شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (073)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحبًا بكم إلى لقاء جديد ضمن برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح.
مع مطلع هذه الحلقة يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، فأهلاً ومرحبًا بكم شيخ عبد الكريم.
حياكم الله وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.
المقدم: لا زلنا وإياكم مع حديث عائشة -رضي الله تعالى عنها-، والحديث: (40) حسب ترتيب التجريد الصريح. نبتدئ هذه الحلقة بما تبقى من هذا الحديث -أحسن الله إليكم-.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
مضى الكلام حول الترجمة من قِبَل الإمام البخاري على الحديث، والرابط بين الحديث والترجمة والباب مع الباب الذي قبله في كلام طويل، ثم بعد ذلك نأتي إلى متن الحديث عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل عليها وعندها امرأة، فقال: «مَن هذه؟» في رواية الأصيلي: قال: «مَن هذه؟» بغير فاء، ويوجَّه على أنه جواب سؤال مقدَّر، كأن قائلاً قال: ماذا قال حين دخل؟ قالت: قال: «مَن هذه؟» قلت: فلانة، هذه اللفظة كناية عن كل علم مؤنث، فلا ينصرف، لكن فلان كناية عن كل علم مذكر فهو مصروف، رأيت فلانًا، هنا هذه اللفظة كناية عن كل علَم مؤنث فلا ينصرف، زاد عبد الرزاق عن معمر عن هشام في هذا الحديث: "حسنة الهيئة"، يعني في وصف هذه المرأة، تذكر الفاعل عائشة، وروي بضم الياء التحتانية على البناء لما لم يسم فاعله، أي يذكرون أن صلاتها كثيرة، إما أن تذكر عائشة من قِبَل نفسها في المدح والثناء على هذه المرأة، أو تنقل عن غيرها، يُذكَر فالمعنى يذكرون، فهي تنقل عن غيرها أن صلاتها كثيرة.
يقول الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى-: ورد في رواية أخرى مخرَّجة في غير هذا الموضع أن هذه المرأة اسمها: الحولاء بنت تويت، وأن عائشة قالت: زعموا أنها لا تنام الليل.
المقدم: أحسن الله إليك قلتَ قبل قليل: قلتُ، عائشة قالت: قلت: فلانة، والنسخة التي بين أيدينا: قالت فلانة، يعني لو كانت قالت فلانة لاستقام قوله تذكر من صلاتها، بدل قلت، قول عائشة؟
قالت: فلانة.
المقدم: التي عندنا قالت: فلانة تذكر من صلاتها.
"قالت" يعني عائشة، "تذكر" أي عائشة.
المقدم: جيد، لكن أنت قلت في الرواية أن عائشة قالت: قلت فلانة.
هو السؤال موجَّه لعائشة، الرسول -عليه الصلاة والسلام- يقول لعائشة: «من هذه؟» والخبر ترويه عائشة، فالأصل أن تقول: قلت، لكن الالتفات جائز، والرواية جاءت بهذا وذاك.
قال الحافظ ابن رجب: ورد في رواية أخرى مخرَّجة في غير هذا الموضع أن اسمها: الحولاء بنت تويت، وأن عائشة قالت: زعموا أنها لا تنام الليل.
"فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: «مه»" كلمة زجر وكف، قال الجوهري: مه كلمة بنيت على السكون، وهي اسم سمي به الفعل، يعني اسم فعل، ومعناها اكفف، فإن وُصِلَت نُوِّنَت، فقلت: مَهٍ مَهٍ، ويقال: مَهْمَهْتُ به، أي: زجرته، نقله النووي عن الجوهري.
قال ابن رجب: قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مه» زجر لعائشة عن قولها عن هذه المرأة في كثرة صلاتها، وأنها لا تنام الليل، وأمْر لها بالكف عما قالته في حقها؛ فيحتمل أن ذلك كراهية للمدح في وجهها؛ حيث كانت المرأة حاضرة، الاحتمال قائم على أن طلب الكف وهذا الزجر إنما كان بسبب أنها مدحت المرأة في وجهها، والاحتمال الثاني: قال: ويحتمل، وهو الأظهر وعليه يدل سياق الحديث، أن النهي إنما هو لمدحها بعمل ليس بممدوح في الشرع، يعني كثرة الصلاة الذي يتجاوز حد الاعتدال بحيث يؤدي إلى الانقطاع هذا ليس بممدوح شرعًا.
يقول ابن رجب -رحمه الله-: وعلى هذا فكثيرًا ما يذكر في مناقب العُبَّاد من الاجتهاد المخالف للشرع ينهى عن ذكره على وجه التمدح به، والثناء به على فاعله، يعني كثيرًا ما يذكر في أوصاف العُبَّاد بأنه كان يصلي الصبح بوضوء العشاء كذا سَنَة، هذا يساق على أنه مدح، يقرأ القرآن في ركعة، يساق على أساس أنه مدح، ماذا يقول ابن رجب -رحمه الله-؟ يقول: وعلى هذا فكثيرًا ما يذكر في مناقب العُبَّاد من الاجتهاد المخالف للشرع ينهى عن ذكره على وجه التمدح به، والثناء على فاعله، يعني لماذا؟ لأنه خلاف المشروع، النبي -عليه الصلاة والسلام- كان يصلي وينام، ولم يحفظ عنه أنه قام ليلة إلى الصبح، وإن كان في العشر الأخير من رمضان يشد المئزر.
على كل حال أهل العلم بلا شك تواطؤوا على مدح من تكثر عبادته، لكن إلى حد لا يؤدي إلى الانقطاع، وبعض الناس يُشرَب حب العبادة، فتكون راحته بحيث تكون ديدنه في الليل والنهار، بحيث لا يستطيع الصبر عنها، وهذا كلما زاد من هذه العبادة ازداد رغبة ونشاطًا، هذا لا يؤديه هذه الكثرة إلى الانقطاع، نعم إن أدت هذه الكثرة إلى الانشغال عما هو أهم في الشرع منها لا يُمدَح بها، لكن المذموم الذي لا يُمدَح صاحبه به هو ما يؤدي إلى الانقطاع، بدليل ما جاء في آخر الحديث: «عليكم من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا» وسيأتي شرحه -إن شاء الله تعالى-.
المقدم: وقوله -عليه الصلاة والسلام-: «أعني على نفسك بكثرة السجود» هل يحمل هذا على...
على ما يطاق، يحمل هذا على ما يطاق بحيث لا يؤدي إلى الترك والملل.
سائل: أحسن الله إليك بالنسبة لختم القرآن الكريم في ليلة إذا فعله الإنسان ليس على وجه المداومة عليه إنما فعله مرة في عمره أو مرتين أو ثلاث، فهل هذا يدخل في هذا الباب؟
جاء عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه لا يفقه من يقرأ القرآن في أقل من ثلاث، لكنه محمول عند أهل العلم على من كان ديدنه ذلك، أما من قرأ القرآن في ليلة أو في يوم أو في يومين، يعني أقل من ثلاث، اغتنامًا للأوقات الفاضلة، أو للأماكن الفاضلة، فهذا عند جمع غفير من أهل العلم مطلوب، وفعله بعض الصحابة، وهو كثير في التابعين، وحملوا الحديث على من كان ديدنه ذلك؛ لأنه يؤدي -بلا شك- إما أن ينشغل عما هو أهم، ويتفرغ لقراءة القرآن في يوم، أو يؤديه ذلك إلى أن يقرأ القرآن على غير الوجه المأمور به شرعًا، ولذا جاء التعبير بقوله -عليه الصلاة والسلام-: «لا يفقه» يعني إذا كان ديدنه ذلك، والله المستعان.
يقول الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى-: فإن المراد بهذا الحديث: الاقتصاد في العمل، والأخذ منه بما يتمكن صاحبه من المداومة عليه، وأن أحب العمل إلى الله ما دام صاحبه عليه، وإن قل، وكذلك كان حال النبي -صلى الله عليه وسلم- كان عمله دِيْمَة، وكان إذا عمل عملاً أثبته، وقد كان ينهى عن قطع العمل وتركه، كما قال لعبد الله بن عمرو: «لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل» الحديث مخرَّج في الصحيح، صحيح مسلم.
قال ابن حجر: وقد أخذ بذلك جماعة من الأئمة، فقالوا: يكره صلاة جميع الليل، وعلى كل حال الإكثار من التعبد الذي يطيقه الإنسان ويغلب على ظنه الاستمرار عليه ليس ببدعة، بل له أصل، كما في الحديث الذي مَرَّ ذكره آنفًا «أعني على نفسك بكثرة السجود» والنبي -عليه الصلاة والسلام- قام حتى تفطَّرت قدماه، وقرأ في ركعة البقرة، ثم النساء، ثم آل عمران، يعني لا يستدل بهذا من يميل إلى الراحة، ويخلد إليها، ويقول: إن كثرة العبادة يتذرع بهذا يقول النبي -عليه الصلاة والسلام- نهى هذه المرأة، وحذر من صنيعها، وأمر بالكف عن مدحها؛ لأنها تكثر من العبادة؛ لأن هذا يوافق هوى في نفسه، لا، ليس الأمر كذلك، لكن إذا كان العمل في حدود الطاقة، ويغلب على الظن الاستمرار عليه، ولا يشغله عما هو أهم منه، فهو داخل في حيز المشروع.
«عليكم» من أسماء الأفعال، أي الزموا «بما تطيقون» أي اشتغلوا من الأعمال بما تستطيعون المداومة عليه، فمنطوقه يقتضي الأمر بالاقتصار على ما يطاق من العبادة، ومفهومه يقتضي النهي عن تكلف ما لا يطاق، منطوق الحديث: «عليكم من العمل ما تطيقون» يقتضي الأمر بالاقتصار على ما يطاق من العبادة، ومفهومه يقتضي النهي عن تكلف ما لا يطاق.
قال القاضي عياض: يحتمل أن يكون هذا خاص بصلاة الليل، ويحتمل أن يكون عامًا بالأعمال الشرعية.
يقول ابن حجر: قلت: سبب الورود خاص بالصلاة، ولكن اللفظ عام، وهو المعتبَر، وقد عبَّر بقوله: «عليكم» مع أن المخاطَب النساء طلبًا لتعميم الحكم، يعني ليس هذا الزجر خاص بالنساء، بل يتناول الرجال مع أن المخاطَب النساء طلبًا لتعميم الحكم، فغُلِّبَت الذكور على الإناث. العبرة كما يقول أهل العلم ويقررونه بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
«عليكم من العمل» المقصود به الجنس، جنس العمل، وهو من صيغ العموم، وإن كان السبب خاصًّا بالصلاة.
«فو الله» فيه جواز الحلف من غير استحلاف، وقد يستحب إذا كان في تفخيم أمر من أمور الدين، أو حث عليه، أو تنفير من محذور، قاله الحافظ.
سائل: أحسن الله إليك يا شيخ قوله -صلى الله عليه وسلم-: «عليكم بما تطيقون» الناس يختلفون في إطاقة الأعمال، خاصة الأعمال الصالحة، بعض الناس حتى يجعله ذلك يفرط في الفرائض، فلا يطيق بعض الفرائض، فما هو الضابط فيما يطيق الإنسان من الأعمال؟ هل الضابط الكثرة التي نص الشارع على النهي عنها -أحسن الله إليكم-؟
لا شك أن الطاقة وعدمها أمور نسبية، الإنسان بحسب همته وبحسب بنيته يطيق ما لا يطيقه غيره، مع أن الملاحَظ في العبادات كلها أن المعوَّل فيه على همة القلب، لا على صحة البدن، من حيث الطاقة، يعني الإنسان قد يرتاح وهو يصلي يقوم ركعة واحدة بساعة وهو مرتاح ومنشرح الصدر، وإن كان كبير السن، واهي الأركان، وبعض الناس تجده من أقوى الناس بنية وأشدهم، ومع ذلك لا يطيق القيام خمس دقائق، ولا شك أن هذه أمور مردها إلى المعرفة بالله -عز وجل- وبأسمائه، ولا شك أن من كان بالله أعرف كان منه أخوف، ولذا قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: «إن أخشاكم وأعلمكم بالله أنا» ولذا قام -عليه الصلاة والسلام- حتى تفطرت قدماه، والتفريط موجود عند كثير من الناس، مع أنهم يتمتعون بالصحة والفراغ، اللذين هما النعمتان التي يُغبَط عليهما الإنسان، ويُغبَن فيهما، فإن استغلهما كان غابنًا وإلا فهو مغبون.
على كل حال هذه الأمور تتبع همة القلب، ذكرنا في مناسبات كثيرة أن شخصًا جاز المائة ممن نعرفه ويصلي صلاة التهجد خلف شخص قراءته متوسطة لا أقول: في صحة القراءة، لا، لكن في الصوت ونداوته، لكن ليس مرجع هذا إلى جمال الصوت، لا، ويطيل إطالة يعني واضحة متميزة عن غيره، هذا القارئ، فلما سمع شخصًا ممن يصلي في المساجد المجاورة قد انتهى من صلاته خفف الصلاة، في صلاة التهجد في آخر الليل، فلما سلم لامه هذا الشيخ الكبير الذي جاز المائة، وقال له بلهجته: لما جاء وقت اللزوم خففت؟! يعني الثلث في آخر الليل، وقت النزول الإلهي.
أقول: مثل هذه الأمور لا شك أن هناك من يتلذذ بها، وهناك من يجاهد نفسه على الفرائض، والعمل مطلوب، الفرائض قدر مشترك مطلوب من الجميع، وأما النوافل فمستقل ومستكثر، ومعطًى ومحروم، وهناك من يتلذذ وهناك من يجاهد، ويختلف أهل العلم فيمن صلى صلاة وهو متلذذ بها، مشتاق إليها، ومن يصلي وهو يجاهد نفسه في أدائها، المسألة مفترضة في قيام الليل مثلاً هو الذي فيه المشقة والجهاد، أو في العبادات كلها يأتي إليها وهو غير منشرح الصدر، إنما يجاهد نفسه لإرضاء الله -عز وجل-، يختلفون في الأفضل منهما، لكن الأكثر على أن من يتلذذ بها أفضل ممن يجاهد، يعني إن كان للمجاهد أجران أجر العمل وأجر المشقة، فالذي يتلذذ بمنزلة الماهر في القرآن؛ لأنه لم يصل إلى هذه المرحلة حتى تجاوز مرحلة المجاهدة، ولذا يؤثَر عن السلف أنهم كابدوا وجاهدوا قيام الليل سنين، ثم بعد ذلكم تلذذوا به، والله المستعان.
«فو الله» فيه جواز الحلف من غير استحلاف، وقد يُستحَب إذا كان في تفخيم أمر من أمور الدين، أو حث عليه أو تنفير من محذور، قاله الحافظ.
وقد أمر الله -سبحانه وتعالى- نبيه أن يقسم على البعث في ثلاثة مواضع من كتابه، في يونس، وفي سبأ، وفي التغابن.
على كل حال الحلف على الأمور المهمة أمر مطلوب شرعًا، استعمله النبي -عليه الصلاة والسلام- كثيرًا، فكثيرًا ما يقول: «والذي نفسي بيده» ومن غير استحلاف، وهو الصادق المصدوق، من غير أن يحلف، فدل على أن الأمور المهمة يستحب أن يقسم عليها ولا يعارض هذا قوله -جل وعلا-: {وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} [سورة البقرة 224] لأن هذا من غير حاجة.
«لا يمل الله حتى تملوا» قال ابن رجب: وفي رواية: «لا يسأم حتى تسأموا» الملل والسآمة للعمل يوجب قطعه وتركه، فإذا سَئِمَ العبد من العمل وملَّه قطعه وتركه، فقطع الله عنه ثواب ذلك العمل؛ فإن العبد إنما يجازى بعمله، فمن ترك عمله انقطع عنه ثوابه وأجره إذا كان قطعه لغير عذر من مرض أو سفر أو هرم.
كما قال الحسن: إن دُوْر الجنة تبنيها الملائكة بالذكر، فإذا فتر العبد انقطع الملك عن البناء، فتقول له الملائكة: ما شأنك يا فلان؟ تخاطب الملَك الذي يباشر هذا العمل، هذا البناء، ما شأنك يا فلان؟ فيقول: إن صاحبي فتر، ينتظر المدد، إن صاحبي فتر، قال الحسن: أمدوهم رحمكم الله بالنفقة، النفقة الذكر، وهو لا يكلف شيئًا، والله المستعان.
وأيضا فإن دوام العمل واتصاله ربما حصل للعبد به في عمله الماضي ما لا يحصل له فيه عند قطعه؛ فإن الله يحب مواصلة العمل ومداومته، ويجزي على دوامه ما لا يجزي على المنقطع منه.
يقول: وقد صح هذا المعنى في الدعاء، وأن العبد يستجاب له ما لم يَعْجَل، فيقول: قد دعوت فلم يستجب لي، فيدع الدعاء، فدل هذا على أن العبد إذا أدام الدعاء وألح فيه أجيب، وإن قطعه واستحسر مُنِعَ إجابته، وسمي هذا المنع من الله مللاً وسآمة، مقابلة للعبد على ملله وسآمته، كما قال تعالى: {نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ} [سورة التوبة 67] فسمى إهمالهم وتركهم نسيانًا مقابلة لنسيانهم له.
يقول ابن رجب: هذا أظهر ما قيل في ذلك، يعني أن هذا الأسلوب من أساليب المقابلة والمشاكلة والمجانسة في التعبير، ويشهد له: أنه قد روي من حديث عائشة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «اكلفوا من العمل ما تطيقون؛ فإن الله لا يمل من الثواب حتى تملوا من العمل» خرَّجه بقي بن مخلد؛ وفي إسناده: موسى بن عبيدة، معروف الرَّبَذَي، ضعيف عند أهل العلم.
وقال ابن حجر: الملل استثقال الشيء ونفور النفس عنه بعد محبته، وهو محال على الله تعالى باتفاق، قال الإسماعيلي وجماعة من المحققين: إنما أطلق هذا على جهة المقابلة اللفظية مجازًا، كما قال: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [سورة الشورى 40] ونظائره.
المقابلة والمشاكلة والمجانسة شيء، والمجاز شيء آخر؛ لأن المقابلة والمشاكلة من علم مستقل عن علم ما يدخل فيه المجاز، المجاز في أي العلوم؟ من المعاني أو من البيان؟ من البيان، والمقابلة والمشاكلة من البديع، يعني علم آخر.
يقول القرطبي: وجه مجازه أنه تعالى لما كان يقطع ثوابه عمن يقطع العمل ملالاً عبَّر عن ذلك بالملال من باب تسمية الشيء باسم سببه، وقال الهروي: معناه لا يقطع عنكم فضله حتى تملوا سؤاله، فتزهدوا في الرغبة إليه، وقال غيره: معناه لا يتناهى حقه عليكم في الطاعة حتى يتناهى جهدكم، قال ابن حجر: وهذا كله بناء على أن (حتى) على بابها في انتهاء الغاية، وما يترتب عليها من المفهوم.
قد يقول قائل: إن الملل هنا إنما أضيف إلى الله «لا يمل» بالسلب، بالنفي، فلا يلزم منه ما ذُكر، يعني لا يلزم منه إثبات الملل لله -عز وجل-؛ لأنه منفي هنا عن الله -عز وجل-، لكنه...
المقدم: يورد عليه: «حتى تملوا».
نعم، لكنه مرتب على أمر محقق الوقوع وهو ملل ابن آدم، فيقتضي إثباته لله -عز وجل-، وكما أشار ابن حجر وغيره أن هذا محال بالنسبة لله تعالى على ما سيأتي تقريره -إن شاء الله تعالى- وإيضاحه.
هم فهموا من الملل ما ذكروه أنه ماذا؟ استثقال الشيء ونفور النفس عنه بعد محبته، هذا إذا تصورناه لا شك أن هذا ملل المخلوق، لكن إذا قلنا: إنه ملل يليق بالله -عز وجل-، يعني كسائر صفاته، وأنه لا ارتباط بين ما يضاف إلى الخالق، مع ما يضاف إلى المخلوق، هل هناك فيه ما يمنع من إثباته لله -عز وجل-؟
المقدم: إذا ثبتت فيه الأحاديث ما فيه ما يمنع.
يعني مثل مسألة الهرولة مثلاً وغيرها من الصفات التي جاءت بها النصوص، كثير من الصفات التي إذا نظرنا إليها بالنسبة إلى المخلوق لا شك أنها صفات نقص، لكن إذا نزهنا الخالق عن هذا النقص، وقلنا: على ما يليق بجلاله وعظمته، لا يلزم أن نقول هذا الكلام كله، مع أن مثل هذه الصفة التي يجد فيها الخلاف بين أهل السنة أنفسهم، الخلاف فيها سائغ، أقول: الخلاف إذا وجد بين السلف في صفة من الصفات ساغ للخلف مثل ذلك الخلاف، لكن إذا اتفق السلف على إثبات الصفة فليس لأحد أن يوجِد قول جديد؛ لأننا مطالبون بفهم السلف، واتباع السلف في هذه الأبواب.
على كل حال في كلام طويل يأتي بيانه -إن شاء الله تعالى-.
يقول ابن رجب: وقد قيل: إن (حتى) هاهنا بمعنى واو العطف؛ ولكن لا يصح دعوى كون (حتى) عاطفة؛ لأنها إنما تعطف المفردات لا الجمل، هذا هو المعروف عند النحويين، وخالف فيه بعضهم، وقيل: إن (حتى) فيه بمعنى (حين) وهذا غير معروف.
المقدم: أحسن الله إليكم.
لعلنا نرجئ الحديث عما ستتفضلون به وبيانه حول الملل وصفة الملل -إن شاء الله تعالى- في حلقة قادمة لانتهاء هذه الحلقة.
مستمعي الكرام، سوف نستكمل -بإذن الله تعالى- ما تبقى في حلقة قادمة. حتى ذلكم الحين نستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.