التعليق على تفسير القرطبي - سورة الكهف (01)

سورة الكهف

بسم الله الرحمن الرحيم.

"وهي مكيةٌ في قول جميع المفسرين. وروي عن فرقةٍ أن أول السورة نزل بالمدينة إلى قوله جرزًا، والأول أصح. وروي في فضلها من حديث أنسٍ أنه قال: من قرأ بها أعطي نورًا بين السماء والأرض، ووقي بها فتنةٌ القبر.

وقال إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «ألا أدلكم على سورةٍ شيعها سبعون ألف ملك ملأ عظمها ما بين السماء والأرض لتاليها مثل ذلك. قالوا: بلى يا رسول الله؟ قال: سورة أصحاب الكهف، من قرأها يوم الجمعة غفر له إلى الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام، وأعطي نورًا يبلغ السماء، ووقي فتنة الدجال»، ذكره الثعلبي، والمهدوي أيضًا بمعناه.

 وفي مسند الدارمي عن أبي سعيدٍ الخدري قال: من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة أضاء له من النور فيما بينه وبين البيت العتيق. وفي صحيح مسلم عن أبي الدرداء أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «من حفظ عشر آياتٍ من أول سورة الكهف عصم من الدجال». وفي روايةٍ: من آخر الكهف.

وفي مسلمٍ أيضا من حديث النواس بن سمعان: فمن أدركه -يعني الدجال- فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف. وذكره الثعلبي. قال: سمرة بن جندب قال النبي -صلى الله عليه وسلم-:«من قرأ عشر آياتٍ من سورة الكهف حفظًا لم تضره فتنة الدجال، ومن قرأ السورة كلها دخل الجنة»".

أما ما ورد في العشر الآيات الأولى والأخيرة فهو ثابت في الصحيح، صحيح مسلم.

وأما قراءتها في يوم الجمعة فأقل أحواله يحث على ذلك، أقل أحواله الحسن في يوم الجمعة، أما ليلتها فضعيف، ما جاء في ليلة الجمعة ضعيف، ثم في الجمعة أقل أحواله الحسن، إن شاء الله تعالى.

 نعم.

"قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا* قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا*مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا}[الكهف:1-2-3].

 ذكر ابن إسحاق أن قريشًا بعثوا النضر بن الحارث وعقبة بن أبي مُعيط إلى أحبار اليهود وقالوا لهما: سلاهم عن محمدٍ، وصفا لهم صفته، وأخبراهم بقوله; فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم علمٌ ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى قدما المدينة، فسألا أحبار يهود عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ووصفا لهم أمره، وأخبراهم ببعض قوله، وقالا لهم: إنكم أهل التوراة، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا، فقالت لهما أحبار يهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبيٍ مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقوّل، فرُوا فيه رأيكم; سلوه عن فتيةٍ ذهبوا في الدهر الأول، ما كان أمرهم; فإنه قد كان لهم حديثٌ عجب. وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه، وسلوه عن الروح، ما هي، فإذا أخبركم بذلك فاتبعوه فإنه نبي، وإن لم يفعل فهو رجلٌ متقوّل، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم. فأقبل النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط حتى قدما مكة على قريش فقالا: يا معشر قريش، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أشياء أمرونا بها، فإن أخبركم عنها فهو نبي، وإن لم يفعل فالرجل متقول، فروا فيه رأيكم.

فجاءوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا محمد، أخبرنا عن فتيةٍ ذهبوا في الدهر الأول، قد كانت لهم قصة عجب، وعن رجلٍ كان طوافًا قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، وأخبرنا عن الروح ما هي؟ قال: فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أخبركم بما سألتم عنه غدًا» ولم يستثنِ. فانصرفوا عنه، فمكث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما يزعمون خمس عشرة ليلة، لا يحدث الله إليه في ذلك وحيًا، ولا يأتيه جبريل، حتى أرجف أهل مكة وقالوا: وعدنا محمدٌ غدًا، واليوم خمس عشرة ليلة، وقد أصبحنا منها لا يخبرنا بشيءٍ مما سألناه عنه، وحتى أحزن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكث الوحي عنه، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة، ثم جاءه جبريل -عليه السلام- من عند الله -عز وجل- بسورة أصحاب الكهف فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية، والرجل الطوّاف، والروح.

قال ابن إسحاق: فذُكر لي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لجبريل: لقد احتبست عني يا جبريل حتى سؤت ظنًا فقال له جبريل: {وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيًّا}".

لعل السبب عدم الاستثناء، لعل السبب في ذلك عدم الاستثناء؛ لأنه قال: سأتيكم به غدًا، ولذا جاء قوله - جل وعلا -: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا*إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23-24]، والاستثناء ينفع، وكم من شخص لم يحصل له مراده وإنجاز ما وعد؛ لعدم ذكر الاستثناء، قد حصل هذا لسليمان كما في الحديث الصحيح - عليه السلام -، وحصل لكثير من أهل العلم وغيرهم، يعدون ولا يفون؛ لأنهم لم يستثنوا.

" فافتتح السورة - تبارك وتعالى - بحمده، وذكر نبوة رسوله- صلى الله عليه وسلم- لما أنكروا عليه من ذلك فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ}[الكهف:1]، يعني محمدًا، إنك رسول مني، أي تحقيقٌ لما سألوا عنه من نبوتك، {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا* قَيِّمًا} [الكهف:1-2]، أي معتدلاً، لا اختلاف فيه.

{لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ} [الكهف:1-2]، أي عاجل عقوبته في الدنيا، وعذابًا أليمًا في الآخرة، أي من عند ربك الذي بعثك رسولاً.

 {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا* مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} [الكهف:3]، أي دار الخلد لا يموتون فيها، الذين صدقوك بما جئت به مما كذبك به غيرهم، وعملوا بما أمرتهم به من الأعمال. {وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا}[الكهف:4] يعني قريشًا في قولهم: إنا نعبد الملائكة وهي بنات الله. {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ}[الكهف:5] الذين أعظموا فراقهم وعِيب دينهم".

وعَيب.

 "كبرت كلمةً تخرج من أفواههم، أي: لقولهم إن الملائكة بنات الله. {إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا*فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف: 5-6]".

من أعظم الكذب على الله - جل وعلا - وصفه بأن له صاحبة أو ولدًا، من أعظم الكذب، {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ} [الشورى:5]، {كبرت كلمةً تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبًا}، كبرت كلمةً: إعراب كلمةً.

نعم، وتقدير الكلام، ما الذي كبرت؟

طالب: ......

أو كبرت كلمتهم، كلمةً.

طالب: ......

نعم.

طالب: ......

هو تمييز أم ماذا تقول؟

طالب: ......

نعم.

طالب: ......

تمييز نعم.

 

لحزنه عليهم حين فاته ما كان يرجوه منهم، أي لا تفعل. قال ابن هشام: باخعٌ نفسك مهلك نفسك، فيما حدثني أبو عبيدة. قال ذو الرمة:

قاتل نفسك، قاتل نفسك أسفًا عليهم، وهذا من شدة حرصه-عليه الصلاة والسلام- زعلى إسلام قومه، لعلك باخعٌ نفسك يعني قاتل نفسك إن لم يؤمنوا أسفًا عليهم.

طالب:......

مماذا؟

طالب:......

هذه من بلاغات الزهري ذكرها البخاري، لكن هي من بلاغات الزهري ما تثبت، ليس بإسناد متصل.

طالب: ......

ضعيفة نعم.

طالب:......

هذا أمر توقيفي عن النبي-صلى الله عليه وسلم- قد يكون فيها سر لم نطلع عليه، قد يكون فيها سر لم نطلع عليه، هذا ثابت، وهو في الصحيح.

طالب:......

وفي الأخير؟

طالب:......

والتي قبلها؟

طالب:......

نعم؟

طالب:......

طالب: ......

إن نظرت إليها من حيث الارتباط حتى في الأخير مرتبطة، لكن يبقى النص عشرًا يعني عشرًا، كما جاء في العشر آيات من آخر سورة العمران.

طالب: ......

 نعم، وهي في الحقيقة كم؟

طالب: ......

{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران:190] إلى آخره كم آية هذه؟  

طالب: إحدى عشرة.

كم؟

طالب: إحدى عشرة.

نعم.

"قال ذو الرمة:

ألا أي هذا الباخع الوجد نفسه         بشيءٍ نحته عن يديه المقادر.

وجمعها باخعون وبخعة. وهذا البيت في قصيدةٍ له. وتقول العرب: قد بخعت له نصحي ونفسي، أي جهدت له.

{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}[الكهف:7]، قال ابن إسحاق: أي أيهم أتبع لأمري وأعمل بطاعتي. {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا}[الكهف:8]، أي الأرض، وإن ما عليها لفانٍ وزائل، وإن المرجع إلي فأجزي كلًّا بعمله; فلا تأس ولا يحزنك ما ترى وتسمع فيها. قال ابن هشام: الصعيد وجه الأرض، وجمعه صعد. قال ذو الرمة يصف ظبيًا صغيرًا:

كأنه بالضحى ترمي الصعيد به

دبابة في عظام الرأس خرطوم

وهذا البيت في قصيدةٍ له. والصعيد أيضًا: الطريق، وقد جاء في الحديث: «إياكم والقعود على الصعدات»، يريد الطرق. والجرز: الأرض التي لا تنبت شيئًا، وجمعها أجراز. ويقال: سنةُ جرز، وسنون أجراز; وهي التي لا يكون فيها مطر. وتكون فيها جدوبةٌ ويبسٌ وشدة. قال ذو الرمة يصف إبلًا:

طوى النحر"

النحر.

"طوى النحز والأجراز ما في بطونها

 

فما بقيت إلا الضلوع الجراشع

قال ابن إسحاق: ثم استقبل قصة الخبر فيما سألوه عنه من شأن الفتية فقال: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا}[الكهف:9]، أي قد كان من آياتي فيما وضعت على العباد من حجتي ما هو أعجب من ذلك. قال ابن هشام: والرقيم الكتاب الذي رُقِم بخبرهم، وجمعه رُقُم. قال العجاج:

ومستقر المصحف المرقم

وهذا البيت في أرجوزةٍ له. قال ابن إسحاق: ثم قال: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا* فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا* ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا}[الكهف:10-12]. ثم قال: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} [الكهف:13]، أي بصدق الخبر {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى*وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا}[الكهف:12-14]، أي لم يشركوا بي كما أشركتم بي ما ليس لكم به علم. قال ابن هشام: والشطط الغلو ومجاوزة الحق. قال أعشى بن قيس بن ثعلبة:                    

أتنتهون ولا ينهى ذوي شطط

 

كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل

وهذا البيت في قصيدةٍ له. قال ابن إسحاق: {هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ}[الكهف:15]. قال ابن إسحاق: أي بحجة بالغة. {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا*وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا*وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ}[الكهف:15-17]. قال ابن هشام: تزاور تميل، وهو من الزور. وقال أبو الزحف الكليبي يصف بلدًا:

جدب المندى عن هوانا أزور
 

 

ينضي المطايا خمسه العشنزر

وهذان البيتان في أرجوزة له. تقرضهم ذات الشمال تجاوزهم وتتركهم عن شمالها. قال ذو الرمة:

إلى ظعن يقرضن أقواز مشرف   

 

شمالًا وعن أيمانهن الفوارس

وهذا البيت في قصيدةٍ له. والفجوة: السعة، وجمعها الفجاء. قال الشاعر:

ألبست قومك مخزاةً ومنقصةً   

 

حتى أبيحوا وحلوا فجوة الدار
 

ذلك من آيات الله أي في الحجة على من عرف ذلك من أمورهم من أهل الكتاب ممن أمر هؤلاء".

فجوة الدار يعني داخلها وعمقها، مثل فجوة الجبل، كون الشمس تقرضهم ذات اليمين وذات الشمس معناه أنها  تمر بهم فتجعلهم تارةً عن يمينها، وتارةً عن شمالها، فلا تباشرهم بحيث تؤثر فيهم الحرارة الزائدة، ولا تبعد تكون بعيدةً عنهم؛ ليستفيدوا من أشعتها-والله المستعان-.

"{ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ}[الكهف:17]. أي في الحجة على من عرف ذلك من أمورهم من أهل الكتاب ممن أمر هؤلاء بمساءلتك عنهم في صدق نبوتك بتحقيق الخبر عنهم. {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا*وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ}[الكهف:17-18]، قال ابن هشام: الوصيد: الباب. قال العبسي واسمه عبد بن وهب:

بأرض فلاة لا يسد وصيدها    

 

علي ومعروفي بها غير منكر

وهذا البيت في أبياتٍ له. والوصيد أيضًا الفناء، وجمعه وصائدٌ ووصد ووصدان.

الوصيد، الوصيد الباب؛ لأنه يوصد، فهو موصود فعيل بمعنى مفعول.

طالب: إنها عليهم مؤصدا.

إنها عليهم مؤصدًا، نعم.

"{لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ} إلى قوله: {الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ}[الكهف:18-21] أهل السلطان والملك منهم {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا}[الكهف:21]، {سَيَقُولُونَ}[الكهف:22] يعني أحبار اليهود الذين أمروهم بالمسألة عنهم {ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ}[الكهف:22]".

 نعم، عدتهم سبعة، سبعة وثامنهم كلبهم؛ لأنه ذكر الأقوال الأولى، وزيَّفها رجمًا بالغيب، ثم أقر القول الأخير الذي هو القول الصحيح.

"{فَلا تُمَارِ فِيهِمْ}[الكهف:22]، أي لا تكابرهم. {إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا}[الكهف:22]، فإنهم لا علم لهم بهم.

{وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا*إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا}[الكهف:24]، أي: لا تقولن لشيءٍ سألوك عنه كما قلت في هذا: إني مخبركم غدا، واستثنِ مشيئة الله، واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهديني ربي لخبر ما سألتموني عنه رشدًا، فإنك لا تدري ما أنا صانعٌ في ذلك.

{وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ}[الكهف:25]".

ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة.

طالب:......

نعم، لا خطأ، خطأ.

"{وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ}[الكهف:25]".

شيخ الإسلام-رحمه تعالى- يقول في هذه الآية: {يَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ}، تبعه الحافظ ابن كثير-رحمه الله- يقول: هذا من أدب ذكر الخلاف وسوق الأقوال، تذكر الأقوال كاملة، تُستوعب الأقوال وتُزيَّف الأقوال المرجوحة، ويقرّر القول الراجح بدليله.

 لا يُترك من الأقوال شيء؛ لئلا يُظن أنه الراجح، يأتي به المستدرك فيقول: لعله خفي على من ساق الخلاف، فتذكر هذه الأقوال كاملة ويُنظر فيها وفي أدلتها ويُوازن بينها، فالمرجوح يُنقض بالدليل، والراجح يُؤيَّد بالدليل.

"{وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا}[الكهف:25]، أي سيقولون ذلك. {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا}[الكهف:26]، أي لم يخف عليه شيءٌ مما سألوك عنه.

قلت: هذا ما وقع في السيرة من خبر أصحاب الكهف ذكرناه على نسقه".

ذكره على سبيل الإجمال والاختصار، وسيفصل ما جاء في هذه الآيات لاحقًا، إن شاء الله تعالى.

 "ويأتي خبر ذي القرنين، ثم نعود إلى أول السورة فنقول: قد تقدم معنى الحمد لله. وزعم الأخفش، والكسائي، والفراء، وأبو عبيد، وجمهور المتأولين أن في أول هذه السورة تقديمًا وتأخيرًا، وأن المعنى: الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب قيمًا ولم يجعل له عوجًا. وقيمًا نصب على الحال. وقال قتادة: الكلام على سياقه من غير تقديمٍ ولا تأخير، ومعناه: ولم يجعل له عوجًا، ولكن جعلناه قيمًا. وقول الضحاك فيه حُسن، وأن المعنى: مستقيمٌ، أي مستقيم الحكمة لا خطأ فيه ولا فساد ولا تناقض".

يعني هذا الكتاب القيِّم، الذي تضمَّن ذلك الدين القيم، وهو أيضًا دين القيم، دين القيم، كتابٌ قّيم تضمن دينًا قيمًا هو دين القيم، وكلها جاءت، نعم هنا قال أيش؟ الذي أنزل على عبده الكتاب، قيمًا، وقال: ذلك الدين القيم يعني المستقيم، وقال أيضًا: {دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ}[الأنعام:161]، نعم.

"وقيل: قيما على الكتب السابقة يصدقها. وقيل: قيمًا بالحجج أبدًا.

عوجًا: مفعولٌ به، والعوج (بكسر العين) في الدين والرأي والأمر والطريق. وبفتحها في الأجسام كالخشب والجدار، وقد تقدم".

يعني في المعاني بكسر العين، وفي الأجسام بفتحها، نعم هذا العصا فيه عَوج، وهذا الرأي فيه عِوج، نعم. والمرأة خلقت من عِوج.

 "وليس في القرآن عوج، أي عيبٌ، أي ليس متناقضٌا مختلقا، كما قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا}[النساء:82]، وقيل: أي لم يجعله مخلوقًا، كما روي عن ابن عباسٍ في قوله تعالى: {قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ}[الزمر:28] قال: غير مخلوق. وقال مقاتل: عوجًا: اختلافًا. قال الشاعر:

أدوم بودي للصديق تكرمًا

 

ولا خير فيمن كان في الود أعوجا

{لينذر بأسًا شديدًا} أي لينذر محمد أو القرآن. وفيه إضمار، أي لينذر الكافرين عقاب الله. وهذا العذاب الشديد قد يكون في الدنيا وقد يكون في الآخرة.

{من لدنه} أي من عنده، وقرأ أبو بكرٍ عن عاصم من لدنه "بإسكان الدال وإشمامها الضم وكسر النون، والهاء موصولةٌ بياء. والباقون: لدنه بضم الدال وإسكان النون وضم الهاء".

من لدنه، نعم بإسكان الدال وإشمامها الضم يعني بين السكون والضمة، والنون مكسورة. أين أهل التجويد يقرؤونها؟

طالب: ......

 نعم. أن تكون ضمة خفيفة غير محققة، والنون مكسورة، والدال في الأصل ساكنة، أصلها ساكن تشرب الضم، يُمال بها إلى الضم والنون مسكورة.

"وقرأ أبو بكرٍ عن عاصم: من لدنه "بإسكان الدال وإشمامها الضم وكسر النون، والهاء موصولةٌ بياء. والباقون لدنه بضم الدال وإسكان النون وضم الهاء.

قال الجوهري: وفي "لدن" ثلاث لغات: لدن، ولدى، ولد. وقال:

من لد لحييه إلى منخوره"

المنخور أو المنحور؟

بالحاء، بالحاء المهملة.

" من لد لحييه إلى منخوره"

المنحور لغة في المنحر.

قوله تعالى: {وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ}[الإسراء:9] أي بأن لهم أجرًا حسنا وهي الجنة، ماكثين دائمين فيه أبدًا لا إلى غاية. وإن حملت التبشير على البيان لم يحتج إلى الباء في (بأن). والأجر الحسن: الثواب العظيم الذي يؤدي إلى الجنة.

قوله تعالى: {وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا}[الكهف:4]، وهم اليهود، قالوا: عزيرٌ ابن الله، والنصارى قالوا: المسيح ابن الله، وقريشٌ قالت: الملائكة بنات الله. فالإنذار في أول السورة عام، وهذا خاصٌّ فيمن قال لله ولد.

{ما لهم به من علم} "من" صلة، أي ما لهم بذلك القول علم; لأنهم مقلدةٌ قالوه بغير دليل".

والمقلدة ليسوا من أهل العلم، الذي لا يعرف القول بدليله، لا يعرف الحق بدليله ليس من أهل العلم، بل نقل ابن عبد البر الإجماع أن المقلدة ليسوا من أهل العلم.

"{ وَلا لِآبَائِهِمْ}[الكهف:5]، أي أسلافهم.

{كَبُرَتْ كَلِمَةً} الكهف:5]، كلمة نصبٌ على البيان، أي كبرت تلك الكلمة كلمة. وقرأ الحسن ومجاهد، ويحيى بن يعمر، وابن أبي إسحاق: كلمةٌ، بالرفع".

البيان، والتفسير، والتمييز معناها واحد، ابن جرير يقول: تفسير، وهذا تعبير المتقدمين عن التمييز، يسونه تفسيرًا، وهنا يقع البيان.

"كلمةٌ بالرفع أي عظمت كلمة، يعني قولهم: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا}[الكهف:4]. وعلى هذه القراءة فلا حاجة إلى إضمار. يقال: كبر الشيء إذا عظم. وكبر الرجل إذا أسن.

{تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ}[الكهف:5]، في موضع الصفة.

{إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا}[الكهف:5]، أي ما يقولون إلا كذبًا.

قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ}[الكهف:6]، باخع أي مهلكٌ وقاتل، وقد تقدم. {آثَارِهِمْ}[الكهف:6]، جمع أثر، ويقال: إثر. والمعنى: على إثر توليهم وإعراضهم عنك.

{إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ}[الكهف:6]، أي القرآن.

{أَسَفًا}[الكهف:6]، أي حزنًا وغضبًا على كفرهم، وانتصب على التفسير".

التفسير تمييز، نعم.

طالب العلم بحاجة إلى معرفة هذه الاصطلاحات عند المتقدمين؛ لكي يفهمها، فإذا لم يكن لديه معرفة بها، وجرى على اصطلحات المتأخرين فقد لا يستفيد من كلام المتقدمين، الشيخ محمود شاكر في تعليقه على الطبري بيَّن ذلك كله، وقارن مصطلحات المتقدمين مع مصطلحات المتأخرين، وهذا عملٌ جليل يحتاجه طلاب العلم، فطالب العلم إذا قرأ في كتب المتقدمين، مثل الخصائص لابن جني، أو الكتاب لسيبويه وغيرهم من المتقدمة يحتاج إلى معرفة هذه الاصطلاحات، وبيانها بمصطلحات المتأخرين.

قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا}[الكهف:7]، فيه مسألتان:

الأولى: قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا}[الكهف:7]، ما، وزينة مفعولان. والزينة كل ما على وجه الأرض، فهو عمومٌ؛ لأنه دال على بارئه. وقال ابن جبير عن ابن عباس: أراد بالزينة الرجال، قال مجاهد: وروى عكرمة عن ابن عباس أن الزينة الخلفاء والأمراء".

لأنهم أهل التزين، وهم أهل الجدة، الذين يتزينون بما شاءوا من أنواع الزينة في الغالب، وفي حكمهم أهل المقدرة.

"وروى ابن أبي نجيح عن مجاهدٍ عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا}[الكهف:7]، قال العلماء: زينة الأرض".

نعم، هذه الزينة المعنوية الحقيقة، وأما الأولى فهي زينةٌ ظاهرية، نعم زينةٌ بحسب الظاهر وما يلوح للناس، لكن الزينة الباطنة الحقيقية هي زينة أهل العلم.

 "وقالت فرقة: أراد النعم والملابس والثمار والخضرة والمياه، ونحو هذا مما فيه زينة، ولم يدخل فيه الجبال الصم وكل ما لا زينة فيه كالحيات والعقارب. والقول بالعموم أولى، وأن كل ما على الأرض فيه زينةٌ من جهة خلقه وصنعه وإحكامه".

يعني حتى الحيات والعقارب، الحيات فيها أنواع، يعني فيها شيءٌ من النقوش والجمال، شيء لا يستطيع البشر أن يصنع مثله ولو من الجمادات في جماله ودقة نقشه، ففيها شيءٌ من الزينة في كل ما يخلقه الله -جل وعلا- فيه زينة، وكل ما على وجه الأرض زينةٌ لها.

"والآية بسطٌ في التسلية، أي لا تهتم يا محمد للدنيا وأهلها، فإنا إنما جعلنا ذلك امتحانًا واختبارًا لأهلها; فمنهم من يتدبر ويؤمن، ومنهم من يكفر، ثم يوم القيامة بين أيديهم، فلا يعظمن عليك كفرهم فإنا نجازيهم.

الثانية: معنى هذه الآية ينظر إلى قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن الدنيا خضرةٌ حلوة والله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون». وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا، قال: وما زهرة الدنيا؟ قال: بركات الأرض»، خرجهما مسلم وغيره من حديث أبي سعيد الخدري".

نعم، هذا المخوف على الأمة أن تبسط لهم النيا، وتخرج لهم الأرض من بركاتها فيتنافسوا فيها، ولذا ما خشي الرسول-صلى الله عليه وسلم- على أمته من الفقر، والله ما الفقر أخشى عليكم، إنما خشي على أمته أن تُفتح عليهم الدنيا فيتنافسونها كما تنافسها من قبلهم، وتهلكهم، خشي من هذا.

 :والمعنى: أن الدنيا مستطابةٌ في ذوقها، معجبةٌ في منظرها كالثمر المستحلى المعجب المرأى; فابتلى الله بها عباده لينظر أيهم أحسن عملاً. أي من أزهد فيها وأترك لها، ولا سبيل للعباد إلى معصية ما زينه الله إلا أن يعينه على ذلك. ولهذا كان عمر يقول فيما ذكر البخاري: اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينته لنا، اللهم إني أسألك أن أنفقه في حقه. فدعا الله أن يعينه على إنفاقه في حقه".

نعم، أما كون الإنسان يعتقد أن هذه الزينة غير زينة، وليست بزينة، وإنكار أمور الدنيا والزينة كلها في الآخرة، لكنها زينة نسبية، والمحذور منه أن ينهمك وراء هذه الزينة، ويترك ما خلق من أجله، ينساق وراء هذه الزينة، ويترك الهدف الذي من أجله خلق، ولذا قال عمر، كما نقله البخاري في الصحيح: اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينته لنا. لا شك أن الزينة يُفرح بها، لكن يبقى أنها يُفرح بها بما تؤديه وما تعينه عليه من أمور الآخرة؛ لاستعمالها تكون زينة حقيقية وتكون عبادة أيضًا، طلبها عبادة إذا كان طلبها من أجل الاستعانة بها على تحقيق الهدف الذي من أجله خلق الإنسان وهو العبادة، أما لذاتها فليست بشيء.

 "وهذا معنى قوله -عليه السلام-: فمن أخذه بطيب نفسٍ بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس كان كالذي يأكل ولا يشبع. وهكذا هو المكثر من الدنيا لا يقنع بما يحصل له منها، بل همته جمعها; وذلك لعدم الفهم عن الله -تعالى- ورسوله; فإن الفتنة معها حاصلة، وعدم السلامة غالبة".

الدنيا لا تدم لذاتها، وإنما تذم بسبب ما تؤول إليه، والغالب أن من تُبسط له الدنيا أنه لا يسلم، الغالب أنه لا يسلم، لكن إذا سلم وأخرج الحقوق المتعلقة بهذه الأموال، وصرفها، يعني كسبها من وجهها، وصرفها بوجوهها الشرعية فهو أفضل ممن لم تُبسط له الدنيا، لكن مدح الفقر لا لذاته وإنما لأن الغالب أن السلامة فيه، الغالب أن السلامة معه. وأما الغنى فلا يذم لذاته، إنما يُذم لما يؤول إليه الحال بالنسبة لكثير ممن بُسطت له الدنيا، فهذه المسألة أغلبية.

 

 "وقد أفلح من أسلم ورزق كفافًا وقنعه الله بما أتاه.

وقال ابن عطية: كان أبي -رضي الله عنه- يقول في قوله أحسن عملاً: أحسن العمل أخذٌ بحقٍ وإنفاقٌ في حق مع الإيمان وأداء الفرائض واجتناب المحارم والإكثار من المندوب.

قلت: هذا قول حسن، وجيز في ألفاظه بليغ في معناه، وقد جمعه النبي -صلى الله عليه وسلم- في لفظٍ واحد وهو قوله لسفيان بن عبد الله الثقفي لما قال: «يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا بعدك -في روايةٍ: غيرك. قال: قل آمنت بالله ثم استقم»، خرجه مسلم. وقال سفيان الثوري: أحسن عملاً أزهدهم فيها. وكذلك قال أبو عصام العسقلاني: أحسن عملاً أترك لها. وقد اختلفت عبارات العلماء في الزهد; فقال قومٌ: قصر الأمل وليس بأكل الخشن ولبس العباء; قاله سفيان الثوري. قال علماؤنا: وصدق -رضي الله عنه- فإن من قصر أمله لم يتأنق في المطعومات، ولم يتفنن في الملبوسات، وأخذ من الدنيا ما تيسر، واجتزأ منها بما يبلّغ. وقال قوم: بغض المحمدة وحب الثناء. وهو قول الأوزاعي ومن ذهب إليه".

بغضِ المحمدة وحبِ الثناء.

طالب: ......

نعم.

ابن القيم-رحمه الله تعالى- في كتاب الفوائد يقول: إذا حدثتك نفسك بالإخلاص فاعمل إلى حب المدح والثناء، فاذبحه بسكين علمك أنه لا أحد ينفع مدحه ولا يضر ذمه إلا الله-جل وعلا-، لكن من يستطيع مثل هذا الكلام؟ من يستطيع؟ والله المستعان.

"وقال قومٌ: ترك الدنيا كلها هو الزهد; أحب تركها أم كره. وهو قول فضيل. وعن بشر بن الحارث قال: حب الدنيا حب لقاء الناس، والزهد في الدنيا الزهد في لقاء الناس. وعن الفضيل أيضًا: علامة الزهد في الدنيا الزهد في الناس".

هناك فرق بين الزهد والورع، الزهد فيما في يده، والورع في الكسب قبل حصوله في اليد يأتي الورع، فإذا حصل في اليد جاء الزهد، والزهد لا يكون إلا عن جِدة، لا يكون الزهد مع العدم، ولذا لما قيل لسفيان زاهد، قال: لا، الزاهد عمر بن عبد العزيز، الزاهد عمر بن عبد العزيز ليس أنا، الذي ما عنده شيء كيف يزهد؟ لكن يتورع عن اكتساب المال من غير حله ومن الشبهات -والله المستعان-.

طالب:......

نعم.

طالب:......

هذا قول، لكن على ما حرره ابن القيم هو ما ذكرت، الزهد ما في اليد، والورع لما لم يحصل بعد.

"وقال قوم: لا يكون الزاهد زاهدًا حتى يكون ترك الدنيا أحب إليه من أخذها، قاله إبراهيم بن أدهم. وقال قوم: الزهد أن تزهد في الدنيا بقلبك، قاله ابن المبارك. وقالت فرقة: الزهد حب الموت. والقول الأول يعم هذه الأقوال بالمعنى فهو أولى.

قوله تعالى: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا}[الكهف:8] تقدم بيانه. وقال أبو سهل: ترابًا لا نبات به، كأنه قطع نباته. والجرز: القطع، ومنه سنةٌ جرز. قال الراجز:

قد جرفتهن السنون الأجراز.

والأرض الجرز التي لا نبات فيها ولا شيء من عمارةٍ وغيرها، كأنه قطع وأزيل. يعني يوم القيامة; فإن الأرض تكون مستويةً لا مستتر فيها".

مستتَر فيها، ليس بمحل الاستتار والاكتنان.

"فإن الأرض تكون مستويةً لا مستتر فيها.

قال النحاس: والجرز في اللغة الأرض التي لا نبات بها".

النحاس كلامه السابق وليس اللاحق.

" قال النحاس: والجرز في اللغة الأرض التي لا نبات بها. وقال الكسائي: يقال: جرزت الأرض تجرز".

تجرَز من باب فهم.

"يقال: جرزت الأرض تجرز".

جَرِزَت.

 "جرزت الأرض تجرز، وجرزها القوم يجرزونها إذا أكلوا كل ما جاء فيها من النبات والزرع، فهي مجروزةٌ وجرز".

اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.