شرح جوامع الأخبار (04)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
اقرأ:
الطالب: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
قال المؤلف العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي -عليه رحمة الله تعالى-:
الحديث الثامن عشر: عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((الظلم ظلمات يوم القيامة)) [متفق عليه].
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين:
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى- في الحديث الثامن عشر: عن عبد الله بن عمر -رضي الله عهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((الظلم ظلمات يوم القيامة)) [حديث متفق عليه] والظلم مرتعه وخيم وشأنه عظيم، وهو وضع الشيء في غير موضعه، وتتفاوت شدته وقوته وضعفه بسبب الأثر المترتب عليه، وهو أنواع ودركات، أعظمه -نسأل الله السلامة والعافية- الشرك، وبه فسر النبي -صلى الله عليه وسلم- الظلم، في قوله -جل وعلا-: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ}[(82) سورة الأنعام] قال: الشرك، وأحال على قول لقمان: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}[(13) سورة لقمان] لا شك أن الشرك لا سيما الأكبر هو أعظم أنواع الظلم؛ لأنه وضع للشيء في غير موضعه، فموضع التوجه، توجه الإنسان لمن خلقه ورزقه وأوجده من العدم إلى الوجود، فمثل هذا يجب أن يكون التوجه إليه، فلو أن شخصاً استأجر أجيراً ودفع له ما دفع من الأجرة، ثم أخذ هذا الأجير يعمل ويؤدي ما يترتب على عمله لغير مستأجره ظلمه، فكيف بمن خلق ورزق وأوجد من العدم؟ كيف يؤدى الحق الذي هو أعظم الحقوق حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً وأدى إلى غيره؟ لا شك أن هذا هو أعظم أنواع الظلم، وقصره النبي -عليه الصلاة والسلام- في تفسير آية الأنعام على الشرك، وهذا التفسير منه -عليه الصلاة والسلام- تفسير للعام ببعض أفراده، والتنصيص على بعض أفراد العام لا يقتضي الحصر، الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم، نكرة في سياق النفي تعم جميع أنواع الظلم؛ لكن النبي -عليه الصلاة والسلام- فسره ببعض أفراده، وهذا له نظائر كثيرة ذكرنا في درسٍ مضى تفسير القوة بالرمي، ولا يعني أننا لا نستعد للعدو بغير الرمي، ولا يعني أننا لا نتقي من أنواع الظلم إلا الشرك، نعم التنصيص على بعض الأفراد من قبل الشارع إنما هو للعناية به، والاهتمام بشأنه، لا شك أن الشرك -نسأل الله السلامة والعافية- لا سيما الأكبر المخرج عن الملة الموجب للخلود في النار هذا أعظم ما يجب أن يتقيه المسلم، ثم بعد ذلك يليه ما يليه من أنواع الظلم، من ظلم العبد لنفسه، وظلم العبد لغيره، هذه أنواع من الظلم، وقد حرم الله -جل وعلا- الظلم على نفسه، ((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا)) يعني لا يظلم بعضكم بعضاً، فعلى الإنسان أن يتقي ويجتنب الظلم، لا ظلم الإنسان لنفسه بأن يدنسها بأوظار الشرك والبدع والمعاصي، ولا ظلم الإنسان لغيره، لا ظلم المسلم وشأنه عظيم، وظلم من لا يستحق الظلم من غير المسلمين غير الحربيين، وكذلك ظلم البهائم أيضاً، ظلم أن تحمل الدابة من لا تطيق، أن يقصر في نفقتها، كل هذا ظلم لها، وكل هذا لا يجوز داخل في الآية، الذين آمنوا ولم يلبسوا، يعني لم يخلطوا إيمانهم بظلم في جميع أنواعه وصوره وأشكاله، أولئك لهم الأمن، الأمن التام المطلق؛ لكن إذا وجد الشرك فلا أمن البتة، إذا وجد الشرك ذهب الأمن، {وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [(55) سورة النــور] هذا أقوى ما يثبت الأم ويقوي دعائمه، الالتزام بالتوحيد، وتحقيق التوحيد، وتخليصه من شوائب الشرك، أولئك لهم الأمن، يعني التام المطلق، ولم يلبسوه بأي ظلم؛ لكن إذا اتقوا الشرك ووقعوا في أنواع من الظلم سواء كان من ظلم الإنسان لنفسه أو لغيره لهم من الأمن بقدر ما حققوه من الاتباع، وكلما قرب من الكمال زاد الأمن، وكلما نقص نقص، والحصة بالحصة، كما يقول ابن القيم، يقول: بعض الناس أن النبي -عليه الصلاة والسلام- فسره بالشرك، فلا يدخل فيه شيء من هذا نقول: لا يا أخي فسره بالشرك، ويبقى أن الظلم نكرة في سياق النفي يعم جميع أنواع الظلم، نص على الشرك لعظم شأنه، فلا يجوز للإنسان أن يظلم نفسه، ولا يجوز له أن يظلم غيره، حتى غير المسلمين، يعني غير الحربيين، والبهائم يدخل في هذا.
((الظلم ظلمات يوم القيامة)) الظلم يبعث على الخوف، ويسلب الأمن، وأيضاً هو في يوم القيامة ظلمات، إذا كان العدل بما في ذلك تحقيق التوحيد، وهو العدل التام نور يوم القيامة، والمقسطون على منابر من نور يوم القيامة، فإذا كان الظلم ظلمات فالعدل نور يوم القيامة، كما جاء في الحديث الصحيح: ((المقسطون على منابر من نور يوم القيامة)) الذين يعدلون في أنفسهم وأهليهم وما ولوا، فلا يقول الإنسان: أنا ما لي علاقة بأحد كيف يتصور مني الظلم؟ يتصور منك الظلم أمرت بالعدل والإنصاف، والأمة أمة عدل وإنصاف، وأمة وسط، خيار عدول يشهدون على الناس؛ لكن لا بد من العدل والإنصاف، وهذا على مستوى الأفراد والجماعات، ليس من العدل أن تسأل عن شخص هفوته يسيرة فتجعل هذه الهفوة من العظائم أو العكس لا بد من العدل والإنصاف، ولا يجوز لك وأنت بصدد راوٍ من الرواة ضعفه يسير تجعله شديد أو العكس، وقل مثل هذا في جميع التصرفات، فالعدل لا بد منه، {وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ} [(58) سورة النساء] {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [(90) سورة النحل] فإذا كان الظلم ظلمات والإنسان بحاجة إلى النور في تلك المضائق، {يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم} [(12) سورة الحديد] بسبب العدل؛ لأن المقسطين على منابر من نور بسبب الالتزام بالعدل الأكبر وهو التوحيد، تحقيق التوحيد ونفي الشرك وما يوصل إلى الشرك من وسائل، والظلم هو التعدي على النفس، يعني لو تعدى الإنسان على نفسه بقطع أنملة من أنامله، أو إصبع من أصابعه ظلم نفسه، وكذا إذا تعدى على غيره في دمه وماله وعرضه هذا ظلم، فليحذر الإنسان من أن يتخبط في الظلمات يوم القيامة، وهو لا يشعر، بسبب الظلم ونحن مأمورون بالعدل حتى بين من بيننا وبينهم عداوة، {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [(8) سورة المائدة] يعني لا يحملكم بغض قوم على أن لا تعدلوا بينهم، لا بد من العدل، والله المستعان.
أيضاً من الظلم وهو ظاهر في أوساط المسلمين مع الأسف الشديد ظلم بعض الناس لأولادهم، وعدم معاملتهم بالعدل، ظلم بعض الناس لزوجاتهم، وهذا أيضاً مع الأسف الشديد موجود بين المسلمين؛ لكن على المسلم أن يتقي الظلم؛ لأن شأنه عظيم وعاقبته وخيمة.
الحديث التاسع عشر: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم)) [متفق عليه].
يقول النبي -عليه الصلاة والسلام- في هذا الحديث العظيم والميزان الدقيق: ((انظروا إلى من هو أسفل منكم)) يعني في أمور الدنيا، ((ولا تنظروا إلى من فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم)) النظر في أمور الدنيا ينبغي أن تنظر إلى من هو دونك؛ لأن الدنيا ليست بهدف، فإذا نظرت إلى من هو دونك دعاك هذا إلى شكر ما أنت فيه من نعمة، بخلاف ما لو نظرت إلى من هو فوقك، يعني لو سألت موظف راتبه ألف ريال، موظف صغير وعنده أسرة وقلت له: أحمد ربك أنت في نعمة، يقول: يا أخي الناس يتقاضون على عشرة آلاف وعشرين ألف، وأنا.....، نظر إلى فوقه هذا يبي يشكر ذا؟ هذا يزدري نعمة الله عليه، لكن لو نظر إلى أناس يتمنون شرب قطرة من الماء، الحمد لله في نعمة، وفي رغد ما فيه أحد، إذا نظر إلى من هو دونه دعاه ذلك إلى شكر الله -عز وجل-، وعدم ازدراء النعمة، لكن لو نظر إلى من هو فوقه الأمور لا تنتهي، يعني هب أنك نظرت إلى من هو فوقك قليلاً، ثم نظرت إلى من فوقه ومن فوقه ما تنتهي الدنيا هذه، بينما لو نظرت إلى من هم دونك حتماً سوف تشكر نعمة الله عليك ولا تزدري ما أعطاك، والمسلم يتقلب بنعم، بنعم لا يقدر قدرها، لو لم يكن في ذلك إلا الإسلام.
ذكر ابن القيم في بعض كتبه أن مسلماً أسره الكفار فكتب هذا الأسير إلى صاحبٍ له يتشكى ويتظلم، قال: أنا أسير عند الكفار، وأنا أريد منك كذا.... قال: أشكر ربك، هذا الأسير قيّد وصفّد بالقيود، كتب إلى صاحبه قيدت وأوذيت، فقال: أشكر ربك، طيب، عمل بهذه النصيحة وشكر، سُلسل معه وقيد معه شخص آخر في قيده شخص مبطون، يحتاج إلى قضاء الحاجة باستمرار، ولا يستطيع أن ينتقل إلى مكان قضاء الحاجة، فأرسل إلى صاحبه: قيد معي واحد آذاني برائحته، وبما يخرج منه، قال له: أشكر ربك، أرسل له هذا المقيد قال: علام أشكر؟ وش أشد من وضعٍ أنا فيه؟ قال: أشكر ربك على أنك لست مثلهم، يعني لو مت الآن ومآلك إلى النار مثلهم أبد الآبدين، هذه ما هي نعمة ذي؟ فاعترف بالنعمة، وشكر ربه من قلبه، فانفك القيد تلقائياً، وخرج من الأسر، ما يشعر الإنسان أنه يتقلب في نعم، حتى الناس الذين ابتلاهم الله -جل وعلا-، إما بفقر أو بأمراض لو بحثوا على وجه الأرض وجدوا من أقاربهم وممن حولهم من هم أشد منهم، يعني لو نظرت إلى مثلاً لا تملك شيء ومدين بأموال عندك نعم أخرى، عندك نعمة الدين التي لا يعدلها نعمة، عندك نعمة الصحة، نعم تتقلب فيها لا تكاد....، نعمة البصر، نعمة السمع، لو الإنسان يفني عمره بشكر هذه النعم ما وفاها حقها، {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا} [(18) سورة النحل] المريض الذي يتقلب إذا تذكر أن هذا المرض قد يكون خيراً له في دنيه ودنياه، قد يكون الله -جل وعلا- صرف عنه ما هو أعظم من هذا المرض، لو تصورنا هذا الأمور وشكرنا الله -جل وعلا-، وإذا نظرنا إلى من هو دوننا دعانا ذلك إلى شكر الله -جل وعلا- بحيث لا نزدري نعمة الله علينا، الشخص الذي يسكن في بيت صغير وليس بجميل، ينقصه بعض الأمور، يا أخي انظر إلى أناس يسكنون في صنادق، وش وضعهم بالصيف هؤلاء والشتاء؟ وصاحب الصندقة ينظر إلى ناسٍ ما عندهم صندقة يسكنون على الأرصفة، عوائل في البلدان الأخرى تسكن على الأرصفة؛ لكن هذا الميزان في أمور الدنيا، أما في أمور الآخرة فالذي ينبغي العكس تنظر إلى من هو فوقك، تقول: أنا -ولله الحمد- منّ الله علي أقرأ القرآن في كل شهر، يا أخي انظر إلى من يقرأ القرآن في كل أسبوع، بحيث تزداد من العمل الصالح، إذا نظرت إلى من هو فوقك، القدوات، وإمامهم وسيدهم محمد -عليه الصلاة والسلام-، قام من الليل حتى تفطرت قدماه، تنظر في أمور الدين والعبادات إلى من هو فوقك في البذل والإحسان إلى من هو فوقك، ما تقول: والله أنا الحمد لله أنا لو نظرت إلى نفسي ونظرت زملائي أنا أبرك منهم، وخير منهم ما ينفع هذا، يعني بعض العامة الذين سافروا إلى الأقطار، وذهبوا إلى بلاد الكفار مئات الملايين، بل ألوف الملايين كفار، يقول: إحنا بخير، نحن ما ننكر أننا بخير؛ لكن نحتاج إلى مزيد من هذا الخير، إذا نظرنا إلى الكفار ما عملنا، كما قال بعضهم الذين سافروا قالوا: والله أبداً ما لكم مكان في النار، النار تبي تمتلي من الصين والهند ويمين ويسار مليارات، لا يا أخي لا تنظر إلى هؤلاء، لا تنظر إلى من هلك كيف هلك؟ انظر إلى من نجا كيف نجا؟ عليك بخلاص نفسك، وليكن قدوتك وأسوتك من أمرت بالاقتداء به الائتساء به، فلتنظر إلى من هو همته فوق همتك في أمور الآخرة لتزداد من الأعمال الصالحة ولتحتقر عملك، ولا تعجب نفسك وعملك، ولتتواضع لربك، فهذه موازين شرعية، ينبغي أن تكون بين عيني المسلم، لا سيما طالب العلم، طالب العلم تسمو همته إلى أن يكون مثل شيخه فلان، طيب اطلع فوق شوف شيوخه؟ شوف علماء الإسلام؛ لأنه إذا نظر إلى شيخه ومستواه قال: الحمد لله نحن على الجادة، وعلى الطريقة والمسألة أيام ونصل -إن شاء الله-، لا يا أخي ضاعف من الجهد في العلم والعمل لكي تصل إلى ما تريد -إن شاء الله تعالى-.
الحديث العشرون: عن أبي هريرة - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)) [متفق عليه].
الشيخ -رحمه الله تعالى- ينتقل في كتابه وينتقي من الأحاديث الجوامع في جميع أبواب الدين، فمن أبواب العقائد إلى أبواب الآداب إلى أبواب العبادات، يقول -رحمه الله تعالى-: وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)) [متفق عليه] الطهارة من الحدث شرط لصحة الصلاة، فلا يقبل دليل على الاشتراط، والمراد بنفي القبول هنا نفي الصحة، ((لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ)) ((لا يقبل الله صلاةً بغير طهور، ولا صدقةً من غلول)) المراد بنفي القبول هنا نفي الصحة، ويرد نفي القبول ويراد به نفي الثواب المرتب على الصحة، ففي مثل هذا: ((لا يقبل الله..)) إذا صلى من غير طهارة صلاته مردودة وليست بصحيحة، ((لا يقبل الله صلاة حائضٍ إلا بخمار)) نفي القبول ونفي الصحة، على هذا لو صلى من غير طهارة صلاته باطلة تلزمه الإعادة لماذا؟ لأنه أخل بشرطٍ من شروطها، ولو قدر أنه صلى ناسياً من غير طهارة تلزمه الإعادة؛ لأن الله لا يقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ، بينما يأتي نفي القبول في بعض النصوص ويراد به نفي الثواب المرتب على العبادة، ((لا يقبل الله صلاة من في جوفه...)) ((لا يقبل الله صلاة عبدٍ آبق)) الشروط كانت كلها متوافرة فهو في عرف الفقهاء صلاة صحيحة مجزئة مسقطة للطلب؛ لكن ليس فيها ثواب، {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [(27) سورة المائدة] فحصر القبول على المتقين، ومفهومه أن الفساق لا يتقبل الله منهم، لا يتقبل الله من الفساق، هل معنى هذا نفي للصحة؟ هل من صلى وهو فاسق نقول له: أعد صلاتك؟ من صام وهو فاسق يقال له: أعد صيامك؟ لا، المراد بنفي القبول هنا نفي الثواب المرتب على الصحة، طيب، هذا شخص صلى ثم تذكر أنه ليس على طهارة نسي، ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا تلزمه الإعادة وإلا ما تلزم؟ تلزمه الإعادة؛ لأن الله لا يقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ، تلزمه الإعادة وهو ناسي؟ نعم تلزمه الإعادة وهو ناسي، والقاعدة عن أهل العلم: أن النسيان ينزل الموجود منزلة المعدوم؛ لكنه لا ينزل المعدوم منزلة الموجود، فشخص صلى الظهر ناسياً خمس ركعات، نقول: صلاته صحيحة؛ لأن النسيان ينزل هذه الركعة الزائدة لأنها موجودة بمنزلة المعدود، ولا شيء عليه، صلاتك صحيحة إن ذكرت وأنت في الصلاة أو قريب منها تسجد للسهو وإلا ما عليك شيء إذا طالت المدة، وهنا نقول: ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا؛ لكن النسيان لا ينزل المعدوم منزلة الموجود، فمن صلى الظهر ثلاث ركعات، يقول: أنا والله نسيت، والله يقول: ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا، نقول: لا، لا بد أن تأتي بركعةٍ رابعة، وإن طال الفصل لا بد من إعادة الفصل، لكنك وإن نسيت إلا أن المعدوم لا يمكن أن ينزل منزلة الموجود بسبب النسيان، وهذه قاعدة مضطردة عند أهل العلم، ومن صلى ناسياً الحدث عليه أن يعيد؛ لكن صلى وعلى بدنه نجاسة ناسياً متطهر الحدث مرتفع؛ لكن على بدنه نجاسة ناسياً صلاته صحيحة؛ لأن هذا موجود نزله منزلة المعدوم، والنبي -عليه الصلاة والسلام- لما أخبر أن في نعله قذر ما أعاد الصلاة، خلع النعل وانتهى، ولو لم يعلم إلا بعد فراغه من الصلاة ما يلزمه الإعادة، فالطهارة من الحدث هو يشمل الأكبر والأصغر الموجب للغسل والموجب للوضوء أمر لا بد منه شرط من شروط الصلاة، ((لا يقبل الله صلاةً بغير طهور ولا صدقةً من غلول)) والحديث في صحيح مسلم من حديث ابن عمر لما زار ابن عامر فقال له: انصحني أو عضني أو ادع لي، قال: ((لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقةً من غلول)) وكنت على البصرة، كيف كنت على البصرة؟ يعني كان أمير على البصرة، والولايات مظنة لأن يدخل على الإنسان بعض الشيء بقصدٍ أو بغير قصد، فمثل هذا ينبغي أن يحتاط له، والله المستعان.
الحديث الحادي والعشرون: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظافر، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء، يعني الاستنجاء)) قال الراوي: "ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة" [رواه مسلم].
في هذا الحديث يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((عشر من الفطرة)) الفطرة التي فطر الله الناس عليها، هي الخلقة، أصل الخلقة التي خلق الله عباده عليها، وجبلهم عليها، ومنهم من يقول: الدين؛ لأن الله -جل وعلا- فطرهم على الدين، ما من مولود إلا يولد على الفطرة، يعني على الملة وعلى الدين، لكن المؤثرات بعد الولادة تجتاله عن هذا الدين وعن هذه الفطرة، عشر من الفطرة، يعني عشر خصال من الفطرة، قص الشارب، وإعفاء اللحية التي هي من سمة الرجال، وقد أمرنا بإعفاء الشوارب، وإعفاء اللحى، فلا يليق بالمسلم أن يرسل شاربه؛ لأنه يجتمع فيه أوساخ وأقذار، ويقع فيما يشرب، وفيما يؤكل، وينزل من الأنف أشياء، فهو واسطة بين الأنف وبين الفم، فينبغي أن ينظف، وكذلك إعفاء اللحية، وقد جاءت الأوامر الشرعية بإعفائها وإكرامها، وجاء في وصف النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه كان كث اللحية، وتعرف قراءته من خلفه باضطراب لحيته، وهذا هو الثابت المرفوع عنه -عليه الصلاة والسلام-، وجاء عن بعض الصحابة كابن عمر أنهم يأخذون من اللحية ما زاد على القبضة، لا سيما في النسك، ابن عمر -رضي الله عنه- ثبت عنه أنه كان يأخذ منه ما زاد على القبضة، ويتأول قوله -جل وعلا-: {مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [(27) سورة الفتح] يعني في آنٍ واحد، فالواو عنده هذه للجمع وليست للتقسيم، يعني ما هو محلقين بعضكم محلق وبعضكم مقصر، ليست للتقسيم ولا للتنويع، إنما هي للجمع، هذا فهمه -رضي الله عنه-، فإذا كان الرأس بيحلق إيش يبقى؟ إيش يقصر لو حلق الرأس؟ لا بد يقصر اللحية، هذا فهمه -رضي الله تعالى عنه-، والذي عندنا في الباب من النصوص المرفوعة هو إعفاء اللحية، وتوفير اللحية، وإكرام اللحية، ولا تقابل مثل هذه النصوص بما نقل عن أي شخص كائناً من كان؛ لأن الموقوف لا يقابل المرفوع أبداً، وما استمرئ الناس حلق اللحى حتى تساهلوا في القص، والقص ما له نهاية، وليتهم اقتصروا على القبضة، إنما المسألة خطوات، إذا دخل المقص دخل الموس، تجدون علماء كبار فحول في الأقطار تساهلوا في هذا الأمر، وقصوا ما زاد على القبضة، ثم نقص هذا وزاد، بيوضبون، ولازم تتساوى اللحية، وجار المقص، وما أدري إيش؟ وغفلت عن الحلاق، على شان إيش؟ خطوات، ثم بعد ذلك تسامحوا، إيش يبون؟ هل اقتصر الناس على القبضة؟ القبضة إيش معنى القبضة؟ القبضة يقبض على يده ويأخذ ما زاد، ومر علينا ومر عليكم من يدرس الكتاب والسنة، التفسير والحديث والفقه من هم؟ أمهلوا لأنفسهم فأخذوا كل شيء، ما هي مسألة قبضة، الشيطان لا ينتهي عند حد، ودرّسنا واحد في الشريعة قبل خمسة وثلاثين سنة يقول: القبضة هكذا، أصبع واحد، لا ورافع أنه الأصبع، رافع، ذي قبضة؟ هذا من تلاعب الشيطان، فقد أحسن من انتهى إلى ما سمع، سمعنا التوفير، سمعنا الإكرام، سمعنا الإعفاء، جاء في وصفه -عليه الصلاة والسلام- ما جاء {يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي} [(94) سورة طـه] بلحيته، اللحية طويلة شلون يبي يأخذ وهي قصيرة؟ فعلينا أن نحافظ على هذه، هي شعيرة من شعائر الإسلام، شعيرة ظاهرة من شعائر الإسلام، وقد جاء الأمر بها، فحلقها حرام، ونقل بعض أهل العلم الإجماع على تحريم حلق اللحية، ثم يأتي من يأتي ويقول: أن هذه من باب الآداب، ومن باب العادات، يعني إذا قال: سنة مؤكدة تشفق الناس، مع طول الزمن وكثرة رؤية من يتساهل في هذه الشعيرة، فعلى المسلم أن يثبت لا سيما طالب العلم أن يأخذ الدين بقوة، بحزم وعزم، لا يتأثر بكل كلام، وبكل ناعق، طبيب من الشرق باكستاني أو هندي، طبيب ليس عنده من العلم الشرعي شيء لحيته كثّة طويلة، دخل عليه أستاذ في الفقه من الجهات حليق، قال الطبيب يا أستاذ إيش أنته؟ قال: أنا أستاذ في الفقه الإسلامي، قال: أين اللحية؟ قال: اللحية سنة، يعني أمرها سهل، السنة أمرها سهل، قال: أنا ما يعرف سنة، الرسول مثلي وإلا مثلك؟ بس، انتهى الإشكال، الرسول مثلي وإلا مثلك؟ ما بيننا سنة ولا بدعة، يبي يتفلسف سنة يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها هذا ما عنده، صحيح أنت مأمور بالاقتداء، افترض أنها سنة أنت غني عن هذه السنة؟ إيش اللي يقابل السنة؟ والله المستعان. والسواك، جاء فيه ما يدل على أنه من السنن المؤكدة، ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة)) وفي لفظ: ((عند كل وضوء)) فهو من سنن الفطرة، ومطهرة للفم، ومرضاة للرب، ويتأكد استحبابه عند تغير الفم، وعند الصلاة، وعند إرادة الوضوء، فهو سنة مؤكدة، والأمر فيه أمر استحباب، أما أمر الوجوب الذي يترتب عليه المشقة فهو منتفي، ولذا يقول: ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك)) والمراد بهذا أمر الوجوب، المنتفي أمر الوجوب؛ لأن (لولا) حرف امتناع لوجود، فامتنع الأمر لوجود المشقة، والممتنع هو أمر الوجوب، وهذا من أقوى أدلة الجمهور على أن الأمر المطلق للوجوب؛ لأن أمر الاستحباب ثابت هنا، إذا أضفنا هذا إلى قوله -جل وعلا-: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [(63) سورة النــور] لا شك أن مخالفة الأمر أمر عظيم، نسأل الله السلامة والعافية، فالسواك مأمور به، وهو عبادة، ويبقى أنه يتأكد في مواضع منها إرادة الوضوء، إرادة الصلاة، عند تغير الفم، عند القيام من النوم، والجمهور على أن السواك يكون بالشمال، باليد اليسرى، ويقول شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- أنه لا يعلم أحداً من الأئمة قال بالتسوك باليمين مع أن جده المجد يقول باستحباب التسوك باليمين، والسبب أنه ينظر إليه من جهتين أنه عبادة وامتثال أمر، فالأحق به اليمين، وإذا قلنا: أنه إزالة قذر ووسخ فبالشمال، وعامة أهل العلم على أن التسوك يكون بالشمال، والمراد بالسواك استعمال العود اللين الذي لا يجرح اللثة لإزالة ما علق بالأسنان واللسان من أوساخ.
واستنشاق الماء، الاستنشاق وجاء الأمر به، فهو واجب في الوضوء، من واجبات الوضوء، ((إذا توضأ أحدكم فليجعل في منخريه من الماء)) جاء الأمر بالاستنشاق والاستنثار، والاستنشاق إدخال المال إلى الأنف بالنفس، والاستنثار إخراج الماء أيضاً من الأنف بالنفس، والمقصود به تنظيف ما يدخل، وهو مظنة لأن تدخله الأوساخ والغبار وما أشبه، وهذا من كمال هذه الشرعية التي جاءت بالنظافة، ومباعدة الأوساخ والأقذار، وهذا لائق بالاستنجاء، في غسال يغسل ملابس أمريكي جاء وأعلن إسلامه من غير دعوة، ما دعي إلى الإسلام، فسئل عن السبب قال: أنه غسال إذا غسل ملابس المسلمين وجد الروائح طيبة، وإذا غسل ملابس غير المسلمين وجد الروائح الكريهة، والفرق هو الاستنجاء، وهذا سيأتي، لكن ديننا دين النظافة، دين الفطرة، دين الألفة والمحبة، ولا يمكن أن تجتمع الألفة مع المحبة مع الأوساخ ومزاولة القاذورات، الشخص القذر الوسخ الذي تنبعث منه الروائح الكريهة لا يمكن أن يؤلف وهذا من أسباب الألفة، الاستنشاق واجب، من واجبات الوضوء، وأوجبه بعضهم لكل قائمٍ من النوم؛ لأن الشيطان يبيت على خيشومه؛ لكن هو متأكد في حق المتوضئ، وهو داخل في فرض الوجه مع المضمضة؛ لأنه لم ينص عليه في آية الوضوء، آية المائدة، {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ} [(6) سورة المائدة] ولذا لم يوجبه جمع من أهل العلم، توضأ كما أمرك الله، الله -جل وعلا-، ما أمرك في كتابه أن تستنشق، ولا تتمضمض، هذه حجة من لا يرى الوجوب، لكن جاء الأمر بالاستنشاق، ((فإذا توضأت فمضمض)) أيضاً جاء الأمر بالمضمضة؛ لكن ما جاء في الاستنشاق أقوى مما جاء في المضمضة، وعلى كل حال المضمضة والاستنشاق داخلان في الوجه، لأنهما من أجزائه وفي حدوده، وإن كان من يقول بالقول الآخر يتأول الآية على أن المراد بالوجه ما تحصل به المواجهة، والمواجهة لا تحصل بالفم والأنف، على كل حال المسألة خلافية والنصوص من السنة المبينة لما أجمل في القرآن تدل على وجوب المضمضة والاستنشاق.
قص الأظافر إذا طالت، لأنها يجتمع تحتها أوساخ ومنظرها أيضاً كريه ومؤذي، وهي أيضاً مؤذية إذا مرت من أدنى جهة من جهات البدن تجرح، فلا يجوز أن تطال الأظافر، وإن اقترن بذلك تقليد للكفار أو الفساق ازداد الأمر، وقد حد الأمر -عليه الصلاة والسلام- حداً لهذه الزوائد في أخذها بالأربعين، أربعين يوماً، قص الأظافر وغسل البراجم التي هي المغافل في البدن؛ والتي لا يصل إليها الماء، فإذا لم يصل إليها الماء تراكمت فيها الأوساخ.
ونتف الإبط، وهو أيضاً إذا طال شعره مع ما يخرج منه من عرق ولكونه مكتوم إذا اجتمع هذا العرق مع هذا الشعر زادت الرائحة الكريهة، فأمرنا بنتف الإبط؛ لأن هذا من السنة، من الفطرة، وهو أيضاً داخل فيما حد فيه بالأربعين، نتف الذي هو قلع الشعر؛ لكن لو استعمل الاستحداد فيه أو أزاله بأي وسيلةٍ بنورة أو شبهها كفى، المقصود الإزالة، وإن كان النتف أولى؛ لأن النتف يزيل الشعر من أصوله، فالأوساخ في أصول الشعر تنتهي معه، بينما الحلق قد لا يفي بجميع الغرض، نعم يخفف.
وحلق العانة، حلق العانة: وهي ما ينبت حول القبل والدبر لمن بلغ سن التكليف، هذا يحلق لأنه كغيره من هذه الزوائد التي هي مؤذية بنفسها ومجتمع للأوساخ والقاذورات، وديننا دين النظافة، ولذا اشترط في الطهارة لأعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، ويقال في هذا مثل ما قيل في نتف الإبط، يعني لو نتفت العانة دون حلق أجزأ ذلك؛ لأن المقصود الإزالة.
وانتقاص الماء، انتقاص الماء: وهذا يعني الاستنجاء، فسره الراوي بالاستنجاء، انتقاص الماء، ولولا تفسير الراوي لصعب معناه، إيش انتقاص الماء؟ إلا إذا كان هناك ما يدل في لغة العرب على أن هذا استعمال محدد للاستنجاء، وإلا الانتقاص والنقص والأخذ من الماء يكون للاستنجاء ولغيره، لكنه فسره الراوي وأراحنا من الاضطراب، والراوي أدرى بما رواه، أعرف بما رواه، يعني الاستنجاء، والاستنجاء السين والتاء لطلب النجو الذي هو نفس الخارج، والمراد قطعه، والاستنجاء يفرق أهل العلم بينه وبين الاستجمار بأن الاستنجاء يكون بالماء، والاستجمار يكون بالحجار، الجمار التي هي الحجارة، ولا شك أن هذا أمر لا بد منه، ولا يصح قبله عند أهل العلم وضوء ولا تيمم، لا بد من إزالته وقطعه، قطع الأثر الخارج بالكلية بالماء لتعود خشونة المحل في الاستنجاء، وأما الاستجمار فيزال ما يقدر على إزالته بالعدد المحدد، ثلاثة أحجار فأكثر، وما زاد على ذلك بحيث إذا بقي أثر لا يزيله إلا الماء فإنه معفو عنه.
قال الراوي: "ونسيت العاشرة" نسيت الخصلة العاشرة "إلا أن تكون المضمضة" والمضمضة إدخال الماء في الفم، وتحريكه باللسان، وإدارته ومجّه، بعض كتب اللغة تنص على المجّ، فإذا أدخل الماء في فمه وأداره بلسانه وشدقيه ثم ابتلعه، هنا يكون تمضمض وإلا ما تمضمض؟ نعم إذا أدخلنا المج في مسمى المضمضة قلنا: ما تمضمض، وبعض كتب اللغة تنص على أن المج من المضمضة، وهنا علة قد لا يتفطن لها بعض الناس، أن هذا الوسخ الذي في الفم والمطلوب إزالته ينبغي أن يخرج، وجاء في حديثٍ فيه كلام الحث على إخراج ما بقي في الفم، في الأسنان وما أشبه ذلك، يعني ما ابتلعته فكله، وما عداه فلا، لأنه إذا بقي في الفم ودخل عليه الهواء، وتأكسد على ما يقولون، يحللون، يتلوث، لا شك أن هذا من كمال العناية الشرعية، فالمج من أصل المضمضة، فإذا تمضمض فليمجّ الماء، ومنهم من يقول: أن المضمضة هي إدارة الماء فقط، والمج ليس مما يسمى المضمضة، وعلى هذا لو ابتلعه يقال: أنه تمضمض.
الحديث الثاني والعشرون: عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((الماء طهور لا ينجسه شيء)) [رواه أحمد والترمذي وأبو داود والنسائي].
نعم، في حديث أبي سعيد، هذا الحديث الذي يدل على أن الأصل في الماء من أي مصدرٍ كان سواء نبع من الأرض، أو نزل من السماء فإنه على الأصل، الأصل فيه أنه طهور، لا ينجسه شيء، وجاء الاستثناء من حديث أبي سعيد وحديث أبي أمامة: ((إلا ما غلب على لونه أو طعمه أو ريحه لنجاسة تحدث فيه)) لكن هذه الزيادة ضعيفة باتفاق الحفاظ؛ لكن أهل العلم أجمعوا على أن الماء المتغير بالنجاسة أنه نجس، يبقى الحديث على عمومه، إلا ما استثني، ودليل الاستثناء الإجماع، وإلا فالزيادة ضعيفة، والإجماع عند أهل العلم لا بد أن يكون له مستند، ولو لم نقف على هذا المستند، ومنهم من يقوي هذه الزيادة المتفق على ضعفها بالإجماع، كما يقوي الترمذي الأخبار والأحاديث بالعمل، بعمل أهل العلم، وعليه العمل عند أهل العلم.
على كل حال المسألة متفق عليها بين أهل العلم، لم يخالف أحد في أن الماء إذا تغير بنجاسة أنه نجس، سواء كان التغير في اللون أو الطعم أو الريح؛ لأن المستعمل لهذا الماء المتغير مستعمل لنجاسة، إن الماء طهور لا ينجسه شيء، وهذا الحديث عمومه يقتضي أن الماء لا ينجس إلا إذا تغير، قلّ أو أكثر، عمومه يقتضي أن الماء لا ينجس إلا بالتغير قل أو أكثر، هذا العموم وهو استدلال بالمنطوق إلا أنه بالعموم معارض بمفهوم حديث ابن عمر، حديث القلتين: ((إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث)) مفهومه أنه إذا لم يبلغ القلتين فإنه يحمل الخبث، فعندنا تعارض بين منطوقٍ عام ومفهومٍ خاص، فإذا نظرنا إلى النصين من حيث العموم والخصوص لا شك أن الخاص مقدم على العام، وهذا أمر متفق عليه؛ لكن إذا نظرنا إليهما من باب المنطوق والمفهوم، لا شك أن المنطوق مقدم على المفهوم، ولذا اختلف أهل العلم في التفريق بين القليل والكثير، هل نفرق بين القليل والكثير بناءً على حديث ابن عمر في القلتين أو لا نفرق عملاً بإطلاق حديث أبي سعيد؟ لأن في كل حديثٍ جهة قوة وجهة ضعف، عموم الحديث ضعف، وكونه منطوق قوة، وفي حديث القلتين منطوقه أو مفهومه فيه ضعف، وخصوصه فيه قوة، إذا جاء عندنا تعارض في مثل هذا فهل نقدم المنطوق على المفهوم ونلغي المفهوم ويكون حديث ابن عمر لا مفهوم له لأنه معارض لمنطوق حديث أبي سعيد؟ أو نلغي العموم نقصر عموم حديث أبي سعيد على بعض أفراده لمعارضته بالخاص من مفهوم حديث ابن عمر؟ والمسألة من المضايق، لا بد من أن ننتبه لمثل هذا، الآن لما يختلف الأئمة أبو حنيفة والشافعي وأحمد يفرقون بين القليل والكثير، مالك لا يفرق، ما عنده مالك، طاهر وطهور واحد، طاهر ونجس، طاهر يشرب، طاهر يتوضأ به، وإلا نجس، والفارق عنده التغير، الثلاثة عندهم لا، قد يكون الماء لم يتغير لكنه لقلته لكونه أقل من القلتين عند الشافعية والحنابلة أو لكونه أقل من عشرة في عشرة غدير كما يقول محمد بن الحسن، أو حرك طرفه لم يتحرك الطرف الآخر عند الحنفية تفاصيل معروفة، لكن هم في عداد من يفرق بين الكثير والقليل، فالثلاثة في جهة، ومذهب مالك في جهة، الآن إذا نظرنا إلى مذهب مالك رجح قوله بأي شيء؟ بالعمل بمنطوق حديث أبي سعيد، وهذا المنطوق مقدم على المفهوم، لكن أولئك رجحوا مذهبهم بخصوص حديث ابن عمر المأخوذ من المفهوم على عموم حديث أبي سعيد، المسألة لا بد من فهمها يا إخوان، هؤلاء أئمة كبار، يعني الإنسان سهل عليه قال شيخ الإسلام ما في واسطة، طاهر ونجس، ولا يوجد في النصوص ما يدل على أن هناك واسطة، يعني من السهل أن نقول مثل هذا الكلام؛ لكن إذا فهمنا وجهات نظر الأئمة، أئمة كبار فحول، وكل مذهب فيه وجه قوة، فلا بد من فهم، شيخ الإسلام -رحمه الله- تعالى يرجح مذهب مالك، ويصحح حديث القلتين؛ لكنه يعمل بمنطوقه ولا يعمل بمفهومه؛ لأن مفهومه معارض بمنطوق حديث أبي سعيد، من جهةٍ أخرى من قال بالقول الآخر قال: عندنا مفهوم يخصِص؛ لأن التخصيص يكون بأدنى شيء، التخصيص ما هو مثل النسخ رفع كلي للحكم، هذا رفع جزئي، والتخصيص يكون بالعقل أحياناً، أحياناً التخصيص يكون لمجرد استرواح لرفع التعارض بين النصوص يقال: هذا عام وهذا خاص، فالأئمة الثلاثة رجحوا مذهبهم بأن عموم حديث أبي سعيد مخصوص بمفهوم حديث ابن عمر؛ لكن لو أتينا للنظائر وجدنا أن أهل العلم يلغون المفهوم إذا عورض بمنطوق، فمثلاً {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ} [(80) سورة التوبة] مفهومه أنه لو استغفر واحد وسبعين غفر لهم؟ لكن هذا المفهوم معارض بقوله -جل وعلا-: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [(48) سورة النساء] لو استغفرت ألف مرة، فألغينا المفهوم لأنه عورض بالمنطوق، ما قلنا: إن عموم {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ}[(48) سورة النساء] مخصوص بمفهوم {إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ}[(80) سورة التوبة] فألغينا المفهوم، وهذه نظيرتها تماماً {لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً} [(130) سورة آل عمران] يعني لو كانت نسبة الربا عشرة بالمائة عشرين بالمائة خمسين بالمائة، ما صارت أضعاف، مفهوم هذه الآية أن الربا إذا لم يصل إلى الأضعاف فإنه يكون حلالاً، لكن النصوص كلها التي جاءت في الباب تدل على أن الربا قليله وكثيره حرام، فألغي مفهوم هذه الآية بمنطوق النصوص الأخرى، ولا شك أن المفهوم معتبر عند جمهور العلماء؛ لكن يبقى أنه إذا لم يعارض بمنطوقٍ أقوى منه، ومثلما ذكرنا أن النصين بينهما عموم وخصوص، باعتبار المنطوق والمفهوم بينما أيضاً وجه قوة للنص الآخر من حيثيةٍ أخرى، فما الراجح من القولين؟ يعني إذا نظرنا إلى النظائر التي ذكرناها رجحنا رأي مالك، وأن المنطوق أقوى من المفهوم، رجحنا رأي مالك بآية {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [(80) سورة التوبة] وآية {أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً} [(130) سورة آل عمران] كلها نظيرة مع الإمام مالك، أيضاً القول بالتفريق بين القليل والكثير، أولاً: حديث القلتين الكلام فيه كثير جداً؛ من حيث الثبوت، حتى حكم عليه أهل العلم بالاضطراب في سنده ومتنه؛ لكن على القول بصحته وهو مصحح عند جمع من أهل العلم، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية يصححه، ابن حجر يصححه، لكن شيخ الإسلام يصححه ويعمل بمنطوقه دون مفهومه؛ لأن المفهوم معارض، طيب القول بالتفريق الذي يراه الأئمة الثلاثة لزم عليه من الحرج والضيق في كثيرٍ من المسائل بحيث صار بعض المسائل لا يمكن تصورها يعني في باب المياه مثلاً مسائل معقدة جداً، يعني أهل العلم أصحاب النظرة الواسعة يقولون: أن الشرع لا يأتي بمثل هذه المسائل، فيها شيء من التعقيد، طيب لو جئنا بمثال، هذا المثال ذكره النووي في المجموع، يقول: هذا برميل يسع قلتين، ومملوء يعني على اصطلاحهم كثير وإلا قليل؟ كثير، وقع فيه نجاسة، وما غيرت شيء من لونه وطعمه ولا ريحه، جئنا بدلو وغرفنا منه بحيث ينقص عن القلتين، وش يقول لك النووي والشافعية؟ يقولون: أن الذي في جوف الدلو طاهر وإلا نجس؟ طاهر لأنه أكثر من قلتين، قلتين فأكثر، لكن الذي يتساقط منه، الذي صار فيه بعد أن نقص عن القلتين، يقول أهل العلم: هل يأتي الشرع بمثل هذا؟ تأتي بدلو تغرف من ماء طاهر عندك فيكون ما في جوفه طاهر، وما يتساقط منه من برى نجس؟ ولذا الغزالي في الإحياء تمنى أن لو كان مذهب الشافعي مثل مذهب الإمام مالك، على شان يتخلصون من هذه القضايا، وهذه المسائل المشكلة، وما الذي دعا الغزالي وهو بالنسبة للشافعية إمام من أئمتهم، ما الذي دعاه أن يتمنى؟ التزامه بتقليد المذهب، وإلا شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- قال: ما علينا من المذهب، رجح ما يرجحه الدليل من وجهة نظره، وما يعتقده، وما يدين الله به ولا عليه، فلا شك أنه نشأ عن التفريق بين الطاهر والطهور، مسائل يعني لا يستوعبها كثير من طلاب العلم، ولا يأتي شرع سمته اليسر والسهولة وعدم الشدة والوضوح لا يأتي بمثل هذه الصورة، وعلى كل حال يبقى مذاهب الأئمة محترمة، والأئمة محل تقدير، ويعترف لهم بالفضل، وأما بالنسبة للترجيح فالإنسان يرجح ما يدين الله به -جل وعلا-، فأنت وقعت هذه النجاسة لا ترى لها أثر إن الماء طهور لا ينجسه شيء، حديث: ((إن الماء طهور)) يعرف بحديث؟ بئر بضاعة، وبئر بضاعة جاء فيها أنها بئر يلقى فيها النتن، ولحوم الكلاب، الحيض، نجاسات، لكنها لم تتغير، فإذا وقعت نجاسة يسيرة بمثل هذا الماء ولا أثرت فيه إن الماء طهور لا ينجسه شيء، ولماذا نضيق على أنفسنا؟ نعم إذا شككت أو تورعت هذا شيء ثاني؛ لكن يبقى أنك ما تمنع الناس وتضيق عليهم؛ لأن الاحتياط في مثل هذا لا يمكن، ما يمكن الاحتياط، شخص ما عنده إلا هذا الماء الذي في البرميل، ووقع فيه نجاسة، كيف تحتاط؟ وافترض المسألة في شخص ما عنده إلا هو، إما أن يتوضأ في هذا الماء الذي هو طاهر عند مالك، أو يعدل إلى التيمم، وعنده واجد من الماء، الآن من كون الشخص عنده هذا الماء المشكوك فيه، والمختلف فيه، وعنده ماء ثاني يمكن أن يتوضأ به، هذا يتورع لا بأس؛ لكن إذا كانت المسألة بين أن يعدل إلى التيمم وواجب للماء هنا لا بد من حسم الموضوع، ولا يرد في مثل هذا احتياط ولا ورع، الورع والاحتياط فيما إذا وجد غيره، الماء طهور لا ينجسه شيء، هذا الأصل في الماء، فإذا كان عندك ماء هذا وصفه، باقي على خلقته، غير متغير، وشككت فيه هل وقع فيه نجاسة أو لم تقع؟ فتبني على الأصل، أن الأصل فيه الطهارة، إن الماء طهور لا ينجسه شيء.
الحديث الثالث والعشرون: عن أبي قتادة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الهرة: ((إنها ليست بنجس، إنها من الطوّافين عليكم والطّوّافات)) [رواه مالك وأحمد وأهل السنن الأربع].
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: عن أبي قتادة وهو الحارث بن ربعي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الهرة: ((إنما ليست بنجس)) والعلة في ذلك: ((إنها من الطوافين عليكم والطوافات)) يعني العلة المنصوصة، الهرة ليست بنجسة، هذا الحكم الشرعي، والعلة في ذلك كونها من الطوافين عليكم والطوافات، فهذه الطوافة من هذه الهرة لا شك أن الطوافة تقتضي مشقة التحرز، وكانت البيوت تعج بمثل هذه الحيوانات، لا يستطيع أحد أن يتحرز منها، الآن خفت في البيوت لإحكام الأبواب، الأبواب محكمة؛ لكن مع ذلك تبقى من الطوافين، والعلة منصوصة، نقول: العلة المنصوصة، والعلل المنصوصة تدور مع الأحكام، فإذا وجدت هذه الطوافة من أي حيوانٍ كان بحيث يشق التحرز منه فإنه يأخذ نفس الحكم بالقياس، منهم من يقول: يأخذ الحكم بعموم العلة، ومنهم من يقول: بالقياس والعلة تجمع بينهما، الرابط العلة، أهل العلم نظروا إلى النص باعتبار أن الطوافة من لازمها المشقة، فإذا كان من يخالط الناس ويطوف عليهم بحيث يشق عليهم التحرز منه تسليةً له، ولذا قالوا: "وسؤر الهرة وما دونها في الخلقة طاهر" كيف نظروا إلى الخلقة؟ يعني لو جاءت فأرة وشربت من ماء نقول: طاهر وإلا نجس؟ طاهر ليش؟ لأنها دون الهرة، ويشق التحرز منها، لماذا لم ينظروا إلى ما هو أعظم من الهرة من الطوافين؟ لأن ما هو أعظم من الهرة لا يشق التحرز منه، يعني الهر لصغر حجمه، وما دونه في الخلقة من باب أولى، يمكن يغالب الناس ويدخل من حيث لا يشعرون؛ لكن حيوان كبير سهل ترده عن دخول البيت، أو عن دخول مكان الطعام سهل التحرز منه، فنظروا إلى أن المشقة في صغار الحجم، وحددوا الحجم بالهرة التي جاءت فيها النص، وقالوا: إن ما فوق الهرة لا يشق التحرز منه، يعني لو كان عند إنسان كلب، كلب وهو فوق الهرة بالحجم، في بيت مرابط له؛ لكن مثل هذا الكلب لا يشق التحرز منه لكبر حجمه، الأبواب ترده، ترده الأبواب، أما الهر لصغر حجمه، وكانت الأبواب ليس فيها من الإحكام مثل أبوابنا الآن، سهل يعني تدخل يدك وتفتح لو ما عندك مفتاح في الأبواب الأولى، وسهل أنه يدخل عليك الباب ولا يتأثر؛ لأن فيها فجوات بحيث تدخل فيها ومعها، والأمور مبنيات على اليسر والسهولة في أمور المسلمين؛ لكن الآن شغل غلق والأبواب بحيث يحجب الهواء ما يدخل، الهواء ما يدخل، وكل شيء له ضريبة، إن قفل على إصبع قطع الأصبع، إن أنقفل على بزر البزر خطر عليه، كل شيء له ضريبة، صحيح أنها نافعة ومفيدة وتمنع الهواء وتمنع الغبار؛ لكن لها ضرائب، نعود إلى الأبواب في الماضي يدخل الهر من تحت، يدخل الهر من عند الكوة سهل، لكن لو جاء أكبر من الهر ما يقدر يدخل، فهم نظروا إلى الحجم من هذه الحيثية؛ لأن ما كان أكبر من الهر يمكن التحرز منه، يعني لو عندهم في الفناء كلب وإلا حمار سهل أن يغلق عنه باب الصالة، بينما الهرة لخفتها وصغر حجمها وقل أسهل منها بالنسبة للفأر، فالمشقة قاعدة عند أهل العلم أنها تجلب التيسير، ما دام يشق التحرز من هذه الأمور خفف فيها، وحكم بطهارتها، ولو حكم بنجاسة الهرة لحصل من المشقة والعنت الشديد ما لا يتصور، هناك أيضاً من الحشرات ما هو طاهر، وهو ما النفس له سائلة، يعني ما فيه دم، الذي ما فيه دم عند أهل العلم طاهر حياً وميتاً، الذباب مثلاً طاهر وش الدليل؟ إذا وقع الذباب في طعام أحدكم أو في شراب أحدكم فليغمسه، إذا كان الطعام حار بيموت، فدليل على طهارة ما له نفس سائلة عند أهل العلم؛ لأن السبب المنجس بعد الموت هو احتقان الدم، وهذه لا دم فيها، وأيضاً لو حكم بنجاستها لوجد العنت والمشقة الموجودة في تنجيس الهرة لو قيل به، جاء الأمر بغسل ما ولغت فيه الهرة مرة واحدة؛ لكنه محمول على الاستحباب عند من يقول بثبوته، وإلا فهي طاهرة، أما الكلاب فقد جاء الأمر بغسل ما ولغ فيه الكلب سبعاً إحداها أو أولاهن أو إحداهن أو أخراهن، أو عفروه الثامنة بالتراب.
الحديث الرابع والعشرون: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر)) [رواه مسلم].
((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة)) الصلوات الخمس التي تتكرر في كل يوم وليلة، والجمعة التي تتكرر في كل أسبوع، ((ورمضان إلى رمضان)) الذي يتكرر في كل سنة ((مكفرات لما بينهما)) وجاء أيضاً: ((العمرة إلى العمرة مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر)) وفي لفظٍ: ((ما لم تغش كبيرة)) فالكبائر لا بد لها من التوبة، أما الصغائر فتكفرها الصلوات الخمس، تكفرها صلاة الجمعة إلى الجمعة، يكفرها صيام رمضان إلى رمضان، مجرد اجتناب الكبائر كفيل بتكفير الصغائر، {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [(31) سورة النساء] يعني الصغائر، وهذا من فضل الله -جل وعلا-، وإلا لو كانت هذه الأمور لا تكفر الصغائر، والإنسان يزاول من الذنوب والمعاصي من الصغائر الشيء الذي لا يخطر له على بال، ولا يلقي له بال يتساهل فيه ويتسامح؛ لكن هذه الأمور من فضل الله -جل وعلا- أنه جعل هذه الحسنات والأعمال الصالحة تكفرها ((وأتبع السيئة الحسنة تمحها)) هذه حسنات مكفرة، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [(114) سورة هود] وقصة من جاء بعد أن ألم بشيءٍ من الصغائر، وصلى مع النبي -عليه الصلاة والسلام- وقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((صليت معنا؟)) قال: نعم، قال: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [(114) سورة هود] ولا يعني هذا أن الإنسان يسترسل في الصغائر، ويقول: أنا بصلي وتروح، لا يا أخي أنت إذا نظرت إلى قدر من عصيت ما أقدمت على معصية، ولا شك أن الاستخفاف بالمحرمات ولو كانت صغائر قد يجعلها عظائم؛ لأنك لا بد أن تنظر إلى من عصيت، فليحذر المسلم من هذه المعاصي، يبقى النظر في هذه العبادات المكفرة، هل الصلاة المكفرة لهذه الذنوب والجمعة المكفرة والصيام المكفر أي صلاة؟ وأي صيام؟ يعني هل هي الصلاة المسقطة للطلب؟ هل هي الصلاة التي ليست للمصلي إلا عشرها هذه تكفر شيء؟ نأخذ النص يعني بعمومه وننظر إلى خفايا الأمور، نغفل عن خفايا الأمور، شيخ الإسلام -رحمه الله- تعالى يقول: "هذه الصلاة التي لم ينصرف صاحبها من الأجر بشيء أو بالعشر مثلاً هذه أن كفرت نفسها بركة" فلننتبه لمثل هذا، لا نقول: الحمد لله صلينا وانتهينا، وبعض الناس يسترسل في الجرائم والمنكرات في الفواحش والموبقات ويقول: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [(114) سورة هود] يا أخي وما يدريك أن حسناتك مقبولة؟ {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [(27) سورة المائدة] ولا شك أن هذا من تلبيس الشيطان، لا شك أن الاستدلال بالنص هو الأصل؛ لكن يبقى أن النصوص لها ما يحتف بها، وتؤخذ النصوص مجتمعة لا نأخذ بنصٍ يرضينا ونترك نص يحكم علينا، لا بد أن ينظر إلى الأمور بشمول، الذي قال: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [(114) سورة هود] الله -جل وعلا-، والسيئات لا تقضي على الحسنات إلا عند الإحباطية من الخوارج والمعتزلة، وهذا من فضل الله -جل وعلا- يعني الحسنة على ما سيأتي بعشر أمثالها مضاعفات وأضعاف كثيرة، وتبقى أن السيئة سيئة لا تضاعف؛ لكن يبقى أن يكون الإنسان خائفاً وجلاً فإذا كان حال الصحابة أنهم يأتون بالحسنات وبالطاعات، ومع ذلك يخافون من عدم القبول {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [(60) سورة المؤمنون] خائفة، تقول عائشة: "أهم الذين يزنون ويشربون ويسرقون؟" قال: ((لا يا ابنة الصديق هم الذين يصلون ويصومون ويحجون لكنهم وجلون يخافون أن ترد عليهم أعمالهم)) فعلى الإنسان أن يخاف في مثل هذه الأمور، ولا يقدم على السيئات باعتبار أن الصلوات تكفر والجمعة تكفر، أولاً: الاستخفاف بالمعاصي شأنه عظيم، والأمر الثاني: أنه لا بد من اجتناب الكبائر لتكفر الصغائر، بقي أن الحديث فيه إشارة إلى أن الذنوب متفاوتة بدءً مما يخرج من الملة إلى المحقرات، فهي متفاوتة، والحديث يدل على أن هناك كبائر وهناك صغائر، والكبائر متفاوتة من الموبقات ومنها ما دون ذلك، والصغائر أيضاً متفاوتة، وأهل العلم يختلفون اختلاف كبير في الحد والضابط الذي يضبط الصغيرة من الكبيرة، فمنهم من يرى أن الكبيرة: ما رتب عليه حد الدنيا، أو وعيد في الآخرة، أو غضب أو لعن أو تعود عليه بنار، أو قيل فيه: "ليس منا" أو لا يدخل الجنة، أو لم ير رائحة الجنة، هذه في حيز قسم الكبائر، وما دون ذلك فهي صغيرة، يقول ناظم الكبائر الحجاوي في منظومة الكبائر لما ذكر القيد هذا قال:
وزاد حفيد المجيد أو جاء وعيده |
|
بنفي لإيمانٍ أو بلعن مبعدِ |
بنفي لإيمان –لا يؤمن أحدكم-، المقصود أن أهل العلم تكلموا في هذا كلاماً طويلاً، منهم من يفرق بين الكبائر والصغائر يجعل الكبائر فيما كانت تحريمه تحريم غايات ومقاصد، ويجعل الصغائر ما كان تحريمه من باب تحريم الوسائل، ويبقى أن هذا ليس بضابط؛ لأن ما يعتبر وسيلة عند قوم هو غاية عند آخرين، ويختلفون في تحديد الوسيلة والغاية، وجاءت نصوص قوية جداً في بعض الوسائل، فمثلاً التصوير جاء: ((أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون)) هل نستطيع أن نقول: التصوير صغيرة؟ لا يمكن، ومع ذلكم يقرر أهل العلم أن التصوير يعني ما هو لذاته، لما فيه من مضاهاة خلق الله، وخشية أن تعبد؛ لأنها هي السبب الأول لانتشار الشرك، ويبقى أنها محرمة لذاتها، كما دل على ذلك النص.
الحديث الخامس والعشرون: عن مالك بن الحويرث -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((صلُّوا كما رأيتموني أصلّي، وإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم)) [متفق عليه].
حديث مالك بن الحويرث وقد وفد إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، ورأى صلاة النبي -عليه الصلاة والسلام-، وحفظ عنه صفة الصلاة، وجاء عنه في صفة صلاة النبي -عليه الصلاة والسلام- ما لم يرد عن غيره، فنقل عن النبي -عليه الصلاة والسلام- قوله: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) هذا الميزان الشرعي للصلاة، أن نصلي كما صلى النبي -عليه الصلاة والسلام-؛ لأن فعله -عليه الصلاة والسلام- بيان للواجب، وبيان الواجب واجب، ويبقى أن هذا البيان لكونه فعل جاء في بعضه ما يدل على التأكد، وفي بعضه ما يدل على التوسط، وفي بعضه ما يدل على التساهل والتسامح بنصوصٍ أخرى، ولذا قسم أهل العلم أفعال الصلاة إلى أركان، وإلى واجبات، وإلى سنن، مالك بن الحويرث رأى النبي -عليه الصلاة والسلام- يصلي، رآه يقف، يكبر، يقرأ، يكبر، يركع، يكبر ويقول: سمع الله لمن حمده، يركع، يسجد، ورآه أيضاً يجلس بين الركعة الأولى والثانية والثالثة والرابعة، نقل عنه هذا، فهل هذه الأفعال التي رآها مالك بن الحويرث على حدٍ سواء؟ لا، جاءت النصوص الأخرى المبينة لهذا الفعل، فمثلاً تكبيرة الإحرام هل نقول: أن تكبيرة الإحرام مثل رفع اليدين في الحكم؟ لا، هل نقول: أن الجلسة بين السجدتين مثل الجلسة التي يسميها بعضهم جلسة الاستراحة؟ لا، هل نقول: أن الركوع أو السجود مثل التورك أو الافتراش؟ لا، أفعال الصلاة المتفاوتة أهل العلم قسموها إلى أقسام، تبعاً لما ورد من النصوص المقسمة والموزعة والمفرقة لأفعاله -عليه الصلاة والسلام-، وإلا فالأصل أن هذه قاعدة أن نصلي كما صلى النبي -عليه الصلاة والسلام-؛ لأن فعله بيان لما أجمل في القرآن، الأمر بالصلاة في القرآن مجمل يحتاج إلى بيان، بينه النبي -عليه الصلاة والسلام- بفعله وبقوله، لكن أفعاله منها ما حمل على الركنية، ومنها ما حمل على الوجوب، ومنها ما حمل على الاستحباب، ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) لأنه هو القدوة وهو الأسوة، وليس لأحدٍ أن يجتهد مع ما ثبت عنه -عليه الصلاة والسلام-، نعم للعلماء أن يجتهدوا في فهم كلامه -عليه الصلاة والسلام-، وفي فهم فعله، أو في تنزيل قوله وربطه بفعله، لهم أن يجتهدوا وينظروا، ولذا وجد الخلاف، وإلا قد يقول قائل: كيف يختلف الأئمة ويختلف الصحابة وهم يرون النبي -عليه الصلاة والسلام- يصلي في اليوم والليلة خمس مرات؟ يصلي أضعاف ذلك من النوافل يشوفون شلون اختلفوا؟ يختلفون في الفهوم، النبي -عليه الصلاة والسلام- قد يطيل، وقد يقصر، وقد يستعمل بعض السنن، وقد يترك بعض السنن لبيان الجواز، المقصود أن صلاته -عليه الصلاة والسلام- بيان لما أجمل من الأوامر في القرآن والسنة، والأصل أن هذا البيان واجب لأنه جاءت فيه النصوص ما يدل على أن مفردات هذا البيان الفعلي منها ما هو متأكد جداً بحيث يصل إلى حد الركنية الذي تبطل الصلاة بتركه، أو الواجب التي تبطل الصلاة بعمد تركه ويجبر بسجود السهو مع السهو والنسيان، وما لا يلزم بتركه شيء كالسنن، وأهل العلم فصلوا هذا تبعاً للنصوص الواردة في ذلك.
((وإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم)) حضرت الصلاة، الأذان يعرفه أهل العلم بأنه الإعلام بدخول وقت الصلاة، فقوله: إذا حضرت الصلاة يعني حضر وقتها، فالأذان إعلام لدخول الوقت، فلا يصح الأذان قبل دخول الوقت إلا في صلاة الصبح، إن بلالاً يؤذن بليل، طيب بعد طلوع الوقت مثلاً هل يؤذن أو ما يؤذن؟ يعني نام شخص أو مجموعة ناموا، استيقظوا بعد طلوع الشمس يؤذنون وإلا ما يؤذنون؟ نعم يؤذنون، بعد الوقت، لو الإنسان حبس في منصرفه من عرفة إلى مزدلفة حتى انتصف الليل، يعني ما هو قال أهل العلم أن الأذان إعلام لدخول الوقت الآن قرب خروج الوقت، إذاً الأذان يكون أحياناً للوقت، وأحياناً يكون للإعلان للصلاة، فيما إذا ناموا عن الصلاة كما فعل -عليه الصلاة والسلام- لما نام عن صلاة الصبح. ((فليؤذن لكم أحدكم)) الأذان ما يشترط له من الشروط مثلما يشترط للإمامة، الأذان يكون صيت، ثقة، أمين، عارف بالأوقات؛ لكن لا يشترط له أكثر من هذا، بينما الإمامة ((وليؤمكم أكبركم)) الإمامة لها شروط، ((يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله)) فالأقرأ هو الأولى بالإمامة، وإن حمله الأكثر على أن المراد به الأفقه، الحديث: ((يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم سلماً)) أقدمهم هجرة، أكبرهم سناً، المقصود أن لها أوصاف، الأولى بها الأمكن في هذه الأوصاف، فيؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، وأعلمهم به، وأحفظهم له، وأضبطهم لقراءته، والأكثر يرون أن المراد بالأقرأ هو الأفقه، ولو كان غيرها أكثر من القرآن؛ لأن الإمام يعرض له في صلاته أمور إن لم يكن أفقه لا يستطيع أن يتخلص من هذه الأمور التي عرضت له، ولو كان حافظاً لكتاب الله، مجوداً له، لكن النص نص واضح بأن المقدم الأقرأ لكتاب الله، وإن كان غيره أفقه منه، بدليل أن الفقه لا سيما فقه الصلاة جله مأخوذ من السنة، والسنة مرتبة ثانية بعد الأقرأ، كما في النص، إذاً المقدم مطلقاً هو الأقرأ، ثم الأعلم بالسنة، ولنقل: الأفقه؛ لأن فقه الصلاة مأخوذ من السنة، ثم الأكبر، أقدمهم سلم إسلام، وهنا يقول: ((وليؤمكم أكبركم)) وجاء تقديم الكبير في أماكن، ولا شك أن الشرع جعل للكبير ميزة، لما أراد أن يتحدث ولي الدم قال له النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((كبر كبر)) ولا شك أن الكبر كبار السن مقدم في شريعة الإسلام؛ لكن مع التساهل، لا نقول: يؤم الأكبر مع وجود من هو أقرأ منه، لا، الترتيب مطلوب، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
"