كتاب الطهارة من المحرر في الحديث - 23

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

بسم الله، والحمد لله، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين.

 قال الإمام ابن عبد الهادي -رحمه الله تعالى- في محرره:

باب التيمم عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي؛ نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة»، متفق عليه.

 وروى الإمام أحمد من حديث عَلِي: «وجعل التراب لي طهورًا»."

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد،

فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: "باب التيمم" التيمم عرفوه في اللغة بأنه القصد، {فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً} [سورة النساء:43] يعني اقصدوا صعيدًا طيبًا، وفي الاصطلاح في الشرع عند الفقهاء استعمال التراب لمسح الوجه واليدين عوضًا عن الماء عند عدمه أو عدم القدرة عليه.

 "عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أعطيت خمسًا»" أعطيت مبني للمجهول، والفعل يبنى للمجهول أحيانًا للعلم بالفاعل، يعني يحذف الفاعل للعلم به أو للجهل به أو للخوف منه، أو للخوف عليه إلى غير ذلك من الأغراض التي ذكرها أهل العلم، وهنا حذف للعلم به فالمعطي هو الله -جل وعلا-، هو الذي أعطاه هذه الخصال والخصائص.

 «أعطيت خمسًا» يعني من الخصال أو الخصائص، والتحديد بالخمس لا مفهوم له؛ لأنه جاء الزيادة عليها، فخصائص النبي -عليه الصلاة والسلام- كثيرة، وخصائص هذه الأمة كثيرة، وأُلِّف فيها المؤلفات، الخصائص للسيوطي في ثلاثة مجلدات، فالخصائص أكثر من خمس، فإما أن يقال: إن التحديد بالعدد للتقريب، والاهتمام بهذه الخمس والعناية بها، أو يقال: إنه أعطي الخمس، ثم زيد له فيها، زيد في الخصائص بعد ذلك كما يقال في نظائره، «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة»، وثبت أنه تكلم في المهد أكثر من ثلاثة، «سبعة يظلهم الله في ظله» ثبت أكثر من ذلك.

 المقصود أنه قد يخبر النبي -عليه الصلاة والسلام- بعدد، ثم يزاد عليه، فيه من سوء الأدب أن يقول بعض الشراح: في هذا الحصر نظر، وقد قاله بعضهم في حديث «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة»، قال: في هذا الحصر نظر؛ لأنه ثبت أنه تكلم في المهد أكثر من ثلاثة، سبعة، هذا سوء أدب، سوء أدب مع النبي -عليه الصلاة والسلام-؛ لأن الذي ذكر العدد من هو؟!

من لا ينطق عن الهوى.

 «أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي»، يعني من الأنبياء، هذه من خصائصه -عليه الصلاة والسلام- دون من سواه من الأنبياء، «نصرت بالرعب» هذه هي الأولى، وهو الخوف والفزع والذعر، «بالرعب مسيرة شهر» مسيرة شهر بالوسائل الموجودة وقت هذا الكلام وهي الإبل؛ لأن السير يختلف، الخيل الجياد سرعتها غير سير الإبل المحملة التي هي وسيلة عموم الناس، والسيارات أسرع، والطائرات أسرع، فالمقصود بالمسيرة هنا وكل ما جاء التحديد فيه بالمسافة عن النبي -عليه الصلاة والسلام- بالوقت إنما هو بسير الإبل المحملة؛ لأنها هي الوسيلة الموجودة في ذلك الوقت لدى عامة الناس، «نصرت بالرعب» الخوف والفزع والذعر مسيرة شهر من بينه وبينه شهر في بعض الروايات: شهرين، وهو محمول على الذهاب والإياب؛ لتتفق الروايات، وهذه الخصيصة له -عليه الصلاة والسلام- من أقوى ما يعينه على النصر على الأعداء؛ لأن الذعر والفزع إذا حل بالقلب ما ثبت الإنسان، ولذا الآن في الحروب تبث الإشاعات التي تثير الرعب والفزع؛ ليسهل القضاء على الخصم، ولذا يقرر أهل العلم منع المرجف والمخذِّل من الخروج مع الجيش للغزو؛ لأنه يفت في عضد المقاتلين، يبث فيهم الخوف والفزع والهلع، مثل هذا يمنع، يمنعه الإمام.

 نصرت بالرعب هذا من خصائصه -عليه الصلاة والسلام-، ولأمته من هذه الخصيصة النصيب بقدر إرثها منه -عليه الصلاة والسلام- في العلم والعمل، وشواهد الأحوال لا تحتاج إلى استدلال، تجد العالم العامل وإن كان ضعيف الأركان أحيانًا يكون ضعيفًا في بنيته جدًّا، بل وفي حزمه، وعنده من طيب القلب ما عنده بحيث لو لم يكن عنده رصيد قوي من العلم والعمل يمكن أن يصير مضحكة للناس، لكن بالعلم والعمل بقدر هذا الإرث من النبي -عليه الصلاة والسلام- تجد الكبار يهابونه ويفزعون منه، وهذا موجود، يأتي الكبير الأمير أو الوزير؛ ليسأل سؤالًا لبعض أهل العلم، يرجع وما سأل من الهيبة، ويأتي العالم الآخر؛ ليسأل هذا العالم وقد زور في نفسه عشرة أسئلة، يسأل سؤالًا وسؤالين وينسى البقية، هذا موجود، هل لأن هذا عنده الحرس؟ هل عنده الشرط؟ هل لهذا عنده الأسلحة أو شيء يدفع بها الناس؟ النبي -عليه الصلاة والسلام- الناس لا يُدفَعون عنه، ولا يدعون، ومع ذلك نصر بالرعب، وقل مثل هذا بقدر الإرث من علم النبي -عليه الصلاة والسلام- وعمله -عليه الصلاة والسلام-، والشواهد موجودة.

 يأتي المسؤول الكبير في الليلة الشاتية شديدة البرد ليسلم على هذا العالِم ويده رطبه من الرحضاء من العرق، ما سبب هذا؟ هل لأنه يستعمل العصا أو يستعمل السيف؟ لا، لما وقر في القلوب من تعظيمه، لما جعل الله -جل وعلا- في قلوب من تعظيمه وهيبته، «نصرت بالرعب مسيرة شهر» هذا هو الأول.

 والثاني: «وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا»، وهذا هو الشاهد من الحديث «جعلت لي الأرض»، وهذا الجعل شرعي. مسجدًا: محلاً للسجود، وهو الصلاة، وطهورًا يتطهر به، «فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل»، لماذا؟ لأن عنده طهوره ومسجده، لا يحتاج أن يقول: أذهب إلى المسجد إذا كان بعيدًا عنه، ولا يسمع النداء فعنده مسجده، ولا يحتاج أن يقول: لا أصلي؛ لأني لم أتوضأ، ولا أجد الماء، عندك المسجد، وعندك الطهور، «جعلت لي الأرض مسجدًا»، يستثنى من ذلك ما تنجس من الأرض؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- أمر بصب الماء على بول الأعرابي، فدل على أن الأرض المتنجسة لا يصلى عليها، والمقبرة أيضًا لا يصلى فيها، ولا يصلى إلى القبور؛ «لا تصلوا إلى القبور، ولا تجلسوا عليها»، ولا فرق بين أن يكون بين القبور أو بعيدًا عنها إذا كان في سور المقبرة، وأيضًا الحمام جاء فيه الخبر، وأعطان الإبل جاء فيها الخبر، والخلاف في الدار المغصوبة والكعبة بين أهل العلم معروف.

 الدار المغصوبة يرى بعض أهل العلم أن الصلاة فيها باطلة؛ لأنه مأمور بتركها، والتخلي عنها، ولا يجوز له بحال أن يستعملها فتصرفه فيها محرم، حركاته فيها محرمة، فإذا أدى فيها ما أمر به شرعًا صار مأمورًا منهيًّا في آن واحد، وهذا تضاد، بهذا يقول جمع من أهل العلم، وهي الرواية المشهورة عند الحنابلة، الصلاة في الدار المغصوبة لا تصح، وفي المذهب رواية، وهو قول كثير من أهل العلم أن الصلاة صحيحة، والجهة منفكة، والجهة منفكة، له أجر صلاته، وصلاته صحيحة، لكن عليه إثم الغصب.

 والكعبة، النبي -عليه الصلاة والسلام- صلى فيها النفل، ولم يثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه صلى فرضه، وأكثر أهل العلم على أن الصلاة لا تصح فيها، أعني الفريضة؛ لأنه لا يتم بها الاستقبال التام للكعبة، إنما يتم الاستقبال إذا كان خارج الكعبة، فإذا استقبل شيئًا منها لم يستقبل بقيتها، ومنهم من يقول: إذا صحت النافلة صحت الفريضة، ولا فرق إلا ما دل الدليل على التفريق بينهما، وعلى كل حال الاحتياط ألا تصلى الفريضة داخل الكعبة؛ لأنهم يثبت فعلها عن النبي -عليه الصلاة والسلام-.

 «جعلت لي الأرض»، في الرواية الآتية يقول المؤلف: وروى الإمام أحمد من حديث علي: «وجعل التراب لي طهورًا»، ولمسلم من حديث حذيفة: «وجعلت تربتها لنا طهورًا إذا لم نجد الماء»، الأرض لفظ يشمل جميع ما على وجه الأرض، كل ما على وجه الأرض يدخل في «جعلت لي الأرض»، والتراب فرد من أفرادها، أو وصف من أوصافها، فرد أم وصف؟ ما الذي يترتب على ذلك؟

طالب: ...........

يعني هل الأرض ذات أوصاف أو ذات أفراد؟

طالب: ...........

أفراد؟ يعني نقول: أن الأرض لفظ عام له أفراد، من أفراده التراب، أو نقول: إن الأرض ذات أوصاف، من أوصافها التراب، بمعنى أن ما بين الأرض والتراب عموم وخصوص، أو إطلاق وتقييد؟ يعني هل التراب قيد أم فرد؟

فيه تداخل وتشابه، والشراح يشرحون في أول الأمر على أنها فرد، ثم يحمل المطلق على المقيد، ثم يضطربون في مثل هذا، وبعضهم ما يخرج بنتيجة، والفرق من حيث الحكم كبير من حيث الحكم الشرعي إذا قلنا: إن التراب فرد من أفراد العام الذي هو الأرض قلنا: لا يقتضي التخصيص، لماذا؟

لأنه ذكر الفرد بحكم موافق لحكم العام، وهذا لا يقتضي التخصيص، وإذا قلنا: إنها وصف تقتضي التخصيص اتفقا في الحكم والسبب يحمل المطلق على المقيد، ولذا الحنابلة والشافعية لا يرون التيمم بغير التراب بناءً على أن هذا من باب الإطلاق والتقييد، وغيرهم يقول: يتيمم بكل ما على وجه الأرض من تراب ورمل وغيرهما وصخر، التيمم بكل شيء على وجه الأرض بناءً على أن التراب من باب التنصيص على بعض أفراد العام، وهذا لا يقتضي التخصيص؛ لأن الحكم متحد، فيتيمم بكل شيء، يتيمم بالرمل، يتيمم بالصخر، أي شيء على وجه الأرض، يتيمم به حتى الطين، الأرض المبلولة الرطبة الندية يتيمم بها؛ لأنها من الأرض، منهم من يقول: إن الزيادة تربتها فيها معارَضة للفظ العام، فيحكم عليها بالشذوذ، وأنها غير محفوظة، ويبقى التيمم بجميع ما على وجه الأرض، لكن لا داعي للحكم عليها بالشذوذ، بل هي محفوظة، والتنصيص على التراب للعناية به والاهتمام به، وأنه أولى من غيره إذا وجد، وإن كان لا يمنع من التيمم بغيره؛ لأنه فرد، والتنصيص على الفرد بحكم موافق بحكم عام لا يقتضي التخصيص، كما هو مقرر، فإذا جعلناه من باب العموم والخصوص انتهى الإشكال، وليس فيها معارضة، الإشكال في الإطلاق والتقييد هو الذي إذا قلنا: إنها من باب الأوصاف، والتراب وصف من أوصاف الأرض، كما أن وصف الرقبة بالإيمان قيد اعتبره أهل العلم في العتق، فليعتبر الوصف بكون ما على وجه الأرض ترابًا، الكلام ظاهر أم ما هو بظاهر؟

على كل حال إذا قلنا: إنه فرد من أفراد العام ما احتجنا إلى تخصيص، تيممنا بالتراب، تيممنا بالرمل، تيممنا بالصخر، تيممنا بالطين، ما عندنا إشكال، لكن التراب أولى؛ لأن التنصيص عليه يدل على الاهتمام به، وإذا قلنا: إطلاق وتقييد ما تيممنا إلا بالتراب فقط، كما هو المعروف عند الحنابلة والشافعية، ولعل الأول أولى؛ لأن التيمم إنما شرع للتيسير، فإذا ألزمنا المتيمم أن يتيمم بتراب، وقد يكون مسافرًا، وليس في طريقه إلا كثبان الرمل، أو ليس في طريقه إلا الجبال نقول: لا تيمم هذا ينافي مقتضى شرعية التيمم، لكن إذا وجد تراب أو غيره فالتراب أولى من غيره؛ للتنصيص عليه.

 «وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا» مسجدًا يصلى فيه وطهورًا يتطهر به، «فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل»، وهذا معلوم أنه إذا كان لا يسمع النداء، أما إذا كان يسمع النداء فلا بد من أن يصلي حيث ينادى بها، أي الصلاة، يعني في المساجد، «أتسمع النداء؟» قال: نعم، قال: «أجب، لا أجد لك رخصة»، «وأحلت لي الغنائم»، الغنائم ما يأخذه المسلمون من أموال أعدائهم بقتال وشبهه، «أحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي»، كانت الغنائم في الأمم السابقة ما تُقبل منها تنزل عليه نار فتحرقه، ولا يحل لأحد من الغانمين شيء منها، والنبي -عليه الصلاة والسلام- من خصائصه أنه أحلت له الغنائم، وهي أطيب المكاسب، أطيب المكاسب لماذا؟

لأنها كسب النبي -عليه الصلاة والسلام- «وجعل رزقي تحت ظل رمحي»، فهي أطيب المكاسب، والعلماء يختلفون في أطيب المكاسب، منهم من يقول: الزراعة، ومنهم من يقول: الصناعة إلى آخره، لكن الذي قرره أهل العلم وانتصر له ابن القيم أن أطيب المكاسب الغنائم، «ولم تحل لأحد قبلي».

 «وأعطيت الشفاعة» أعطيت الشفاعة، والمراد بها الشفاعة العظمى التي يعتذر عنها أولو العزم يطول الموقف بالناس، ويشتد الهول في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، نصف يوم؛ لأنهم أين يقيلون؟ يقيلون في منازلهم {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} [سورة الفرقان:24]، فهم يقيلون في منازلهم، فهو نصف يوم، لكنه يوم يجعل الولدان شيبًا إذا طال بهم الموقف، واشتد بهم هوله بحثوا عمن يخلصهم ويشفع لهم عند الله- جل وعلا-، فيأتون آدم ويعتذر بمعصيته، اذهبوا إلى نوح، فيذهبون إلى نوح أول الرسل، فيعتذر بأنه كانت له دعوة فدعا بها على قومه، اذهبوا إلى إبراهيم، فيذهبون إليه ويعتذر، ويذكر الكذبات الثلاث، وكلها في ذات الله، اذهبوا إلى موسى، فيذهبون إلى موسى، ويذكر ما حصل له من القتل، ويعتذر، اذهبوا إلى عيسى، فيذهبون إليه، ولا يذكر ذنبًا، لكنه يحيل إلى من هو أفضل منه، وهو محمد -عليه الصلاة والسلام-، فيأتون إليه -عليه الصلاة والسلام- فيقول: «أنا لها، أنا لها»، فيسجد ويفتح عليه بمحامد وأدعية ثم يقال له: ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع، فيشفع.

 «وأعطيت الشفاعة»، والمراد بها الشافعة العظمى، وهذه الشفاعة مجمع عليها، حتى المبتدعة يقرونها، الذين ينفون شفاعة النبي -عليه الصلاة والسلام- لأهل الكبائر؛ لأنهم يرون أن أهل الكبائر مخلدون، نسأل الله السلامة والعافية، فالمعتزلة والخوارج ينفون هذه الشفاعة؛ لأنها لا تجدي، ولن يخرجوا سواء شفع لهم، أو لم يشفع لهم، مع أن القول المعروف عند أهل السنة الذي لا يختلفون فيه أن أهل الكبائر تحت المشيئة، وأن مآلهم إلى الجنة، وأنهم لا يخلدون في النار.

 «وكان النبي» الجنس جنس الأنبياء «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة»، رسالته -عليه الصلاة والسلام- إلى الثقلين الجن والإنس عامة لجميع من على وجه الأرض، بخلاف من قبله من الأنبياء، فإنهم يبعثون إلى أقوامهم، ويبقى أقوام على وجه الأرض لا يطالب بتبليغهم، ولا يطالبون باتباعه، يبعث إلى قومه خاصة، «وبعثت إلى الناس عامة»، ولذا لا يسمع به -عليه الصلاة والسلام- يهودي ولا نصراني بعد بعثته -صلى الله عليه وسلم- فلا يؤمن به إلا دخل النار.

 ولذا يقرر أهل العلم أن من النواقض لدين الإسلام أنه من زعم أنه يسعه الخروج عن شريعة محمد -عليه الصلاة والسلام- كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى يكفر بهذا، فإنه يكفر بهذا، فعموم بعثته -عليه الصلاة والسلام- مما علم من دين الإسلام بالضرورة.

 "متفق عليه.  وروى الإمام أحمد من حديث علي: «وجعل التراب لي طهورًا»، ولمسلم من حديث حذيفة: «وجعلت تربتها لنا طهورًا إذا لم نجد الماء»وعرفنا ما بين اللفظين من نسبة.

"وقال -رحمه الله-: وعن عمار بن ياسر -رضي الله تعالى عنه- قال" بعثني النبي -صلى الله عليه وسلم- في حاجة، فاجتنبت، فلم أجد الماء، فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة، ثم أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكرت ذلك له فقال: «إنما كان يكفيك أن تقول بيدك هكذا» ثم ضرب بيده الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه، متفق عليه، واللفظ لمسلم.

 وفي رواية للبخاري: وضرب -صلى الله عليه وسلم- بكفيه الأرض ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه."

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: "وعن عمار بن ياسر -رضي الله تعالى عنه-: قال: بعثني النبي -صلى الله عليه وسلم"- يعني أرسلني النبي -عليه الصلاة والسلام- "في حاجة"، ولم يبينها -رضي الله تعالى عنه-؛ حفظًا لسر النبي -صلى الله عليه وسلم-.

 "في حاجة فأجنبت" يعني أصابته الجنابة من احتلام أو مواقعة جماع، لكن الذي يغلب على الظن أنه احتلام، فأجنبت، يعني أصابته الجنابة، "فلم أجد الماء"، وهذه يُفهم منها أنه بحث عن الماء فلم يجده؛ لأنه لو أراد غير ذلك لقال: فلم يكن معي ماء، فلم يجد الماء يعني بعد البحث عنه، وبعد طلبه، فالبحث عن الماء لا بد منه؛ ليكون عادمًا له فيعدل عنه إلى التيمم، فلا يصح التيمم إلا بعد فقد الماء حقيقة أو حكمًا، حقيقة، بحث يمينًا وشمالًا ما وجد، أو حكمًا بأن يكون الماء قريبًا منه جدًّا فلا يستطيع الوصول إليه في بئر، وليس معه ما يستنبط به منه الماء ويستخرجه، مثل هذا عادم حكمًا، الماء بين يديه في الإناء، لكنه لا يستطيع استعماله؛ لبرد شديد أو لمرض أو نحوه، هذا عادم للماء حكمًا، لم يجد الماء، فمثل هذا يعدل إلى التيمم، الخوف من البحث عن الماء، شخص نام، أدركه المبيت في مفازة، وقفل عليه السيارة، وأحكم الأغلاق، وخشي إن نزل أن يعرض له ما يضره من سبع ونحوه، وهذا لا يخلو من حالين؛ الحال الأولى: أن يكون هذا محقق، يرى الذئاب عن يمينه وعن شماله، وهو في السيارة يرى السباع عيانًا، والثاني يتوهّم، أما من يرى هذا فمعذور، لكن الذي يتوهم مجرد خوف، من أهل العلم من يرى أن هذا لا أثر له في الحكم مادام ما تحقق، لا بد أن يبحث عن الماء، وبعضهم يقول: إن مثل هذا أولى بالعذر من بعض من يرى السباع بعينيه؛ لأنه قد يصل به الخوف من مجرد الظلام أكثر مما يصل الخوف بالنسبة لبعض من يرى الذئاب والسباع ممن يفوقه في الشجاعة، بعض الناس ولو لم يكن هناك مخوف حقيقي يمكن أن يجن لو في بيته مثلاً، في بيته وأراد أن يتوضأ لصلاة الليل مثلاً فتح صنبور الماء، فما فيه ماء، الماء مقطوع، ما عنده ماء، وهو موجود في حمامات المسجد، أما بالنسبة للصلاة فيخرج مع الناس ولا فيه إشكال، لكن يريد أن يصلي صلاة الليل، ويخاف مجرد خوف وهم، يعني ما فيه شيء، لكن بعض الناس يخاف من الظلام، يفزع من الظلام بحيث لو أجبر على الخروج خطر أن يجن، احتمال أن يجن، مثل هذا يعذر، مثل هذا يعذر لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، وإن قال بعضهم: إنه لا بد من تحقق المخوف.

 "فلم أجد الماء فتمرغت" تقلب على جنبه الأيمن ثم الأيسر والبطن والظهر، "فتمرغت في الصعيد"، يعني التراب "كما تمرغ الدابة" كما تتمرغ الدابة، وهذا قالوا التشبيه؛ لبيان المطابقة، وليس المقصود منه التقبيح أو التنفير، إنما حصل منه مثل ما يحصل للدابة حينما تتمرغ في التراب، وهذا اجتهاد منه قياسًا على الماء، الماء في الغسل، لا بد أن يعم جميع البدن والتيمم على اجتهاده أنه يحكي الأصل، فلا بد أن يعم جميع البدن بالتراب، فصنع هذا من باب القياس.

 "قال: ثم أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكرت ذلك له" ذكر له ما حصل أنه أصابته جنابة، وأنه تمرغ في الصعيد كما تتمرغ الدابة، "فقال له النبي -عليه الصلاة والسلام-: «إنما كان يكفيك إنما يكفيك»" عن التمرغ، ما يلزمك أن تتمرغ وتتقلب في التراب، «يكفيك عن ذلك أن تقول بيديك» يعني أن تفعل بيديك، وإسناد القول إلى الجوارح معروف، كثير في النصوص، «إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا»، ثم فسر هذا الإجمال «إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا»، ثم وضح الفعل بالقول مفسرًا الإجمال بقوله: هكذا "ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة ضربة واحدة" وهذا هو الصحيح المتفق عليه، وجاء التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة للكفين، لكن هذا أرجح، فالمعتمد أن التيمم ضربة واحدة.

 "ثم مسح الشمال على اليمين" يعني من الباطن، الشمال على اليمين وهكذا، "وظاهر كفيه ووجهه" وهنا قدم اليدين على الوجه، قدم اليدين على الوجه، مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه في الرواية التي تليها، ثم يمسح بهما وجهه وكفيه، الرواية الأولى قدم اليدين على الوجه، والرواية الثانية قدم الوجه على اليدين، والمراد باليدين الكفين وظاهر كفيه، عندنا اليد هنا في التيمم في الآية جاءت مطلقة، في الآية جاءت مطلقة {فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ} [سورة المائدة:6] مطلقة، وجاءت في آية الوضوء مقيدة {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [سورة المائدة:6]، فهل يحمل المطلق على المقيد فنمسح في التيمم إلى المرافق، أو لا يحمل؟ هنا قال: وظاهر كفيه يحمل أم ما يحمل؟

لأن اليد تطلق والغالب أنها مع الإطلاق يراد بها الكفان، وإلا فالأصل أنها تشمل من أطراف الأصابع إلى المناكب، فهي حينئذ مجملة تحمل إلى الكفين، وتحتمل إلى المرفقين، وتحتمل إلى الآباط، وقد قيل بذلك كله، بمسح الكفين فقط، والمسح إلى المرفقين قياسًا على الوضوء، والمسح إلى الآباط؛ لأن اليد تشمل إلى المنكب، ومثل ما سمعنا جاءت اليد مطلقة في آية التيمم، وجاءت مقيدة في آية الوضوء، وقد اتفقا في السبب، السبب الحدث، لكن الحكم مختلف، في الوضوء غسل، وفي التيمم مسح، فإذا اختلف الحكم فحينئذ لا يحمل المطلق على المقيد وإن اتحد السبب، ولذا جاء في الحديث: وظاهر كفيه، ثم يمسح بهما وجهه وكفيه، من أهل العلم من يرى حمل المطلق على المقيد، وهذا معروف عند الشافعية، وأن المسح إلى المرافق، لكن قولهم مرجوح، فأحاديث الباب صريحة في المقصود مسح وجهه وكفيه، في الرواية الأولى قدم اليدين، وفي الرواية قدم المسح، والرواية الثانية هي الموافقة للقرآن {فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [سورة النساء:43].

 قد يقول قائل: إن الواو هنا لا تقتضي ترتيبًا، هي لمطلق الجمع، فسواء بدأ بمسح الوجه أو بدأ بمسح اليدين لا فرق، فإن بدأ باليدين وافق الرواية الأولى، وإن وافق بالوجه وافق الرواية الثانية مع الآية، وجمع من أهل العلم يرون أن الفرع له حكم الأصل، الفرع له حكم أصله، فالتيمم إذا كان عن حدث أصغر وجب فيه الترتيب؛ لأن الوضوء يجب فيه الترتيب، وإذا كان التيمم عن حدث أكبر لم يجب فيه الترتيب؛ لأن الغسل لا يجب فيه ترتيب، والأدلة مثل ما ترون جاءت بالواو أحيانًا بالتقديم وأحيانًا بالتأخير، تقديم الكفين وأحيانًا بتقديم الوجه، فلا يدل على الترتيب، فلا يدل على الترتيب التقديم في الذكر في الآية {فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [سورة النساء:43]، لا شك أن له حظًّا من النظر، اعتمد أهل العلم هذا الترتيب في آية الوضوء، وإن كان بالواو وجاء في الحديث لما رقي النبي -عليه الصلاة والسلام- على الصفا قال: «أبدأ بما بدأ الله به»، وفي رواية بالأمر «ابدؤوا بما بدأ الله به»، وبدأ بالصفا؛ لأن الله بدأ بها ذكرًا فيبدأ بها فعلاً، {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} [سورة البقرة:158]، ولذا قال بعض العلماء بوجوب الترتيب على حسب ما جاء في الآية، فيجب تقديم الوجه ثم الكفين، فماذا نقول عن الرواية الأولى؟

هذا نفس الكلام الذي نقرره، يقول: {فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ} [سورة النساء:43] بما أن القرآن الوجه يعني قدم الوجه، هل يدل على أننا نبدأ بالوجه كما في آية {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} [سورة البقرة:158]؟

هذا هو محل الخلاف الذي نقرره الآن، وأشرنا إلى هذا، النبي -عليه الصلاة والسلام- قدم الصفا؛ لأن الله -جل وعلا- بدأ بها {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} [سورة البقرة:158]، وجمع من أهل العلم قالوا بوجوب الترتيب، الجمهور قالوا بوجوب الترتيب في الوضوء؛ لأن الله ذكره مرتبًا، وإن كان العطف بالواو، لكن ذلك مدعوم بالبيان النبوي النبي -عليه الصلاة والسلام- توضأ مرتبًا بدأ بالوجه ثم اليدين ثم مسح الرأس ثم غسل الرجلين، والله -جل وعلا- في سياق الآية أدخل الممسوح بين المغسولات قطع النظير عن نظيره، والعرب لا تصنع مثل هذا إلا لنكتة، والنكتة هنا هي الترتيب، لكن ماذا عن الرواية الأولى: ثم مسح الشمال على اليمين، وظاهر كفيه ووجه، هل نقول: إنه في التيمم أنه في سعة، والأمر كله مبني على التيسير والتوسعة، أو نقول: أن الفرع له حكم الأصل، والأصل يجب فيه الترتيب، فيجب في الفرع في الصغرى دون الكبرى كما قال بعضهم. وعلى كل حال الترتيب أولى.

"وفي رواية البخاري: وضرب النبي -صلى الله عليه وسلم- بكفيه الأرض، ونفخ فيهما" كأنه علق بهما تراب كثير، ثم نفخ فيهما؛ ليتساقط بعض التراب، ثم يمسح، ضرب ثم يمسح، في بعض النسخ، وهي التي في البخاري: ضرب ثم مسح، وهذا هو المتسق مع الفعل الأول ضرب، ثم مسح بهما وجهه وكفيه"، ولا بد من استيعاب الوجه؛ لأنه بدل عن الغسل، والغسل لا بد فيه من الاستيعاب، لا بد فيه من الاستيعاب، وقل مثل هذا في الكفين، هل كل بدل يأخذ حكم المبدل من كل وجه؟

 لو نظرنا إلى مسح الخف، مسح الخف بالماء هل يأخذ حكم غسل الرجل في التعميم؟ ما يأخذ، حتى ظهر القدم التي تمسح، ظهر الخف الذي يمسح يجب تعميمه أم ما يجب؟ ما يجب تعميمه؛ لأنه مجرد خطوط بالأصابع، وينص أهل العلم أنه لا بد من استيعاب الوجه؛ لأنه الأصل في الغسل أنه يستوعب، ولا يسمى وجهًا إلا إذا كان كاملاً، وعلى كل حال لا بد من الاستيعاب، وإذا حصل شيء من الخلل اليسير فيه تجاعيد لا يمكن أن يصل التراب إليها مثل الأجفان ومثل الأشياء التي تكون داخلة ما تمر عليها اليدان، الباب كله مبني على التيسير والتخفيف.

"وقال -رحمه الله-: وعن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليتق الله، وليمسه بشرته، فإن ذلك خير له»، رواه البزار، وقال ابن القطان: إسناده صحيح، وروى الدارقطني قال: الصواب أنه مرسل، وقال ابن القطان في حديث أبي ذر ضعيف، وهو غريب من حديث أبي هريرة، وله علة، والمشهور في الباب حديث أبي ذر الذي صححه الترمذي وغيره."

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: "وعن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «الصعيد الطيب وضوء المسلم»" هل من حاجة وداعٍ لذكر التابعي والراوي عنه؟ العادة جرت بذكر الصحابي فقط، عن عمار بن ياسر، عن جابر، وهكذا، عن أبي سعيد، وقد يحتاج إلى ذكر التابعي، قد يحتاج إلى ذكر التابعي؛ لأن فيه محاورة بينه وبين الصحابي في الخبر، فيحتاج إليه، يذكر، لكن الآن ذكر التابعي، ولا داعي لذكره وذكر الراوي عنه، فلو اقتصر على أبي هريرة كما جرت بذلك العادة، لكن المؤلف أحيانًا ينوع، وهو الغالب أن يقتصر على الصحابي، وأحيانًا يذكر التابعي، وأحيانًا يذكر ما هو أكثر من ذلك، وإلا فالأصل أن المتون تجرد أسانيدها، ويقتصر على الصحابي.

 "عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «الصعيد الطيب وُضوء المسلم أو وَضوء المسلم»" الصعيد كل ما تصاعد على وجه الأرض، الطيب لا بد أن يكون طيبًا، وهذا يخرج غير الطيب، وهو الخبيث، والخبث وصف إما أن يكون حسيًّا أو يكون معنويًّا، فإن كان حسيًّا فهو النجس، وإن كان معنويًّا فهو المغصوب ونحوه.

 «الصعيد الطيب وَضوء المسلم وَضوء المسلم» يعني يقوم مقام الوَضوء، الوَضوء ما يتوضأ به، وهو الماء، وهنا من باب التجوُّز جعل الفرع في مقام الأصل، الصعيد الطيب وَضوء، يعني الأصل أن يقال: طَهور؛ ليشمل التراب، لكن من باب التجوز أطلق عليه وضوءًا؛ لأنه يستباح به ما يستباح بالوضوء، المسلم التنصيص عليه؛ لأنه هو الذي يتوضأ، «وإن لم يجد الماء عشر سنين» عشر سنين ظرف ليجد، عشر سنين، وهذا من باب المبالغة، إذ لا يتوقع أن يعيش إنسان لا يجد ماءً عشر سنين، لكنه من باب المبالغة، وأهل العلم يقررون أن ما جاء في هذا الباب يعني باب المبالغة فإنه حينئذ لا مفهوم له، لا مفهوم له، طيب إذا لم يجد الماء عشرين سنة، ماذا يصنع؟ إذا لم يجد الماء خمس سنين ماذا يصنع؟ هذا لا مفهوم له.

 «وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليتق الله» فليلزم تقوى الله، فليجعل تقوى الله نصب عينيه، لا يفرط، فإذا وجد الماء فليتق الله، وكثير من عوام المسلمين لاسيما في البوادي يتيممون والماء عندهم، وفي بعض الأقطار يتيمم والماء في دورات المسجد عندهم موجودة، يتساهلون، فعلى هؤلاء أن يتقوا الله -جل وعلا-.

 هنا مسألة وهي أن الآية ذكرت أمورًا متعاطفة، ثم ذكرت بعدها التيمم بعد أن انتهى من الوضوء، {وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً فَتَيَمَّمُواْ} [سورة المائدة:6] بعضهم يقول: إن السفر مبرر للتيمم مع وجود الماء، ظاهر استدلاله أم ما هو ظاهر؟

 الآن الأمور المتعاطفة السفر {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً} [سورة المائدة:6]، الآن {فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً} [سورة النساء:43] يعود إلى الجمل كلها، أو يعود إلى بعضها وهي الأخيرة فقط، أو يعود إلى الأخيرة والتي قبلها دون الأولى؟ يعني ننظر هذا بالقذف {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ = 4  إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا} [سورة النــور:4-5] هل نقول: إلا الذين تابوا يأتي على الجميع فلا يُجلَد، وتُقبَل شهادته، ويرتفع عنه وصف الفسق، أو لابد من جلده فلا يعود عليه الاستثناء؟

طالب:.........

 دعنا نر، التنظير الآن الجملة الأولى لا يعود إليها الاستثناء اتفاقًا، لا بد أن يجلد، ولو تاب لماذا؟ لأن هذا حق آدمي لا ترفع التوبة الجملة الأخيرة، يعود إليها الاستثناء اتفاقًا، فيرتفع عنه وصف الفسق بالتوبة، الجملة الثانية هي محل الخلاف: لا تقبلوا لهم شهادة أبدًا، يعني هل يستمر رد الشهادة، أو يقبل إذا ارتفع عنه وصف الفسق؟ هذا محل الخلاف.

 ونأتي إلى آية التيمم، السفر والحدث الأصغر بالغائط والجماع الحدث الأكبر، فلم تجدوا ماءً، فهل هذا القيد فلم تجدوا ماءً عائد إلى الأخير فقط في الحدث الأكبر، أو يعود إلى الثاني معه، أو يعود إلى الجميع؟

 قلنا في الجلد يجلد، فالاستثناء لا يعود إليه، لماذا؟ لأنه حق آدمي، هل نقول: فلم تجدوا ماءً ينصرف إلى الأول والثاني والثالث، أو يقتصر على الأخير فقط، وهذا لا خلاف فيه، أو إلى الذي يليه مثل الخلاف في قبول الشهادة، أو يعود إلى الجميع، فيكون عدم وجود الماء قيدًا في الجميع، قيدًا في المسافر، لا بد للتيمم لا بد أن يكون عادمًا للماء، فلم تجدوا ماءً في الصور كلها، أو في الصورة الأخيرة فقط؟

 أقول: من أهل العلم من ذهب إلى أن السفر كافٍ في العدول عن الوضوء إلى التيمم، لكنه قول مرجوح، بل نقل الإجماع على خلافه، وأن التيمم لا يجوز لا من حاضر ولا مقيم ولا مسافر لا في حدث أكبر ولا أصغر إلا عند عدم الماء، وأن السفر بمفرده ليس بمبرر للعدول إلى التيمم، هذا القول إنما ذكرناه؛ لئلا يغتر به وينظر في مسألتنا، مسألتنا لم يعد الاستثناء إلى الجلد، لماذا؟

 لأنه حق آدمي دلت النصوص على أن التوبة لا تسقطه، فالاستثناء والوصف والشرط إذا تعقب جملًا متعددة يعود إليها كلها، ولا يخرج منها إلا ما استثني بدليل، «فإذا وجد الماء فليتق الله»، كثير من الناس يتساهل، يتساهل بعض الناس يقول: والله أنا لا أستطيع أن أتوضأ، اليدان فيهما حساسية، ما أستطيع أتوضأ، فيتيمم، لكن إذا أكل أو غيره قام واستعمل الماء والصابون وتنظف، هذا يتقي الله -جل وعلا-؟ الحساسية متى تجيء؟ يعني في الوضوء فقط، أو من استعمال الماء؟ إذا كان عندك كلام طبيب مسلم موثوق أن الماء يضرك استعماله فلا تستعمله، إذا كان يضر استعماله، الحمد لله ما جعل عليكم في الدين من حرج، أما أن تستعمل إذا أردت، وإذا جاء الدين قلت: أتضرر، هذا لا شك أنه تساهل، وعلى مثل هذا أن يتقي الله- جل وعلا-، فليتق الله، وليمسه بشرته، أي يستعمله فيما يجب استعماله فيه من مغسول وممسوح، يستعمله في غسل الأطراف، وفي مسح الرأس، وسواء كان في حدث أكبر أو أصغر.

 «وليمسه بشرته» قال أهل العلم: يؤخذ من هذا أنه يجب إزالة ما يمنع من وصول الماء إلى البشرة، يجب إزالة ما يمنع من وصول الماء إلى البشرة، فليتق الله، وليمسه بشرته، فإن ذلك خير له، خير له أفعل تفضيل إذا لم يتق الله -جل وعلا-، ولم يمس الماء بشرته فهل فيه خير؟ لأن أفعل التفضيل في الأصل تكون مشتركة بين أمرين يشتركان في هذا الوصف الذي هو خير، يفوق أحدهما الآخر فيه، فإذا اتقى الله مس بشرته، فهذا خير، وإذا لم يتق الله، ولم يمسه بشرته خير أيضًا، لكن ذاك أفضل منه؟

نقول: لا، أفعل التفضيل ليست على بابها، كما في قوله- جل وعلا-: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً} [سورة الفرقان:24]، فأهل النار ما عندهم خير ألبتة. «فليتق الله ولمسه بشرته» عن الأحداث الماضية أو الأحداث المستقبلة؟

رجل أحدث حدثًا أصغر فتيمم ثم صلى، فوجد الماء، هذا لا يخلو إما أن يجد الماء وهو في أثناء الصلاة، أو بعد فراغه من الصلاة، أو بعد خروج الوقت، بعد خروج الوقت مفروغ منه أنه انتهى، لكن يتقي الله- جل وعلا-، وليمس الماء بشرته لما يستقبل إذا وجد الماء بعد فراغه من الصلاة وبعد الوقت من أهل العلم من يرى أنه يلزمه أن يتوضأ ويصلي، ولكن إذا اتقى الله ما استطاع، وبحث عن الماء فلم يجد وصلى كما أُمر، مثل هذا لا يتجه إليه الأمر ثانية بعد أن سقط عنه بالأداء الأول الصحيح.

 إذا وجد الماء في أثناء الصلاة هنا نقول: بطلت الطهارة؛ لأن صحة التيمم مشروطة بفقدان الماء، وقد وجد الماء، فكأنه أحدث مثل هذا، يجب عليه أن يمس الماء بشرته ويستأنف الصلاة، إذا أجنب أصابته جنابة فتيمم وصلى، التيمم على الخلاف بين أهل العلم هل هو مبيح أو رافع؟ هل هو مبيح، أو تستباح به الصلاة ولا يرفع الحدث، أو هو رافع للحدث كالوضوء تمامًا، أو هو رافع رفعًا مؤقتًا؟

 عندنا ثلاثة أقوال؛ من أهل العلم من يقول: إنه مبيح يبيح الصلاة، يبيح ما يستباح بالوضوء، وحينئذ يبقى الرجل محدثًا لكن تباح له الصلاة، تباح له التلاوة، ويباح له الطواف، وهكذا، وحدثه لم يرتفع.

 القول الثاني: أنه يرتفع كالوضوء رفعًا دائمًا.

 والقول الثالث: أنه يرفع رفعًا مؤقتًا حتى يجد الماء، يظهر هذا في الحدث الأكبر في الغسل، صار عليه جنابة، فتيمم وصلى، بحث عن الماء ما وجد، تيمم وصلى، صلاته صحيحة، فوجد الماء بعد ذلك، هل نقول: إن التيمم رفع الجنابة، أو نقول: إنه رفعها رفعًا مؤقتًا إلى أن وجد الماء فيجب عليه أن يغتسل؟ ماذا نقول: هل الرفع دائم مثل الوضوء ومثل الماء أو رفع مؤقت إلى أن يجد الماء؟ وعندنا في الحديث: فإذا وجد الماء فليتق الله، وليمسه بشرته، عن الحدث الماضي أو الحدث المستقبل؟ والمسألة مفترضة في جنابة، هل نقول: إنه يتقي الله، ويمسه بشرته عن حدث مضى أو حدث مستقبل؟ استيقظ من النوم، فإذا به محتلم، بحث عن ماء ما وجد تيمم وصلى، لما طلعت الشمس وسار على السيارة وجد الماء، هل نقول: اغتسل؛ ليرتفع حدثك؛ لأن رفع الحدث بالتيمم مؤقت إلى أن تجد الماء، أو نقول: خلاص أنت ارتفع حدثك كأنك لم تجنب مثل الماء سواء، وكل هذا يرجع إلى قوله: «وليمسه بشرته، فليتق الله وليمسه بشرته» عما مضى من الحدث أو من المستقبل؟

 فإذا قلنا: وليمسه بشرته لما يستقبل من الأحداث قلنا: إن الحديث مؤكِّد، وإذا قلنا: يمسه بشرته عما مضى من حدث قلنا: الحديث مؤسِّس، وأهل العلم يقدمون التأسيس على التأكيد، يعني إذا قلنا: يتقي الله، ويمسه بشرته عما يستقبل من الأحداث قلنا: الحديث ما فيه فائدة، كل نصوص الطهارة تدل على هذا، وإذا قلنا: يتقي الله، ويمسه بشرته عما مضى من حدث لاسيما الأكبر؛ لأن الوضوء يتكرر، الغسل ما يتكرر، الغسل ما يتكرر، لكن الوضوء يتكرر، لا بد أن يمسه بشرته للصلاة الثانية، لكن الغسل لا يتكرر، إذا قلنا: ارتفع بالكلية خلاص انتهى، كأنه اغتسل، وإذا قلنا: ارتفع رفعًا مؤقتًا حتى يجد الماء، نقول: يلزمه أن يتقي الله ويمسه بشرته عن الجنابة القريبة، إذا قلنا: يتقي الله، ويمسه بشرته عما مضى قلنا: الحديث مؤكِّد، وإذا قلنا: فليتق الله، ويمسه بشرته عن الأحداث المستقبلة قلنا: الحديث مؤكِّد لجميع نصوص الطهارة التي تأمر بهذا، وحينئذ تكون فائدته ملغاة، جميع نصوص الطهارة تغني عنه، ما فيه حكم جديد، لكن إذا قلنا: يتقي الله، ويمسه بشرته عن الحدث الذي تقدم، عن الجنابة التي سبقت، وأنها ارتفعت رفعًا مؤقتًا إلى أن وجد الماء، وهنا: فإذا وجد الماء، وقد وجد الماء، فليتق الله، وليمسه بشرته، نقول: هذا مؤسِّس لحكم جديد، والتأسيس عند أهل العلم مقدَّم على التأكيد.

 وهذا هو المتجه، وهو أنه يرفع رفعًا مؤقَّتًا إلى أن يجد الماء، مادام ما وجد الماء يصلي ويقرأ ما شاء من نوافل وفرائض فريضة بعد فريضة، خرج الوقت، دخل الوقت ما له علاقة، رفع الماء المسألة معلَّقة، فإذا وجد الماء فمتى وجد الماء يتقي الله وليمسه بشرته.

 "رواه البزار وقال ابن القطان: إسناده صحيح، وروى الدارقطني قال: الصواب أنه مرسل"، على كل حال اختلفوا في وصله وإرساله، لكن صححه جمع من أهل العلم، وحكم بإرساله آخرون، وله شاهد من حديث أبي ذر، صححه الترمذي وغيره.

 "قال ابن القطان في حديث أبي ذر ضعيف" الآن ابن القطان صحح حديث أبي هريرة، وضعف حديث أبي ذر، "وهو غريب من حديث أبي هريرة، وله علة، والمشهور في الباب حديث أبي ذر الذي صححه الترمذي وغيره".

 الآن كلام ابن القطان ينتهي عند إيش؟ أين ينتهي كلام ابن القطان؟ الآن يمكن أن يقول ابن القطان: وهو غريب من حديث أبي هريرة، وله علة، وقد صحح إسناده، يكون كلام ابن القطان انتهى عند قوله: حديث أبي ذر ضعيف، يعني يصحح حديث أبي هريرة، ويضعف حديث أبي ذر، والمؤلف يقول: غريب من حديث أبي هريرة، وله علة، وفي الباب حديث أبي ذر الذي صححه الترمذي وغيره، والمشهور في الباب حديث أبي ذر الذي صححه الترمذي وغيره، فيرجح حديث أبي ذر على حديث أبي هريرة. وعلى كل حال حديث أبي ذر شاهد لحديث أبي هريرة، يتقوى به.

"وقال- رحمه الله-: وعن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء، فتيمما صعيدًا طيبًا، فصليا ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء، ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكرا ذلك له فقال للذي لم يعد: «أصبت السنة، وأجزأتك صلاتك»، وقال للذي توضأ وأعاد «لك الأجر مرتين»، رواه أبو داود والنسائي والدارقطني، وتكلم عليه، والحاكم وقال: على شرطهما، ولذلك ذكره ابن السكن في صحاحه متصلاً، وفي قوله تساهل، وفي قوله تساهل، وقال أبو داود: وذكر أبي سعيد في هذا الحديث ليس بمحفوظ، وهو مرسل.

 وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم»، متفق عليه."

هذا حديث أبي سعيد كلام أهل العلم فيه كثير، وتعارض الوصل والإرسال فيه ظاهر؛ فمنهم من رجح الوصل وصححه، ومنهم من رجح الإرسال، هذا إذا قلنا: إن رواية الأصل الوصل يمكن أن تُعَلّ برواية الإرسال، وهو مخرج على كل حال عند أبي داود والنسائي والدارقطني والحاكم والبيهقي والدارمي والطبراني من طرق عن عبد الله بن نافع، عن الليث بن سعد، عن بكر بن سوادة، عن عطاء، عن أبي سعيد.

 المعلق -حفظه الله- يقول: قلت: وهذا سند ظاهره الصحة، لكن رواه عبد الله بن المبارك عن الليث بن سعد به مرسلاً، لم يذكر أبا سعيد الخدري، أخرجه الدارقطي في سننه، ومعروف أن الدارقطني رجح الإرسال، وخرج الطريق المرسلة، والليث أوثق من ابن نافع هذا بمرات، على أن ابن نافع تُكُلِّم فيه، وفي التقريب: ثقة صحيح الكتاب في حفظه لين. فالمحفوظ هو المرسل، ولذلك قال أبو داود عقبه: ذكر أبي سعيد في هذا الحديث ليس بمحفوظ، قال أبو داود في سننه- يعني عقب الحديث- ذكر أبي سعيد في هذا الحديث ليس بمحفوظ.

وقال الدارقطني: تفرد به عبد الله بن نافع بهذا الإسناد متصلاً، وخالفه ابن المبارك وغيره، وخالف هذا الحاكم وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، فإن عبد الله بن نافع ثقة، وقد وصل هذا الإسناد عن الليث، وقد أرسله غيره. قلت: والصواب ما ذكره الإمام أبو داود على أن قوله: على شرط الشيخين، فيه تساهل، كما قال المصنف، فإن البخاري- رحمه الله- لم يخرج له شيئًا، لكن للحديث طريق آخر صحيح، فأخرجه أبو علي بن السكن في صحيحه، كما في بيان الوهم والإيهام، حدثنا أبو بكر بن أحمد الواسطي قال: حدثنا عباس بن محمد الدوري قال: حدثنا أبو الوليد الطيالسي قال: أنبأني الليث بن سعد عن عمرو بن الحارث وعن ميرة بن أبي ناجية، كلاهما عن أبي بكر بن سوادة به متصلاً. قلت: وهذا سند صحيح رجاله ثقات، وقد رواه عبد الله بن المبارك ويحيى بن بكير، كلاهما عن الليث بهذا الإسناد مرسلاً، أخرجه النسائي والحاكم والبيهقي، وهذا أيضًا صحيح، وأبو الوليد الطيالسي ثقة ثبت من رجال الشيخين، وقال: زاد الوصل، وهي مقبولة، فصح مسندًا ومرسلاً، وقد ذكر أبو داود أن غير ابن نافع يرويه عن الليث عن عميرة بن أبي ناجية عن بكر بن سواد عن عطاء بن يسار عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، وذكر أبي سعيد في هذا الحديث وهم، ليس بمحفوظ، وهو مرسل.

 قال الإمام ابن القطان الفاسي في بيان الوهم والإيهام: ففي هذا من كلام أبي داود بيان أمرين؛ أحدهما: أن ذكر أبي سعيد وهم، فهو إذًا مرسل من مراسيل عطاء، والآخر: أن بين الليث وبين بكر بن سوادة عميرة بن ناجية، فلم يذكر أبو محمد- يعني عبد الحق الإشبيلي- هذا الانقطاع الذي بين الليث وبين بكر.

 قلت: أما الوجه الأول فصحيح، كما قدمت، وأما الآخر ففيه نظر؛ لاحتمال أن الليث كان يرويه على الوجهين: الرواية التي فيه الواسطة وبين الليث وبكر تكون من المزيد في متصل الأسانيد، والواسطة أيضًا ثقة، فلا يضره هذا متى تكون من المزيد في متصل الأسانيد إذا صرح في الطريق الثانية بالتحديث تكون من المزيد في متصل الأسانيد.

 قال الإمام ابن دقيق العيد في الإمام في معرفة أحاديث الأحكام: لعل الباحث الفطن يقول: إن الحاكم صحح الحديث؛ لاعتماده على وصل عبد الله بن نافع؛ لحكمه بكونه ثقة، ولم يلتفت إلى إرسال غيره، ولكن بقيت علة أخرى، وهي أن أبا داود وذكر ما نقلته عنه آنفًا، فمقتضى عادة المحدثين تبين بإدخال عميرة بن أبي ناجية بين الليث وبكر أنه منقطع فيما بين الليث وبكر، ويحتاج إلى معرفة حال عميرة هذا، وقد قال ابن القطان: إنه مجهول الحال، إلى آخره، فنقول، وبالله العصمة والتوفيق والعون: أما ما يتعلق بعميرة بن أبي ناجية فالجواب عن التعليل بروايته من وجهين؛ أحدهما: أنه نبيه غير مجهول، موفَّق مذكور بالفضل، والحافظ أبو الحسن بن القطان لم يمعن النظر في أمره، ولعله وقف على ذكره في تاريخ البخاري وابن أبي خيثمة من غير بيان حاله فقال فيه ما قال، وقد قال النسائي في التمييز: عميرة بن أبي ناجية ثقة، وقد قيل: إن أحمد بن سعيد بن حزم قال: حدثنا عبد الله قال: حدثنا بكير عميرة بن أبي ناجية ثقة وقال: عن أحمد بن محمد بن رشدين سمعت أحمد بن صالح وسئل عن عميرة بن أبي ناجية وأبي شريح، فقال: هما متقاربان في الفضل، وقال أبو سعيد بن يونس في تاريخ المصريين: روى عنه عبد الرحمن بن شريح وابن وهب ورشدين، توفي سنة ثلاث وخمسين ومائة، وكانت له عبادة وفضل.

 الوجه الثاني: أنه روي من طريق أبي الوليد الطيالسي عن الليث بن سعد وذكره، فهذا اتصال فيما بين الليث وبكر لعمرو بن الحارث وعميرة معًا، وفيه ذكر أبي سعيد، وعمرو بن الحارث من رجال الصحيحين إمام في بلده.

 كأن المعلق يميل إلى تصحيحه.

 هذا واحد من الإخوة قال: إذا روي الحديث من طريقين أحدهما مرفوع، والآخر مرسل، والذي أرسل هو أوثق من الذي رفع، ثم وجدنا كثيرًا من الأئمة يحكمون على الحديث بالإرسال مع وجود متابعة صحيحة للذي رفعه، فعند الترجيح هل يمكن أن نرجح الإرسال بأن الأئمة أعرضوا عن هذه المتابعة ولو كانت صحيحة، كما حصل من بعض من خرج حديث عطاء بن أبي يسار عن أبي سعيد في حديثنا هذا؟

 على كل حال مادام ثبت موصولاً ثبت موصولاً من أكثر من طريق فلا يضره الإرسال، إن شاء الله تعالى.

يقول: هل مراد ما على وجه الأرض يشمل المصنوعات من حديد ومفارش؟

إذا كان عليها غبار يعلق باليد فلا بأس، أما إذا كانت نظيفة ما عليها غبار فلا يشملها، الفرق بين الرمل والتراب، الرمل في الغالب إذا كان نظيفًا ما فيه غبار، وحينئذ لا يعلق باليد منه شيء، وأما التراب ففيه غبار، هذه وجهة نظر من يفرق بينهما.

{وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً} [سورة المائدة:6] فهل الضمير للمريض أيضًا؟

على كل حال هذا القيد {فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً} [سورة النساء:43] هل يرجع إلى الجمل كلها؟ المريض إذا كان يستطيع أو لا يستطيع هل يعود إليه مطلقًا لا بد من فقد الماء، أو كنتم على سفر هل يعود إليه القيد أو لا يعود، هذا ذكرناه، واقتصرنا على ذكر السفر؛ لأنه نُص عليه من قبل بعض أهل العلم، وقال: إن المسافر يتيمم ولو كان الماء عنده؛ لأن القيد لا يرجع إليه، فإذا لم يرجع على المسافر فلأن لا يرجع إلى المريض من باب أولى؛ لأنه قبله.

يقول: "وعن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: خرج رجلان في سفر، خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة" يعني دخل وقتها، "وليس معهما ماء" يعني يتوضئان به، "فتيمما صعيدًا طيبًا" قصدا الصعيد الطيب، "فصليا ثم وجدا الماء في الوقت" ثم وجدا الماء هذا الأصل أنها تثنية؛ لأنه يعود إلى مثنى، لكن أهل العلم يقولون: إن هذه الألف إذا كان الذي يليها ساكن تحذف {دعَوَا اللَّهَ} [سورة الأعراف:189]، "ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما الصلاة"، أعاد الصلاة "والوضوء"، يعني توضأ وصلى، تيمم وصلى ثم وجد الماء في الوقت، فتوضأ ثم صلى، الثاني لم يعد اكتفاءً بما حصل، اتقى الله ما استطاع، فعل ما أُمر به، الثاني لم يعد، الأول أعاد الصلاة وفعل الوضوء؛ لأنه لم يتوضأ ليقال: إنه أعاد الوضوء، هو تيمم، لكن لما كان التيمم بمثابة الوضوء، كأنه إعادة.

 "ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكرا ذلك له، ذكرا ذلك له" أحدهما قال: إنه أعاد، والثاني لم يعد، فكان جوابه -عليه الصلاة والسلام- "فقال للذي لم يعد: «أصبت السنة، أصبت السنة وأجزأتك صلاتك»، وقال للذي توضأ وأعاد: «لك الأجر مرتين، لك الأجر مرتين»" أيهما أفضل؟

الذي أصاب السنة أفضل، يعني مثل الذي يقرأ القرآن وهو يتتعتع فيه له أجران، والماهر فيه مع السفرة الكرام البررة أفضل بكثير، نعم إذا تعب على العبادة، وكان هذا التعب مما تتطلبه العبادة يؤجر عليه، أما التعب والمشقة فليست مقصودة لذاتها، ليست المشقة مقصودة لذاتها، إذا كانت العبادة تتطلبها يؤجر عليها الإنسان، «وأجركِ على قدر نصبكِ»، هنا أعاد الصلاة، وله أجر مرتين، اجتهد، هل أصاب أو أخطأ في اجتهاده؟ الثاني أصاب السنة، يقابله من أخطأ السنة، إذا كان الذي لم يعد أصاب السنة فالذي أعاد أخطأ السنة، هل هناك مرتبة بين الخطأ والصواب؟ فيه مرتبة؟ إذا كان أحدهما أصاب السنة فالثاني أخطأ السنة، والمجتهد إذا أخطأ فله أجر واحد أم أجران؟

طالب:.........

كم؟

يعني حديثنا فيه إشكال أم ما فيه إشكال؟ يعني هل نقول: إن هناك مرتبة لا صواب ولا خطأ، وبعبارة أخرى هل نقول: الصواب والخطأ من باب الضد أو من باب النقيض، فيه شيء ليس بصواب ولا خطأ؟

إذا قررنا أنهما من باب النقيض، وأنه لا يوجد غير الصواب والخطأ فقلنا: الثاني مخطئ مادام الأول أصاب السنة، الثاني أخطأ السنة صح أم لا؟ وإذا قلنا: فيه واسطة قلنا: إن هذا ليس بمصيب وليس بمخطئ، ولذا أثبت له النبي -عليه الصلاة والسلام- الأجرين، مع أن المقرر أن الذي يخطئ ليس له إلا أجر واحد مع الاجتهاد.

طالب: أجران، يا شيخ -أحسن الله إليك- أجران، الصلاة، والاجتهاد.

نعم.

 يعتبر له نافلة، يا شيخ، صليتما في رحالكما، لكما أجران.

هؤلاء مصيبون، الذي صلى في رحله ثم جاء وجد الجماعة هذا مصيب، ما يقال له: أخطأ، لكن الإشكال في الذي أعاد الصلاة.

طالب: هو أجر الصلاة.

الأول مصيب، والثاني؟ الأول مصيب، والثاني ماذا يصير؟ مخطئ أم مصيب؟ أو لا مصيب ولا مخطئ؟

طالب: فعل خلاف الأولى يا شيخ، فعل خلاف الأولى يا شيخ.

طالب: الاثنان أصابا.

لا، عندنا واحد أصاب.

طالب: فيه حسن وأحسن يا شيخ.

أصاب السنة فهل نقول: من لازم وصف أحدهما بالصواب أن يوصف الثاني لأنه فعل ضد ما فعله الأول بالخطأ؟

 نقول: عدم الإعادة صواب، والإعادة ماذا تصير، إذا كان عدم الإعادة هو الصواب، هو الذي أصاب السنة فالذي أعاد ما فيه مندوحة ولا نظر، هل فيه واسطة بينهما؟ ما فيه واسطة، فإذا نظرنا إلى الفعل، وأن أحد الفعلين موصوف بالصواب، فضده أو نقيضه يوصف بنقيض الحكم وهو الخطأ، فكيف أثبت له الأجرين، هل نقول: إن هذا قبل أن يقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر»، أو نقول: إن هذه قضية عين، رأى النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه يستحق أجرين، ولا يسري هذا إلى غيره؟

 بمعنى أنه لو أن شخصًا اجتهد وأعاد، لو أن شخصًا دخل مع الإمام، دخل مع الإمام، والإمام راكع، ثم كبَّر وركع معه، أدرك الركعة، ثم سلم مع الإمام؛ لأنها الركعة الأولى، ثم بعد ذلك حصل له تردد وشك، هل أدرك الركعة أو ما أدرك الركعة، ثم طال به الأمر فأعاد الصلاة، اجتهد وأعاد الصلاة؛ ليقطع الشك باليقين، يعطى أجرين أم يعطى أجرًا واحدًا هذا؟

 اجتهد يريد أن يقطع الشك باليقين هل نقول: له أجر الصلاة الأولى وأجر الإعادة، أو نقول: خالف السنة، وأخطأ السنة، وأنه إذا شك في ركعة واحدة فما يعيد الصلاة كاملة؟

 على أن الشك إذا كان قد طرأ عليه بعد الفراغ من الصلاة فمثل هذا الشك لا يلتفت إليه، وإذا كان في أثناء الصلاة فلا يلزمه إلا ركعة واحدة، فمثل هذا الذي تردد في إدراكه الصلاة مع طول الفصل وطول التردد وإعادة الصلاة نقول: لك الأجر مرتين، هل نستطيع أن نقول: لك الأجر مرتين؟

 إذا حملنا حديث الباب على أنه قبل أن يقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: «إذا اجتهد الحاكم»، ورأى أن مثل هذا هذا حكمه، ثم بعد ذلك نسخ بالحديث الآخر، إذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد، وعلى كل حال الإشكال باقٍ، الإشكال باقٍ، إن لم نقل بأنه منسوخ.

 "رواه أبو داود والنسائي والدارقطني وتُكُلم عليه، وتُكُلم عليه، والحاكم وقال: على شرطهما"، ولذلك ذكره ابن السكن في صحاحه متصلاً، "وفي قوله تساهل، قال أبو داود: ذكر أبي سعيد في هذا الحديث ليس بمحفوظ، وهو مرسل".

 الحديث الذي يليه وهو آخر حديث في الباب:

 "وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: «إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم» متفق عليه"، وبقية الحديث كما في بعض الروايات «وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه»، وروي الحديث مقلوبًا إذا نهيتكم عن شيء، إذا أمرتكم بشيء، أو إذا نهيتكم، جاء الحديث مقلوبًا، فعلقت الاستطاعة بالنهي، على أنه يتصور الترك بالكلية، بينما إيجاد المأمور قد يتصور العجز عنه، يعني الأمر بالترك لا يتصور العجز عنه، بخلاف الأمر بالإيجاد يتصور العجز عنه، ولذا قال: «وإذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم».

 تتمة الحديث «وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه» ما في المنهي عنه، ما فيه استثناء ولا تعليق، بينما المأمور به مربوط بالاستطاعة، ومناسبته للباب أن التيمم المسلم مأمور بالوضوء إذا لم يستطع يعدل عنه إلى التيمم.

 مما يتعلق بهذا الحديث ما يذكره شيخ الإسلام وغيره من أهل العلم من أن ترك المأمور أعظم من فعل المحظور، يعني الحديث بشقيه «إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه» يدل على أن اجتناب المحظور أولى من فعل المأمور وأقوى، وشيخ الإسلام يرى العكس.

 واضحة المسألة أم ما هي بواضحة؟ لأنا سنجملها إجمالًا، الوقت يعني ..

 الحديث يدل على أن ارتكاب المحظور أعظم من ترك المأمور، لماذا؟

لأن ارتكاب المحظور النهي ما فيه استثناء، ما فيه تعليق باستطاعة، ففيه حزم، وفيه بت، وما نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، بينما إذا أمرتكم بشيء فائتوا منه ما استطعتم، فهو علق بالاستطاعة، فهذا يستدل به على أن ترك المحظور أولى من فعل المأمور، وهذا عند التعارض، شيخ الإسلام يرى العكس، ويستدل شيخ الإسلام بأن معصية آدم ارتكاب محظور، نهي عن الأكل من الشجرة فأكل، ومعصية إبليس ترك مأمور أمر بالسجود فلم يفعل، ومعصية إبليس أعظم من معصية آدم، لكن هل هذا مطرد؟

هذا لا يطرد، لا هذا القول، لا هذا القول ولا القول الثاني، بل ينظر في كل قضية بعينها، الذكر المكلف مأمور بأن يصلي في المسجد مع الجماعة، يجب عليه أن يصلي مع جماعة المسلمين حيث ينادى لها في المسجد، ترك هذا المأمور أو فعل هذا المأمور إذا ترتب عليه محظور في طريقه يترك هذا المأمور أو يرتكب المحظور؟

نقول: يتفاوت إذا كان فيه طريقه شباب مثلاً يلعبون أو يدخنون وجالسون، ويأمرهم ولا يصلون، في طريقه منكر لا يستطيع إزالته، في طريقه منكر لا يستطيع إزالته، هل نقول: اترك المأمور، ولا ترتكب المحظور؟ في طريقه شباب لا يستطيع أن يأمرهم بالصلاة، أو لا يستطيع أن يأمرهم بغير مزاولة ما يزاولونه من منكر؟ نقول: يا أخي تصلي مع الجماعة ولو مررت بهؤلاء؛ لأن هذا أقل مما أمرت به، لكن لو في طريقك إلى المسجد بغي، وعندها ظالم، لا تتجاوزها حتى تقع عليها، نقول: هنا ارتكاب المحظور أعظم من ترك المأمور، فهذا يتفاوت، فالمأمورات متفاوتة قوة وضعفًا، والمحظورات متفاوتة ظاهر أم ما هو بظاهر؟

يعني إذا كان لا يستطيع أن يأتي بالمأمور إلا بعقوق مثلاً، بعقوق من غير أمر من قبل الأم أو الأب؛ لأنه إذا أمر بترك الواجب، لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق، لكن لا يستطيع أن يؤدي هذا الواجب إلا مرورًا بالعقوق، لا شك أن العقوق شأنه أعظم، لكن هذا الواجب إذا كان مثل ترك صلاة بالكلية نقول: لا، ترك الصلاة بالكلية أعظم من هذا العقوق، فالمسألة متفاوتة، وكل مقارنة بين فعلين مأمور ومحظور لا بد أن ينظر فيهما على حدة، كل واحد على حدة قوة وضعفًا.

والله أعلم.

 وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

"