كتاب الشهادات من المحرر في الحديث - 01
ونقرأ كتاب الشهادات.
طالب: بسم الله.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين يا رب العالمين.
قال الإمام ابن عبد الهادي -رَحِمَهُ اللهُ- في كتابه المحرر: "كتاب الشهادات".
"عن زيد بن خالد الجهني -رضي الله عنه- أن النبي قال: «ألا أخبركم بخير الشهداء؟ الذي يأتي بشهادته قبل أن يَسألها»".
يُسألها.
طالب: أحسن الله إليك.
"«قبل أن يسألها»، رواه مسلم.
وعن عمران بن حصين -رضي الله عنه-، أن رسول الله قال: «إن خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. قال عمران: فلا أدري أقال رسول الله ﷺ بعد قرنه مرتين، أو ثلاث، ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يُستشهدون، ويخونون ولا يُؤتمنون، وينذرون ولا يُوفون، ويظهر فيهم السَّمْن»".
السِّمَن.
طالب: أحسن الله إليك.
"«ويظهر فيهم السِّمَن».
وعن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال: كنا عند رسول الله فقال: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر -ثلاثًا-: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور -أو قول الزور-، وكان رسول الله ﷺ متكئًا فجلس، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت» متفق عليه، واللفظ لمسلم.
وعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: «إن ناسًا كانوا يُؤخذون بالوحي في عهد رسول الله ﷺ، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم. فمن أظهر لنا خيرًا أمَّنَّاه وقربناه وليس إلينا من سريرته شيء، الله يحاسب سريرته، ومن أظهر لنا سوءًا لم نأمنه ولم نصدقه، وإن قال: إنْ سريرته حسنة»".
إنَّ.
طالب: "«وإن قال: إنَّ سريرته حسنة»، رواه البخاري.
وقال: قال لي علي بن عبد الله، حدثنا يحيى بن آدم، قال: حدثنا ابن أبي زائدة، عن محمد بن أبي القاسم عن عبد الملك بن سعيد بن جبير، عن أبيه، عن ابن عباس قال: «خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بدَّاء، فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم، فلما قدمَا بتركته فقدوا جامًا من فضة مُخوَّصًا من ذهب، فأحلفها رسول الله ﷺ»".
فأحلفهما.
طالب: أحسن الله إليك.
"«فأحلفهما رسولُ الله ﷺ، ثم وجدوا الجام بمكة، فقالوا: ابتعناه من تميم وعدي. فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا: لشهادتنا أحق من شهادتهما، وإن الجام لصاحبهم. قال: وفيهم نزلت هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} [المائدة: 106]».
وعن عطاء بن يسار عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله يقول: «لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية». رواه أبو داود، وابن ماجه، ورواته ثقات. وقال البيهقي: وهذا الحديث مما تفرد به محمد بن عطاء عن عطاء بن يسار.
وعن محمد بن راشد، عن سليمان بن موسى، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، قال، قال رسول الله : «لا يجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا ذي غمر على أخيه، ولا تجوز شهادة القانع لأهل البيت، وتجوز شهادته لغيرهم». والقانع: الذي ينفق على أهل البيت".
عليه.
طالب: أحسن الله إليك.
"والقانع: الذي ينفق عليه أهل البيت. رواه أحمد، وهذا لفظه، وأبو داود، ومحمد وسليمان صدوقان، وقد تكلم فيهما بعض الأئمة، وقال البخاري في صحيحه: وقال أنس: شهادة العبد جائزة إذا كان عدلاً".
يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تعالى-: "كتاب الشهادات"، وهي جمع شهادة، والشهادة: الإخبار، إخبار الإنسان بما يعلم، الإخبار بما يعلم. وطرق العلم كما هو معروف: الحواس الخمس، والنقل عن الغير من الثقات إذا كان مستنده الحس، ولذا يقرر ابن حجر أن الأخبار التي تُشاع ولو كثر ناقلوها فإنها لا تفيد العلم ما لم تستند إلى الحس، الأخبار التي تشاع، ولو كثر ناقلوها، فالآن لما انتشرت وسائل نشر الأخبار تجدون الخبر واحدًا يُتحدث به في كل مجلس، وهو لا أصل له، وكل المجالس تتحدث به.
عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللهُ عنهُ- لما دخل المدينة وجد الناس حول المنبر، أهل المدينة حول المنبر يتناقلون خبر أن النبي ﷺ طلق نساءه، استند هؤلاء في مسألة الطلاق؛ لأنه اعتزل نساءه، وآلى من نسائه شهرًا ألا يدخل عليهن، واعتزل في المشربة، رأوا النبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- اعتزل النساء، ولا يدخل عليهن، أشيع أن النبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- طلق نساءه، فانتشرت في بيوت المدينة، إشاعة، فاستأذن عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللهُ عنهُ- على النبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- مرتين، فلم يؤذن له، ثم أُذن له بعد ذلك، فسأل النبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: أطلقت نساءك؟ قال: «لا».
أهل المدينة حول المنبر يشيعون، ويتناقلون هذه الإشاعة، فالإشاعات لا تفيد علمًا ولو كثر ناقلوها، أحيانًا الإنسان يحسن الظن بالناقل، ويستروح إلى ثبوت الخبر وما هو بشيء؛ لأن هذا الناقل نقله بواسطة هذه الآلات التي تشيع الأخبار صحيحها وباطلها. فلا بد من أن يكون الخبر مستندًا إلى الحس، ولذا قالوا في تعريف المتواتر الذي يفيد العلم: ما رواه جماعة يستحيل في العادة أن يتواطئوا على الكذب، وأسندوه إلى أمر محسوس، لا إلى أمر عقلي أو تحليل، كثير من الناس يحقق ويتوقع، ثم ينشر، والمحسوس هو المتلقى بالحواس، إما أن تكون سمعته بأذنك أو رأيته بعينك أو شممته أو ذقته أو لمسته، بالحواس.
والاستفاضة من طرق الشرع التي يُشهد بها، أن تشهد أن فلان ابن لفلان، إذا جاء شخص من جيرانك، وتعرف هذا الولد يدخل عليهم، ويطلع من سنين عديدة، ثم جاء واحد يدعيه، تشهد بأنه ولد لفلان؛ لأنه استفاض أنه ولد لفلان، وإلا هل حضرت الولادة يوم تلده أمه على فراش هذا الرجل؟
لا. فهذه من طرق إثبات الشهادة، يثبتونها بالاستفاضة. والمسائل هذه معروفة.
قال -رَحِمَهُ اللهُ-: "عن زيد بن خالد الجهني -رَضِيَ اللهُ عنهُ- أن النبي قال: «ألا أخبركم بخير الشهداء»"، "«خير»" أفعل تفضيل: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} [الفرقان: 24]، فـ"«خير»" أفعل تفضيل، والأصل في أفعل التفضيل أنه يأتي على صفة أفعل، أخير، لكن حذفت الهمزة؛ لكثرة الاستعمال، ومثله ما يقابله: شر، فلان شر من فلان، يعني أشد شرًّا.
"«ألا أخبركم بخير الشهداء؟ الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسألها»"، وفي الحديث ذم من يدلي بشهادته قبل أن يستشهد، ولذا جاء بعده بحديث عمران بن حصين -رَضِيَ اللهُ عنهُ- أن رسول الله ﷺ: "«إن خيركم قرني»"، يعني خير الأمة، "«إن خيركم»" يعني يا أمتي "«قرني»" الذين هم الصحابة، "«ثم الذين يلونوهم»" وهم التابعون، "«ثم الذين يلونوهم»" وهم تابعو التابعين، ثم قال عمران راوي الحديث: "فلا أدري أقال رسول الله بعد قرنه قرنين أو ثلاثة؟ «ثم يكون بعدهم قوم يَشهدون ولا يُستشهدون»"، يُدلون بالشهادة من غير سؤال. والحديث الأول: "«الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسألها»"، فيه تعارض أم ما فيه تعارض؟
فيه تعارض. وكلاهما في الصحيح، حديثان صحيحان، ولا يوجد حديثان صحيحان ثابتان عن النبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- متضادان، لا يمكن؛ لأنه لا ينطق عن الهوى، والتضاد دليل على التناقض، فلا بد من أن يُحمل الحديث الأول على وجه، ويحمل الثاني على وجه لا يعارضه. يقول ابن خزيمة: لا يمكن أن يوجد حديثان عن النبي ﷺ متضادان، الذي يسمونه مختلف الحديث، فمن كان عنده شيء من ذلك فليأتني ليؤلف بينهما. ابن خزيمة إمام في هذا الباب، مع أنه ليس بالمعصوم.
حديث الصحيحين: «اللهم باعد بيني وبين الخطايا»، «بيني». وجاء في السنن ذم من يؤم الناس ويخص نفسه بدعوة دونهم.
قال ابن خزيمة: الحديث الثاني باطل؛ لأنه معارض للحديث الأول. طيب، الجمع ممكن، وهو ابن خزيمة. قالوا: الحديث الثاني محمول على الدعاء الذي يُؤمَّن عليه، لا يجوز للإمام أن يقنت ويقول: اللهم اهدني فيمن هديت، والجماعة خلفه يقولون: آمين! في الدعاء الذي يؤمَّن عليه، وحينئذٍ فيه تعارض أم ما فيه تعارض؟ ما فيه تعارض. هنا الذي عندنا قالوا: إن الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسألها إذا كانت عنده ولا يعلم بها صاحبها، صاحب الحق ما يدري أن عنده شهادة؛ لأن المدين أو الخصم اعترف بالدين لفلان في مجلس، وسمع هذا الاعتراف، وشهد به، وصاحب الحق لا يعرف هذا الشاهد الذي سمع هذه الشهادة دون علمه فادعى عليه قال: شهدها. هو ما يعرف أن عنده شهودًا، فجاء هذا الذي سمع هذه الشهادة، وأداها قبل أن يسألها؛ لأنه لولا هذه الشهادة لضاع الحق. فكون صاحب الحق لا يعرف أن له شاهدًا فيأتي هذا قبل أن يُسأل الشهادة؛ هذا خير الشهداء؛ لأنه بإمكانه أن يقول: صاحبها ما طلب مني، ولا يعرف أحد عندي شهادة، لماذا أكلف نفسي أروح عند القاضي وأشهد؟ لكن أداها؛ لئلا يضيع حق أخيه المسلم. وأولئك: «قوم يشهدون ولا يُستشهدون»، إما أن يشهدوا بشهادة زور ما استُشهدوا ولا شهدوا أصلاً، أو عندهم شهادة، ويعرفها صاحبها فمن باب العجلة، والعجلة مذمومة، يؤدون هذه الشهادة وصاحبها يعلم بها ولا خوف من ضياع الحق. إلى غير ذلك مما ذُكر في التوفيق بين هذين الحديثين.
عمران بن حصين -رَضِيَ اللهُ عنهُ- من جلة الصحابة ومن خيارهم، مرض في آخر عمره، ولزم منزله، مرض بالبواسير، فقال له النبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: «صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا».
عمران بن حصين لما مرض كانت الملائكة تسلّم عليه عِيانًا، وهذا من كراماته، فاكتوى -رَضِيَ اللهُ عنهُ- فانقطع التسليم، فندم، فعاد التسليم. هل من اكتوى، والذي يكتوي يخرج عن دائرة السبعين الألف الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون.