شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح - كتاب الاعتكاف - 23
المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلًا ومرحبًا بكم مستمعينا الكرام إلى هذا اللقاء الجديد في شرح التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، أرحب بكم، كما أرحب بضيفنا في هذه اللقاءات معالي الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير -وفقه الله- عضو هيئة كبار العلماء، وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء، فأهلًا وسهلًا بكم معالي الشيخ ومرحبًا.
حياكم الله وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.
المقدم: وفيكم حفظكم الله، لا يزال الكلام مستمعي الكرام في حديث صفية زوج النبي- صلى الله عليه وسلم، ورضي عنها-: أنها جاءت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تزوره في اعتكافه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان فتحدثت عنده ساعة، ثم قامت تنقلبُ، فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- معها يقلبها، حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة مر رجلان من الأنصارِ فسلما على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال لهما النبي- صلى الله عليه وسلم-: «على رسلكما، إنما هي صفية بنت حيي» فقالا: سبحان الله يا رسول الله وكبر عليهما، فقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: «إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئًا».
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد في قوله -عليه الصلاة والسلام-: «على رسلكما» تقدم كلام أهل اللغة كابن فارس وغيره في معنى الرِّسل، وأنه السير السهل، نعم على رسلكما؛ يعني على هينتِكما.
والمطلوب الرفق، والرفق مطلوبٌ في كل شيء حتى في المواقف التي تتطلب أحيانًا شيئًا من العجلة والسرعة؛ كالحرب مثلًا فالنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول لعلي لما بعثه إلى خيبر: «انفث على رسلك»؛ لأن الرفق في جميع الأمور يزينها، والنزع هو تركه لا شك أنه يشينها، ما كان الرفق في شيءٍ إلا زانه، ولا نُزِع من شيءٍ إلا شانه، في رواية معمر: فقال لهما النبيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «تعاليا» بفتح اللام قال الداودي: أي قفا، وأنكره ابن التين، وقد أخرجه عن معناه بغير دليل، وفي رواية سفيان: فلما أبصره دعاه فقال له: تعال بناءً على أنه.
المقدم: رجلٌ واحد.
رجلٌ واحد، وقال العيني: قال الجوهري: التعالي: الالتفاف، تقول منه إذا أمرت: تعال يا رجل بفتح اللام، وللمرأة: تعالَي.
وقال ابن قتيبة: تعالا تفاعلا من علوتُ.
وقال الفراء: أصله عالِ البناء كذا في عمدة القاريء، ونقله ابن الملقن عنه وقال: عالِ إلينا؛ يعني تعال إلينا وهو من العلو، ثم إن العرب لكثرة استعمالهم إياه صار عندهم بمنزلة هلمَّ.
تعال بمعنى هلم وأقبل حتى استجازوا أن يقول الرجلُ وهو فوق شرفٍ.
المقدم: تعال أنزل.
تعال أي اهبط، وإنما أصلها الصعود.
قوله: «إنما هي صفية بنت حيي» تقدمت ترجمتها، وفي رواية سفيان: هذه صفية، قال ابن الملقن: فيه النسبة إلى الأب الكافر؛ لأنه ليس المقصود به انتساب شرف، وإنما هو انتساب تعريف وبيان الواقع كما قال النبي-عليه الصلاة والسلام-: «أنا ابن عبد المطلب، أنا النبيُّ لا كذب، أنا ابن عبد المطلب» فقال: سبحان الله يا رسول الله.
قال الكرماني: إما قال سبحان الله حقيقة؛ أي أنزه الله، أو ننزه الله تعالى عن أن يكون رسوله متهمًا بما لا ينبغي إما حقيقة؛ يعني تلفظ بقول سبحان الله أي أنزّه الله تعالى عن أن يكون رسوله متهمًا بما لا ينبغي، أو كناية عن التعجب من هذا القول، كثيرًا ما يستعمل التسبيح للتعجب، وكبر عليهما، قال ابن حجر: زاد النسائيُّ من طريق بشر بن شعيب عن أبيه: ذلك، كبر عليهم ذلك، ومثله في رواية ابن المسافر الآتية في الخمس، وكذا للإسماعيلي من وجهٍ آخر، عن أبي اليمان شيخ البخاري: فيه، وزاد ابن أبي عتيق عند المصنف في الأدب: وكبر عليهما ما قال، وله من طريق عبد الأعلى عن معمر: فكبر ذلك عليهما، وفي رواية هشيم: فقالا: يا رسول الله، هل نظن بك إلا خيرًا.
وقال الكرماني: وكبر بضم الباء الموحدة؛ أي شق أي عظم وشق عليهما، فقال النبيُ -صلى الله عليه وسلم–: «إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم».
النسخة التي شرح عليها ابن حجر: يبلغ من ابن آدم، وهذا في رواية موجود ننبه عليه، لكن الخطأ الذي في فتح الباري: يبلغ من ابن آدم مبلغ القدم.
المقدم: تصحيف.
لا شك أن هذا تصحيف مع الأسف أنه حتى موجود في طبعة بولاق.
المقدم: بين يديكم الآن؟
نعم، هي معنا، هي موجودة الآن، يبلغ من ابن آدم مبلغ القدم مع أن الذي يصحح مطبعة بولاق علماء!
المقدم: الآن يستعرض النسخة.
نعم هذا موجود قوله: إن الشيطان يبلغ من ابن آدم مبلغ القدم.
المقدم: أنتم تقرؤون الآن من النسخة نفسها؟
من البولاقية.
المقدم: نعم.
يعني الطبعات الثانية ما يُستغرب أن يوجد فيها أخطاء، لكن طبعت بولاق والذي يصحح في مطبعة بولاق لجنة من كبار أهل العلم، لكن الكتاب مثل هذا لابد أن يوجد فيه ما يوجد وهو عمل البشر، وقد يكون له أصل من بعض النسخ من بعض النُّسّاخ، أو يكون أيضًا حتى من ابن حجر ليس بمعصوم.
المقدم: نعم.
المقصود أن مثل هذه الأمور لابد أن تقع مهما بلغ المؤلف، ومهما بلغ الناسخ من الدقة، ومهما بلغ الطابع والمصحح والمراجع؛ لأنه لا شيء يكمل حاشا كتاب الله -جل وعلا–، فقال النبي-صلى الله عليه وسلم-: «إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم»، بعض الروايات: «يجري من ابن آدم مجرى الدم».
قال الكرماني: أي كمبلغ الدم، ووجه الشبة بين طرفي التشبيه شدة الاتصال، وعدم المفارقة. يبلغ من الإنسان في رواية ابن المسافر وابن أبي عتيق: من ابن آدم، وعليها شرح ابن حجر، والمراد جنس أولاد آدم، فيدخل فيه الرجال والنساء كقوله: { يَا بَنِي آَدَمَ }، وقوله: { يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ } بلفظ المذكر، إلا أن العرف عممه فأدخل فيه النساء.
هل نقول: إن العرف أم أن دلالة النصوص الأخرى، وأن النساء شقائق الرجال ويدخلن في خطابهم، بل قد يذكّر ما يعود إلى امرأةٍ دون غيرها، يذكّر ما يعود إلى امرأةٍ دون مشاركة أحد لا من الرجال ولا من النساء، كما قال-جل وعلا- في مريم: { الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم:12].
وهي امرأة واحدة.
المقدم: نعم ما قال من القانتات.
من القانتات نعم، كذا في فتح الباري، والمراد بالإنسان الجنس الرجال والنساء، كذا في إرشاد الساري، وقوله: مجرى الدم، يقول ابن الملقن: قيل هو على ظاهره، وأن الله تعالى جعل له قوةً على ذلك، وقيل: مجازٌ؛ لكثرة أعوانه ووسوسته، فكأنه لا يفارق الإنسان كما لا يفارقه دمه، نعم.
وقيل: هو على ظاهره، وأن الله تعالى جعل له قوةً على ذلك، وقيل: مجاز؛ لكثرة أعوانه ووسوسته، فكأنه لا يفارق الإنسان كما لا يفارقه دمه، وقيل: إنه يلقي وسوسته في مسام لطيفة من البدن، فتصل الوسوسةُ إلى القلب، وزعم ابن خالويه في ليس، له كتاب اسمه ليس من كلام العرب، زعم ابن خالويه في ليس: إن الشيطان ليس له تسلّطٌ على الناصية، وعلى أن يأتي العبد من فوقه، قال تعالى: { ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} [الأعراف:17] ، ولم يقل من فوقهم؛ لأن رحمة الله تنزل من فوق. الشيطان يجري من ابن آدم أو من الإنسان؟
المقدم: النسخة هنا يبلغ فقط.
نعم يبلغ، والحكم واحد نعم، هو مشبه بالدم أنه يجري في العروق كالدم، لكن ماذا عن الجن؟ هو يجري من ابن آدم، ويجري من الإنسان، لكن لا يجري بالنسبة لمسلم الجن، فيشبه عليهم ويُلبس عليهم، ويريد إضلالهم وإغواءهم؛ لأن اللفظين ليس فيهما ما يدخل الجن.
المقدم: الجان.
نعم من الإنسان، أو من ابن آدم.
فهل الجن سلموا من وسوسته؟ وأنه لا يجري في عروقهم مجرى الدم أو أنه يعمل بهم عملًا شبيه ما يعمله بابن آدم لكن..
المقدم: ما يناسب.
لكن ما يدرى عن كيفيته، فيكون الجريان مجرى الدم خاصًّا ببني آدم؟ وأما المسلمون من الجن لا شك أنه يريد تكثير السواد ممن يدخلون معه النار، وأقسم أنه
المقدم: ليغوينهم.
بإغوائهم أجمعين نعم، ويغيظه أن يدخل أحدٌ الجنة أو يسلم أو يؤمن؛ سواءٌ كان من الإنس، أو من الجن.
المقدم: وطريقه في ذلك الإغواء..
الإغواء والوسوسة، لكن كونه يجري مجرى الدم فهذا خاص ببني آدم والإنسان، وأما بالنسبة لطريقة وسوسته وإغوائه للجان فالله أعلم بها.
المقدم: أحسن الله إليكم معالي الشيخ ونفع بما قلتم، أيها الإخوة المستمعون الكرام إلى هنا نصل إلى ختام هذه الحلقة، أتقدم في ختامها بالشكر الجزيل لمعالي الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير -وفقه الله–، عضو هيئة كبار العلماء، وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء، شكر الله لفضيلته، وشكر لكم، ونفعنا وإياكم بما نسمع وبما نقول، وصلى الله على محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.