شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (036)

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحبًا بكم إلى حلقة جديدة ضمن برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح. مع مطلع هذه الحلقة يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، ونشكر له قبول دعوتنا، فأهلاً ومرحبًا بكم شيخ عبد الكريم.

حياكم الله وبارك فيكم.

المقدم: لا زلنا عند حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنمًا يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن».

أشرتم -أحسن الله إليكم- إلى بعض معاني هذا الحديث، ولا زلنا في استكماله مع الإخوة المستمعين الكرام.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

في آخر الحلقة السابقة أشرنا إلى شيء من أقوال أهل العلم في المفاضلة بين العزلة والخلطة، فالحديث يُرَغِّب في العزلة، لكن متى؟ في وقت الفتن، نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأورد الكرماني تساؤلاً في كيفية الجمع بين مقتضى الحديث، وبين ما ندب إليه الشارع من اختلاط أهل المَحَلَّة لصلاة الجماعة وأهل البلدة للجمعة... إلى آخر كلامه -رحمه الله تعالى-، وأجاب عن هذا السؤال بقوله: قلت ذلك عند عدم الفتنة، وعدم وقوعه في المعاصي وعند الاجتماع بالجلساء الصالحين، وأما اتباع الشَّعَف وطلب الخلوة والانقطاع إنما هو في أضداد هذه الحالات، يعني عند وجود الفتنة.

يقول النووي أيضًا، سبق أن أشرنا إلى كلامه: في الحديث فوائد كثيرة، منها فضل العزلة في أيام الفتن إلا أن يكون الإنسان ممن له قدرة على إزالة الفتنة فإنه يجب عليه السعي في إزالتها؛ لأن الفتن من قبيل ما ينكَر في الشرع، وإزالة المنكَر واجبة «من رأى منكم منكرًا فليغيره» فإذا كان ممن يستطيع، وله قدرة على إزالة الفتنة، فإنه يجب عليه السعي في إزالتها، وهذا إما فرض عين؛ إن تعين عليه؛ وإما فرض كفاية إن وجد من يقوم مقامه؛ وهذا بحسب الحال والإمكان كما هو معروف، يقول: وأما في غير أيام الفتنة فاختلف العلماء في العزلة والاختلاط أيهما أفضل؟ فذهب الشافعي والأكثرون إلى تفضيل الخلطة؛ لما فيها من اكتساب الفوائد، وشهود شعائر الإسلام، وتكثير سواد المسلمين، وإيصال الخير إليهم، ولو بعيادة المرضى، وتشييع الجنائز، وإفشاء السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعاون على البر والتقوى، وإعانة المحتاج، وحضور الجماعات، وغير ذلك مما يقدر عليه كل أحد، هذه الأمور كل يقدر عليها. لكن إن تعارضت مع ما هو أعظم من ذلك، هذه مصالح، لا شك، لكن إذا ترتب على مكثه بين الناس وتحصيله هذه المصالح، مفاسد تضره في دينه، لا شك أن درء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح. فإن كان -تابع كلام النووي رحمه الله تعالى- فإن كان صاحب علم وعمل ونحو ذلك؛ تأكَّد فضل اختلاطه؛ لأن العالم لا شك أنه ينفع غيره، والغالب أنه لا يتأثر، بل يؤثِّر ولا يتأثَّر غالبًا. ذهب آخرون إلى تفضيل العزلة لما فيها من السلامة المحققة بشرط أن يكون عارفًا بوظائف العبادة التي تلزمه، وما يكلف به. يقول: والمختار تفضيل الخلطة لمن لا يغلب على ظنه الوقوع في المعاصي، وبالله التوفيق.

الشرَّاح من قرون، من القرن الثامن والتاسع يفضِّلون العزلة، فالكرماني يقول: المختار في عصرنا الانعزال لندور خُلُوِّ المحافل عن المعاصي، وهذا في القرن الثامن، قال العيني: أنا موافق له فيما قال، فإن الاختلاط مع الناس في هذا الزمان لا يجلب إلا الشرور.

كيف لو رأوا زماننا، وما يعُجُّ فيه من المنكرات والمعاصي التي لا يُستطاع تغييرها؟! والله المستعان.

على كل حال التفصيل لا بد منه، فإن كان الشخص مما يحتاج إليه الناس، ويستطيع التأثير فيهم بالإصلاح فلا شك أن الخلطة في حقه أفضل، شريطة ألا يتأثر بما هم عليه من المنكرات، وما يقارفونه من المعاصي، وإن كان الشخص ممن يتأثر وتأثيره ضعيف، أو لا تأثير له، فإن مثل هذا العزلة في حقه أفضل، وقل مثل هذا في النوافل القاصرة على الشخص، فإن كان الشخص إذا لزم هذه النوافل انقطع نفْعُه العام أو ضعف فنقول له: لا شك أن النفع العام أفضل لك، إذا كان ممن يحتاجه الناس، إذا كان هناك عالم يعلم الناس فإذا صام النوافل انقطع عن التعليم، نقول له: علّم الناس لأن النفع المتعدي أفضل من النفع القاصر، وإذا كان ممن نفعه الخاص أكثر أو لا نفع له في العموم، نقول: أكثِر من النوافل الخاصة، والله المستعان.

فمثل هذه الأمور تحتاج إلى شيء من التفصيل، فلا يُحكَم فيها بالإطلاق. لأبي سليمان حَمْد بن محمد الخطابي البُستي -المتوفى سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة- كتاب نفيس جامع في هذا الباب ماتع في العزلة سماه بهذا الاسم، وضمنه النصوص من الكتاب والسنة للفريقين، ممن يؤثر أو ممن يرجح العزلة أو ممن يرجح الخلطة، ودعم ذلك بأقوال السلف من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، وهو كتاب نفيس حري وجدير وخليق بطالب العلم أن يعتني به؛ لما فيه من الفوائد.

يقول في هذا الكتاب: الفُرقة فُرقتان: فُرقة الآراء والأديان، وفُرقة الأشخاص والأبدان، والجماعة جماعتان: جماعة هي الأئمة والأمراء، وجماعة هي العامة والدَّهْماء، فأما الافتراق في الآراء والأديان فإنه محظور في العقول، محرم في قضايا الأصول؛ لأنه داعية الضلال، وسبب التعطيل والإهمال، ولو تُرك الناس متفرقين لتفرقت الآراء والنحل؛ ولكثرت الأديان والملل، ولم تكن فائدة في بعثة الرسل، وهذا هو الذي عابه الله -عز وجل- من التفرق في كتابه، وذمه في الآي التي تقدم ذكرها.

ذكر الآيات التي استدل بها من يقول بتفضيل الاختلاط، ومنع الافتراق، يعني: من مثل قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [سورة آل عمران 103] وقوله: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [سورة الأنفال 63] وقوله: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [سورة آل عمران 105].

يقول: وعلى هذه الوتيرة نُجري الأمر أيضًا في الافتراق على الأئمة والأمراء، فإن مفارقتهم مفارقة الأُلْفَة، وزوال العصمة، والخروج من كَنَف الطاعة، وظل الأمنة، وهو الذي نهى النبي -عليه الصلاة والسلام- عنه، وأراده بقوله -صلى الله عليه وسلم-: «من فارق الجماعة فمات فميتته جاهلية» في رواية: «من فارق الجماعة قِيْد شبر فمات فميتته جاهلية» وذلك أن أهل الجاهلية لم يكن لهم إمام يجمعهم على دين، ويتألَّفُهم على رأي واحد، بل كانوا طوائف شَتَّى، وفِرَقًا مختلفين، آراؤهم متناقضة، وأديانهم متباينة، وذلك الذي دعا كثيرًا منهم إلى عبادة الأصنام، وطاعة الأزلام، رأيًا فاسدًا اعتقدوه في أن عندها خيرًا، وأنها تملك لهم نفعًا، أو تدفع عنهم ضرًا، هذا بالنسبة لعزلة الآراء والأديان، وعزلة الأمراء والولاة، وأما عزلة الأبدان يقول -رحمه الله تعالى-: وأما عزلة الأبدان ومفارقة الجماعة التي هي العوام فإن من حكمها أن تكون تابعة للحاجة، وجارية مع المصلحة، وذلك أن عِظَم الفائدة في اجتماع الناس في المدن، وتجاورهم في الأمصار إنما هو أن يتضافروا ويتعاونوا ويتوازروا فيها إذا كانت مصالحهم لا تَكْمُل إلا به، ومعايشهم لا تزكوا إلا عليه، وللإنسان أن يتأمل حال نفسه فيَنظُر في أي طبقة يقع منهم، وفي أي جَنَبَة ينحاز من جملتهم، فإن كانت أحواله تقتضيه المقام بين ظهراني العامة لما يلزمه من إصلاح المهنة التي لا غنية له به عنها، ولا يجد بُدًا من الاستعانة بهم فيها، فلا وجه لمفارقتهم في الدار، ومباعدتهم في السكن والجوار، فإنه إذا فعل ذلك تضرر بوحدته، وأضر بمن وراءه من أهله وأسرته.

تصوَّر شخص عنده أسرة من زوجات وبنين وبنات ينتقل بهم إلى البراري والقفار وهو لا يُحسِن وإن زعم أنه يفر بدينه من الفتن، لكن يعرِّض هؤلاء الذين يمونهم وهم متعلقون برقبته، ونفقاتهم واجبة عليه، يعرُّضهم للهلاك إلا أن يتخذ مصدرًا؛ لئلا ينسى نصيبه من الدنيا الذي يقيم به أوده، ويتمكن من عبادة ربه بسببه، والله المستعان.

يقول: وإن كانت نفسه بكلها مستقلة، وحاله في ذاته وذويه متماسكة، فالاختيار له في هذا الزمان اعتزال الناس، ومفارقة عوامهم، فإن السلامة في مجانبتهم، والراحة في التباعد منهم، هذا سَنَة كم؟ في القرن الرابع، يقول: وإن كانت نفسه بكلها مستقلة، وحاله في ذاته وذويه متماسكة، يستطيع العيش مع الانعزال والعزلة، فالاختيار له في هذا الزمان اعتزال الناس، ومفارقة عوامهم، فإن السلامة في مجانبتهم، والراحة في التباعد منهم، هذا في القرن الرابع، تقدم كلام الكرماني في القرن الثامن، والعيني في التاسع، ونحن الآن في المائة الخامسة عشرة، ولا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه -كما هو معروف- لكنه حكم إجمالي لا تفصيلي، جملة لا يأتي زمان في الجملة، قد يوجد في بعض الأزمان المتأخرة، وفي بعض الأحوال، وفي بعض البلدان ما هو أفضل من بعض الأزمان المتقدمة في بعض الأحوال، لكن بالإجمال عمومًا القرون المفضلة لا نظير لها، ولن يأتي مثلها، يقول: «خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» كما جاء في الحديث الصحيح، لكن في الجملة بعد القرون المفضلة قد يأتي في بعض الأماكن، وفي بعض الأزمان ما يفوق، ولو من وجه ما وجد قبله في مكان وزمان سابق، والله المستعان.

يقول: ولسنا نريد -رحمك الله- بهذه العزلة التي نختارها مفارقة الناس في الجماعات والجُمعات، وترك حقوقهم في العبادات، وإفشاء السلام، ورد التحيات، ليس من العزلة أن تنزوي في بيتك، وتذهب وترجع من المسجد وإليه، يُسلَّم عليك فلا ترد على من يُسلِّم بحجة الاعتزال وترك الناس ومخالطتهم؛ لأنك تركت واجبًا، رد السلام واجب، وأثمت بذلك، رد التحية لا بد منه.

يقول: ولسنا نريد -رحمك الله- بهذه العزلة التي نختارها مفارقة الناس في الجماعات والجُمعات أو تنزوي في بيتك وتجعل لك مسجدًا في بيتك، وتصلي وحدك، هذا ليس من العزلة الشرعية وترك حقوقهم في العبادات، وإفشاء السلام، ورد التحيات، وما جرى مجرى ذلك من وظائف الحقوق الواجبة لهم، ووضائع السنن، والعادات المستحسنة فيما بينهم، فإنها مستثناة بشرائطها، جارية على سبلها، ما لم يَحِلْ دونها حائل، ولا يمنع عنها مانع، إنما نريد بالعزلة ترك فُضُول الصحبة، ونبذ الزيادة منها، وحط العلاوة التي لا حاجة بك إليها.

لا مانع أن تصل رحمك، بل يجب عليك أن تصل الرحم، ولا تتعلل بوجود بعض الموانع والصوارف التي تمنعك من أداء هذا الواجب، لكن بقدر الحاجة، ليس معنى هذا أنك إذا زرت أخًا لك في الله تسكن عنده، لا، أو تطيل الوقت ليكون للشيطان نصيب من هذا المجلس؛ لأن المجلس إذا طال لا بد أن يتخلله ما يُغفَل عنه، مما يفلت عن اللسان، أو بعض التصرفات، يقول: فإن من جرى في صحبة الناس والاستكثار من معرفتهم على ما يدعو إليه شغف النفوس، وإلف العادات، وترك الاقتصاد فيها، والاقتصار الذي تدعوه الحاجة إليه كان جديرًا ألا يحمد مغبة ذلك، وأن يستوخم العاقبة، وكان في ذلك سبيل من يتناول الطعام في غير أوان جوعه، ويأخذ من فوق قدر حاجته، فإن ذلك لا يُلْبِثُه أن يقع في أمراض مُدْنِفَة، وأسقام مُتْلِفَة، وليس من علم كمن جهل، ولا من جرب وامتحن كمن بادَه وخاطر، ولله در أبي الدرداء حيث يقول: وجدت الناس أَخْبَر تَقْلِه، يعني اعرف حقيقة الشخص لا بد أن تجد فيه ما يوجد قَلاك لذلك الشخص وبغضه والنفرة منه، هذا في الأزمان الأولى في العصور الأولى، والله المستعان، ثم ذكر بيتين لابن أبي الدنيا:

من حمد الناس ولم يبلهم
وصار بالوحشة مستأنسًا

 

 ثم بلاهم ذم من يحمدُ
يوحشه الأقرب والأبعدُ

والإشكال والأمر الذي يجعل الناس لا يطيقون العزلة، بل الذي يحملهم على كثرة الخلطة، والتزيد منها، وعدم القرار والخلوة هو عدم ترويضهم النفوس على الأنس بالله -سبحانه وتعالى- وذكره، والخلوة به، والله المستعان.

فمن روض نفسه على هذا الأمر وخلا بنفسه ليذكر الله، ويتفكر في مخلوقاته، ويأنس بتلاوة كتابه وبمناجاته ما احتاج إلى أن يختلط كثيرًا بالناس، ونقرأ في تراجم السلف من يفر من الناس إلا بقدر الحاجة، مما لا تقوم حياته إلا به، والله المستعان.

ثم ذكر الإمام الخطابي -رحمه الله تعالى- ما جاء في مدح العزلة عن رسول الله -عليه الصلاة والسلام- وعمَّن بعده من الصحابة وأهل العلم والفضل، وأخبر عن محلها في الحكمة وموقعها من المصلحة؛ لينظر المرء لدينه، ويحسن الارتياد لنفسه، نسأل الله السلامة من شر هذا الزمان وأهله، إنه لا خيفة على من حفظه، ولا وحشة على من عرفه، وسيأتي -إن شاء الله تعالى- في كتاب الفتن مزيد بسط لهذه المسألة.

والحديث مخرَّج في الصحيح في خمسة مواضع:

الأول: هنا في كتاب الإيمان، باب من الدين الفرار من الفتن، قال -رحمه الله تعالى-: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة عن أبيه عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فذكره، وسبقت الإشارة إلى مناسبته.

الموضع الثاني: في كتاب بدء الخلق، باب خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال، قال -رحمه الله تعالى-: حدثنا إسماعيل بن أبي أويس، قال: حدثني مالك عنه به.

قال ابن حجر: وقع قبل حديث أبي سعيد في أكثر الروايات بابٌ خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال، وسقطت هذه الترجمة من رواية النسَفي، ولم يذكرها الإسماعيلي أيضًا، وهو اللائق بالحال؛ لأن الأحاديث التي بعد حديث أبي سعيد ليس فيها ما يتعلق بالغَنَم إلا حديث أبي هريرة المذكور بعده، بعد حديث أبي سعيد حديث واحد في الغَنَم، والبقية في الشياطين، وفي الحيات، وغيرها.

إلا حديث أبي هريرة المذكور بعده، وفيه: «والسكينة في أهل الغَنَم» والمناسبة على ما ذكره ابن حجر لِبَاب قول الله تعالى: {وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ} [سورة لقمان 10] وفي الباب ذكر بعض الدواب، والمناسبة على هذا ظاهرة، المناسبة لقوله تعالى: {وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ} [سورة لقمان 10] الغنم من الدواب، ثم ذكر حيوانات أخرى تدخل في قوله تعالى: {وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ} [سورة لقمان 10] لكنها لا تدخل فيما وقع في بعض الروايات باب خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال.

الموضع الثالث: في كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، قال -رحمه الله تعالى-: حدثنا أبو نُعيم، حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة بن الماجشون عن عبد الرحمن بن أبي صعصعة عن أبيه عن أبي سعيد -رضي الله عنه- قال: قال لي: إني أراك تحب الغنم، وتتخذها فأصلحها وأصلح رعاتها، فإني سمعت النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: «يأتي على الناس زمان تكون الغنم فيه خير مال المسلم يتبع بها شعف الجبال -أو سعف الجبال- في مواقع القطر، يفر بدينه من الفتن» ومناسبة الحديث لباب علامات النبوة ظاهرة، حيث أخبر النبي -عليه الصلاة والسلام- عمَّا يكون في المستقبل، وفي هذا عَلَم من أعلام نبوته -عليه الصلاة والسلام-، والعلامة والعلَم أعم من المعجزة والكرامة، والفرق بينهما كما قال ابن حجر: أن المعجزة أخص؛ لأنه يشترط فيها التحدي من قبل النبي -عليه الصلاة والسلام- لمن يكَذِّبه، بأن يقول: إن فعلتُ كذا أتصدِّق بأني صادق؟ أو يقول من يتحداه: لا أصدِّقك حتى تفعل كذا، ويشترط أن يكون المتحدى به مما يعجز عنه البشر في العادة المستمرة، وما أخبر به النبي -عليه الصلاة والسلام- عمَّا سيأتي في آخر الزمان ليس فيه تحدي، لكنه مما لا يستطيعه البشر، ولا يدركونه بعقولهم، فهو علم من أعلام النبوة بلا شك.

مناسبة العلامات لكتاب المناقب ظاهرة، فعلامات النبوة ومعجزاته -عليه الصلاة والسلام- من مناقبه -عليه الصلاة والسلام-.

الموضع الرابع: في كتاب الرقاق، باب العزلة راحة من خُلاَّط السوء، قال -رحمه الله تعالى-: حدثنا أبو نُعيم، حدثنا الماجشون عن عبد الرحمن بن أبي صعصعة عن أبيه عن أبي سعيد فذكره، ومناسبة الحديث لِبَاب العزلة راحةٌ مِن خُلاَّط السوء ظاهرة؛ لأنه قال: «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال يفر بدينه من الفتن» يعني يفر بدينه من الخُلاَّط الذين هم سبب الفتن.

ومناسبة الباب العزلة راحة لكتاب الرقاق، وهي جمع رقيقة، سميت هذه الأحاديث بذلك؛ لأن فيها ما يحدث في القلب رقة، ولا شك أن حديث الباب من هذا النوع، والعزلة تُحْدِث رقة؛ لأن الخلطة لعموم الناس ورؤية المنكرات التي لا يُقدَر على إزالتها تُحدِث قسوة في القلب؛ لأن كثرة الإمساس تقلل الإحساس، والله المستعان.

الموضع الخامس: في كتاب الفتن، باب التعرب في الفتنة، قال -رحمه الله تعالى-: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك عنه به، والتعرُّب السكنى مع الأعراب، وهو أن ينتقل المهاجر من البلد التي هاجر منها فيسكن في البادية، فيرجع بعد هجرته أعرابيًّا، وكان ذلك محرمًا إلا أنه أُذِن في ذلك عند حلول الفتن، يعني كما في هذا الحديث، وما جاء في معناه.

والمناسبة ظاهرة للباب والكتاب، المناسبة للباب التعَرُّب في الفتن ظاهرة «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال» وشعف الجبال ومواقع القطر هي مساكن الأعراب، فإذا تبع بها شعف الجبال صار أعرابيًّا، أو في حكم الأعراب، فمناسبته لباب التعرب في الفتنة ظاهرة، كما أن باب التعرب في الفتنة مناسب جدًّا، بل هو من الفتن التي تُرجِم بها في كتاب الفتن.

والحديث أيضًا خرجه الإمام مالك في الموطأ في الاستئذان، باب ما جاء في أمر الغنم، وأبو داود في الفتن، باب ما يرخَّص من البداوة في الفتنة، والنسائي في الإيمان، بابٌ الفرار بالدين من الفتن، والله المستعان، نسأل الله سبحانه وتعالى السلامة من الفتن ما ظهر منها وما بطن.

المقدم: أحسن الله إليكم، النسخ التي معنا يا شيخ في التجريد: «يوشك أن يكون خيرُ مال المسلم غنمًا» كما أشرتم إلى أن رواية الأصيلي هي هذه، بينما النسخ كما مع بعض الإخوة، وبالذات نسخ فتح الباري مكتوب: «يوشك أن يكون خيرَ مال المسلم غنمٌ».

هذه رواية الأكثر.

المقدم: وهي التي شرح بها...

مشى عليها الشراح، ويشيرون إلى ما عداها، يعني رواية الأصيلي، والله أعلم.

المقدم: أحسن الله إليكم ونفع بعلمكم.

أيها الإخوة والأخوات انتهت حلقة هذا الأسبوع من برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح.

لنا بكم لقاء -بإذن الله تعالى- في حلقة الأسبوع القادم وأنتم على خير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.