شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (032)
المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً بكم إلى حلقة جديدة ضمن برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح. مع مطلع هذه الحلقة يسرني أن أرحب بصاحب الفضيلة الشيخ: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، فأهلاً ومرحبًا بكم شيخ عبد الكريم.
حياكم الله وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.
المقدم: توقفنا عند شرح حديث أنس -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار» أشرتم إلى الشق الأول من الحديث، لعلنا نستكمل الشق الثاني معكم -أحسن الله إليكم-.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
انتهينا مما يتعلق بالشق الأول من الحديث، وقوله: «آية النفاق» أي: علامته، والنفاق: إظهار الإيمان وإبطان الكفر.
قال ابن الأنباري في الاعتلال -كما نقله عنه العيني في عمدة القاري-: في تسمية المنافق منافقًا ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه سُمِّي به لأنه يستر كفْره ويغيِّبه، فشُبِّه بالذي يدخل النفق وهو السَّرَب يستتر فيه.
والثاني: أنه نافق كاليربوع فشُبِّه به؛ لأنه يخرج من الإيمان من غير الوجه الذي دخل فيه. اليربوع يدخل من جهة، ويخرج من الجهة الأخرى.
والثالث: أنه إنما سُمي به بإظهاره غير ما يُضمِر تشبيهًا باليربوع كذلك، فكذلك المنافق ظاهره الإيمان، وباطنه الكفر، ونافق اليربوع أخذ في نافقائه، والنافقاء إحدى فتحتي اليربوع، يكتمها ويظهر غيرها، وهو موضوع يرقِّقه، فإذا أُتِيَ من قبل القاصِعاء ضَرَب النافقاء برأسه، فانتفخ أي خرج.
يقول الكرماني: فإن قلت: إذا كان حب الأنصار آية الإيمان فبغضهم آية عدمه؛ لأن حكم نقيض الشيء حكم الشيء، فما الفائدة في ذكر: «وآية النفاق بغض الأنصار»؟ الكرماني يقول: الجملة الثانية لا حاجة إليها، ولا داعي لها؛ لماذا؟ لأنها مفهومة من الجملة الأولى، إذا كان حبهم آية الإيمان مفهومه أن بغضهم آية النفاق، إذًا ما الفائدة من هذه الجملة؟ يقول الكرماني: قلت: هذا التقدير ممنوع؛ ولئن سلَّمْنا فالباعث في ذكره التصريح به، والتأكيد عليه، والمقام يقتضي ذلك؛ لأن المقصود من الحديث الحث على حب الأنصار، وبيان فضلهم لِمَا كان منهم من إعزاز الدين، وبذل الأموال والأنفس والإيثار على أنفسهم، والإيواء والنصر وغير ذلك.
أقول: هو نظير قوله -عليه الصلاة والسلام- في حديث الاقتداء بالإمام: «فإذا كبر فكبروا، ولا تكبروا حتى يكبِّر» إذا كبَّر فكبِّروا مفهوم قوله: «إذا كبَّر فكبِّروا» العطف بالفاء مفهومه أنك لا تكبِّر حتى يُكبِّر الإمام، ثم صُرِّح بما هو مجرد توضيح: «ولا تكبِّروا حتى يُكبِّر» فالجملة الثانية تأكيد لمفهوم الجملة الأولى والحديث خرَّجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في موضعين:
الأول: هنا في كتاب الإيمان، وسبقت ترجمته -رحمه الله- على الحديث، وبيان المناسبة كذلك.
قال الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-:
حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا شعبة، قال: أخبرني عبد الله بن عبد الله بن جبر، قال: سمعت أنسًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال...
الموضع الثاني: في كتاب مناقب الأنصار، بابٌ حب الأنصار من الإيمان. حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا شعبة عن عبد الله بن عبد الله بن جبر عن أنس بن مالك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكره، والمناسبة ظاهرة، مناقب الأنصار الكتاب مناقب الأنصار، والترجمة بابٌ حب الأنصار من الإيمان. والحديث: «آية الإيمان حب الأنصار» المطابقة ظاهرة، وخرَّج قبله حديث البراء -رضي الله عنه- قال: سمعت النبي -عليه الصلاة والسلام-، أو قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله» يقول: قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-، صيغ الأداء سمعت النبي -عليه الصلاة والسلام- أقوى من قوله: قال النبي -عليه الصلاة والسلام-، لا شك.
المقدم: هذا حتى للصحابي.
الكلام في الإسناد، هل قال الصحابي: سمعتُ؟ أو قال: قال النبي -عليه الصلاة والسلام-؟ هي أقوى مطلقًا، لكن يبقى هل الصحابي سمعه مباشرة؟ هذا يدل عليه صراحة قوله: سمعت النبي -عليه الصلاة والسلام-، أو سمعه مباشرةً احتمال، أو بواسطة، وله أن يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولو كان بواسطة، وحينئذٍ أقل الاحتمالات أن يكون من مراسيل الصحابة على أنَّ (قال) عند أهل العلم مثل (عن) محمولة على الاتصال بالشرطين المعروفين عند أهل العلم: أن يكون الراوي بريئًا من وصمة التدليس، وأن يثبت لقاؤه لمن روى عنه.
والحديث أيضًا خرَّجه مسلم والنسائي.
المقدم: الآن البخاري -رحمه الله- بوَّب "باب علامة الإيمان حب الأنصار" ثم قال: "آية الإيمان حب الأنصار" كأنه يشير إلى أن العلامة والآية واحدة؛ لماذا لم يقل: باب آية الإيمان حب الأنصار؟
لأمور: الأول: لكي يفسِّر ما جاء في الحديث من أن الآية معناها العلامة.
الأمر الثاني: التفنن في العبارة، يعني لو جاء بقوله: باب آية الإيمان حب الأنصار، ثم قال -عليه الصلاة والسلام-: «آية...» هذا تكرار، التفنن في العبارة يقتضي ذلك، والله المستعان.
المقدم: أحسن الله إليكم معنا سؤال أيضًا...
السائل: أحسن الله إليك قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «آية المنافق بغض الأنصار» هل هذا -أحسن الله إليك- بغض الأنصار جملة، لو أبغض أنصاريًّا واحدًا هل يقال: بأنه منافق؟
لا شك أن الأنصار في الحديث جمع، وإذا أُطلِق الأنصار فالمراد جميعهم، لكن بغض الواحد منهم للوصف بغض لجميعهم، يعني بغض الواحد من أجل الوصف الذي مدحوا به وهو النصرة لا شك أنه بغض للجميع؛ لأنه يبغض نصرة النبي -عليه الصلاة والسلام- وهم يشتركون فيها، إذًا هو يبغض جميع الأنصار، وهو أيضًا مبغض للمهاجرين؛ لماذا؟ لأنهم نصروا النبي -عليه الصلاة والسلام-، مبغض للمخلصين من أمة محمد في سائر الأعصار؛ لماذا؟ لأنهم نصروا شريعة الله وشريعة رسوله -عليه الصلاة والسلام-، فهو مبغض للوصف، فإذا أبغض الوصف يستوي فيه الواحد والجماعة.
أما إذا أبغض الواحد لأمر وقع بينه وبينه فلا يدخل في النفاق؛ لما قررناه سابقًا، لكنه لا شك أن بغض واحد من الصحابة كبيرة من كبائر الذنوب.
المقدم: أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: "عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال وحوله عصابة من أصحابه: «بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، وتقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له»."
لا يوجد "به".
المقدم: نسختنا "به".
ليست موجودة في الروايات كلها.
المقدم: «ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب في الدنيا» بدون به.
إذًا: النسخة المعتمدة عند المستمعين حتى فيها "به" لعلكم تشيرون إليها.
تأتي الإشارة إليها في الشرح -إن شاء الله-.
المقدم: أحسن الله إليكم.
«ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئًا ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه» فبايعناه على ذلك.
راوي الحديث عبادة بن الصامت، في الاستيعاب لابن عبد البر في معرفة الأصحاب، يقول: عبادة بن الصامت بن قيس بن أصرم بن فِهْر بن ثعلبة الخزرجي الأنصاري، أبو الوليد، أحد النُّقَباء، شهد العقبة الأولى والثانية والثالثة، وآخى النبي -صلى الله عليه وسلم- بينه وبين أبي مَرْفَد الغَنَوي، وشهد بدرًا والمشاهد كلها، ثم وجهه عمر إلى الشام قاضيًا ومعلمًا، فأقام بحمص، ثم انتقل إلى فلسطين، ومات بها، ودفن ببيت المقدس، وقيل بالرَّمْلة سنة (34هـ) وهو ابن اثنتين وسبعين سنة، شهد العقَبة الأولى والثانية والثالثة، هل هناك عقَبات ثلاث أو اثنتان؟
المقدم: المعروف عندنا اثنتان.
يقول الكرماني: إن عُبادة بايع العقبة الأولى والثانية والثالثة، والثالثة يقصد بها بيعة الشجرة في الحديبية، فهو من المبايعين في الثلاث.
المقدم: يسمونها عقبة أيضًا.
بيعة على كل حال هي بيعة، فتسمية الثلاث عقبة من باب التغليب، اثنتان عقبة، والثالثة ليست عقبة، شجرة، هي بيعة الرضوان.
يقول النووي في شرحه: العقبة التي تنسب إليها الجَمْرة، وقد كان بهذه العقبة بيعتان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بايع الأنصار -رضي الله عنهم- فيهما بالإسلام، ويقال فيهما: العقبة الأولى والعقبة الثانية، وكانت العقبة الأولى أول بيعة جرت على الإسلام، وكان المبايعون في الأولى اثني عشر رجلاً من الأنصار -رضي الله عنهم-.
ثم كانت العقبة الثانية في السنة التي تليها، وكانوا في الثانية سبعين رجلاً من الأنصار أيضًا -رضي الله عنهم-، فعلى هذا تكون العقبة الثالثة هي بيعة الرضوان، على أن في بعض كتب السيرة ما يشير إلى أن العقبات ثلاث، على أن البيعات ثلاث، ذكروا واحدة، لكنها لا توجد في كثير من كتب السيرة.
قوله: أحد النُّقَباء، النُّقَباء واحدهم نَقِيْب، وهو الناظر على القوم، ونقباء الأنصار هم الذين تقدموا لأخذ البيعة لنصرة النبي -عليه الصلاة والسلام-. "وحوْله" في الصحيح أن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- وكان شهد بدرًا، في متن الصحيح، في الأصل "وكان شهد بدرًا" وهو أحد النقباء ليلة العقبة "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال" حوْلَه منصوب على الظرفية، حوله وحواليه أي محيطون به "عصابة" العِصابة بكسر العين الجماعة من العشرة إلى الأربعين، ولا واحد لها من لفظها، وقد جمعت على عصائب وعُصُب، والجملة اسمية حالية، وعصابة مبتدأ خبره "حوله" مقدَّمًا، و"من أصحابه" صفة لعصابة.
المقدم: الجمع عصائب وعُصُب بضم الصاد أيضًا أم بتسكينها يا شيخ؟
جمع العصابة عُصُب هكذا.
نعم، عصُب، نجايب نُجُب. والجملة اسمية حالية، و"عصابة" مبتدأ خبره "حوله" مقدَّمًا و"من أصحابه" صفة لعصابة، وأشار الراوي بذلك، قد يقول: لماذا يذكر الراوي هذه؟ شهد بدر، وأحد النقباء، حوله عصابة... إلى آخره، لماذا يذكر الراوي مثل هذه الأمور التي لا أثر لها في الحديث في متن الحديث؟ أشار الراوي بذلك إلى المبالغة في ضبط الحديث، وأنه عن تحقيق وإتقان؛ ولذا ذَكَر أن الراوي شهد بدرًا، وأنه أحد النقباء، والمراد به التقوية؛ فإن الرواية تترجح عند المعارضة بفضل الراوي وشرفه، هذا من جهة، الأمر الثاني: أن الراوي إذا ذكر ما يحيط بالقصة من سبب ونحوه دل على أنه ضبط الخبر وأتقنه، وجاء به بعُجَره وبُجَره، جاء بكل ما يتعلق به، وأنه لم يتصرف فيه، فدل على أنه ضابط للخبر، ومتقن له. «بايعوني» المبايعة عبارة عن المعاقدة والمعاهدة، سميت بذلك تشبيهًا بالمعاوضة المالية، كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} [سورة التوبة 111] وهي مفاعلة من طرفين، فمن طرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعْد بالثواب، ومن طرفهم التزام الطاعة، وقد تُعرَّف بأنها عقد الإمام العهد وبما يأمر الناس به.
«على ألا تشركوا بالله شيئًا» أي وحِّدوه، وهذا هو أصل الإيمان، وأساس الإسلام؛ فلهذا قدَّمه على غيره.
قال القسطلاني: وهو عام؛ لأنه نكرة في سياق النهي وهو كالنفي، النكرة في سياق النفي تعم، النكرة في سياق النهي هو في حكم النفي، ومثله أيضًا الشرط على ما سيأتي وهكذا.
«ولا تسرقوا» فيه حذف المفعول ليدل على العموم، فيشمل القليل والكثير، لا تسرقوا شيئًا كثيرًا ولا قليلاً، «ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم» قال التيمي: خص القتل بالأولاد؛ لأنه قتل وقطيعة رحم، فالعناية بالنهي عنه آكد، ولأنه كان شائعًا فيهم، وهو وَأْد البنات، وقتل البنين خشية الإملاق، وَأْد البنات خشية العار، وقَتْل البنين خشية الإملاق، أو خصهم بالذكر لأنهم بصدد ألا يدفعوا عن أنفسهم؛ لأن الوالد متمكِّن من ولده في كل وقت، لا يستطيع الولد أن يحترز من أبيه بخلاف غيره.
«ولا تأتوا ببهتان» البهتان الكذب الذي يبهت سامعه، أي يدهشه لفظاعته كالرمي بالزنا، والفضيحة والعار.
قال ابن رجب: كل ما بهت صاحبه وحيَّره وأدهشه من قول أو فعل لم يكن في حسابه فهو بهتان، فأخْذ المال بالنهبة أو بالدعاوى الكاذبة بهتان، وقد قال الله تعالى: {وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [سورة النساء 20].
«تفترونه» أي تختلقونه «بين أيديكم وأرجلكم» أي من قِبَل أنفسكم، وخُصَّ الأيدي والأرجل بالافتراء لأن معظم الأفعال تقع بهما، إذ كانت هي العوامل والحوامل للمباشرة والسعي؛ ولهذا يسمُّون الصنائع الأيادي، وقد يعاقَب الإنسان بجناية قولية، فيقال: هذا بما كسبَت يداك.
قال ابن حجر: ويحتمل أن يكون المراد لا تبْهتوا الناس كفاحًا، وبعضكم يشاهد بعضًا، كما يقال: قلت كذا بين يدي فلان، قاله الخطابي، وفيه نظر لذكر الأرجل.
وأجاب الكرماني بأن المراد بالأيدي، وذكر الأرجل تأكيد، ومحصَّله أن ذكر الأرجل إن لم يكن مقتضيًا فليس بمانع، كذا قال الكرماني، ويحتمل أن يكون المراد بما بين الأيدي والأرجل القلب؛ لأنه هو الذي يترجم اللسان عنه؛ ولذلك نُسِب إليه الافتراء كأن المعنى لا ترموا أحدًا بكذب تزوِّرونه بأنفسكم، ثم تبهتون صاحبه بألسنتكم، ويحتمل أن يكون قوله: «بين أيديكم» أي في الحال، وقوله: «وأرجلكم» في المستقبل؛ لأن السعي من أفعال الأرجل، قاله ابن أبي جَمْرة.
ابن أبي جمرة هذا مختصِر البخاري -كما هو معروف- وله شرح على مختصَره، شرح نفيس، وفيه فوائد، اعتنى به الشراح، ونقلوا منه كثيرًا، فينبغي الاعتناء به مع الحذر؛ لأن فيه مخالفات كثيرة، وفي آخره اعتماد على رؤى ومنامات حَطَّت من قيمة الكتاب، وإلا فالأصل أنه كتاب نفيس، يستفاد منه، لكن بحذر. مطبوع، المختصر صغير، حوالي ثلاثمائة حديث، والشرح في أربعة أجزاء مطبوع، يعتني به الشراح كلهم، ويعتقدون في ابن أبي جمرة أنه رجل صالح، على طريقتهم، قال الإمام القدوة، دائمًا يقولون هذه الكلمة.
وقال غيره: أصل هذا كان في بيعة النساء، كُني بذلك عن نسبة المرأة للولد الذي تزني به، أو تلتقطه إلى زوجها، ثم لما استُعمل هذا اللفظ في بيعة الرجال احتيج إلى حمله على غير ما ورد فيه أولاً، أصل هذا كان في بيعة النساء، والخلاف بين أهل العلم في تقدُّم بيعة الرجال على بيعة النساء، أو التأخر عنها طويل جدًّا، وستأتي الإشارة إليه -إن شاء الله تعالى-.
يقول: أصل هذا كان في بيعة النساء، يعني: في آخر سورة الممتحنة. وكُنِّي بذلك عن نسبة المرأة الولد الذي تزني به، أو تلتقطه إلى زوجها، ثم لما استُعمل هذا اللفظ في بيعة الرجال احتيج إلى حمله على غير ما ورد فيه أولاً.
«ولا تعصوا في معروف» المعروف ما عُرِف من الشارع حُسْنه نهيًا أو أمرًا، قال في النهاية: المعروف اسم جامع لكل ما عُرف من طاعة الله، والإحسان إلى الناس، وكل ما ندب الشرع إليه ونهى عنه من المحسَّنات والمقبَّحات.
قال النووي: يحتمل أن يكون المعنى ولا تعصوني، ولا أحدَ أولي الأمر عليكم في المعروف، فيكون التقييد بالمعروف متعلِّقًا بشيء بعده؛ لماذا؟ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- لا يمكن أن يأمر بغير معروف؛ لأنه يقول: «ولا تعصوا في معروف» يعني لا تعصوا أحدًا أمرَكم بمعروف لا من أمركم بمعصية؛ لماذا؟ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وقال غيره: نبه بذلك على أن طاعة المخلوق إنما تجب فيما كان غير معصية لله، فهي جديرة بالتوقِّي في معصية الله، لا بد أن تتحرَّى وتتثبت هل الأمر الذي أُمرت به طاعة أو معصية؟ أو لا طاعة ولا معصية؟ فإن كان طاعة فبادِر طاعة لله ومَن ولاه الله أمرك، وإن كان معصية فقِفْ واحذر وتوقف فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وإن كان في أمر مباح فتجب طاعة ولي الأمر فيه.
يقول البيضاوي في الآية التي هي آية الممتحنة: التقييد بالمعروف مع أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يأمر إلا به للتنبيه على أنه لا تجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق، وخُصَّ ما ذُكر من المناهي بالذِّكْر دون غيره للاهتمام به.
«فمن وفَّى منكم» أو وفَى، أي: ثَبَت على العهد، ووفَى بالتخفيف، وفي رواية بالتشديد، وهما بمعنى {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [سورة النجم 37].
«فأجره على الله» فضلاً منه، ووعْدًا بالجنة، كما وقع التصريح به في الصحيحين من رواية الصُنابحي وعُبِّر بلفظ (على) و(بالأجر) للمبالغة في تحقق وقوعه، ويتعين حمله على غير ظاهره للأدلة القاطعة الدالة على أنه لا يجب على الله شيء بل الأجر من فضله عليه، نعم لا يجب على الله شيء، كما أنه لا يَحْرُم عليه شيء؛ لأنه مَن الموجِب على الله؟! ومَن المحرِّم على الله؟! لكن الله -سبحانه وتعالى- أحيانًا يلتزم ويوجِب على نفسه حق، فأثبت للعباد حقًّا عليه، وحرَّم الظلم على نفسه، وكل هذا فضل من الله -سبحانه وتعالى- وكرم منه -جل وعلا-، ولا يلزم الله -سبحانه وتعالى- للعباد شيء، ولا يجب عليه لعباده شيء، خلافًا للمعتزلة كما هو معروف من مذهبهم.
قال ابن حجر: فإن قيل: لِمَ اقتصر على المنهيات ولم يذكر المأمورات؟ فالجواب: أنه لم يهملها، بل ذَكَرها على طريق الإجمال في قوله: «ولا تعصوا» إذ العصيان مخالفة الأمر، والحكمة في التنصيص على كثير من المنهيات دون المأمورات أن الكف أيسر من إنشاء الفعل؛ لأن اجتناب المفاسد مقدم على اجتلاب المصالح والتخلِّي عن الرذائل قبل التحلِّي بالفضائل، يعني كما اشتهر عنهم التخلية قبل التحلية، قد يؤخذ من هذا أو من غيره من النصوص أن ارتكاب المحظور أعظم من ترك المأمور، ويؤيده قوله -عليه الصلاة والسلام-: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» جعل فيه ثنيا «وما نهيتكم عنه فاجتنبوه» لا ثنيا فيه، وهنا فصل المنهيات، وأجمل في الأوامر. على أن شيخ الإسلام له كلام، يرى أن ترك الأمور أعظم من فعل المحظور؛ لماذا؟ لأن معصية آدم كانت بفعل محظور، ومعصية إبليس كانت بترك مأمور.
والأكثر على خلاف قوله -رحمه الله-، والمسألة تحتاج إلى شيء من التفصيل، فالأمر يختلف باختلاف عِظَم هذا المأمور المتروك، وعِظَم هذا المنهي المرتكب، فالموازنة بين الأفعال سواء كانت مأمورة أو متروكة يرجع إلى عِظَمها وحجمها.
قال الكرماني والعيني: فإن قيل: فلِمَ ترَك سائر المنهيات ولَمْ يقل مثلاً: ولا تقربوا مال اليتيم وغير ذلك؟ يعني اقتصر على بعض المنهيات دون بعض. أُجيب بأنه لم يكن في ذلك الوقت حرام آخر، أو اكتفى بالبعض ليُقاس الباقي عليه، أو لزيادة الاهتمام بالمذكورات.
المقدم: أحسن الله إليكم، لعلنا نستكمل ما تبقى في هذه الحلقة بمجموعة من الأسئلة عند الإخوة، ونرجئ الحديث عن بقية قضايا الحديث -إن شاء الله- في حلقة قادمة.
معنا أسئلة يا شيخ تفضل.
السائل: فضيلة الشيخ -أحسن الله إليك- المبايعة التي أشير إليها في الحديث هل هي عامة لكل من أسلم من الصحابة أم خاصة لهؤلاء النفر؟
المبايعة وُوجِهَ بها هؤلاء النفر، وما وجب على بعض الناس وجب على غيرهم؛ لأن الشرع واحد بالنسبة للمكلَّفين، فما أمر به الأنصار يؤمر به بقية المسلمين، وما أُمر به المهاجرون يؤمر به بقية المسلمين، فأمره -عليه الصلاة والسلام- للواحد أمْر للجماعة، وأمْره للصحابة أمْر لمن جاء بعدهم، ما لم يدل الدليل على التخصيص، ولا تخصيص هنا، إذ كل مسلم مطالَب بفعل المأمورات، وترك المنهيات، ولا سيما ما ذُكر في هذا الحديث.
المقدم: لكن اختصاصهم بهذه المبايعة.
يدل على مزيد شرفهم وفضلهم.
المقدم: لكن هذا قبل قيام الدولة؟ قبل قيام النبي -عليه الصلاة والسلام- بإنشاء دولة في المدينة؟
يأتي في نهاية الكلام على الحديث وقت هذه البيعة، وهل كانت متقدمة في العقبة، أو كانت متأخرة في المدينة بعد بيعة النساء؟ على ما سيأتي الكلام، وهو طويل جدًّا.
المقدم: جيد، إذًا نرجئ الحديث عنه يا مستمعيَّ الكرام -بإذن الله- إلى حلقة الأسبوع القادم. باسمكم جميعًا نتوجه بالشكر الجزيل، بعد شكر الله -سبحانه وتعالى-، إلى صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بكلية أصول الدين، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض. شكرًا له، شكرًا لكم أنتم يا مستمعيَّ الكرام، شكرًا للإخوة الحضور معنا في هذا الدرس حتى نلقاكم، نستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.