شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (061)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخوتنا وأخواتنا المستمعين الكرام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحبًا بكم إلى حلقة جديدة ضمن برنامجكم هذا، برنامج: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح.
مع بداية حلقتنا يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، فأهلاً ومرحبًا بكم شيخ عبد الكريم.
حياكم الله وبارك فيكم.
المقدم: توقفنا عند قول المصنف -رحمه الله-:
"عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من يقم ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه».
وفي الباب الذي يلي الباب الذي يليه قال: وعنه أيضا -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه».
وعنه أيضًا -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه»."
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
هذه الأحاديث الثلاثة في قيام رمضان، وفي قيام ليلة القدر، وقيام رمضان وصيامه كلها عن أبي هريرة يجمعها أنها في ظرف واحد، وهو في شهر الصيام والقيام شهر رمضان، وهي أيضًا سيقت في بعض المواضع مساقًا واحدًا، فكأنها حديث واحد، قطَّعها الإمام البخاري في مواضع ثلاثة، حسب ما يستنبط منها -رحمه الله تعالى-.
وأبو هريرة راوي الأحاديث الثلاثة عبد الرحمن بن صخر الدوسي، سبقت ترجمته.
والحديث ترجم عليه الإمام -رحمه الله تعالى- بقوله: بابٌ: قيام ليلة القدر من الإيمان، ترجم على الجملة الأولى منه بقوله: بابٌ قيام ليلة القدر من الإيمان، وترجم على الجملة الثانية بقوله: بابٌ تطوع قيام رمضان من الإيمان، وعلى الجملة الثالثة: بابٌ صوم رمضان احتسابًا من الإيمان.
يقول الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- لَمَّا بين الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- علامات النفاق وقبحها رجع إلى ذكر علامات الإيمان وحسنها؛ لأن الكلام على متعلقات الإيمان هو المقصود بالأصالة، وإنما يذكر متعلقات غيره استطرادًا، ثم رجع فذكر أن قيام ليلة القدر وقيام رمضان وصيام رمضان من الإيمان، وأورد الثلاثة من حديث أبي هريرة متَّحدات الباعث والجزاء، وعبَّر في ليلة القدر بالمضارع في الشرط، وبالماضي في جوابه، بخلاف الآخرَين فبالماضي فيهما، يعني قال في باب قيام ليلة القدر من الإيمان «من يقم ليلة القدر» من يقم بالمضارع «ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له» وقال في الموضع الثاني: «من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له» في الموضع الثالث: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له».
وعبَّر في ليلة القدر بالمضارع في الشرط، وبالماضي في جوابه، بخلاف الآخرَين فبالماضي فيهما.
قال الكرماني: فإن قلت: لِمَ قال: مَن يقم بلفظ المضارع، وقال فيما بعده: من قام رمضان ومن صام رمضان بالماضي؟ قلت: لأن قيام رمضان وصيامه محقَّق الوقوع، يعني لأنه معروف الوقت هذا بالنهار وهذا بالليل، فجاء بلفظ يدل عليه، بخلاف قيام ليلة القدر، فإنه غير متيقَّن، فلهذا ذكره بلفظ المستقبل كذا قال، لكن من قام الليالي، ليالي العشر بهذا القيد إيمانًا واحتسابًا جُزِم بأنه أدرك ليلة القدر على ما سيأتي؛ لأنها في العشر الأواخر، كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام- على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
يقول: فإن قلت: فما بال الجزاء لم يطابِق الشرط في الاستقبال مع أن المغفرة في زمن الاستقبال؟ فما بال الجزاء لم يطابِق الشرط في الاستقبال؟ ما قال: مَن يقم ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا يُغفَرْ له، قلت: إشعارًا بأنه متيقن الوقوع، متحقَّق الثبوت، فضلاً من الله تعالى على عباده، فهو نظير قوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللّهِ} [سورة النحل 1].
«من يقم» (مَن) اسم شرط، و(يقم) جملة من الفعل والفاعل فعل الشرط، وليلة القدر سميت بذلك لأنها ذات قدْر عند الله -عز وجل-؛ لنزول القرآن فيها، أو لما يقع فيها من تنزل الملائكة، أو لما ينزل فيها من البركة والرحمة والمغفرة، أو لأن الذي يحييها يصير ذا قَدْر، وقدَّم النووي في شرحه أنها سميت بذلك لما يُقدَّر فيها، ويكتب فيها من الأقدار والأرزاق والآجال التي تكون في تلك السنة، كما قال -جل وعلا-: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [سورة الدخان 4].
وجاء في فضلها مع حديث الباب نصوص كثيرة، بل جاء في فضلها سورة كاملة، كما قال -جل وعلا-: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [سورة القدر1- 5] وقيامها يكون بالصلاة والذكر والدعاء والاستغفار وقراءة القرآن، وغير ذلك من وجوه الخير، وقد دلت السورة الكريمة على أن العمل في هذه الليلة خير من ألف شهر مما سواها، وهذا فضل عظيم، ورحمة من الله -جل وعلا- بعباده المؤمنين، فجدير بالمسلمين أن يعظموها، وأن يحرصوا على إحيائها، وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها في العشر الأواخر من رمضان، وأن أوتارها أرجى من غيرها، فقال -عليه الصلاة والسلام-: «التمسوها في العشر الأواخر من رمضان» وقال: «من كان متحريها فليتحرَّها في السبع الأواخر» وغير ذلك من النصوص التي تدل على أن هذه الليلة العظيمة تنتقل في العشر وليست في ليلة معينة منها دائمًا، فقد تكون في سنة في إحدى وعشرين، وفي أخرى في ثلاث وعشرين، وقد تكون في ليلة خمس وعشرين، وقد تكون في ليلة سبع وعشرين، وقد تكون في ليلة تسع وعشرين، وقد تكون في الأشفاع؛ لأن قوله -عليه الصلاة والسلام-: «التمسوها في سابعة تبقى» يحتمل أن تكون في الشفع، وتكون في الوتر، تبعًا لتمام الشهر ونقصانه.
فمن قام ليالي العشر كلها إيمانًا واحتسابًا أدرك هذه الليلة بلا شك، وفاز بما وعد الله أهلها، وقد كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يخص هذه الليالي أعني ليالي العشر بمزيد اجتهاد لا يفعله في العشرين الأول، قالت عائشة -رضي الله عنها-: كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يجتهد في العشر الأواخر من رمضان ما لا يجتهد في غيرها. وقالت: كان إذا دخل العشر أحيا ليله، وأيقظ أهله، وشد مئزره... إلى غير ذلك من النصوص.
واختلف العلماء في أنه هل يلزم العلم بها أو لا يلزم؟ يعني لثبوت الأجر المرتَّب على قيامها، والصواب أن من قامها نال أجرها ولو لم يعلم بها، وقول من قال: إنه لا ينال أجرها إلا من شعر بها قول ضعيف؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: «من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا» ولم يقل: عالمًا بها، ولو كان العلم شرطًا لحصول الثواب لبيَّنه النبي -عليه الصلاة والسلام-.
هذا وقد ذكر العلماء علامات تُعرَف بها ليلة القدر، فمنها زيادة النور فيها، ومنها أيضًا طمأنينة القلب وانشراح الصدر من المؤمن، فالمؤمن يجد من انشراح الصدر وطمأنينة القلب في تلك الليلة أكثر مما يجده في بقية الليالي، ومن ذلك أن الرياح تكون فيها ساكنة، فلا تأتي فيها رياح، بل يكون الجو هادئًا، فقد أخرج ابن خزيمة وابن حبان من حديث جابر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إني كنت رأيت ليلة القدر ثم نُسِّيْتها، وهي في العشر الأواخر، وهي طلقة بلجة، لا حارة ولا باردة، كأن فيها قمرًا يفضح كواكبها، ولا يخرج شيطانها حتى يخرج فجرها» الحديث مخرَّج في ابن خزيمة وابن حبان.
وأخرج الإمام أحمد من حديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن أمارة ليلة القدر أنها صافية بلجة، كأن فيها قمرًا ساطعًا، ساكنة ساجية، لا برد فيها ولا حر، ولا يحل لكوكب أن يُرمَى به فيها حتى تصبح» قال الهيثمي: رجاله ثقات، قلت: وهو مع سابقه، أعني حديث جابر صحيح لغيره.
وفي النهاية لابن الأثير: «ليلة القدر بلجة» أي مشرقة.
ومن علاماتها أن الشمس تطلع في صبيحتها ليس لها شعاع، ففي صحيح مسلم من حديث أبي بن كعب -رضي الله عنه- قال: أخبرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنها تطلع يومئذٍ لا شعاع لها.
وفي المسند من حديث عبادة مرفوعًا، وفيه: «وأن أمارتها أن الشمس صبيحتها تخرج مستوية، ليس لها شعاع، مثل القمر ليلة البدر، ولا يحل للشيطان أن يخرج معها يومئذٍ».
فينبغي للمسلم أن يعتني ويغتنم هذه الليلة فيُكثِر من الأدعية المأثورة، كقوله: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني؛ لحديث عائشة -رضي الله عنه- قالت: أرأيت يا رسول الله إن وافقت ليلة القدر فما أقول فيها؟ قال: «قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعفُ عني» خرَّجه الإمام أحمد والنسائي والترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن صحيح.
وغير ذلك من الأدعية الجوامع الواردة في الكتاب والسنة، وينبغي أن يجتنب الأدعية المتكلَّفة والمسجوعة وما فيه إثم أو قطيعة رحم.
في شرح الكرماني: فإن قلت: لفظ «من يقم ليلة القدر» هل يقتضي قيام تمام الليلة أو يكفي أقل ما ينطبق عليه اسم القيام فيها؟ قلت: يكفي الأقل، وعليه بعض الأئمة، لكن الظاهر منه عرفًا أنه لا يقال: قام الليلة إلا إذا قام كلها أو أكثرها، إذا قيل: قام الليلة، قام ليلة كذا، قام ليلة السبت، ليلة الخميس، معناه أنه قام كلها، هذا الأصل، هذا ظاهر اللفظ، كما أنه أيضًا قد يُتجوَّز فيقال ذلك على من قام أكثر الليل، أما من قام أقل الليل فلا ينطبق عليه عرفًا، وإن جاء في الحديث الصحيح أن «من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما قام الليل كله».
المقدم: هل يشترط مع هذا أن يدرك صلاة المغرب مع نفس الإمام حتى يصدق عليه أنه قام كل الليل، أو يكفي العشاء فحسب؟
لا شك أن الحرص على صلاة الجماعة لا سيما الفرائض دليل على توفيق الله -عز وجل- للشخص، ويبعد أن يوفَّق للقيام المسنون مَن يفرِّط في الفرائض، تجده لا يوفَّق لهذا، وهذا شاهده العيان موجود، فعلى الإنسان أن يعتني بما افترض الله عليه، وهو أهم من النوافل، فإذا اهتم بما افترض الله عليه وفقه الله لاغتنام الأوقات، والاعتناء بالنوافل.
قوله: «إيمانًا واحتسابًا» منصوبان على أنهما حالان متداخلتان أو مترادفتان، على تأويل مؤمنًا ومحتسبًا، ويقول القسطلاني: نُصِبَا على المفعول له، من أجل الإيمان ومن أجل الاحتساب.
والمراد بذلك كما قال النووي: إيمانًا أي تصديقًا بأنه حق وطاعة، ومعنى احتسابًا أن يريد بذلك وجه الله تعالى لا لرياء ونحوه، فقد يفعل الإنسان الشيء الذي يعتقد أنه صدق، لكنه لا يفعله مُخْلِصًا، بل لرياء أو خوف من قاهر أو من فوات منزلة ونحو ذلك، والله أعلم.
«غُفِر له ما تقدم» جواب الشرط وقع ماضيًا، وفعل الشرط مضارعًا كما تقدمت الإشارة إلى ذلك، والنحاة يستضعفون مثل ذلك، ومنهم من منعه إلا في ضرورة الشِّعر أن يأتي فعل الشرط مضارعًا والجواب ماضيًا إلا في ضرورة الشِّعر، وأجازوا ضده، أن يكون فعل الشرط ماضيًا وجوابه مضارعًا من قام يُغفَر له، وأجازوا ضده وهو أن يكون فعل الشرط ماضيًا، والجواب مضارعًا، كما في قوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ} [سورة هود 15] وأجاز جماعة ذلك مطلقًا، واحتجوا بالحديث، حديث الباب وبقول عائشة -رضي الله عنها- في أبيها -رضي الله عنه-: "متى يقم مقامك رق" في وصف أبيها، حينما قالت: إنه رجل أسيف، النبي -عليه الصلاة والسلام- أراد أن يستخلف أبا بكر «مروا أبا بكر ليصلي بالناس» فقالت عائشة -رضي الله عنها-: "إنه رجل أسيف، متى يقم مقامك يرق، ولا يسمع الناس صوته من البكاء".
قال العيني: والصواب معهم؛ لأنه وقع في كلام أفصح الناس، وفي كلام عائشة الفصيحة.
يقول ابن حجر: واستدلوا يعني من أجازه بقوله تعالى: {إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ} [سورة الشعراء 4] لأن قوله: {فَظَلَّتْ} بلفظ الماضي، وهو تابع للجواب وتابع الجواب جواب.
واستدلوا أيضًا بهذا الحديث، يقول ابن حجر: وعندي في الاستدلال به نظر؛ لأنني أظنه من تصرف الرواة؛ لأن الروايات فيه مشهورة، عن أبي هريرة بلفظ المضارع في الشرط والجزاء، من يقم يُغفَر له.
قال العيني ردًّا عليه: لا نُسلِّم أن تابع الجواب جواب، بل هو في حكم الجواب، وفرق بين الجواب وحكم الجواب، وقوله: {فَظَلَّتْ} عُطِف على قوله {نُنَزِّلْ} وحق المعطوف صحة حلوله محل المعطوف عليه، وقوله -يعني ابن حجر-: وعندي في الاستدلال به نظر، أراد استدلال المجوِّزين بالحديث المذكور؛ لأنني أظنه من تصرف الرواة، فقد رواه النسائي فذكره بإسناده باتحاد الجزأين، من يقم ليلة القدر يُغفَر له.
قلت -القائل العيني-: لقائل أن يقول: لِمَ لا يجوز أن يكون تصرف الرواة فيما رواه النسائي والطبراني لا فيما رواه البخاري، استدراك ظاهر.
قال العيني: لقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يكون تصرف الرواة فيما رواه النسائي والطبراني وأن ما رواه البخاري بالمغايرة بين الشرط والجزاء هو اللفظ النبوي؟ بل الأمر كذلك؛ لأن رواية البخاري لا يعادلها غيرها، ويؤيدها رواية مسلم كذلك.
ابن هشام في أوضح المسالك لَمَّا ذكر أسماء الشرط وأفعاله وحروفه قال: وكلٌّ منهنَّ يقتضي فعلين يسمى أولهما: شرطًا، وثانيهما: جوابًا وجزاءً، ويكونان مضارعين، نحو: {وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ} [سورة الأنفال 19] وماضيين، نحو: {وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا} [سورة الإسراء 8] وماضيًا فمضارعًا، نحو: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} [سورة الشورى 20] وعكسه، وهو قليل، نحو: «من يقم ليلة القدرِ إيمانًا واحتسابًا غفر لهُ» ومنه: {إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ} [سورة الشعراء 4] لأن تابع الجواب جواب.
ومن هنا نعلم أن ابن حجر استفاد كلامه من كلام ابن هشام، وأيضًا المباحث النحوية غالبًا في عمدة القاري يستمدها من ابن هشام، لا سيما في المغني، وهذا بالاستقراء، وهنا ابن حجر استفاد هذا الكلام من ابن هشام. ورد الناظم بهذين ونحوهما على الأكثرين إذ خَصُّوا هذا النوع بالضرورة، الناظم مَن هو؟ ابن مالك ناظم الألفية، الناظم رد بهذين ونحوهما على الأكثرين إذ خَصُّوا هذا النوع بالضرورة.
«ما تقدم من ذنبه» أي: مما يتعلق بحقوق الله -عز وجل- غير ما يتعلق بحقوق الآدميين؛ لأن الإجماع قائم على أنها لا تسقط إلا برضاهم، نعم حقوق الآدميين مبنية على المشاحة، وحقوق الله -عز وجل- مبنية على المسامحة، فما تقدم من ذنبه لا يشمل حقوق الآدميين؛ لأنها لا تسقط إلا برضاهم، ويشترط أيضًا أن يكون الذنب مما هو تحت المشيئة، فيخرج الشرك الذي أخبر الله -عز وجل- أنه لا يغفره، {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [سورة النساء 48]، وهل تُغفَر الكبائر بقيام ليلة القدر وبقيام رمضان وبصوم رمضان على ما سيأتي أو المغفرة خاصة بالصغائر؟
جاء في أحاديث: «العمرة إلى العمرة، ورمضان إلى رمضان، والصلوات الخمس إلى الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن ما اجتُنِبَت الكبائر» وفي رواية: «ما لم تُغْشَ كبيرة» فهل ما معنا منها؟ يعني مثل هذه الأعمال العظيمة تكفِّر الكبائر دون الصغائر؟ أو نقول: «ما تقدم من ذنبه» (ما) من صيغ العموم؟ ويقول الكرماني: الذنب عام لأنه اسم جنس مضاف، لاسيما ليلة القدر التي ورد فيها هذا الفضل العظيم، وأنها تعدل عبادة ألف شهر، خير من ألف شهر، فالذي يعطي مثل هذا الفضل العظيم لا يبعد أن يغفر بها، أو بقيامها إيمانًا واحتسابًا الصغائر والكبائر، لاسيما وأن (ما) من صيغ العموم، وأيضًا الذنب اسم جنس مضاف «ما تقدم من ذنبه».
جاء عند النسائي في الكبرى بعد رواية الحديث، قال: وفي حديث قتيبة: «وما تأخر» «ما تقدم من ذنبه وما تأخر» وهذه الزيادة صححها المنذري في الترغيب، وقال ابن عبد البر في التمهيد: زيادة منكرة، وقال الألباني في حاشيته على صحيح الترغيب: هذه الزيادة شاذة، خالف بها قتيبة الثقات.
لكن ابن حجر في فتح الباري ذكر لها متابعات، قال: ليس هو بمنكر، يَرُد على ابن عبد البر، ليس هو بمنكر فقد تابعه يعني حامد بن يحيى قتيبة وهشام بن عمار والحسين بن الحسن المروزي ويوسف بن يعقوب، وقد وقعت هذه الزيادة أيضًا في حديث عبادة بن الصامت، يعني الحديث له شاهد، يعني راويه له متابع، له جمع من المتابِعين، تابعه جماعة، والحديث من رواية أبي هريرة له شاهد من حديث عبادة بن الصامت عند الإمام أحمد من وجهين، وإسناده حسن.
يقول: وقد استوعبت الكلام على طرقه في كتاب: الخصال المكفِّرة للذنوب المتقدمة والمتأخرة هذا كلام ابن حجر.
السائل: أقول: هل يشرع -أحسن الله إليك- أن يدعو الإنسان لنفسه يقول: اللهم اغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر؟
لا مانع أن يدعو الإنسان بهذا الدعاء؛ لأن ذنبه المتقدم محقَّق، وذنبه المتأخر غالب على الظن، ومعنى المغفرة الستر، وأن يستر عليه في الدنيا من اطلاع الناس على هذه الذنوب، وأن يستر عليه في الآخرة فلا يعذبه عليها، سواءً منها ما تقدم وما تأخر.
المقدم: أحسن الله إليكم ظهرت الحقيقة في الآونة الأخيرة بعض التأويلات لرؤى بتحديد ليلة القدر، وأحيانًا تحدد هذه الليلة صبيحة اليوم التالي، صبيحة يوم الرابع والعشرين يقال: إن ليلة القدر هي الليلة البارحة أو قبل البارحة، وهذا يدفع الناس إلى التكاسل، هل لهذا أصل شرعي؟
الأصل الشرعي على خلافه، الأصل الشرعي على خلاف ذلك، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- لما تواطأت رؤى الصحابة عليها «أرى رؤياكم قد تواطأت» ومع ذلك لم يحددها بليلة، وإنما طلب التماسها في العشر «فمن كان متحريها فليتحرها في العشر الأواخر» «في سابعة تبقى...» إلى آخره، وهذا قصد شرعي، إخفاؤها من مقاصد الشرع ليجتهد الناس، ويكثر الناس من العبادة، ويلجأ الناس إلى ربهم، أما إذا عُرِفَت هذه الليلة؛ يكسل الناس، ولا يقوم الناس غير هذه الليلة، كما أن هناك حكمة من إخفاء ساعة الجمعة وغيرها مما جاء في الشرع من النظائر.
المقدم: أحسن الله إليكم ونفع بعلمكم.
إذًا مستمعيَّ الكرام، سوف نرجئ الحديث عن بقية أطراف الحديث -بإذن الله تعالى- وبقية ألفاظه أيضًا في حلقةٍ قادمة. في ختام هذه الحلقة أتوجه بالشكر الجزيل، بعد شكر الله -سبحانه وتعالى- لصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.
شكر الله له، شكرًا لكم أنتم على حسن استماعكم، شكرًا للإخوة الحضور معنا، نلقاكم -بإذن الله تعالى- في حلقة قادمة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.