شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (047)
المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحبًا بكم إلى حلقة جديدة ضمن برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح.
مع مطلع هذه الحلقة يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بقسم السنة، كلية أصول الدين، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، فأهلاً بكم شيخ عبد الكريم.
حياكم الله وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.
توقفنا عند قوله -رحمه الله-:
"عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعطى رهطًا وسعد جالس، فترك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلاً هو أعجبهم إليّ، فقلت: يا رسول الله، ما لَك عن فلان؟! فو الله إني لأَراه مؤمنًا، فقال: «أو مسلمًا؟» فسكت قليلاً ثم غلبني ما أعلم منه، فعدت لمقالتي فقلت: ما لك عن فلان؟! فو الله إني لأراه مؤمنًا، فقال: «أو مسلمًا؟» فسكت قليلاً، ثم غلبني ما أعلم منه فعدت لمقالتي وعاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: «يا سعد إني لأعطي الرجل وغيره أحب إليَّ منه خشية أن يكُبَّه الله في النار»."
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. حديث سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- راويه سعد بن أبي وقاص، مالك بن وهيب، ويقال أُهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مُرَّة بن كعب بن لؤي القرشي الزهري، أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، أسلم قديمًا، وهاجر إلى المدينة قبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وشهد بدرًا والمشاهد كلها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان مُجابَ الدعوة، وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله تعالى، كان يقال له فارس الإسلام، ومناقبه مشهورة، توفي بقصره بالعَقِيْق على عشرة أميال من المدينة، وحُمِل على الرقاب إلى المدينة، ودُفِن بالبقيع سنة خمس وخمسين، وقيل غير ذلك، وله من العمر ثلاث وسبعون سنة.
الحديث ترجم عليه الإمام -رحمة الله عليه- بقوله: باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة وكان على الاستسلام أو الخوف من القتل؛ لقوله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا} [سورة الحجرات 114] فإذا كان على الحقيقة فهو على قوله -جَلَّ ذِكْرُه-: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ} [سورة آل عمران 19] يقول ابن حجر -رحمه الله-: مُحصِّل ما ذكَره واستدل به أن الإسلام يطلق ويراد به الحقيقة الشرعية، وهو الذي يراد في الإيمان، وينفع عند الله -عز وجل-، وعليه قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ} [سورة آل عمران 19] فمراد الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- بالحقيقة، بابٌ إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة، فإذا كان على الحقيقة، مراده بذلك الحقيقة الشرعية، ولم يلتفت -رحمه الله تعالى- إلى الحقائق الأخرى، الحقيقة اللغوية، أو الحقيقة العرفية، فالحقيقة المثبَتة والمنفيَّة في الباب المراد بها الحقيقة الشرعية، ولذا يقول ابن حجر -رحمه الله تعالى-: مُحصَّل ما ذكَره واستدل به -يعني الإمام البخاري- أن الإسلام يُطلَق ويراد به الحقيقة الشرعية، وهو الذي يراد في الإيمان، وينفع عند الله -عز وجل-، وعليه قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ} [سورة آل عمران 19] وقوله تعالى: {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ} [سورة الذاريات 36] ويطلق ويراد به الحقيقة اللغوية، وهو مجرد الانقياد والاستسلام. وهنا نفى الإمام الحقيقة، والمقصود بالحقيقة المنفية في قوله: "إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة" الحقيقة الشرعية، وأما الحقيقة اللغوية فهي ثابتة، ولذا قال ابن حجر: ويُطلَق ويراد به الحقيقة اللغوية، وهو مجرد الانقياد والاستسلام.
المقدم: مع أننا أسلفنا في حلقات ماضية أن مراد البخاري بالإيمان والإسلام سواء يا شيخ.
نعم، واحد، معناهما واحد.
المقدم: كيف يعني يصرِّف هذا الحديث أو ينظر إليه؟
تأتي الإشارة إليه -إن شاء الله-.
مناسبة الحديث لهذه الترجمة ظاهرة، من حيث إن المسلم يطلق على من أظهر الإسلام وإن لم يُعلم باطنه، فلا يكون مؤمنًا لأنه ممن لم تَصدُق عليه الحقيقة الشرعية، وأما اللغوية فحاصلة، كأن البخاري يميل إلى أن الأعراب الذين نُفِيَ عنهم الإيمان إسلامهم لغوي فقط هو مجرد استسلام، وهذا الرجل الذي أعرض عنه النبي -عليه الصلاة والسلام-، ولم يعطه شيئًا إسلامه مجرد استسلام، وإلا لكان نصًّا في الرد على من يقول بترادف الإسلام والإيمان.
وتعقَّبه العيني في عمدة القاري، فقال: موضوع الباب ليس على إطلاق المسلم على من يظهر الإسلام على ما لا يخفى، بل المناسبة هي أن الإسلام إذا لم يكن على الحقيقة لا يُقبَل، فلذلك قال -عليه الصلاة والسلام-: «أو مسلمًا؟» لأن فيه النهي عن القطع بالإيمان؛ لأنه باطن، لا يعلمه إلا الله، والإسلام معلوم بالظاهر.
الحافظ ابن حجر -رحمه الله- يوجِّه كلام البخاري، ويربط بين الحديث والمناسبة من وجهة نظر البخاري، والعيني يوجه الكلام على ما ينبغي أن يكون، وفرْق بين الأمرين، ولذا يقول: مناسبة الحديث للترجمة ظاهر من حيث أن المسلم يطلق على من أظهر الإسلام وإن لم يعلم باطنه، يعني مجرد الاستسلام، وهذا نص كلام البخاري -رحمه الله تعالى-.
فلا يكون مؤمنًا لأنه ممن لم تصدق عليه الحقيقة الشرعية وأما اللغوية فحاصلة، هذا مطابِق لترجمة البخاري وإيراده الحديث والآيات، تعقُّب العيني قال: موضع الباب ليس على إطلاق المسلم على من يظهر على ما لا يخفى. بلى؛ لأن البخاري نص على أنه إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة يعني الحقيقة الشرعية وإنما مجرد حقيقة لغوية استسلام، يقول: بل المناسبة هي أن الإسلام إذا لم يكن على الحقيقة لا يُقبَل، فلذلك قال -عليه السلام-: «أو مسلمًا؟» لأن فيه النهي عن القطع بالإيمان لأنه باطن لا يعلمه إلا الله، والإسلام معلوم بالظاهر.
قال ابن رجب -رحمه الله تعالى-: معنى هذا الكلام أن الإسلام يطلق باعتبارين، أحدهما: باعتبار الإسلام الحقيقي، وهو أن دين الإسلام الذي قال الله فيه: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ} [سورة آل عمران 19] وقال: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} [سورة آل عمران 85].
والثاني: باعتبار الاستسلام ظاهرًا مع عدم إسلام الباطن، إذا وقع خوفًا كإسلام المنافقين، واستدل بقوله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [سورة الحجرات 14] وحمله على الإسلام خوفًا وتقيَّة، وهذا مروي عن طائفة من السلف، منهم مجاهد وابن زيد ومقاتل بن حيَّان وغيرهم، رجحه محمد بن نصر المروزي كما رجحه البخاري؛ لأنهما لا يفرِّقان بين الإسلام والإيمان، فإذا انتفى أحدهما انتفى الآخر، وهو اختيار ابن عبد البر، وحكاه عن أكثر أهل السنة من أصحاب مالك والشافعي وداود، وأما من يفرِّق بين الإسلام والإيمان فإنه يستدل بهذه الآية على الفرق بينهما، ويقول: نفْي الإيمان عنهم لا يستلزم نفْي الإسلام، كما نفَى الإيمان عن الزاني والسارق والشارب وإن كان الإسلام عنهم غير منفي.
والقول بالفرق بين الإسلام والإيمان مروي عن الحسن وابن سيرين وشريك بن عبد الله وعبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن معين وقتادة والزهري وابن أبي ذئب وحماد بن زيد وأحمد، وحكاه أبو بكر بن السمعاني عن أهل السنة والجماعة جملة، فحكاية ابن نصر وابن عبد البر عن الأكثرين التسوية بينهما غير جيِّد، بل قد قيل: إن السلف لم يرو عنهم غير التفريق، والله أعلم.
السلف قاطبة لم يرو عنهم غير التفريق، يعني لا يُعرَف من السلف من قال إن الإسلام والإيمان بمعنى واحد، بل بينهما فرْق على ما هو معلوم ومقرَّر.
قوله: "عن سعد أن النبي -عليه الصلاة والسلام- أعطى رهطًا" الرهط عدد من الرجال من ثلاثة إلى عشرة، وقال القَزَّاز: وربما جاوزوا ذلك قليلاً، ولا واحد له لفظه -القَزَّاز له كتاب في اللغة اسمه: الجامع- يقول: ربما جاوزوا ذلك قليلاً، ولا واحد له من لفظه، ورهط الرجل بنو أبيه الأدنى، وقيل: قبيلته.
قال الكرماني: الرهط الجماعة دون العشرة من الرجال لا يكون فيهم امرأة، وقيل: دون الأربعين، والجمع أرهاط وأرهط وأراهط وأراهيط، وهؤلاء الرهط من المؤلَّفة قلوبهم، كما يدل عليه سياق الحديث؛ لأن الرسول -عليه الصلاة والسلام- قال في آخر الحديث: «إني لأعطي الرجل وغيره أحب إليَّ منه خشية أن يكُبَّه الله في النار» فهؤلاء لو لم يُعطَوا خُشي أن يرتدوا فهم مؤلَّفة على هذا "وسعد جالس" جملة اسمية وقعت حالاً، ولم يقل: وأنا جالس كما هو الأصل، بل جرَّد من نفسه شخصًا، وأخبر عنه بالجلوس، ففيه تجريد، التجريد أسلوب، أن يجرد من نفسه شخصًا يتحدث عنه، فسعد -رضي الله عنه- يقول: "أعطى رهطًا، وسعد جالس" كان المفترض أن يقول: وأنا جالس، كما جاء في بعض الروايات، أو هو من باب الالتفات من التكلُّم الذي هو مقتضى المقام يعني مقتضى المقام أن يقول: وأنا جالس إلى الغَيبة، كما هو قول صاحب المفتاح، يعني عند من يقول: أن الالتفات يكون من التكلُّم إلى الغَيبة، وهذا فيه نزاع، لكن مَن يقول: أن الالتفات خاص بالعكس على ما سيأتي، يقول: أن هذا تجريد وليس بالتفات، ولا يقرره التفاتًا خلافًا لقول صاحب المفتاح، صاحب المفتاح يراه من باب الالتفات، ولفظ الحديث في كتاب الزكاة: "أعطى رهطًا وأنا جالس" فساقه بلا تجريد ولا التفات.
"قال سعد: فترك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلاً هو أعجبهم إليَّ" أيْ أفضلهم وأصلحهم في اعتقادي، والجملة في محل نصب صفة لرجل، وكان السياق يقتضي أن يقول: أعجبهم إليه؛ لأنه قال: "وسعد جالس"، هنا يقول: "فترك رجلاً وهو أعجبهم إليّ" يعني الأصل أن يقال: أعجبهم إليه؛ لأنه جرَّد من نفسه شخصًا غيره، تحدث عنه.
المقدم: أو أعجبهم إلى سعد مثلاً؟
هو ما يكرر، ما يذكر الاسم في...، يعني في موضع الإضمار لا ينبغي إظهار الاسم.
وكان السياق يقتضي أن يقول: أعجبهم إليه؛ لأنه قال: "وسعد جالس"، بل قال: "إليّ" على طريق الالتفات من الغَيبة إلى التكلُّم، والرجل المتروك اسمه: جُعَيْل بن سراقة الضمري، سماه الواقدي في المغازي.
"فقلت: يا رسول الله" القائل سعد "ما لك عن فلان؟" أيْ أيُّ سبب لعدولك عنه؟ ولفظ فلان كناية عن اسم سمي به المتحدَّث عنه، ويقال في غير الناس: الفلان والفلانة بالألف واللام، نقله الجوهري عن ابن السرَّاج، يعني في الناس فلان وفلانة، وفي غير الناس يقال: الفلان والفلانة، إذا قيل: تَرْكَبُ الحصان كذا أو كذا، فيقول: كذا فيقول: ما لك عن الفلان، هذا على مقتضى ابن السرَّاج فيما نقله الجوهري.
وفي الفتح: فلان كناية عن اسم أُبهِم بعد أن ذُكِر.
"فو الله" فيه القسم في الأخبار على سبيل التأكيد، والقسم على الأمور المهمة جاءت به النصوص، فكثيرًا ما يُقسِم النبي -عليه الصلاة والسلام- بمقلِّب القلوب، وكثيرًا ما يقول: «والذي نفسي بيده» وقد أمره الله -سبحانه وتعالى- أن يُقسِم على البعث في ثلاثة مواضع من كتابه في سورة يونس، في قوله تعالى: {وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي} [سورة يونس 53] في سورة سبأ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي} [سورة سبأ 3] في سورة التغابن: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي} [سورة التغابن 7] في ثلاثة مواضع، ولا يعارض ذلك النهي الوارد في قوله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} [سورة البقرة 224].
قوله: "إني لأَراه" قال النووي: بفتح الهمزة، أي أعلمه، ولا يجوز ضمها على أن تُجعَل بمعنى أظنه؛ لأنه قال: "ثم غلبني ما أعلم منه" ولأنه راجع النبي -عليه الصلاة والسلام- مرارًا، فلو لم يكن جازمًا باعتقاده لما كَرَّر المراجعة "لأَراه" أيْ أعلمه بالفتح، وأُراه، أي أظنه.
وفي الحديث ما يدل على أن المراد العلم، والعلم -كما هو معروف- الذي لا يحتمل النقيض، والظن يحتمل النقيض وإن كان هو الاحتمال الراجح، والنقيض هو الاحتمال المرجوح، فإذا قال: إني لأُراه المقصود أظنه مع قوله: "ثم غلبني ما أعلم" صار هناك شيء من التعارض والتناقض؛ لأن الظن غير العلم، هذا على كلام النووي؛ ولذا يقول: ولا يجوز ضمها على أن تُجعَل بمعنى أظنه لأنه قال: "ثم غلبني ما أعلم منه" تُعقِّب بأنه لا دلالة فيه على تعيُّن الفتح؛ لماذا؟ لجواز إطلاق العلم على الظن الغالب، نحو قوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [سورة الممتحنة 10] أي العلم الذي يمكنكم تحصيله وهو الظن الغالب، وسمِّيَ الظن الغالب علمًا إيذانًا بأنه كالعلم في وجوب العمل به.
مسألة تقسيم الأخبار إلى ما يفيد العلم وما يفيد الظن مسألة معروفة عند أهل العلم، فالمتواتر عند أهل العلم يفيد العلم؛ لأنه لا يحتمل النقيض؛ ولأن من يسمعه يُضطَر إلى تصديقه، فهو مفيد للعلم اليقيني القطعي، على خلاف بينهم هل يفيد العلم النظري أو الضروري؟ المسألة خلافية معروفة في أصول الفقه، وأما ما عدا ذلك من الأخبار كأخبار الآحاد بأقسامه فإنما يفيد الظن، ومعنى إفادة الظن يعني الظن الراجح، الاحتمال الراجح دون المرجوح؛ لأن الاحتمال الراجح هو الظن، والاحتمال المرجوح يقال له الوهم، والمساوي الشك، فالاحتمال الراجح يفيد الظن، قد يقول قائل: إذا جزمنا بصدق الراوي وصنفناه ضمن الثقات لماذا لا يفيدنا خبره العلم؟ لأن عند من يقسِّم الأخبار إلى ما يفيد العلم ويفيد الظن خبر الواحد وإن صح ولو تعددت طرقه ما لم يصل إلى حد التواتر لا يفيد إلا الظن، قد ينازع من يقول: إن الظن لا يغني من الحق شيئًا، نقول: الظن هنا هو الاحتمال الراجح، وكون الراوي وإن كان ثقة ضابطًا متقنًا حافظًا إلا أنه ليس بمعصوم، من يَعْرَى من الخطأ والنسيان؟! ومادام هذا الاحتمال قائم فخبره يفيد الظن، والمسألة اصطلاحية، نعم إذا احتف بخبره قرينة تكون في مقابل الاحتمال، الاحتمال الثاني المرجوح أفاد العلم.
فعلى سبيل المثال مالك الإمام نجم السنن من أضبط الناس وأتقنهم وأحفظهم، في الدرجة العليا من الضبط والحفظ والإتقان إلا أنه ليس بمعصوم، حصل له شيء من الوهم، ورُد عليه في بعض الأسماء أسماء الرواة، وخُولف في بعض الأحاديث ليس بمعصوم، ومادام الأمر كذلك فخبر مالك وإن كان نجم السنن لا يفيد إلا الظن، لكن ما معنى إفادة الظن؟ إفادة الظن الاحتمال قائم على أنه أخطأ، لكن لا يعني هذا أننا نرد الخبر، يبقى أن الاحتمال ضعيف، ونحن مطالَبون بالعمل بغلبة الظن، وخبر الواحد وإن أفاد الظن في الأصل إلا أنه موجِب للعمل عند أهل العلم قاطبة، عند من يُعتَدُّ به من أهل العلم، ولم يَرُد خبر الواحد لإفادته الظن إلا نفر من المبتدعة، وهؤلاء لا عبرة بهم، فلا يلزم على قول من يقول من أهل السنة إن خبر الواحد يفيد الظن يلزم عليه لوازم المبتدعة الذين قالوا: ما دام لا يفيد إلا الظن فكيف نعمل به؟ نقول: هو مفيد للظن، ويجب العمل به في العقائد وفي الأحكام وفي غيرها على حد سواء؛ لأن الشرع متساوي الأقدام عقائده وأحكامه سواء، على ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-.
أُجيب بأن قسم سعد وتأكيد كلامه بـ(إن) واللام ومراجعته النبي -عليه الصلاة والسلام-، وتكرار نسبة العلم إليه يدل على أنه كان جازمًا باعتقاده، في رواية أبي ذر هنا وفي كتاب الزكاة بضم الهمزة: أُراه، فيكون المعنى: أظنه، وهذه الرواية تَرُد على النووي، ورجحها القرطبي في المُفْهِم.
قوله: "فقال" يعني النبي -عليه الصلاة والسلام-: «أو مسلمًا؟» (أو) بإسكان الواو لا بفتحها، فقيل: (أو) هنا للتنويع والتقسيم، وقال بعضهم: هي للتشريك، وأنه أمره أن يقولهما معًا لأنه أحوط، قال ابن حجر: ويَرِد على هذا رواية ابن الأعرابي في معجمه في هذا الحديث، فقال: «لا تقل: مؤمن، بل مسلم» فوضَح أنها للإضراب؛ لأنه جاء مكانها (بل) وتأتي (أو) للإضراب، من معانيها الإضراب كما نص على ذلك ابن مالك في الألفية، وليس معناه الإنكار، بل المعنى أن إطلاق المسلم على مَن لَمْ يُختبَر حاله الخبرة الباطنة أولى من إطلاق المؤمن؛ لأن الإسلام معلوم بحكم الظاهر، قاله النووي، ونقله عنه ابن حجر.
وقال صاحب التحرير في شرح مسلم، صاحب التحرير مَن هو؟ يعني عمدة عند النووي في شرح مسلم، قال صاحب التحرير، قال صاحب التحرير، يعني كثيرًا ما يقول النووي: حكى صاحب التحرير، جزم صاحب التحرير، ومثله أيضًا حكى صاحب المطالع، هذا استطراد لا يمنع أن يُثار؛ لأن هذا يستشكله كثير ممن يقرأ شرح مسلم، قال صاحب التحرير في شرح مسلم: هذا حكم على فلان بأنه غير مؤمن، وقال النووي: ليس فيه إنكار كونه مؤمنًا، بل معناه النهي عن القطع بالإيمان لعدم موجِب القطع، وقد غلط من توهَّم كونه حكمًا بعدم الإيمان، بل في الحديث إشارة إلى إيمانه، وهي قوله: «إني لأعطي الرجل وغيره أحب إليّ منه» قال الكرماني: أقول: فعلى هذا التقدير لا يكون الحديث دالاًّ على ما عُقِد له الباب، وأيضًا لا يكون لِرَدِّ الرسول -عليه الصلاة والسلام- على سعد فائدة، ولئن سلمنا أن فيه إشارة إليه فذاك حصل بعد تَكرار سعد إخباره بإيمانه، وجاز أن ينكِر أولاً، ثم يسلِّم آخرًا لحصول أمر يفيد العلم به، هنا يقول: أقول: فعلى هذا التقدير لا يكون الحديث دالاًّ على ما عُقد له الباب، يعني إذا قررنا أن الحديث ليس فيه إشارة إلى عدم إيمان هذا الرجل، يقول الكرماني: فعلى هذا التقدير لا يكون الحديث دالاًّ على ما عقد له الباب، وأن المراد بالإسلام هنا ليس على الحقيقة، بل هو على الاستسلام، فإذا كان هذا الرجل مؤمن بدليل آخر الباب، لكن النهي هنا والإنكار على سعد القطع بإيمانه، والإيمان أمر خفي، على الإنسان أن يحكم بالظاهر، ولا يدخل في البواطن.
قال ابن حجر: وهو تعقُّب مردود، وقد بيَّنا وجه المطابقة بين الحديث والترجمة قَبْل، ومحصل القصة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يوسع العطاء لمن أظهر الإسلام تألُّفًا، فلما أعطى الرهط وهم من المؤلفة وترك جُعيلاً وهو من المهاجرين، مع أن الجميع سألوه خاطبه سعد في أمره؛ لأنه كان يرى أن جُعيلاً أحق منهم لما اختبره منه دونهم، ولهذا راجع فيه أكثر من مرة، فأرشده النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى أمرين، أحدهما: إعلامه بالحكمة في إعطائه أولئك، وحرمان جُعيل مع كونه أحب إليه ممن أعطى؛ لأنه لو ترك إعطاء المؤلف لم يؤمن ارتداده، فيكون من أهل النار.
ثانيهما: إرشاده على التوقف بالثناء على الأمر الباطن دون الثناء بالأمر الظاهر، فوضَح بهذا فائدة رد الرسول -عليه الصلاة والسلام- على سعد، وأنه لا يَستلزِم محض الإنكار عليه، بل كان أحد الجوابين على طريق المشورة بالأولى، والآخر على طريق الاعتذار.
المقدم: أحسن الله إليكم يا شيخ لعلنا نرجئ الحديث عن بقية ألفاظ الحديث -بإذن الله تعالى- في حلقة الأسبوع القادم.
مستمعينا الكرام بهذا نصل وإياكم إلى ختام هذه الحلقة من شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، بقية الألفاظ مع ربط ما ذكر في الحلقة القادمة -بإذن الله تعالى- وهو مطلع الحلقة القادمة كونوا معنا، حتى ذلكم الحين نستودعكم الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.