شرح اختصار علوم الحديث (13)

سم.

النوع الثامن والعشرون: في آداب طالب الحديث:

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللسامعين برحمتك يا أرحم الراحمين.

قال المصنف -رحمه الله تعالى-: النوع الثامن والعشرون: في آداب طالب الحديث، ينبغي له بل يجب عليه إخلاص النية لله -عز وجل- فيما يحاوله من ذلك, ولا يكن قصده عرضاً من الدنيا, فقد ذكرنا في المقدمات الزجر الشديد، والتهديد الأكيد على ذلك، وليبادر إلى سماع العالي في بلده, فإذا استوعب ذلك انتقل إلى أقرب البلاد إليه, أو إلى أعلى ما يوجد من البلدان، وهو الرحلة، وقد ذكرنا في المقدمات مشروعية ذلك, قال إبراهيم بن أدهم -رحمة الله عليه-: إن الله ليدفع البلاء عن هذه الأمة برحلة أصحاب الحديث، قالوا: وينبغي له أن يستعمل ما يمكنه من فضائل الأعمال الواردة في الأحاديث، كان بشر بن الحارث -الحافي- يقول: يا أصحاب الحديث أدوا زكاة الحديث من كل مائتي حديث خمسة أحاديث، وقال عمرو بن قيس الملائي: إذا بلغك شيء من الخير فاعمل به ولو مرةً تكن من أهله، وقال وكيعٌ: إذا أردت حفظ الحديث فاعمل به، قالوا: ولا يطول على الشيخ بالسماع حتى يضجره، قال الزهري: إذا طال المجلس كان للشيطان فيه نصيب، وليفد غيره من الطلبة، ولا يكتم شيئاً من العلم، فقد جاء الزجر عن ذلك، قالوا: ولا يستنكف أن يكتب عمن هو دونه في الرواية والدراية، قال وكيعٌ: لا ينبل الرجل حتى يكتب عمن هو فوقه، ومن هو مثله، ومن هو دونه.

قال ابن الصلاح: وليس لموفقٍ من ضيع شيئاً من وقته في الاستكثار من الشيوخ لمجرد الكثرة وصيتها، قال: وليس من ذلك قول أبي حاتم الرازي: إذا كتبت فقمش، وإذا حدثت ففتش، قال ابن الصلاح: ثم لا ينبغي لطالب الحديث أن يقتصر على مجرد سماعه وكتبه من غيره فهمه ومعرفته، فيكون قد أتعب نفسه، ولم يظفر بطائل، ثم حث على سماع الكتب المفيدة من المسانيد والسنن وغيرها.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

لما ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- آداب المحدث، وما ينبغي أن يكون عليه من حسن الخلق، وإخلاص العمل وإتقانه، والحرص أردف ذلك بآداب طالب الحديث، فقال -رحمه الله تعالى-: "ينبغي له -بل يجب عليه- إخلاص النية لله -عز وجل-" وهذا مشترك بين المعلم والمتعلم، الطالب والشيخ، المحدث وطالب الحديث على حدٍ سواء؛ لأن هذا العلم أعني علم الحديث، وما يتعلق به من علوم الآخرة المحضة التي لا يجوز التشريك فيها بحال، بل لا بد أن يكون طلبه للحديث خالصاً لوجه الله -سبحانه وتعالى-، بل يجب عليه إخلاص النية لله -عز وجل-، ولنعلم أن العلم الشرعي مما يبتغى به وجه الله -سبحانه وتعالى-، بل رتب عليه الثواب العظيم، والأجر الجزيل في الآخرة، مثل هذا لا يجوز بحال أن يصرف شيءٌ منه لغير الله -عز وجل-، فلا يجوز أن ينظر الطالب -طالب العلم الشرعي- إلى المستقبل، إلى الشهادة، إلى بناء الأسرة، إلى غير ذلك من أمور الدنيا، بل عليه أن يطلبه لوجه الله خالصاً.

كثيرٌ من طلاب العلم لا سيما في التعليم النظامي في الكليات الشرعية يقلقلهم هذا الأمر، فيقولون: لا نستطيع، بل لم نستطع، حاولنا وجاهدنا فلم نستطع إخلاص العمل لله -عز وجل-، ظروف الحياة تملي علينا، وتفرض علينا أن ننظر إلى التخرج والشهادة والتعيين، والله المستعان، فهل العلاج لمثل هؤلاء الترك؟ نقول: لا، ليس العلاج الترك، العلاج في المجاهدة، على الإنسان أن يجاهد نفسه، ويستحضر النية، ولا يعزب عنه ما هو بصدده من علمٍ يوصله إلى الله -سبحانه وتعالى- والدار الآخرة، وإذا علم الله -سبحانه وتعالى- صدق النية أعان، ويؤثر عن بعض السلف أنهم طلبوا هذا العلم لغير الله فأبى ألا يكون إلا لله، لا شك أنه يوجد من طلب العلم مع دخن في قصده، بل مع انحرافٍ أحياناً في سلوكه، ثم لا يلبث أن يهديه هذا العلم إلى الصراط المستقيم، وإلى الإخلاص والعمل، لكن لا نعتمد على مثل هذه الأقوال، نعم هي ثابتةٌ عن بعض السلف، لكن لا نعتمد عليها فنترك المجاهدة من أول الأمر، نقول: نطلب العلم الآن والإخلاص يأتي، لا، بل عليك أن تطلب الإخلاص أولاً؛ لأنك ما تدري ماذا يحصل لك؟ وقد جاء عنهم أيضاً أن من طلب العلم لغير الله مُكر به، نسأل الله العافية، وما يدريك لعلك تموت، أو تخترمك المنية قبل أن يحصل لك ذلك الإخلاص، فعليك أن تجاهد من الآن في تصحيح النية، والله المستعان.

"ولا يكن قصده عرضاً من الدنيا" فجاء في الحديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة، من تعلم، طلب العلم حتى عُد في العلماء وعلم الناس، فيجاء به يوم القيامة، فيقال له: فيقول: طلبت العلم لله، وعلمتُ الناس لله، وقد يكون تعليمه للناس مجاناً، فيقال له: كذبت إنما طلبت العلم ليقال: عالم، وقد قيل، بعض الناس قد يستدل على الإخلاص بعدم الأخذ، أخذ المقابل، يقول: هذا جالس في بيته، في مسجده، تارك لجميع المصالح الدنيوية، ومعرض عن الدنيا، ومقبل على الآخرة، ويعلم الناس مجاناً...... ما هو بأكيد، الذي يذهب إلى ساحات الجهاد، ويقدم نفسه للسيوف والرماح يكفيه أن يقال: شجاع وهو يقدم نفسه، وقد استدل بعضهم على صحة عمل من يرقي مجاناً، وأنه مخلص، وأنه ينفع بإذن الله، نقول: ما يلزم، الإخلاص أمرٌ غيبي بين العبد وبين ربه، يكفي مثل هذا أن يقال: شفى الله على يده فلان وفلان وفلان يكفيه أحياناً، لا نقول: كل الناس بهذه المثابة، لكن أيضاً لا نقول: إن كل الناس بمجرد تركهم أخذ المقابل هم مخلصون، لا، ما يلزم، نعم ترك المقابل لله -عز وجل- مع الإخلاص مما يرفع الله به الدرجات، لكن ليس هو الإخلاص فلننتبه إلى هذا، بعض الناس يقول: لا نروح لفلان أنفع؛ لأنه ما يأخذ مقابل، ما يلزم، أبو سعيد أخذ المقابل على الرقية، وشفى الله على يده سيد الحي، اللديغ، مع كونه أخذ المقابل، فعدم أخذ المقابل لا يدل على صدق النية.

أقول: مثل هذا في المعلم جالس في مسجده يعلم الناس الخير بدون مقابل، وقد جاء في الأثر: "علم مجاناً" "ابن آدم علم مجاناً كما علمت مجاناً" لكن لا يلزم من هذا الإخلاص، وسبق -فيما مضى- مسألة أخذ الأجرة على التحديث، على كل حال الإخلاص أمرٌ باطن، لكن قد تظهر له علامات، الإنسان إذا استوى عنده الظاهر والباطن، إذا استوى عنده المادح والذام نعم دل على إخلاصه.

ولذا يقول ابن القيم -رحمه الله تعالى- في الفوائد: إذا حدثتك نفسك بالإخلاص فأقبل على حب المدح والثناء فاذبحه بسكين علمك أنه لا أحد ينفع مدحه، ولا أحد يضر ذمه إلا الله -عز وجل-، ثم أقبل على الحرص والطمع بما في أيدي الناس، يعني وتخلص منه بقوة وبشدة، وتعلق بالله -عز وجل- في كلامٍ نفيس ذكره في الفوائد، وأنا بعيد العهد به جداً.

على كل حال الإخلاص ما في شك أنه مقلق؛ لأن هذا العلم ليس فيه حل وسط، ليس مثل أمور الدنيا، ليس مثل علوم الدنيا، طب، هندسة، زراعة، مدري إيش؟ هذه إن أخلصت وأتقنت لك الأجر، إن لم تخلص فلا شيء عليك؛ لأن أصل هذه الأمور إنما هي للدنيا، مثل الزراعة، ومثل النجارة، ومثل التجارة.

نعم إن أخلصت في ذلك، وقصدت الخير، ونفع الناس بهذا العلم لحاجتهم إليه أجرت على ذلك، من باب أن العادات تصير بالنية عبادات، أما العلم الشرعي، وما جاء فيه من فضل ((العلماء ورثة الأنبياء)) وجاء في فضل العلم والعلماء ما يضيق المجال، {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ..} [(9) سورة الزمر]، {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [(28) سورة فاطر] إلى آخره، نصوص كثيرة في الكتاب والسنة متظافرة على فضل العلم وأهله، وألف في ذلك المؤلفات، ولهذا صارت الضريبة قوية وشديدة، هذا العلم ليس فيه حل وسط تقول: أخرج منه سالماً كفافاً، لا علي ولا لي، لا، والله المستعان.

طالب:......

هو هذا من خلال الواقع، الواقع يدل على هذا، لكن مع المجاهدة يوجد طلاب مبتدئون روائح الإخلاص تفوح منهم، والله المستعان، ويوجد من أهل العلم ممن يشار إليه وضد ذلك ظاهرٌ من تصرفاتهم، والله المستعان، ليس لكبير ولصغير إنما هو التوفيق من الله -عز وجل-، نسأل الله التوفيق.

يقول: "وليبادر إلى سماع العالي في بلده، فإذا استوعب ذلك انتقل إلى أقرب البلاد إليه، أو إلى أعلى ما يوجد.." نعم، يبادر إلى سماع العالي؛ لأن أهل العلم يفضلون العوالي على النوازل، ويأتي في بحث العالي والنازل المراد بذلك، فالإسناد العالي هو الذي تقل فيه الوسائط بين الراوي وبين النبي -عليه الصلاة والسلام-، والنازل بضد ذلك تكثر الوسائط، وأعلى ما في الكتب الستة الثلاثيات، البخاري منها اثنان وعشرون حديثاً ثلاثياً، هذه أعلى ما في الكتب الستة، مسلم ليس فيه أحاديث ثلاثية، فيه رباعية، وهي تعتبر عوالي بالنسبة له؛ لأنه من طبقة تلاميذ البخاري، أبو داود..، مسلم ليس فيه عوالي، أبو داود؟ فيه وإلا ما فيه؟ نعم؟

طالب:......

حديث واحد إيش هو؟

طالب:......

حديث الحوض، إيش رأيك إن قلنا: ما فيه ولا حديث واحد عالي ثلاثي، إيش تقول؟

طالب:......

لا، لا، ما هو بهذا، ليس لهذا، على كل حال من قال: إن فيه عالي له وجه، ومن قال: إنه ليس فيه ثلاثي له وجه.

الإمام مسلم يروي حديث أبي برزة في الحوض، القصة -قصة أبي برزة- ثلاثية، الواسطة بينه وبين أبي برزة اثنان، لكن الحديث المرفوع الذي هو حديث الحوض رباعي، القصة ثلاثية، والحديث المرفوع التي اشتملت عليه هذه القصة رباعي؛ لأن فيه واسطة، والواسطة مبهم فيصح النفي حينئذٍ.

على كل حال أبو داود..؛ لأن العبرة بالمرفوع، والمرفوع ليس بثلاثي، ابن ماجه فيه، الترمذي فيه وإلا ما فيه؟ فيه وإلا ما فيه؟

طالب:......

ابن ماجه فيه أربعة أحاديث أو خمسة، النسائي لا عوالي فيه؛ لأنه متأخر، بل فيه أطول إسناد كما قالوا، أطول إسناد في الدنيا حديث سورة الإخلاص يرويه بواسطة أحدى عشر راوياً، وفيه ستةٌ من التابعين يروي بعضهم عن بعض، هذا نازل جداً، لكن إذا نظرنا إلى هذه الوسائط أحدى عشر، ونظرنا إلى صحيح البخاري ووجدنا فيه التساعي، وجدنا أنه قريب، نعم قريب.......، صحيح التساعي نازل جداً بالنسبة للبخاري، فالأحدى عشر بالنسبة للنسائي مناسبة، هي نازلة بلا شك، لكنها مثل نزول التساعي بالنسبة للبخاري، لكن أين تساعي البخاري من تساعيات الحافظ العراقي؟ نازلة وإلا عالية تساعيات الحافظ العراقي؟ عالية جداً؛ لأن كم بينه وبين البخاري؟

طالب:......

مفاوز، خمسة قرون ونصف.

يحرص الإنسان على العوالي؛ لأن أهل العلم يرجحون ويهتمون بالعوالي، وقيل لأحدهم في مرضه: ماذا تشتهي؟ قال: يشتهي بيتاً خالي، وإسناداً عالي، والله المستعان، هذه أمنيته.

"فإذا استوعب -هذه العوالي التي في بلده- ذلك انتقل إلى أقرب البلاد إليه، أو إلى أعلى ما يوجد من البلدان، وهو الرحلة"، الرحلة في طلب الحديث، والرحلة مطلوبة، وسافر، رحل بعض الصحابة من أجل حديث واحد، نعم.

طالب:......

والله إني الآن أظن فيه واحد أو اثنين، المقصود أنه..، الآن ما يحضرني شيء، لكن يغلب على ظني أنه فيه اثنين أو شيء من هذا، أو واحد.

"قال إبراهيم بن أدهم -رحمة الله عليه-: إن الله ليدفع البلاء عن هذه الأمة برحلة أصحاب الحديث" ما الذي جعلهم ينتقلون من بلادهم إلى بلادٍ أخرى بعيدة؟ والرحلة ليست بالأمر المتيسر بطائرة لمدة ساعة أو ساعتين، أو سيارة يوم أو يومين، لا، شهر من أجل حديث واحد كما في الصحيح، شهر كامل من أجل حديثٍ واحد، من الذي ارتحل؟

طالب:......

لا.

طالب:......

جابر إلى؟

طالب:......

عبد الله بن أنيس، نعم، مدة شهر كامل من أجل حديثٍ واحد، هذا الأمر مع الإخلاص، من أجل حفظ الدين وحفظ هذا الحديث للأمة له وقع عند الله -سبحانه وتعالى-، بهذا يسقط واجب من واجبات الدين.

على كل حال الرحلة أمرٌ مطلوب للحاجة؛ لأن الرحلة لذاتها ليست مقصودة، بل إذا انتقل الإنسان إلى البلدان من أجل المكاثرة في الشيوخ، أو من أجل أن يقول: انتقل ورحل وفعل، هذا قدح وليس بمدح.

"قالوا: وينبغي له أن يستعمل ما يمكنه من فضائل الأعمال الواردة في الأحاديث" نعم؛ لأن الفائدة من العلم العمل، ما الذي يستفيده الطالب إذا جمع ألوف مؤلفة من الأحاديث وهو لا يعمل؟ لا يستفيد شيئاً؛ لأن الفائدة من العلم هو العمل، "كان بشر بن الحارث -الحافي- يقول: يا أصحاب الحديث أدوا زكاة الحديث، من كل مائتي حديث خمسة أحاديث" يعني اعملوا من كل مائتي حديث خمسة أحاديث، اعملوا بخمسة تكونوا أديتم الزكاة، وهذا في الأحاديث المتداخلة، أما تعمل بخمسة وتترك مائة وخمسة وتسعين بدون عمل، العلم بلا عمل كالشجر بلا ثمر، لا قيمة له، هم يحفظون ألوف مؤلفة من الأحاديث بطرقها، فإذا أدوا زكاتها وعملوا بالخمس، عملوا بأحكام الشريعة كلها.

"وقال عمرو بن قيسٍ الملائي: إذا بلغك شيءٌ من الخير فاعمل به -بادر إلى العمل به- ولو مرة، تكن من أهله" هذا في غير الواجبات، وكلما أكثرت كان الله في الثواب أكثر.

"قال وكيع: وإذا أردت حفظ الحديث فاعمل به" يعني أدعية الاستفتاح لولا أنها مما يستعمل لصعب حفظها، التشهد وغير ذلك من الأذكار لولا أنها يعمل بها لصعب حفظها، ولذا لا تجد عند من لا يعمل من العلم إلا الشيء القليل؛ لأن العلم النظري ما يثبت، لكن إذا طبق وعمل به ثبت "إذا أردت حفظ الحديث فاعمل به".

قال: "ولا يطول على الشيخ في السماع حتى يضجره" يأتي ليعرض على الشيخ فيقرأ عليه، يقرأ، يقرأ، إذا قال الشيخ: بركة، قال: لا، بعد شوي، شوي شوي......، لا تضجره، ما يدريك عن ظرف الشيخ.

يقول: "ولا يطول على الشيخ في السماع حتى يضجره، قال الزهري، إذا طال المجلس كان للشيطان فيه نصيب"، وإذا كان هذا في مجلس الحديث فالمجالس الأخرى من باب أولى، كان للشيطان فيه نصيب، فما بالكم بالمجالس..، مجالس القيل والقال، التي تطول بين عموم الناس على مختلف مستوياتهم، من طلاب علم وعامة، كثيرٌ منهم يجلس الساعات لا يخرج بفائدة، هذا السلامة منه شبه مستحيلة، والله المستعان.

"وليفد غيره من الطلبة ولا يكتم شيئاً من العلم، فقد جاء الزجر عن ذلك"، استفاد فائدة وعلقها عن الشيخ فاتت غيره من الطلاب يطلع إخوانه عليها، وهذا مما يؤسف له، لا سيما في الدراسة النظامية قليل عند الطلاب، تجد الطلاب الذي يقف على فائدة يظن أنها موضع سؤال، فهم من المدرس أنه معتني بهذه الفائدة يندر أن يوجد من يبثها بين إخوانه، والله المستعان، فعلى طالب العلم أن يحرص على إشاعة هذا العلم، ولا يكتم شيئاً منه؛ لأن من سئل عن شيء من هذا العلم فكتمه ألجم بلجام من نار، نسأل الله العافية.

قال: "ولا يستنكف أن يكتب عمن هو دونه في الرواية والدراية، قال وكيع: لا ينبل الرجل حتى يكتب عمن هو فوقه، ومن هو مثله، ومن هو دونه" سواءً كان في السن أو في التحصيل، إذا لمست من نفسك أنك فقت فلان من الناس هل معنى هذا أنك تقدمت عليه من كل وجه؟ لا، قد يكون عنده ما ليس عندك، وإن كنت في الواقع حصلت من العلم أكثر منه، لا يلزم، وفي الأنهار ما ليس في البحار، فيحاول الشخص ويبذل جهده أن يستفيد من كل أحد، سواءً كان فوقه هذا هو الأصل، يستفيد من شيوخه بقدر الإمكان، أو مثله من زملائه وأقرانه، أو من هو دونه، وكم من فائدة أفادنا بها الطلاب، والمعلم يستفيد من الطلاب غالباً أكثر مما يستفيد ......، وهذا هو الواقع.

ذهب العلماء الذين علمهم في صدورهم، الذين يحفظون، ويفهمون الفهم المناسب، يحفظون الألوف المؤلفة من النصوص.....، تجد عند كثيرٍ من الطلاب ما ليس عند هذا الشيخ الذي تصدر، لكن لما فاقهم بسنه وتقدم عليهم بطلبه العلم، وظنوا به الخير فجلسوا عنده، وهو في الغالب يستفيد منهم أكثر مما يستفيدون منه، وهذا هو والواقع، والله المستعان.

"قال ابن الصلاح: وليس بموفق من ضيع شيئاً من وقته في الاستكثار من الشيوخ" تجده ينتقل في البلدان وفي البلدة الواحدة من شيخ إلى شيخ علشان إذا كتب ثَبْتاً بشيوخه أثبت عدداً كبيراً من أهل العلم، قرأ على فلان وفلان وفلان وفلان، يسمع أن البخاري كتب عن أكثر من ألف شيخ، وفلان عن ألف وألف وزيادة والدارقطني ويسمع عن الطبراني وغيرهم ممن كتبوا أعداد كبيرة من الشيوخ، يستكثر من الشيوخ، وهذا ظاهر فيمن يتتبع الإجازات، تجد بعض الإخوان يضيع من الوقت الشيء الكثير والنفيس الثمين من أجل أن يحصل على إجازة من فلان وعلان، ويضيع عليه ذلك الحفظ والفهم والعلم والعمل.

نعم إن تيسر له شيئاً من ذلك ومن غير تعب، ومن غير أن يكون على حساب التحصيل لا بأس؛ لأن الإبقاء على سلسلة الإسناد من خصائص هذه الأمة، فينبغي المحافظة عليها، لكن الإكثار منها وتضييع الوقت من أجلها، أو الانتقال من شيخ إلى شيخ ليقول: إني قرأت على فلان وفلان وفلان، وحضرت فلان وفلان هذه حقيقةٌ مُرَّة إن كان هذا هو الهدف، والله المستعان.

"وليس بموفق -يقوله ابن الصلاح- من ضيع شيئاً من وقته في الاستكثار من الشيوخ لمجرد الكثرة وصيتها، قال: وليس من ذلك قول أبي حاتم الرازي: إذا كتبت فقمش، وإذا حدثت ففتش"، إذا كتبت اكتب عن كل أحد، واكتب كل شيء، كل ما تسمعه قيده، لكن إذا حدثت، يعني في التحمل تحمل كل شيء سهل هذا ما فيه إشكال، لكن إذا حدثت وأردت أن تبلغ علمك إلى الآخرين ففتش، تخير من هذه العلوم التي جمعتها الأنفع للناس، والأصح منها.

"قال ابن الصلاح: ثم لا ينبغي لطالب الحديث أن يقتصر على مجرد سماعه وكتبه من غير فهمه ومعرفته"، هذا كثر في المحدثين بعد عصور الرواية الاقتصار على مجرد سماع الحديث وكتابته من غير فهمه والاستنباط منه، الذي هو الفائدة العملية من معرفة هذه النصوص، "فيكون قد أتعب نفسه، ولم يظفر بطائل"، بعض الناس يحرص على الكثرة، لكن إذا نظرت إلى ما في حفظه وما يستعمله من هذا المحفوظ وجدت الشيء اليسير، وما يفهمه من هذا المحفوظ وجدت الشيء القليل، ونظير هذا من يبتلى بداء المكاثرة، والتكاثر في جمع الكتب، تجد عنده ألوف مؤلفة من الكتب، لكن ماذا قرأ؟ إذا تسأله ماذا قرأ؟ ما يدري، ما يجيب؛ لأنه ما قرأ شيء، هذا مع الأسف الشديد واقع كثير من طلاب العلم، يجمعون الكتب؛ لأنها تيسرت الأسباب، ثم ماذا قرأ؟ لا شيء بخلاف السابقين، تجد عندهم من الكتب الشيء اليسير تفسيرين أو ثلاثة، وكتب السنة الأمهات، ومن كل مذهب كتاب معتمد، وكتاب في اللغة أو اثنين، وكتب العقائد المهمة وهكذا، يعني إن تعدى ذلك أخذ من التواريخ أصحها، والأدب أعفه، ويستفيد من هذه الكتب الفائدة المطلوبة، بينما الآن تجد طالب العلم عنده مائة تفسير، وشروح كتب السنة كلها، كتب المذاهب على اختلافها وتنوعها، مذاهب أهل السنة، بل المبتدعة أيضاً، ويجمع من الكتب ما لا يسمح له وقته بمعرفة أسمائها، وكثرة هذه التصانيف لا شك أنها مشغلة عن التحصيل، والواقع يشهد بذلك، ونحن ممن يعاني من هذا، أنا أعاني من كثرة الكتب، وهي مشغلة بلا شك، والله المستعان.

فأنصح طلاب العلم أن لا يقتنوا من الكتب إلا ما يحتاجون إليه، يعني شيوخنا عندهم تجد دالوب أو دالوبين فيه مائة أو مائة وخمسين مجلد، تجد هذه الكتب قرئت مراراً، وعلق عليها، وعرفوا ما فيها، لكن مع الكثرة الكاثرة ينشغل الإنسان بأمور -والله المستعان- هو في غنية عنها، والله المستعان.

طالب: هناك من يقول: إن شراء الكتب عبادة.

شراء الكتب بالنية الصالحة، الكتب التي ينوي بها أن يستفيد منها الفائدة المرجوة، لكن ويش تظن في شخصٍ يشري من كل كتاب عشر نسخ، خمس نسخ، أربع نسخ، ثلاث، أكثر أقل؟ نعم إيش يتصور من هذا؟ ليستفيد؟ الله المستعان.

طالب:......

نعم إذا كان هناك مقصد حسن لا بأس، تفاوت الطبعات أو تعدد أماكن بالنسبة له في مكان نسخة، وأموره ميسورة لا بأس، إذا كان هناك هدف ومقصد حسن لا بأس، والله المستعان.

طالب: أيضاً -عفا الله عنك- بالنسبة لطلبة العلم اللي يجمعون كمية من الكتب ليس المقصد قراءة الكتب كلها وإنما قراءة الأصول والسنن...

المراجعة، المراجعة يقصدون منها المراجعة، يشتري كتابين، ثلاثة في اللغة يراجع بها لا بأس.

طالب: للبحث والمراجعة..

يراجع، قد لا يجد حاجته وبغيته في هذا الكتاب ينتقل إلى الآخر، على كل حال مثل ما ذكرنا كل شيء له ضريبة، الكثرة لها ضريبة، والله المستعان.

"فيكون قد أتعب نفسه، ولم يظفر بطائل، ثم حث -يعني ابن الصلاح- على سماع الكتب المفيدة من المسانيد والسنن وغيرها" يعتني بكتب السنة، طالب العلم عليه أن يعتني بكتاب الله -عز وجل- أولاً، ويحفظه، أو يحفظ ما تيسر له، ويديم النظر فيه، ويتلوه، ويكون ديدنه القرآن بالتدبر على الوجه المأمور به، ويطالع عليه التفاسير الموثوقة عن أهل العلم ليفهمه، وتعينه هذه المطالعة على التدبر والفهم والاستنباط، ويعتني بعد ذلك بالسنة التي هي المصدر الثاني بعد القرآن فيعتني بالصحيحين، وسنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وموطأ مالك، ومسند أحمد، يعتني بهذه الكتب، وإن أضاف إليها البيهقي فقد أحسن، والعمر لا يستوعب كل الكتب، لكن إذا اعتنى بالكتب الستة أو السبعة أو هذه الكتب الثمانية يحصل على خيرٍ عظيم، ولا نقول ما يقوله بعضهم: إن السنة يكفي منها الصحيحان، فكم من حديث صحيح في السنن، كم من حديث صحيح في المسند لم يخرجه البخاري ولا مسلم، فلا غنية عن بقية الكتب، لكن لتكن العناية بالصحيحين ثم بالسنن ثم بالمسانيد وهكذا، ويعتني بما يعينه على فهم هذه الكتب من الشروح الموثوقة عند أهل العلم، المعتمدة المطروقة التي تحل له خفايا هذه المتون، وتعينه على الاستنباط فيقرأ في بداية الطلب على كل كتاب شرح أو شرحين، ثم بعد ذلك تكن له ملكة بواسطتها يفهم ما يعرض له من المتون من دون مراجعة شروح، والله المستعان، نعم.

النوع التاسع والعشرون: معرفة الإسناد العالي والنازل:

النوع التاسع والعشرون: معرفة الإسناد العالي والنازل، ولما كان الإسناد من خصائص هذه الأمة وذلك أنه ليس أمة من الأمم يمكنها أن تسند عن نبيها إسناداً متصلاً غير هذه الأمة؛ فلهذا كان طلب الإسناد العالي مرغباً فيه, كما قال الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى-: الإسناد العالي سنة عمن سلف، وقيل ليحيى بن معين في مرض موته: ما تشتهي؟ قال: بيت خالي، وإسناد عالي.

ولهذا تداعت رغبات كثير من الأئمة النقاد والجهابذة الحفاظ إلى الرحلة إلى أقطار البلاد؛ طلباً لعلو الإسناد, وإن كان قد منع من جواز الرحلة بعض الجهلة من العباد، فيما حكاه الرامهرمزي في كتابه: (الفاصل).

ثم إن علو الإسناد أبعد من الخطأ والعلة من نزوله، وقال بعض المتكلمين: كلما طال الإسناد كان النظر في التراجم والجرح والتعديل أكثر فيكون الأجر على قدر المشقة, وهذا لا يقابل ما ذكرناه، والله أعلم.

وأشرف أنواع العلو ما كان قريباً إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأما العلو بقربه إلى إمامٍ حافظ أو مصنفٍ أو بتقدمِ السماع فتلك أمورٌ نسبية، وقد تكلم الشيخ أبو عمروٍ هاهنا عن الموافقة: وهي انتهاء الإسناد إلى شيخ مسلم مثلاً، والبدل: وهو انتهاؤه إلى شيخ شيخه أو مثل شيخه، والمساواة: وهي أن تساوي في إسنادك الحديث لمصنف، والمصافحة: وهي عبارةٌ عن نزولك عنه بدرجة حتى كأنه صافحك به وسمعته منه، وهذه الفنون توجد كثيراً في كلام الخطيب البغدادي ومن نحا نحوه.

وقد صنف الحافظ ابن عساكر في ذلك مجلدات، وعندي أنه نوعٌ قليل الجدوى بالنسبة إلى بقية الفنون.

فأما من قال: إن العالي من الإسناد ما صح سنده وإن كثرت رجاله فهذا اصطلاح خاص، وماذا يقول هذا القائل فيما إذا صح الإسنادان لكن هذا أقرب رجالاً؟ وهذا القول محكيٌ عن الوزير نظام الملك، وعن الحافظ السلفي.

وأما النزول فهو ضد العلو، وهو مفضولٌ بالنسبة إلى العلو، اللهم إلا أن يكون رجال الإسناد النازل أجلَّ من رجال الإسناد العالي، وإن كان الجميع ثقات، كما قال وكيعٌ لأصحابه: أيما أحب إليكم: الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود؟ أو سفيان عن منصورٍ عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود؟ فقالوا: الأول، فقال: الأعمش عن أبي وائل شيخٌ عن شيخٍ، وسفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود فقيه عن فقيه، وحديث يتداوله الفقهاء أحب إلينا مما يتداوله الشيوخ.

يقول -رحمه الله تعالى-: "النوع التاسع والعشرون: معرفة الإسناد العالي والنازل" وعرفنا المراد بالعلو والنزول، المراد بالعلو قلة الوسائط بين الراوي وبين النبي -عليه الصلاة والسلام-، والنزول يراد به كثرة الوسائط، كثرة الرواة بين الراوي وبين النبي -عليه الصلاة والسلام-.

يقول -رحمه الله-: "ولما كان الإسناد من خصائص هذه الأمة، وذلك أنه ليس أمة من الأمم يمكنها أن تسند عن نبيها إسناداً متصلاً غير هذه الأمة" قرر ابن حزم في (الفصل) أن اليهود والنصارى فضلاً عن غيرهم ممن تقدمت بهم العهود والقرون لا يستطيعون أن يثبتوا خبراً واحداً عن أنبيائهم بالسند المتصل، بل هذا الأمر من خصائص هذه الأمة، هي التي ضُمن لدينها البقاء إلى قيام الساعة، فاحتيج إلى مثل هذه الخصيصة تبعاً لحفظ الدين، والله المستعان.

يقول: "فلهذا كان طلب الإسناد العالي مرغباً فيه" لا شك أن الإسناد العالي مرغوب عند أئمة الحديث، وذلكم أنه كلما قلت الوسائط قلَّ احتمال الخلل في الإسناد، الإسناد بين الراوي وبين النبي -عليه الصلاة والسلام- ثلاثة احتمال الخطأ والوهم والسهو والغلط فيه أقل من الاحتمال فيما لو كان الإسناد خمسة مثلاً أو ستة؛ لأنه ما من راوي من الرواة وإلا ويحتمل أنه وقع فيه، أو وقع له شيء من ذلك، وإذا كان الأمر كذلك كان الإسناد العالي أرغب من الإسناد النازل.

"كما قال الإمام أحمد بن حنبل: الإسناد العالي سنةٌ عمن سلف، وقيل لحيى بن معين في مرض موته: ما تشتهي؟ قال: بيتٌ خالي، وإسنادٌ عالي" بيتٌ خالي إيش يستفيد من البيت الخالي؟

طالب:......

يتفرغ ويخلو بربه، ويأنس به، ويتلذذ بمناجاته، الآن واقع كثير من الناس يستوحش من البيت الخالي، بل لو كان...... العدد الذي يسكن هذا البيت شيء يسير طلب الزيادة، نادوا آل فلان يكثرون، هذا واقع كثير من الناس يردون الصوت، ولو قيل: هلمَّ يا فلان نجلس إحنا وإياك ساعة نستذكر أو نفهم، يقول بلسانه، بلهجته نتقابل كأننا جن، نعم، المشكلة أنه ما روضت النفوس على التلذذ بمناجاة الله، ما روضت على هذا، ولذا تجد الإنسان يندر أن يجلس في بيت بعد خروج أهله منه، يطلع على ما يقولون: يوسع صدره، والله المستعان.

والعمر قصير ينبغي للمسلم على وجه الخصوص طالب العلم أن يعتني بهذه الأنفاس، وهذه الأوقات التي هي في الحقيقة هو، هي عمره، الدقائق التي يعيشها والساعات هي عمره، وعمر الإنسان نفسه، هو في كل ساعة ينقص، ينقص وهو يسير إلى الدار الآخرة، فعليه أن يغتنم هذه الأنفاس، وهذه الأوقات، وهذه الساعات.

ومن سار نحو الدار -يقول ابن عبد القوي -رحمه الله- ستين حجةً *** فقد حان منه الملتقى وكأن قدي

تصور شخص ستين سنة يقطع الفيافي أو خمسين سنة يصل، إلى متى؟ والله المستعان.

يقول: "ولهذا تداعت رغبات كثيرٍ من الأئمة النقاد، والجهابذة الحفاظ إلى الرحلة إلى أقطار البلاد"، يُرجل إلى من تميز في هذا الشأن في الرواية والدراية، كثيراً ما يُذكر في ترجمة فلان من الناس من العلماء الكبار أنه رُحلة، إيش معنى رُحلة؟ يعني يُرحل إليه، والذهبي في صدر التراجم في السير إذا أراد أن يصف: هو الإمام المحدث الكذا الجوال، إيش معنى الجوال؟ نعم، الذي يرحل، يجول في البلدان.

طالب:......

نعم يرحل في البلدان من أجل طلب الحديث.

"طلباً لعلو الإسناد، وإن كان قد منع من جواز الرحلة بعض الجهلة من بعض العباد فيما حكاه الرامهرمزي في كتابه: (الفاصل)"، المحدث الفاصل –معروف- بين الراوي والواعي، منع بعض الجهال من العباد، يقول: تسافر شهر كامل، ما تيسر لك تتعبد على الوجه المطلوب، من أجل حديث أو أحاديث في هذا الشهر، كم تقرأ من القرآن من مرة، وكم تصلي لله من ركعة، وكم تقوم لله من ليلة في هذا الشهر، وأنت بهذا السفر يضيع عليك أمور كثيرة، هذه نظرتهم، والموفق يستعمل هذه الأشياء، وهو يرحل وينتقل من بلد إلى بلد، ما الذي يرده؟ وما الذي يصده عن قراءة القرآن؟ نعم وقد تتجه همته ورغبته وعنايته إلى ما هو بصدده، يعني يعجب الإنسان إذا قرأ في ترجمة شخص من أهل الحديث أنه التقى في الحج بفلان وفلان، وسمع عليه أحاديث أو سمع عليه كتاب كامل في أربعة أيام، خمسة أيام ليل ونهار يقرأه، نقول: أين هذا؟ قد يقول قائل: من هذا النوع الذين أشار إليهم الحافظ ابن كثير يقول: شخص جاء إلى البلاد المقدسة يصرف هذه الأيام، وهذه الأوقات في المسامرة مع فلان ومع علان، أو يقرأ عليه كتاب، لماذا لا يستغل هذا الوقت بالعبادة الخاصة؟ يعني نفترض شخص معه صحيح البخاري في هذه الأزمان، معه صحيح البخاري، يذهب إلى مكة لشخص عنده إسناد عالي بينه وبين البخاري، فيقرأ عليه البخاري في مدة عشرة أيام، عشرين يوم ليل نهار، ولا يستغل الأوقات لا في صلاة ولا في طواف، ولا في تلاوة، وهو عنده البخاري يمكن أن يقرأ في بلده، ويستغل الوقت في هذا المكان الفاضل بالعبادات الخاصة المضاعفة، نقول: لماذا لا يفعل هذا؟ أو نقول: طلب العلم أفضل؟ هو عنده البخاري يعرف يقرأ ويستنبط، والشيخ مجرد إسماع وليس منه أي تعليق على الكتاب، ماذا نقول؟ نقول: اقرأ القرآن، اختم بدل ما تقرأ البخاري على هذا الشيخ، في عشرة أيام، اقرأ القرآن ثلاث مرات، وصلِ كذا ركعة، وطف كذا أسبوع، واترك البخاري إذا رجعت إلى بلدك، أو خله معك، لكن لا تنفق عليه الوقت كله، ولأن المسألة مسألة قراءة، والقراءة البخاري ليس متعبداً بتلاوته كالقرآن، ها؟

طالب:......

في تراجم الأئمة الحافظ ابن حجر وغيره الحافظ العراقي التقوا بعلماء في بلاد الحرمين وقرأوا عليهم كتب، وقٌرئت عليهم كتب، فرص يمكن لا يجد هذا العالم غير هذه المرة، وكم من فائدة تحصل من خلال هذه القراءة، نعم.

طالب:......

نقول: إن كان مع هذه القراءة يحصل له قدر زائد من الفوائد، ولا شك أن لقاء الشيوخ فيه فوائد، وكم من فائدة دونت في الرحلات التي يكتبها أهل العلم، لا سيما أهل العلم الشرعي، فيها فوائد في هذه الرحلات، كم من فائدة نفيسة عزيزة في رحلة ابن رشيد: (ملئ العيبة، بما جمع بطول الغيبة، في الوجهة الشريفة إلى مكة وطيبة" حينما سافر إلى بلاد الحرمين جمع، والكتاب في أكثر من خمسة مجلدات، مملوء مشحون بالفوائد سببه لقاء الشيوخ، هذه الفوائد المتعدية لا شك أنها أفضل، والعناية بها أهم من العبادات الخاصة، لكن إذا افترضنا أن شيخ من العوام عنده إسناد عالي في البخاري تذهب إلى تلك الأماكن المقدسة فتشغل نفسك الشهر الكامل تقرأ البخاري، ولا يعلق بكلمة نقول: لا، اغتنم وقتك في العبادات الخاصة نعم، فالأمور تقدر بقدرها.

"ثم إن علو الإسناد أبعد من الخطأ والعلة من نزوله" نعم، مثل ما ذكرنا أن سبب اهتمام أهل العلم بالعلو قلة الوسائط، والنزول مرغوب عنه لكثرة الوسائط بين الراوي وبين النبي -عليه الصلاة والسلام-، فإذا قلت هذه الوسائط قلّ احتمال الخطأ؛ لأنه ما من واسطة، ما من راوي إلا ويحتمل أنه أخطأ، فإذا كثر الرواة كثر احتمال الخطأ، وإذا قلّ الرواة قلّ احتمال الخطأ.

"وقال بعض المتكلمين" ما أدري ما الذي يقحمهم في مثل هذه العلوم؟ يعني سبق أن بعض المتكلمين قال: لا يوجد حديث موضوع، كيف لا يوجد حديث موضوع؟ كتب الموضوعات مملوءة، في هذا الكتاب تقدم، لا يوجد حديث موضوع، فقيل له: ما رأيك بحديث: ((سيكذب علي))؟ إيش رأيه؟ صحيح وإلا ما هو بصحيح؟ إيش بيقول هو؟ ما في إلا صحيح أو غير صحيح؟ فإن قال: صحيح بطلت حجته بالحديث، وإن قال: ليس بصحيح بطلت حجته بالرد العملي، هاه ما دام ما هو بصحيح سيكذب علي، والله المستعان، فالمتكلمون يقحمون أنفسهم في هذه الأمور وليسوا منها من قبيلٍ ولا دبير.

"قال بعض المتكلمين: كلما طال الإسناد كان النظر في التراجم والجرح والتعديل أكثر" يقول: بدل من أن تنظر في حديث إسناده ثلاثي تنظر في تراجم هؤلاء الرواة، كل واحد بخمس دقائق تبي لك ربع ساعة لتنتهي من هؤلاء الثلاثة بربع ساعة، لكن لو كان تساعي تحتاج إلى ثلاثة أرباع الساعة، ثلاثة أضعاف من الوقت والأجر على قدر النصب، وأنت تعبت ثلاثة أرباع ساعة أفضل من أن تتعب ربع ساعة، لكن هذا كلام من لا يفقه من هذا العلم شيء، ولا يعرف أن المشقة ليست مطلوبة لذاتها، فإذا ثبتت تبعاً للعبادة أجر المسلم عليها، أما لذاتها يريد أن يشق على نفسه لذات المشقة فلا.

لو كان منزله بعيداً عن المسجد كتب له أجر هذه الخطوات، لكن لو كان المسجد قريب منه، بيته قريب من المسجد، قال: بدلاً من أن أخطو عشرين خطوة إلى المسجد، أروح أدور على الحارة، أخطو ألف خطوة، نقول: ما لك أجر، ليس لك من الأجر شيء؛ لأن تعبك هذا وخطواتك ليست للعبادة؛ لأن هذا المشي لا يقصد لذاته هو تابع للعبادة، لو قال: أنا أحج بدلاً من أن أذهب من الطريق المستقيم ثمانمائة كيلو أروح أقصى الشرق ثم أقصى الشمال، ثم آتي إلى الغربية في خمسة آلاف كيلو، نقول: لا، ما لك أجر، نعم الأجر على قدر النصب، إذا كان هذا النصب مما تتطلبه العبادة؛ لأن الوسائل لها أحكام المقاصد.

"فيكون الأجر على قدر المشقة، وهذا لا يقابل ما ذكرنا، والله أعلم" ما في شك أن النظر في هذا الباب إلى الصحة والضعف والتعب لا دخل له في هذا الباب، ولا في هذا الشأن.

يقول: "وأشرف أنواع العلو ما كان قريباً إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" لأنهم يقسمون العلو: العلو المطلق، وهو ما كان القرب فيه إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- ظاهر، تقل الوسائط بينه وبين النبي -عليه الصلاة والسلام-، وهناك علو نسبي، كالقرب من مصنف، أو القرب من كتابٍ مشهور من الكتب، يعني أنت تروي صحيح البخاري بوسائط عدتها في الغالب عشرين بينك وبين البخاري غالباً، لكن لو وجدت إسناد يكون بينك وبين البخاري خمسة عشر هذا علو؛ لأنك قربت من إمام وهو البخاري، كما أنك قربت من مصنف، لكن هل حقيقة الأمر..؟ الحديث استفاد من قربك وبعدك؟ استفاد؟ ما استفاد شيء، فهو علوٌ نسبي، القرب من النبي -عليه الصلاة والسلام- هو الأكمل، وهو الأولى من أنواع العلو.

يقول: "وقد تكلم الشيخ أبو عمرو -يعني ابن الصلاح- هاهنا على الموافقة، وهي انتهاء الإسناد إلى شيخ مسلم" أو شيخ البخاري، يعني نفترض أنك شخص عشتَ في القرن الرابع مثلاً، واستطعت أن تصل إلى حديث رواه البخاري عن شيخه محمد بن بشار، أو رواه مسلم عن شيخه أبي بكر بن أبي شيبة فصار بينك وبين ابن أبي شيبة أو محمد بن بشار راوي واحد، فتكون كأنك إيش؟ وافقت البخاري في روايته عن شيخه، نعم، والبدل: هو انتهائه إلى شيخ شيخه اطلع فوق، يعني وصل إسنادك إلى غُندر شيخ محمد بن بشار محمد بن جعفر هذا بدل، والمساواة: أن تساوي في إسنادك الحديث لمصنف، البخاري يروي حديث: ((ويلٌ للعرب، من شرٍ قد اقترب)) من طريق تسعة، والحافظ العراقي بعده بخمسة قرون ونصف يروي بعض الأحاديث بواسطة تسعة، نقول: هذه مساواة للبخاري، وهي فيها علو شديد بالنسبة لمن؟ للحافظ العراقي، وفيها نزول شديد بالنسبة للإمام البخاري، والمصافحة: وهي عبارة عن نزولك عنه بدرجة حتى كأنه صافحك به وسمعته منه، يعني إذا ساويت في إسنادك تلميذ البخاري أو تلميذ مسلم فصرت بمنزلة التلميذ لأحدهما، فكأنك صافحت الإمام البخاري، أو صافحت الإمام مسلم؛ لأن المعتاد أن التلميذ يصافح شيخه.

"وهذه الفنون توجد كثيراً في كلام الخطيب البغدادي ومن نحا نحوه، وقد صنف الحافظ بن عساكر في ذلك مجلدات -في العوالي والنوازل- وعندي أنه نوعٌ قليل الجدوى بالنسبة لبقية الفنون" يعني كونك تصل إلى مصنف مشهور من دواوين الإسلام بإسناد أقل، برجالٍ أقل تحرص على هذا العلو، لكن قليل الجدوى؛ لأن الحديث ما دام دون في هذا الكتاب المعتبر، والمعتمد عند أهل العلم لا يستفيد بقربك منه، ولا ببعدك منه، لا علو ولا نزول حقيقي، والله المستعان.

طالب:........ الموافقة والبدل والمساواة.

ويش يصير؟ أنت في الموافقة تنتهي إلى شيخ مسلم، توافق مسلم في الرواية عن أبي بكر بن أبي شيبة نعم، البدل تنتهي إلى شيخ شيخه كأنك أبدلت الشيخ بغيره نعم، المساواة: تساوي في إسنادك بغض النظر عن إسناده في العدد، والمصافحة: تكون مساوياً أو تصل إلى تلميذ الشيخ ومن عادة التلميذ أن يصافح الشيخ، ومثل ما قال الحافظ ابن كثير: "نوعٌ قليل الجدوى بالنسبة.." يعني هل تظن أن العلو والنزول من أنواع علوم الحديث مثل المعلّ؟ إيش بين هذا وهذا من فرق؟

طالب: شاسع.

شاسع، يعني بينهما مفاوز، هذا أعظم الأنواع وهذا قليل الجدوى، "فأما من قال: إن العالي من الإسناد ما صح سنده وإن كثرت رجاله" لا شك أنه علو، عالي وهو في الوقت نفسه غالي إذا صح السند هذا هو المطلوب، وإن كثرت الرجال لكنه اصطلاح خاص، أهل العلم إذا أطلقوا العالي والنازل فيريدون به قلة رجال الإسناد.

"وماذا يقول هذا القائل فيما إذا صح الإسنادان" صح كثير الوسائط، وصح قليل الوسائط كلاهما عالي؟ ماذا يقول الذي يقول: إن العالي ما صح سنده؟ لو صح سند النازل وصح سند العالي؟ صح الثلاثي وصح التساعي؟ كلاهما عالي؟ لا يستطيع أن يقول: إن كلاً منهما عالي.

يقول: "وهذا القول محكي عن الوزير نظام الملك وعن الحافظ السلفي" الحافظ أبي طاهر السلفي معروف إمام محدث رحال جوال جمع وروى عن عددٍ كبير من الشيوخ.

يقول: "وأما النزول فهو ضد العلو" ما كان من نوع من أنواع العلو إلا وفي مقابله نوعٌ من أنواع النزول، "وهو مفضولٌ بالنسبة إلى العلو، اللهم إلا أن يكون رجال الإسناد النازل أجل من رجال الإسناد العالي"، يعني إذا قدر أن الحديث روي بإسناد عالي وفيهم المتكلم فيه، بينما حديث آخر روي بإسنادٍ نازل ورواته كلهم ثقات لا شك أن هذا أرجح.

"وإن كان الجميع ثقات" هؤلاء ثقات وهؤلاء ثقات، لكن رجال الإسناد النازل أوثق من رجال الإسناد العالي حينئذٍ يرجح النازل على العالي، "كما قال وكيعٌ لأصحابه: أيما أحب إليكم: الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود؟" ثقات "أو سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود؟" هذا نازل، الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود كم؟ ثلاثي، الثاني: سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود خماسي، الأول أعلى، والثاني أغلى، لماذا؟ لأن "الأعمش عن أبي وائل شيخ عن شيخ" أهل حديث، أهل رواية، وسفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود هؤلاء أهل دراية، فقيهٌ عن فقيهٍ عن فقيه.

يقول: "وحديثٌ يتداوله الفقهاء أحب إلينا من حديثٍ يتداوله الشيوخ" وليست هذه الكلمة على إطلاقها؛ لأن الغالب أن الضبط والإتقان عند أهل الحديث، لكن إذا اجتمع مع الحديث فقه ونظر، يعني مع الأسف فقه ونظر لا شك أن ما يرويه الفقيه أولى بالاعتماد مما يرويه المحدث الصرف إذا اشتركا في الضبط والحفظ والإتقان؛ لأن الفقيه مع نظره إلى ثبوت الإسناد ينظر أيضاً في المتن من حيث المخالفة وعدمها، والله أعلم.

 

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.