشق الأول، أن ظاهر اللفظ يقتضيه، لكنه غير مراد، فيحتمل على تقييد البغض بالجهة، فمن أبغضهم من جهة هذه الصفة وهي كونهم نصروا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أثَّر ذلك في تصديقه، كيف يتم تصديقه بالنبي -عليه الصلاة والسلام- وقد أبغض من نصر النبي -عليه الصلاة والسلام-؟! يمكن هذا؟! أبغضهم لأنهم نصروا النبي -عليه الصلاة والسلام- من أجل هذه الصفة، وهي كونهم نصروا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أثر ذلك في تصديقه، فيصح أنه منافق، ويقرِّب هذا زيادة أبي نُعيم في المستخرَج من حديث البراء بن عازب: «من أحب الأنصار فبحبي أحبهم، ومن أبغض الأنصار فببغضي أبغضهم» ونعود ونؤكد إلى أن البغض المؤثِّر هو البغض من أجل الصفة التي هي النصرة.
نظير ذلك من أبغض زيد من الناس لكونه من أهل الحسبة، من أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، نقول: لماذا تبغض زيدًا؟ إن قال: لأنه يأمر وينهى، نقول: أنت منافق؛ لأنك أبغضت بعض ما جاء به الرسول -عليه الصلاة والسلام-؛ لأنك أبغضت ما أحبه الله ورسوله، فأنت منافق بلا شك؛ لأنه يأمر وينهى، يأمر بما أمر الله به، وينهى عمَّا نهى الله عنه، يزجر الناس ويكفهم عن الوقوع في المحرمات، إن أبغضتهم لهذه الخصلة وهذه الصفة فالنفاق لا شك فيك.
لكن إن أبغض زيدًا من الناس وهو من أهل الحسبة لما وقع بينه وبينه من خلاف في أمر دنيا، أو ما أشبهه؛ الأمر سهل، لكن الإشكال إن أبغضه لما مُدح به شرعًا، كما هنا إن أبغض الأنصار لنصرتهم الرسول -عليه الصلاة والسلام- فلا شك في نفاقه، إن أبغض أهل الحسبة لأنهم قاموا بهذا الأمر الذي أكَّد عليه الشرع «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده» إن أبغضهم لهذه الخصلة فلا شك في نفاقه؛ وليحذر الذين يتطاولون على هذه الفئة التي أسقطت الواجب عن الأمة، فإنكار المنكر فرض على الأمة، فرض كفاية، إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين، وصار في حق الباقين سنة، لكن إذا لم يقم به من يكفي فالأصل الوجوب على كل أحد؛ لعموم قوله -عليه الصلاة والسلام-: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع...» إلى آخره، إلى أن قال: «وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل».
يقول: ويحتمل أن يقال: إن اللفظ خرج على معنى التحذير فلا يراد ظاهره، ومن ثَمَّ لم يقابل الإيمان بالكفر الذي هو ضده، بل قابله بالنفاق، إشارة إلى أن الترغيب والترهيب إنما خوطب به من يُظهر الإيمان، أما من يظهر الكفر فلا؛ لأنه مرتكب ما هو أشد منه، هل يمكن أن يُخاطَب كافر معلن لكفره بقوله -عليه الصلاة والسلام-: «آية الإيمان حب الأنصار»؟ لا يمكن، لكن يُخاطَب بذلك شخص يصلي مع الناس، يظهر الإسلام؛ ولذا قُوبل بالنفاق «وآية النفاق بغض الأنصار».
والأنصار جمع ناصر، كصاحب وأصحاب، أو جمع نصير كشريف وأشراف، واللام فيه للعهد أي أنصار رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
يقول الكرماني: اختُصَّ عرفًا بأصحاب المدينة، يعني إذا قلنا: سُمُّوا أنصارًا؛ لأنهم نصروا النبي -عليه الصلاة والسلام- يشاركهم فيه غيرهم كالمهاجرين مثلاً، المهاجرون أنصار بالمعنى الأعم، لكن اختُصَّ الأنصار، أو اختُصَّ عرفًا بأهل المدينة الذين آووا ونصروا، وهم المبتدئون بالبيعة على إعلان توحيد الله تعالى وشريعته؛ فلذلك كان حبهم علامة الإيمان، والمراد الأوس والخزرج، وكانوا يُعرَفون قبل ذلك ببني قَيْلَة، وهي الأم التي تجمع القبيلتين، فسماهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأنصار، وصار ذلك علمًا عليهم، وأُطلِق على أولادهم وخلفائهم ومواليهم.
يقول العيني: يقال سماهم الله تعالى بذلك فقال: {وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [سورة الأنفال 74].
قال ابن حجر: خُصُّوا بهذه المنقبة العظمى لما فازوا به دون غيرهم من القبائل من إيواء النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن معه، والقيام بأمرهم ومواساتهم بأنفسهم وأموالهم، وإيثارهم إياهم في كثير من الأمور على أنفسهم، فكان صنيعهم لذلك موجبًا لمعاداتهم، جميع الفرق الموجودين من عرب وعجم، التزموا للنبي -عليه الصلاة والسلام- بأن ينصروه ويؤووه، وأن يحموه ووفَّوا بهذا الالتزام فصنيعهم هذا، هذا الالتزام، جر عليهم معاداة جميع الفرق الموجودين من عرب وعجم، والعداوة تجر البغض، ثم كان ما اختَّصوا به مما ذُكر موجبًا للحسد، والحسد يجر البغض؛ ولهذا جاء التحذير من بغضهم، والترغيب في حبهم، حتى جُعل ذلك آية الإيمان والنفاق؛ تنويهًا بعظيم فضلهم، وتنبيهًا على كريم فعلهم.
يقول الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى-: وكذلك حب المهاجرين الذين هم أفضل من الأنصار من الإيمان، ففي صحيح مسلم عن علي -رضي الله عنه- قال: إنه لعهد النبي -صلى الله عليه وسلم- إليَّ لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق.
وفي المسند والترمذي عن عبد الله بن مُغَفَّل عن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: «الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضًا بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم».
وفي المسند والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة عن النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه قال في الحسن والحسين: «من أحبهما فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني» فمحبة أولياء الله وأحبابه عمومًا من الإيمان، وهي من أعلى مراتبه، وبغضهم محرَّم، وهو من خصال النفاق؛ لأنه مما لا يتظاهر به غالبًا، ومن تظاهر به فقد تظاهر بنفاقه، فهو شر ممن كتمه وأخفاه، ومن كانت له مزية في الدين لصحبته النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أو لقرابته أو نصرته فله مزيد خصوصية في محبته وبغضه، ومن كان من أهل السوابق في الإسلام كالمهاجرين الأولين فهو أعظم حقًّا مثل علي -رضي الله عنه-، وقد روي أن المنافقين إنما كانوا يُعرفون ببغض علي -رضي الله عنه-، ومن هو أفضل من علي كأبي بكر وعمر فهو أولى بذلك؛ ولذلك قيل: إن حبهما من فرائض الدين، وبهذا نعرف ضلال من أبغض الآل كالنواصب، أو أبغض الأصحاب كالروافض، وقد هدى الله -سبحانه وتعالى- أهل السنة، فجمعوا بين الأمرين، فتولوا الآل والأصحاب، فهم وسط في هذا الباب وغيره، كما أن المسلمين وسط بين أهل الأديان، والله المستعان.
وما وقع بين الصحابة من الحروب بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وما ترتب على ذلك من بغض بعضهم لبعض، يعني بسبب هذه الحروب، فقد نص أهل العلم أن ذلك من غير الجهة الموجِبة لمحبتهم، بل للأمر الطارئ الذي اقتضى المخالفة؛ ولذلك لم يحكم بعضهم على بعض بالنفاق، وإنما كان حالهم في ذاك حال المجتهدِين في الأحكام، للمصيب أجران، وللمخطئ أجر واحد، والله أعلم.
ما وقع بينهم لا يوجِب النفاق؛ لماذا؟ لأنه بسبب ما حصل بينهم وما شجر بينهم من القتال، لا لأنهم أبغضوهم من أجل نصرة النبي -عليه الصلاة والسلام- كلا وحاشا؛ فلذا لم يحكم بعضهم على بعض بالنفاق، وإنما هم في ذلك مجتهدون، للمصيب أجران، وللمخطئ أجر واحد، كما هو في سائر الأحكام.
المقدم: أحسن الله إليكم، معنا مجموعة من الأسئلة من الإخوة الحضور، لعلنا نُكمل ما تبقى من هذه الحلقة في طرح هذه الأسئلة، تفضل.
السائل: فضيلة الشيخ -أحسن الله إليك- العمل القلبي الذي لا يظهر هو معفو عنه، هكذا فهم البعض لحديث: «إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تعمل أو تتكلم» فهل البغض -فضيلة الشيخ- الذي لا تظهر دلالته هل هو من هذا الباب أم لا؟
البغض والحقد والغل والحسد وغيرها من الأعمال القلبية، أكثر أهل العلم على أن الإنسان يؤاخَذ عليها ولو لم يتكلم؛ لأنها هي صميم عمل القلب، وإن قال بعضهم أن الحسد لا أثر له، ولا يؤاخذ عليه، ومثله البغض، يقول: هذا لا يؤاخذ عليه ما لم يتكلم أو يعمل، وهذا مالَ إليه ابن الجوزي، وقرره في صيد الخاطر، لكن الذي يظهر هو قول جمهور أهل العلم؛ لأن هذه الأعمال هي أعمال القلب، وأعمال القلوب لا شك أنها.. الإخلاص عمل القلب، الإخلاص عمل قلب؛ لماذا يُرَتَّب عليه الثواب العظيم وهو عمل قلبي؟ فأعمال القلوب المتمحضة بالقلوب كالإخلاص والرياء مثلاً.
المقدم: الحسد.
والحسد والحقد والغل كلها من أعمال القلوب المتمحِّضة.
المقدم: لكن الحسد لو ما ظهر له أثر؟
لو ما ظهر له أثر يأكل الحسنات؛ لأنه اعتراض على قدر الله، لو نظرت إليه من حيث المعنى هو اعتراض على قدر الله -سبحانه وتعالى-، كيف فضَّل هذا الشخص عليه؟!
المقدم: وهكذا سائر الأعمال؟
وهكذا سائر الأعمال الخاصة بالقلوب.
المقدم: نعم، ولو لم تظهر لها آثار...
إن ظهرت لها آثار فآثارها زيادة في عقابها.
المقدم: إذًا الحديث خاص بالأعمال التي ليست من أعمال القلوب: «إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها».
نعم، ليس من الأعمال التي هي خاصة بالقلب.
المقدم: يعني لو هَمَّ بخطيئة مثلاً ولم يعمل، أو هم بكلمة باطل ولم يعمل.
لا تكتب عليه.
المقدم: لأنها ليست...
لو هم بطلاق ولم يطلِّق لا يحسب عليه. لكن لو حسد وغلى قلبه من... امتلأ قلبه من الحسد، ولم يتعرض للمحسود بكلمة، ولم يفعل تجاهه أي فعل، لا يؤاخذ؟! ما النصوص التي جاءت بذم الحسد والتعظيم من شأنه، -نسأل الله العافية- إلا لهذا؛ لأنه اعتراض على قدر الله.
المقدم: أحسن الله إليكم أيضًا معنا سؤال آخر إذا تكرمتم يا شيخ.
السائل: فضيلة الشيخ -أحسن الله إليك- ظهر في الآونة الأخيرة أقوامًا ينسبون قصصًا وآثارًا مكذوبة للصحابة، ويبنون عليها الحكم بنقلهم، حتى صدرت لهم مؤلفات، ما موقف المسلم -أحسن الله إليك- منهم؟
موقف المسلم تفنيد هذه القصص وتكذيبها، والرد على مَن اختلقها، ولا شك أن كتب المبتدعة مشحونة بالأخبار الباطلة؛ لكي يروِّجوا بدعهم؛ لأن البدع لا تروج بأقوال الناس إنما تروج بما ينسب عن الله وعن رسوله، فعمدة المبتدعة إما لفظ مجمَل مشتبه، أو لفظ مختلَق مكذوب، وهذه منها، ويدخل في هذا أيضًا ترويج الكذب والقصص، وتضخيم بعض الأخطاء التي تقع من بعض المصلحين والآمرين والناهين؛ لأنه في كثير من المجالس يتحدثون عن خطأ وقع فيه داعية مثلاً، ويضخمونه ويهولونه؛ لكي يقعوا في الدعاة عمومًا، لكن يُعظَّم ويضخم من أجل أن يقعوا في هذا المرفق العظيم الذي يدفع الله به عن الأمة الخطر الجسيم، والله المستعان.
المقدم: أحسن الله إليكم حتى ظهرت في الآونة الأخيرة -مع الأسف الشديد- بعض الكتابات الصحفية من المحسوبين على أهل الإسلام، ممن يكتبون في الصحابة -رضي الله عنهم-، وفتحوا المجال لبعض المنتسبين لطلبة العلم أن ينتقدوا مواقف كثيرة وقعت من الصحابة -رضي الله عنهم- هذا الأمر جرهم إلى النيل من الصحابة -رضي الله تعالى عنهم-.
صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هم أفضل الأمة دون استثناء؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: «خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» ومن طريق هؤلاء الصحابة وصلنا الدين، فإذا قدحنا في الصحابة قدحنا في الدين، لم يصلنا هذا الدين إلا عن طريقهم، فإذا قدحنا فيهم قدحنا في مروياتهم وفي حملهم ونقلهم للدين، وتبليغهم إياه لمن جاء بعدهم، فلا شك أن هذه دسيسة من عدو يكيد للإسلام، وإن تلقاها بعض المغفَّلين ممن ينتسب للإسلام؛ لأننا إذا قدحنا في أبو بكر مثلاً قدحنا في الرسول -عليه الصلاة والسلام-، قدحنا في الدين الذي وصلنا عن طريق أبي بكر، إذا قدحنا في عمر كذلك، إذا قدحنا في أبي هريرة كذلك، إذا قدحوا في أبي هريرة -رضي الله عنه وأرضاه- وهو من جِلَّة الصحابة، وخيارهم، وفقهائهم، طعنوا في جُل السنة النبوية، في كثير، في جمع غفير من الأحاديث التي وصلت إلينا من طريقه، فإذا قدحنا في الراوي قدحنا في المروي تلقائيًا إذ الرواية براويها، التصحيح والتضعيف إنما يدور على ثقة الرواة وضعفهم، فإذا قدحنا في هؤلاء الأخيار لا شك أن هذا القدح قدح فيما حملوه وبلغوه من الدين، وأصل هذه الفكرة إنما نشأت من مُغْرِض، من حاقد، من شخص يكيد للإسلام وأهله، ثم تلقَّفَها بعض المغفَّلين ممن ينتسب إلى الإسلام، والله المستعان.
المقدم: جزاكم الله خيرًا، ونسأل الله تعالى أن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان. مستمعي الكرام، انتهت حلقة هذا الأسبوع من برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح.
لنا بكم لقاء -بإذن الله تعالى- في حلقة الأسبوع القادم، حتى ذلكم الحين نستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.