شرح المنظومة البيقونية (2)
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،
أما بعد:
المرفوع والموقوف والمقطوع، يقول -رحمه الله تعالى-:
وما أضيف للنبي المرفوعُ |
| وما لتابع هو المقطوعُ |
كل ما يضاف إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- من قول أو فعل أو تقرير أو وصف هو المرفوع، يسمونه المرفوع، وما أضيف للتابعي فمن دونه يسمونه مقطوع، بينهما مرتبة وهي الموقوف، الموقوف: ما يضاف إلى الصحابي هو الموقوف، فما يقال فيه: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أو فعل رسول الله، أو فعل بحضرته وأقر، كل هذا مرفوع، وما يضاف إلى الصحابي هو الموقوف، وما يضاف إلى التابعي فمن دونه هو المقطوع، والمقطوع غير المنقطع، فالمقطوع نسبة، وإن كان بسند متصل هذا المقطوع، نسبة بحيث ينسب إلى التابعي، قال الحسن: كذا، أو فعل كذا، أو ابن سيرين، أو سعيد بن المسيب أو غيرهم من التابعين، يقال: هذا خبر مقطوع، وإن كان إسناده متصلاً، والمرفوع: ما يضاف إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- وإن كان إسناده منقطعاً، وكذلك ما يضاف إلى الصحابي يقال له: موقوف، سواء كان إسناده متصلاً أو منقطعاً، كل هذا يقال له: مرفوع وموقوف ومقطوع.
والمسند المتصل الإسناد من |
| راويه حتى المصطفى ولم يبن |
المسند: اسم مفعول من الإسناد، ويطلق بإزاء الإسناد والسند، ويطلق ويراد به الكتاب الذي رتبت أحاديثه على أسماء الصحابة كمسند أحمد، ويطلق على الكتاب الذي يروى بالأسانيد، ولو كان ترتيبه على الأبواب، كما في تسمية صحيح البخاري (الجامع الصحيح المسند) لأن أحاديثه مسندة، ويطلق ويراد به المرفوع، ويطلق ويراد به المتصل الإسناد، سواء كان مرفوعاً أو موقوفاً أو مقطوعاً كله مسند، ويطلق ويراد به المرفوع المتصل الإسناد، المرفوع إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- بإسناد متصل، ولذا يقول:
"والمسند المتصل الإسناد من راويه -من راويه- حتى المصطفى ولم يبن" ولم يبن، أي لم ينقطع، إذا عرفنا أنه متصل الإسناد، اتصل إسناده إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- فهو متصل الإسناد، ومرفوع في آن واحد، فجمع بين الأمرين، فمنهم من يقول: المسند ما رفع إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- بسند متصل، ومنهم من يقول: ما رفع إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- فهو بإزاء المرفوع، ولو كان بسند منقطع، ومنهم من يقول: ما اتصل إسناده سواء أضيف إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- أو من دونه، فالخلاف قائم بين أهل العلم، لكن أحياناً يطلق فيما يقابل الموقوف، فيقال: أسنده فلان، ووقفه فلان، وحينئذٍ يكون المراد به المرفوع؛ لأنه مقابل بالموقوف، وحيناً يقال: أسنده فلان، وأرسله فلان، فالمراد بالإسناد هنا اتصال السند "من راويه حتى المصطفى -عليه الصلاة والسلام- ولم يبن" يعني لم ينقطع.
وما بسمع كل راوٍ يتصل |
| إسناده للمصطفى فالمتصل |
"وما بسمع كل راوٍ يتصل" بسمع، خص الاتصال بما يسمعه كل راوٍ ممن فوقه، لكن هل طرق التحمل خاصة بالسماع؟ لا، هناك طرق للتحمل غير السماع، نعم الأصل في الرواية السماع، الأصل أن النبي -عليه الصلاة والسلام- يحدث والصحابة يسمعون، ويتلقون عنه، هذا الأصل، لكن دل حديث ضمام بن ثعلبة أن القراءة على الشيخ تعطي اتصال، وهي التي تسمى العرض، فالسماع من لفظ الشيخ طريق معتبر بالإجماع، القراءة على الشيخ طريق معتبر للتحمل بالإجماع، المسائل المختلف فيها: الإجازة، المناولة، إلى آخر الطرق المعروفة، النبي -عليه الصلاة والسلام- كتب لأمير السرية كتاباً وناوله إياه، وقال: ((لا تقرؤه حتى تبلغ كذا)) استدل به أهل العلم على صحة الرواية بالمناولة، وكتب إلى الأقطار والملوك كُتب، فصححوا الرواية بالمكاتبة، على كل حال طرق التحمل لا تقتصر على السماع.
وقوله: "وما بسمع كل راوٍ يتصل" يعني بكل طريق من طرق التحمل المعتبرة، "إسناده للمصطفى فالمتصل" المتصل: ما يتصل إسناده بحيث يكون كل راوٍ من رواته تحمله ممن فوقه بطريق معتبر، وهذا أشمل، فكل ما لم يتوافر فيه هذا الوصف فهو المنقطع، كل ما توافر فيه هذا الوصف فهو المتصل، سواء كان إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، أو إلى الصحابي، فيكون الأول: متصل مرفوع، والثاني: متصل موقوف، لكن إذا اتصل الإسناد إلى التابعي، عرفنا أن ما يضاف إلى التابعي يسمى إيش؟ مقطوع، إذا اتصل الإسناد إلى التابعي هل نقول: متصل مقطوع؟
طالب:.......
لماذا؟ قلنا: متصل مرفوع؛ لأنه اتصل الإسناد إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، وقلنا: متصل موقوف؛ لأنه اتصل إسناده إلى عمر، إلى أبي بكر، إلى عثمان، إلى أبي هريرة إلى غيرهم من الصحابة، متصل موقوف، لكن اتصل الإسناد إلى سعيد بن المسيب، اتصل الإسناد إلى الحسن البصري، اتصل الإسناد إلى ابن سيرين، هل نقول: متصل مقطوع؟ هو اتصل إلى التابعي، وما يضاف إلى التابعي يقال له: مقطوع، وش المانع ما نقول متصل مقطوع؟ مثل ما قلنا: متصل مرفوع ومتصل موقوف، نقول: متصل مقطوع؟
طالب:.......
لا، لا، هو مقطوع، يسمونه مقطوع، مو اتفقنا أن ما يضاف إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- يسمى مرفوع-عليه الصلاة والسلام-، وما يضاف إلى الصحابي يقال: موقوف، وما يضاف إلى التابعي يقال له: مقطوع، أنت الآن بنفسك تروي عن شيخك فلان عن شيخك فلان إلى الشيخ في الطبقة الرابعة مثلاً، ما هو بإسنادك متصل إلى هذا الشيخ؟ إحنا نروي مثلاً بإسنادنا إلى الحسن البصري، وما يضاف إلى الحسن البصري يقال له: مقطوع، نعم، ألا نقول: إننا نروي بسند متصل مقطوع؟ ورآك؟
طالب:.......
لا، لا، هذي نسبة، وهذي نسبة، محنا قسمنا الأخبار إلى ثلاثة أقسام: مرفوع، موقوف، مقطوع، دعنا من المنقطع غير، ما نقول: متصل منقطع هذا تنافر، نعم، هذا تناقض ما هو بتنافر فقط، هذا تناقض لو قلنا: متصل منقطع، هذا إيش؟ تناقض، لكن إذا قلنا: متصل مرفوع، متصل موقوف، متصل مقطوع، هذي مجرد نسبة، يمكن وإلا ما يمكن؟ الآن كل واحد تلقاه عمن فوقه بطريق السماع، كل واحد سمعه بأذنه إلى الحسن البصري ما هو متصل؟ ما يضاف إلى الحسن البصري إيش نسميه؟ مقطوع، انتهينا من هذا، فهل نقول: متصل مقطوع وإلا ما نقول؟ نعم، يعني مثل ما نقول: موقوف على الصحابي مقطوع هذا، غير منقطع مقطوع غير منقطع، وهذا قررناه في أبيات مضت.
وما يضاف للنبي المرفوعُ |
| وما لتابع هو المقطوعُ |
لكن إذا رويناه بسند متصل إلى التابعي ماذا نقول؟ متصل مقطوع مثل ما نقول: متصل مرفوع ومتصل موقوف؛ لأنه مجرد نسبة، طيب بعضهم يقول: لا ما نقول، لماذا ما نقول؟ يقول: فيه تنافر لفظي، ما هو بتناقض لا ما في تناقض، ما قلنا: متصل منقطع، لا هذا تناقض، لكن متصل مقطوع يقول: تنافر لفظي، ولم يروا أن يدخل المقطوع يعني في المتصل لمجرد التنافر اللفظي وإلا ما في تناقض كلامنا صحيح، ماشي ما فيه تناقض، لكن إذا انفكت الجهة، ولو جئنا بلفظين متنافرين إيش المانع؟ إذا قلت: جاء زيد الطويل القصير يصح وإلا ما يصح؟ طويل عمره، عمره مائة سنة، وقصير قامته، يصح وإلا ما يصح؟ يصح وإلا لا؟ لانفكاك الجهة، {فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ} [(4) سورة الحـج] تبي تقول: هذا تنافر بعد، نعم، انفكت الجهة فصح اللفظان المتضادان لانفكاك الجهة، فهنا انفكت الجهة يصح الإطلاق، لكن يقول بعضهم: إن هذا تنافر، متصل مقطوع هذا وش معنى الكلام هذا؟ لكن مع انفكاك الجهة يصح الإطلاق، ولا فيه أدنى إشكال، مثل ما تقول: جاء زيد الطويل القصير، وش المانع؟ نعم، لكن كل ما قربت المسألة من اتحاد الجهة، لو يدخل شخص طوله مترين تقول: جاء زيد الطويل القصير، عمره مائة طويل، لكن قامته طويلة، تبي تقول: قصير من أي جهة؟ أنت عندك في ذهنك شيء، عمره طويل مائة سنة، من حيث السنين طويل، لكن من حيث البركة قصير، هذا في الحقيقة تنافر، لماذا؟ لأن المشاهد لهذا الرجل ما يخطر بباله ما تريد، لكن إذا دخل مثلاً طوله متر وعمره مائة، أنت بتقول: طويل قصير السامع أول ما يشاهد الشخص بيفهم كلامك، نعم الجهة قد تكون منفكة في الظاهر فيصح الإطلاق، منفكة عندك في الباطن ما يعرفه إلا أنت، نعم، لا يعرفه إلا أنت، تقول: جاء زيد، أو رأيت أسداً، وهو من أجبن الناس، تقول: رأيت أسداً، نعم إذا كان شجاعاًً الناس بيوافقونك على أنه أسد، لكن أنت لك ملحظ تقول: رأيت أسد، من أي جهة وهو من أجبن الناس؟ من أي جهة؟ أبخر، ينبعث منه رائحة كريهة، هذا فيه بعد، بعد بحيث ما يقبله السامع، أنت لا تجيب كلام ما يقبله الناس، نعم، تنتقد إذا أتيت بكلام لا يقبله الناس في الظاهر، لكن إذا أتيت بكلام مقبول فالاصطلاحات والاستعمالات الشرعية واللغوية والعرفية كلها موجودة {فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ} [(4) سورة الحـج] يقولك بعد تنافر، لكن هذا ليس بتنافر؛ لأن الجهة منفكة.
قال -رحمه الله-:
وما بسمع كل راوٍ يتصل |
| إسناده للمصطفى فالمتصل |
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى- بعد أن ذكر أنواع من أنواع علوم الحديث، وترتيبه لهذه الأنواع يحتاج إلى شيء من إعادة النظر، لكنها منظومة مختصرة، يمكن الإحاطة بأولها وآخرها وأثنائها في آن واحد، ليست من المطولات التي تحتاج في ترتيبها إلى شيء من التعب والعناء، يعني إذا حفظها الطالب يتصورها وإلا فالمسلسل من الكماليات بالنسبة لعلوم الحديث، قدمه على كثير من الأنواع المهمة، قدمه على أنواع الضعيف الأتي ذكرها، وهي أهم منه؛ لأن التسلسل كمالي وليس بضروري ولا حاجي في الصانعة الحديثية فقدمه هنا، فالترتيب لم يسلك فيه المؤلف طريقاً معيناً، لكن مثل ما قلنا: هذه منظومة مختصرة بإمكان يتصورها الطالب في آن واحد، يعرف ما قدم وما أخر، ويكون لديه معرفة وتصور عن العلم، تصور ولو كان ناقص، لكن يكون عنده تصور؛ لأن على كل طالب علم أن يتصور من جميع العلوم تصوراً ما، يعني يُعنى بجميع العلوم فيحفظ في كل علم متن صغير، ثم بعد ذلك ما يتجه إليه، ويوجه همته إليه يتوسع فيه، ويقبح بطالب العلم أن يخفى عليه شيء مما يحتاجه علم الكتاب والسنة، وما يعين على فهم الوحيين، على كل حال هذه المنظومة منظومة مباركة على كل اختصارها، وتعطي طالب العلم تصور، ولو من وجه، لهذا العلم، يقول:
مسلسل قل ما على وصف أتى |
| مثل أما والله أنبأني الفتى |
التسلسل: هو التتابع، ومعروف حكم التسلسل درستموه في التوحيد، يسمونه تسلسل الحوادث في الماضي والمستقبل، نعم، بحيث لا ينتهي، وأهل العلم يقولون: إن النية لا تحتاج إلى نية، لماذا؟ لأنه يلزم عليه التسلسل، فالنية هذه إذا احتاجت إلى نية، فالنية التي قبلها تحتاج إلى نية، ثم التي قبلها تحتاج إلى نية، التسلسل في الماضي ممنوع عند أهل العلم، لكن التسلسل في المستقبل، نعم، خلود أهل الجنة والنار، بقاء الجنة والنار، يعني في المستقبل جائز عند أهل العلم، ولذا يجيزون تسلسل الشكر، يعني كونه يتجدد لك نعمة تشكر الله عليها، هذا الشكر الذي شكرته الله –جل وعلا- نعمة تحتاج إلى شكر اشكر، الشكر الثاني نعمة يحتاج إلى شكر اشكر، يعني ما في ما يمنع أن يستمر الإنسان شاكراً لله -جل وعلا-؛ لأنه تسلسل في المستقبل، وأيضاً هو عبادة، والنية وإن كانت عبادة إلا أنها تسلسلها في الماضي، وهو ممنوع عند أهل العلم.
التسلسل: هو التتابع، "قل ما على وصف أتى" التسلسل: يتفق الرواة على وصف قولي أو فعلي، ومن التسلسل ما يكون فيه التسلسل بصيغ الأداء مثلاً، أو بأسماء الرواة، أو بأفعالهم وأوصافهم، فمثلاًَ إذا كان جميع الرواة محمد، اسمهم محمد، هذا مسلسل بالمحمدين، كنيتهم كلهم أبو عبد الله هذا مسلسل بالكنى، كل واحد من الرواة قال: حدثنا فلان، قال: حدثنا فلان، مسلسل بالتحديث بصيغة الأداء، ولو قال كل واحد من رواته: سمعت فلانأَ يقول، سمعت فلاناً يقول، هذا مسلسل بالسماع، ولو قال كل واحد من رواته: عن فلان قال: عن فلان عن فلان، نعم، لصار مسلسلاً بالعنعنة، هذا التسلسل في صيغ الأداء، وهو التتابع على لفظ واحد، التسلسل فيما يتعلق بالرواة بأسمائهم، بأوصافهم، بمذاهبهم مثلاً، فلان بن فلان، بقبائلهم التميمي الحنبلي، قال: عن فلان التميمي، قال: عن فلان.. وهكذا هذا التسلسل، من كلامهم قال النبي -عليه الصلاة والسلام- لمعاذ: ((إني أحبك، فلا تدع أن تقول في دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)) معاذ قال لمن روى عنه: "إني أحبك، فلا تدع أن تقول.." إلى آخره، تسلسل، ومن أشهر المسلسلات المسلسل بالأولية، الذي مازال التسلسل فيه إلى يومنا هذا، حدثني فلان وهو أول حديث سمعته منه، قال: حدثني فلان وهو أول حديث سمعته منه، قال: أخبرني فلان وهو أول حديث سمعته منه، إلى يومنا هذا وهو يتسلسل بالأولية، بدأ تسلسله من عند سفيان بن عيينة، والتسلسل لا شك أن أهل العلم يعتنون به؛ لأنه يشتمل على شيء من مزيد الضبط والإتقان، يعني كون الآن الرواية بالإجازة ماشية، يجيزك الشيخ بأن تروي جمع مروياته، لكن قبل ذلك يحدثك بحديث المسلسل بالأولية، يعني تخصيص هذا الحديث بالتسلسل بالأولية والتنصيص عليه يدل على مزيد ضبط وإتقان لهذا الحديث، أيضاً كون الإنسان يتصف بوصف كأن يتبسم، أو يقبض على لحيته، وصف فعلي، كون كل واحد من الرواة يقبض لحيته ويقول: آمنت بالقدر، كما جاء في الحديث، أو يتبسم، أو كان يحدث وهو جالس ثم قام، ولذا ذكر من الأمثلة، يقول:
مسلسل قل ما على وصف أتى |
| مثل أما والله أنبأني الفتى |
لو كان قال كل واحد من رواته: أنبأني الفتى، قال: أنبأني الفتى فلان قال: أخبرني الفتى فلان إلى آخره، هذا تسلسل بوصف قولي، "كذاك قد حدثنيه قائماً" التحديث من قيام أو من جلوس، أو كل واحد من رواته يحدث وهو مضطجع مثلاً هذا وصف فعلي، "أو بعد أن حدثني تبسما" هذا التسلسل يدل على مزيد من الضبط من الرواة.
من المسلسلات، بل من أقواها ما يدل على الاتصال، اتصال السند، كالمسلسل بالتصريح بالتحديث أو السماع هذي من أقواها؛ لأن السند الذي لم يصرح فيه بالسماع أو التحديث، الخلاف في السند المعنعن على ما سيأتي معروف، التسلسل بوصف يتصف به جميع الرواة بنسبة ينتسب فيها جميع الرواة، وقل أن يسلم التسلسل من أوله إلى آخره، قل أن يسلم بإسناد نظيف، يوجد التسلسل من أول الإسناد إلى آخره، اللهم إلا إن كان حديث معاذ، الذي بدأ من النبي -عليه الصلاة والسلام-، وحديث أبي هريرة في قبض اللحية، هذا بدأ من النبي -عليه الصلاة والسلام-، لكن التسلسل في الغالب يكون ممن بعده، فعلى سبيل المثال حديث المسلسل بالأولية: ((الراحمون يرحمهم الرحمن)) هذا بدأ من سفيان بن عيينة، هو أول حديث حدث به سفيان، ثم الراوي عنه يقول: أول حديث حدث به وهكذا إلى يومنا هذا، ومازال التسلسل باقي بحديث: ((الراحمون يرحمهم الرحمن)) وقد ألف في المسلسلات كتب، لكن جل ما يستمر فيه التسلسل لا يسلم من ضعف، ومثل ما قلنا: إن هذا المبحث مبحث كمالي؛ لأن العبرة في الرواية على نظافة الأسانيد بثقة الرواة، وتمام الاتصال، وهذا مبحث كمالي، يبحثه أهل العلم بحيث لو كان الإسناد نظيف دل على أنه حُفظ وضُبط؛ لأن كل واحد -يمت إلى هذا الحديث- من الرواة بسبب قولي أو فعلي، فيدل على أنهم يحفظونه ويضبطونه، ثم بعد هذا قال المؤلف -رحمه الله تعالى-:
عزيز مروي اثنين أو ثلاثة |
| مشهور مروي فوق ما ثلاثة |
العزيز والمشهور.
عزيز مروي اثنين أو ثلاثة |
| مشهور مروي فوق ما ثلاثة |
العزيز على ما اختاره المؤلف، وهو قول ابن الصلاح، وقبل ابن الصلاح ابن مندة: أن العزيز ما يرويه اثنان فأكثر، اثنين أو ثلاثة، وما يزيد على الثلاثة يسمى مشهور، هذا ما اختاره المؤلف، وما مشى عليه ابن الصلاح تبعاً لابن مندة، فكون الراوي الواحد عزز بمجيئه من طريق آخر، عزز يعني قوي بمجيئه من طريق آخر يسمى عزيز، فإذا جاء الخبر من أكثر من طريق يسمى عزيز؛ لأنه عزز يعني قوي بمجيئه من طريق آخر، والطريق الثالث أيضاً تعزيز {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [(14) سورة يــس] هذا ما يستند إليه أصحاب هذا القول أن التعزيز بالثالث لا يزال في إطار العزيز، والاصطلاح العلمي كل ما يقرب من النصوص الشرعية يكون أقوى، {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ}، والتعزيز التقوية، الواحد فيه ضعف، فإذا جاء من طريق آخر تعزز وقوي، من طريق ثالث تعزز، لكن ما المانع أن يقال مثلاً: رواية أربعة معزز، برابع معزز، بخامس وهكذا، لكن أهل الاصطلاح يخصون كل نوع باسم، باسم خاص، وكل ما قرب الاصطلاح من النصوص يكون أقوى، حتى اختار بعض المتأخرين أنه لو سمي مروي الاثنين المئزر، {وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي} [(29) سورة طـه] لو كان واحد يؤزر بثاني، يدعم بما يآزره ويقويه، ومروي الثلاثة هو العزيز، {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} لكن المسألة اصطلاحية، وأهل العلم هم الذين جعلوا هذه الاصطلاحات لهذه الحقائق، المسميات لهذه الحقائق، فما مشى عليه المؤلف أن مروي الاثنين والثلاثة يسمى عزيز، ومروي فوق الثلاثة يسمى مشهور هو مجرد اصطلاح، وذكرنا أنه تبعاً لابن الصلاح وقبله ابن مندة، لكن الذي يراه ابن حجر أن العزيز ما يرويه اثنان فقط، أما مروي الثلاثة فهو الشهور، ما يرويه اثنان فقط هو العزيز، بحيث لا يتفرد به راوي، ولو في طبقة من طبقات إسناده، يعني هل المقصود في العزيز أن يروي الخبر اثنان فقط عن اثنين فقط عن اثنين فقط عن اثنين فقط؟ ليس هذا هو المقصود عند أهل العلم، إنما يتفرد به اثنان في أي طبقة من طبقات السند؛ لأن الأقل عند أهل العلم يقضي على الأكثر، لو رووه عشرة عن اثنين عن عشرة صار عزيز وهكذا، لكن لو في إحدى الطبقات يتفرد به واحد، لا يكون عزيزاً، بل يكون فرداً أو غريباً على ما سيأتي، يروي الخبر خمسة عن ستة عن ثمانية عن اثنين عن عشرة نحكم عليه بأنه عزيز؛ لأن العدد الأقل عند أهل العلم يقضي على الأكثر، ابن حبان يقرر أن العزيز لا وجود له في الرواية، لماذا؟ كأنه يتصور أن العزيز مروي اثنين فقط عن اثنين عن اثنين عن اثنين، بحيث لا يزيدون ولا ينقصون في أي طبقة، نعم إن كان المرد هذا فهذا الكلام صحيح، قد لا يوجد، أما على التعريف الذي حرره ابن حجر وهو ألا يقل العدد عن اثنين في طبقة من طبقات الإسناد، ولو زاد في غيرها هذا موجود، حديث: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)) مروي من طريق أبي هريرة ومن طريق أنس، ثم يرويه عن أبي هريرة اثنان وعن أنس اثنان، هذا ماشي على تعريف ابن حجر يرويه أربعة مثلاً عن اثنين، عن كل واحد اثنين، فهذا يكون معززاً عنده، كون الحديث عزيزاً بحيث يروى من طريقين فأكثر ليس بشرط لصحة الخبر، وليس من شرط البخاري في صحيحه، ولذا يقول ناظم النخبة لما عرف العزيز، قال:
"وليس شرطاً للصحيح فاعلم" بعض النسخ: "وقيل: شرط وهو قول الحاكم" وبعض النسخ الأخرى، ولعلها هي المتأخرة يقول:
وليس شرطاً للصحيح فاعلمِ |
| وقد رمي من قال بالتوهمِ |
كلام الحاكم أبي عبد الله يومي إلى أن الإمام البخاري يشترط تعدد الرواة لكل خبر، ولا يكتفي برواية واحد، وهذا يومئ إليه كلام الحاكم، وصرح به ابن العربي بأنه شرط البخاري، وصرح به أيضاً الكرماني شارح البخاري بأن هذا شرط البخاري، ويفهم من كلام البيهقي في بعض المواضع، لكن التصريح عند ابن العربي في شرح حديث: ((هو الطهور ماؤه)) من عارضة الأحوذي، قال: "لم يخرجه البخاري، لم يخرجه البخاري؛ لأنه من رواية واحد عن واحد، وشرطه العدد" الكرماني شارح البخاري صرح بهذا في مواضع، كلام الحاكم يومئ بذلك، يعني ما هو بصريح، ومثله البيهقي أن العدد شرط، أما كون العدد شرط للصحة فهذا قول المعتزلة الذين يردون خبر الذي تفرد به الواحد الثقة، هذا قول المعتزلة، صرح به الجبائي وأبو الحسين البصري صرحوا بهذا أنه لا يقبل الخبر إذا تفرد به واحد مطلقاً، ويستدلون باحتياط عمر -رضي الله عنه- ورده خبر أبي موسى في الاستئذان، ولكن هدفهم من ذلك ليس الإقتداء بالخليفة الراشد والاحتياط للسنة وضح أن هدفهم رد أخبار الآحاد عموماً عندهم، طيب الذين يقولون: بأن هذا شرط البخاري ماذا يصنعون في أول حديث في صحيح البخاري وآخر حديث في صحيح البخاري؟ كيف يجيبون عن حديث عمر: ((إنما الأعمال بالنيات)) أول حديث؟ فقد تفرد بروايته عن النبي -عليه الصلاة والسلام- عمر بن الخطاب، وتفرد بروايته عنه علقمة بن وقاص، وتفرد بروايته عنه محمد بن إبراهيم التيمي، وتفرد بالرواية عنه يحي بن سعيد الأنصاري، وعنه انتشر، يعني حصل التفرد، وهو فرد مطلق في أربع من طبقات إسناده، وآخر حديث في الصحيح: ((كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)) هذا تفرد بروايته عن النبي -عليه الصلاة والسلام- أبي هريرة، وعنه تفرد بروايته أبو زرعة ابن عمرو بن جرير البجلي، وعنه تفرد به عمارة بن القعقاع، وعنه محمد بن فضيل، وعنه انتشر، يعني في أربع طبقات كالأول سواء، كيف يجيب الكرماني وهو يشرح البخاري ويمر عليه مثل هذين الحديثين وغيرهما من الغرائب التي في الصحيحين؟ كيف يزعم أن هذا شرط البخاري؟ البخاري افتتح الكتاب وختمه بالأفراد ليرد على من يقول: باشتراط العدد في الرواية؟ لا شك أن التعدد ليس بشرط، كون عمر -رضي الله عنه- يحتاط، وهو المسئول عن الأمة بكاملها وعن دينها؛ لأنه الخليفة، كونه يحتاط لئلا يتساهل الناس في الرواية، لكن لو لم يوجد من يشهد لأبي سعيد هل يقال: بإن عمر بيرد السنة؟ أبداً، ثبت عنه قبول كثير من الأخبار التي بلغته من طريق واحد، لكن كونه يحتاط أحياناً لا شك أن هذا من حزمه -رضي الله عنه وأرضاه-، ومن غيرته على الدين، فكونه يأتي مبتدع يريد أن يستغل مثل هذا الاحتياط برد السنة هذا ليس بصحيح، بل لا بد أن يتصدى له بالرد، وكوننا نرد على المعتزلة، ونغلظ القول عليهم، لا يعني أننا نرد على عمر -رضي الله عنه وأرضاه-، بل نريد..، نحن نرد على من يريد أن يوجه كلام عمر، ويستفيد من كلام عمر لنصر بدعته -رضي الله عنه أرضاه-، فتعدد الرواة ليس بشرط لصحة الخبر، إنما إذا صح الخبر عن ثقة يرويه عن مثله مع اتصال السند وجب العمل به، ولزم قبوله، كونه يفيد العلم أو الظن مسألة معروفة عند أهل العلم، لكن لا أثر لها عملي، ليس لها أثر عملي، إنما العمل يجب به ولو أفاد الظن.
"مشهور مروي فوق ما ثلاثة" المشهور: هو اسم مفعول من الوضوح، من الشهرة وهي الوضوح والانتشار ولذا سمي الشهر بهذا الاسم؛ لأنه يشتهر وينتشر، ويعرفه الناس كل لحاجتهم إلى معرفة دخوله وخروجه، كل الناس يعرفون الشهر "مشهور مروي فوق ما ثلاثة" وهذا تبعاً لما اختاره في حد العزيز، ينبني عليه الخلاف أيضاً في حد المشهور وهو أنه ما يرويه أكثر من ثلاثة، يعني ما لم يصل إلى حد التواتر، مروي أربعة، مروي خمسة، مروي ستة، مروي عشرة ما لم يصل إلى حد التواتر الذي يجد الإنسان فيه نفسه ملزم بقبوله بمجرد سماعه، هذا يسمونه متواتر، وما دون ذلك فهو مشهور إلى أن يصل العدد إلى ثلاثة فيكون عزيزاً على الخلاف فيه، ولا شك أن المشهور الذي جاء بطرق متباينة سالمة من القوادح أنه مفيد للعلم عند أهل العلم، ولو لم يصل إلى حد التواتر؛ لأن هذه الشهرة قرينة على ثبوته ما لم يكن المصدر واحد، بل لا بد أن يكون المصدر متعدد بحيث يكون الثلاثة أو أكثر من الثلاثة على هذا، الأربعة هم الأقل في كل طبقة من طبقات الإسناد، وهذا هو المشهور الاصطلاحي، وهناك مشهور غير اصطلاحي، أحاديث مشتهرة أو مشهورة على ألسنة الناس، على ألسنة العامة، على ألسنة الأطباء، على ألسنة الأدباء، على ألسنة المؤرخين، على ألسنة..، قد يوجد الحديث منتشر على ألسنة الناس عامة وهو حديث موضوع، ويدخل فيه ما له إسناد، وما لا إسناد له أصلاً، يعني حينما يقولون في أسبوع النظافة، ينتشر على ألسنة الناس: "النظافة من الإيمان" ويجزمون بهذا، نقول: هذا ليس له إسناد أصلاً، لا يروى بإسناد عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، نعم ((الطهور شطر الإيمان)) والطهور نظافة، وصح أيضاً حديث: ((البذاذة من الإيمان)) الدين لا شك أنه دين نظافة، ديننا -ولله الحمد- دين نظافة، ولذا شرع الاستنجاء، شرع الوضوء، شرع الغسل، لكن لئلا يستغرق الناس في هذا الباب، ويضيعوا أوقاتهم من أجل النظافة، ويبالغوا في هذا، الدين أيضاً دين وسط، يكسر من هذا الغلو في النظافة كما يفعله بعض الناس، بعض الناس يمضي جل وقته من أجل أن يتنظف، إذا دخل المغتسل، المستحم أحياناً يأخذ ساعتين، بعض الناس يأخذ ساعتين، وإذا أراد أن يلبس، إذا أراد أن يسرح، إذا أراد أن يدهن، إذا أراد..، هذا غلو، مبالغة وإفراط، ولذا جاء النهي عن الإدهان إلا غباً، الترجل أيضاً كذلك، تسريح الشعر، المسألة تحتاج إلى عناية لكن بدون مبالغة، فديننا وسط، ديننا وسط -ولله الحمد-، ولذا جاء كسر الغلو في هذا الباب حديث: ((البذاذة من الإيمان)) لئلا نهتم بأمور ونضيع ما هو أهم منها، وإلا فالأصل أن الدين دين الطهارة، ((الطهور شطر الإيمان))، ولذا غسال أمريكي أسلم من غير دعوة، من غير دعوة أسلم، يسأل عن السبب فيقول: تأتيني ثياب المسلمين نظيفة وروائحها طيبة -يعني بسبب الاستنجاء- وتأتي ثياب الكفار منتنة؛ لأنهم لا يستنجون، فديننا دين النظافة، الذي جر هذا حديث الذي يروى وهو لا أصل له: "النظافة من الإيمان" هذا مشهور على الألسنة، المشهور عند الأطباء: "المعدة بيت الداء"، وهناك أحاديث مشهورة عند الأدباء: "أدبني ربي فأحسن تأديبي"، وأحاديث مشهورة عند المؤرخين، وأحاديث مشهورة تدور على ألسنة الفقهاء، وهي من قولهم، لكن بعضهم يركب له إسناد، أو تروى تنسب إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- ولا إسناد لها، فهذه أحاديث مشهورة، وألفت فيها الكتب، فيها: المقاصد الحسنة للسخاوي، فيها: كشف الخفي ومزيل الإلباس، هذه كتب بالأحاديث المشتهرة شهرة غير اصطلاحية، وفيها ما لا إسناد له أصلاً، الفرق بين المشهور والمستفيض، منهم من يرى المستفيض هو المشهور، المشهور والمستفيض شيء واحد؛ لأن الاستفاضة الشهرة والانتشار، حينما يحكم أهل العلم بالاستفاضة، يعني بقبول الشهادة على الاستفاضة، والمراد بذلك الشهرة والانتشار، يأتي شخص ليشهد أن هذا ابن هذا، طيب، يأتي مجموعة، حي كامل يشهدون أن هذا ابن هذا، هل للقاضي أن يسألهم كيف ثبتت هذه البنوة؟ أنتم حضرتم وقت..؟ نعم حضرتم الوقت واكبتموه ((على مثلها فشهد)) إنما يكتفى في هذا بالاستفاضة، بم يطالب الإنسان الذي شهد أن زيد بن عمرو وش يدريك أنت؟ حضرتهم؟ واكبت الحمل من بدايته إلى نهايته إلى وضعه إلى..؟ لا، ما يحتاج، إنما يكفي لمثل هذا الاستفاضة، والمقصود بها الاشتهار والانتشار، ومنهم من يقول: الاستفاضة غير الشهرة، بمعنى أنه يكون المستفيض طبقات السند كلها واحد، بأن يكون مروي ثلاثة عن ثلاثة عن ثلاثة إلى آخره، أو أربعة عن أربعة عن أربعة، بينما الشهرة لا يقل العدد عن ثلاثة على ما يختاره الأكثر، أو لا يقل عن أربعة كما هنا، ويزيدون في بعض الطبقات، لكن هذا التفصيل ما يمكن أن يوجد خبر يستوي في نقله جميع طبقات الإسناد، يعني مثل ما قرر ابن حبان في العزيز، ووجه بأنه يريد بذلك ألا يزيد ولا ينقص العدد عن اثنين، هل يمكن أن يروي الحديث اثنين عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، ثم يرويه عن الاثنين كل واحد يرويه عنه واحد فقط، ثم الاثنين من التابعين يروي عن كل واحد منهم واحد فقط؛ ليستمر الطريق اثنين عن اثنين ما يمكن، وهذا الذي ينفيه ابن حبان، ونقول: مثل هذا في المستفيض، هل يمكن أن يتحد العدد من أوله إلى آخره؟ مثل ما قيل هناك يقال هنا، المقصود أن العدد الأقل يقضي على الأكثر، فإذا وجد في بعض طبقات الإسناد ثلاثة أو أربعة على القولين قلنا: مشهور ومثله المستفيض، ومنهم من يرى أن المشهور أحد قسمي المتواتر، وهذا قول معروف عند الحنفية، ولذا يقولون: أنه يوجب العلم النظري عندهم، ومنهم من يرى أنه يوجب طمأنينة، وعلى كل حال المشهور إذا جاء من طرق متباينة سالمة عن القوادح موجب للعلم عند المحققين، وهذه المسألة مسألة المشهور الخلاف فيها مرتب على الخلاف في معرفة العزيز، المشهور والعزيز قسمان من أقسام أخبار الآحاد عند أهل العلم، ويكون فيها الصحيح والحسن والضعيف، نعم، من الأحاديث ما يأتي بأسانيد، لكن كلها ضعيفة فتبقى ضعيفة إذا كانت لا تقبل الإنجبار، ومنها ما يكون الضعف قابل للإنجبار، فترتقي إلى درجة الحسن لغيره، ومنها ما تكون أقل من ذلك فتصح بمجموع طرقها، وهكذا العزيز بمجيئه من طريق آخر يتقوى، والغريب سيأتي الكلام فيه، يقول:
معنعن كعن سعيد عن كرم |
| ومبهم ما فيه راوٍ لم يسم |
الآن تكلم عن العزيز، وتكلم عن المشهور، وأخّر الكلام عن الغريب، وسبق أن تكلم عن المرفوع وعن المقطوع وأخر الكلام عن الموقوف، وهذا مثل ما قلنا في البداية: إن ترتيبها ليس على الوجه المناسب، وإنما هي هكذا جاءت، ونظراً لاختصارها، وقلت أبياتها، وإمكان الاحاطة بأولها مع آخرها في آن واحد يتجاوز عن مسألة الترتيب الدقيق، لكن لو كانت منظومة كبيرة بحيث إذا نظر في هذا الباب ويحتاج في الباب الذي قبله والذي بعده إلى عناء ومراجعة، قلنا: لا بد إلى إعادة ترتيبها.
هنا يقول: "معنعن كعن سعيد عن كرم" معنعن، السند المعنعن: ما تكون فيه صيغة الأداء (عن) هذا السند المعنعن، سعيد عن كرم هذا مثال، يقول الإمام البخاري: حدثنا الحميدي قال: حديثنا سفيان عن يحيى بن سعيد هذا معنعن، السند المعنعن عند أهل العلم محمول على الاتصال عند الأكثر، محمول على الاتصال بشرطين: الشرط الأول: أن لا يكون الراوي موصوف بالتدليس؛ لأنه إذا كان موصوفاً بالتدليس لا تحمل عنعنته على الاتصال حتى يصرح بالتحديث، لاسيما إذا كان المدلس من المرتبة الثالثة فما دونها، أما المرتبة الأولى من مراتب المدلسين والثانية يحتمل الأئمة تدليسهم، إما لإمامتهم، أو لقلة ما دلسوا في جانب ما رووا، المدلس من الطبقة الثالثة لا بد أن يصرح عند أهل العلم، فإذا سلم الراوي من وصمة التدليس، وعلم لقاؤه لمن روى عنه على قول، أو معاصرته له، حملت على الاتصال.
وصححوا وصل معنعن سلم |
| من دلسة راويه واللقا علم |
فالسند المعنعن محمول على الاتصال عند أهل العلم بالشرطين المعروفين، والخلاف في اشتراط اللقاء، أو الاكتفاء بالمعاصرة، قول معروف عند أهل العلم، منهم من يشترط اللقاء، ومنهم من لا يكتفي بمجرد اللقاء، بل يعرف بطول الصحبة، ومنهم من يشترط أن يدركه إدراكاً بيناً، لكن إذا ثبت أنه لقيه ولو مرة واحدة، والمسألة مفترضة في ثقة لا يدلس حمل حديثه عنه على الاتصال، والخلاف في السند المعنعن والاكتفاء بالمعاصرة أو اشترط اللقاء معروف، ألف فيه الكتب، لابن رشيد وهو إمام في هذا الشأن كتاب اسمه: (السنن الأبين والمورد الأمعن في المحاكمة بين الإمامين في السند المعنعن) فالمستفيض عند أهل العلم، والمشهور عندهم نقل اشتراط اللقاء عن الإمام البخاري وعن شيخه علي بن المديني، ومسلم -رحمه الله تعالى- قرر في مقدمة الصحيح الاكتفاء بالمعاصرة، وشنع وشدد، ورد على من اشترط اللقاء، وقال: إنه قول مخترع مبتدع، الهدف منه رد السنن، وذكر ثلاثة أحاديث لا تروى إلا معنعنة، ولم يثبت لقاء ينقل أنه لقي أحدهما الأخر، على كل حال هذه الأحاديث الثلاثة هو خرجها بالتصريح بصيغة حدثنا، فكون الإمام مسلم يشدد هذا رأيه، أما كونه يقصد البخاري فلا يلزم، لا يلزم أن يكون المردود عليه البخاري في مقدمة مسلم، ولا يلزم أن يكون علي بن المديني، أبداً، إنما المردود عليه مبتدع، يريد أن يستغل احتياط الإمام البخاري في نصر مذهبه، الذي يقتضي رد السنة، نظير ما قلنا في ردنا على المعتزلة، الذين يردون أخبار الآحاد، ويستندون لقول عمر، يعني احتياط عمر محل تقدير، وكل مسلم عليه أن يحتاط للسنة، واحتياط البخاري أيضاً موضع تقدير، فيجب على كل طالب علم أن يحتاط للسنة، لكن استغلال هذا الاحتياط، وتصيد مثل هذا في نصر البدع هو الذي يرد عليه، وأنتم تجدون في أناس وضفوا أنفسهم لتصيد الزلات، فتجدهم يكتبون وينشرون ويبثون لمجرد أن فلان زل في فتواه، أو من باب الاحتياط فيلزمونه بإلزامات يستفيدون منها في تأييد مذاهبهم، فإذا رد الإمام مسلم على هذا المبتدع الذي يريد أن يوجه كلام البخاري، أو علي بن المديني لرد السنة، ورددنا على هذا المبتدع أو رد عليه مسلم فإننا لا نرد على البخاري، ولا نريد على مسلم، نظير ما قلنا سابقاً في أننا إذا رددنا على المعتزلة ما نرد على عمر، ما نرد على عمر؛ لأن القصد واضح، وبعض الناس يستبعد أن يقول البخاري باشتراط اللقاء، ويخفى على مسلم، نقول: ما خفي على مسلم، مسلم يعرف شيخه، ويعرف احتياط شيخه، نعم، يعرف احتياط شيخه، ولا يرد على البخاري، لكنه يرد على من يريد أن يوظف كلام الإمام البخاري في الرد، يعني لو عرف من أهل التحري من لا يتوسع في المباحات، عرف عنه أنه لا يسكن القصور الفاخرة، ولا يركب المراكب الفارهة، نعم، فاقتدى به مجموعة، وقصدهم من ذلك التضييق على الناس، واستغلوا هذا الاحتياط من هذا العالم، وهذا الورع، وهذا الزهد في الدنيا استغلوه في التضييق على الناس، وتحريم ما أحل الله، نقول: لا، نرد عليهم، ولا نرد على هذا المحتاط، يعني لما يعرف عن السلف أنهم يتركون تسعة أعشار المباح خشية أن يقعوا في المكروه، فضلاً عن المحرم، ثم يأتي من يأتي يقول: إقتداء بالسلف يمنع الناس من هذه المباحات، نقول: لا يا أخي، يقول: السلف امتنعوا فنمنع الخلف نقول: لا يا أخي، فرق بين أن يتورع الإنسان، وبين أن يحرم على الناس ما أباحه الله لهم {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ} [(32) سورة الأعراف] هذا إنكار، فمن يختار لنفسه الاحتياط، ويلزمها بالعزائم هذا يدعى له بخير، لكن لا يمنع الناس مما أباح الله لهم، ما يقول: الناس توسعوا، وعمر كان يلبس الثوب المرقع، وأحمد بن حنبل كان كذا، وفلان كان كذا، نعم أنت اختر لنفسك ما شئت، لكن لا تمنع الناس، فالذي يريد أن يوضف هذه الاحتياطات في تحريم ما أحل الله، أو تحليل ما حرم الله، نقول: يمنع، ونرد عليه، وليس معنا هذا أننا نرد ما اعتمد عليه، أو ما تشبث به من دليل، يعني فهم قدامة بن عثمان بن مظعون أن المؤمن إذا آمن واتقى ليس عليه جناح أن يفعل ما شاء، ليس عليه جناح فيما طعم، فليطعم الخمر إذا كان متقي ومحسن ما عليه، استدل بآية، فإذا رددنا عليه هل معنى هذا أننا نرد على الآية؟ نعم، أو على استدلاله بالآية؟ وتوظيف هذه الآية بغض النظر عن النصوص المحكمة؟ نعم، هناك نصوص محكمة تحرم الخمر، وهو يريد أن يستبيح الخمر بهذه الآية المجملة، فإذا رددنا عليه بالنصوص المحكمة ليس معنى هذا أننا ننقض دليله إنما ننقض استدلاله بهذا الدليل ظاهر وإلا ما هو بظاهر؟ لأنه قد يأتيك مبتدع معه أية، يجيك مثلاً خارجي يكفر بالذنوب، ويستدل بآية القتل في سورة النساء، إذا رددت على استدلاله بالآية ليس معناه أنك ترد الآية، نعم، لكن أنت تجمع باعتبارك من أهل السنة، وأهل السنة وسط، يعني فرق بين من يرى أن القتل لا أثر له كـأنه ماهو موجود، وأفسق الناس وأفجر الناس إيمانه مثل إيمان جبريل، يعني فرق بين هذا وبين من يرى أنه يخرج من الدين بمثل هذه الكبائر أهل السنة وفقهم الله -جل وعلا- للنظر في النصوص بالعينين كلتيهما؛ لأن الخارجي ينظر بعين، المرجيء ينظر بعين، أهل السنة ينظرون للنصوص بالعينين، فيعملون بنصوص الوعد، ويعملون بنصوص الوعيد، وبالجمع بينهما يكون المسلك الوسط، فإذا استدل الخارجي بأحاديث الوعيد ورد عليه بأحاديث الوعد ليس معناه أننا نقوي مذهب المرجئة، نعم، ونرد على أدلة الخوارج، وهي من الكتاب والسنة، وقل بالعكس إذا رددنا على مرجئ بأحاديث الوعيد ليس معنا هذا أننا نقوي مذهب الخوارج، وننقض الأحاديث والأدلة والآيات التي يستدل بها المرجئة، فالعالم وطالب العلم هو بمنزلة الطبيب، إذا أراد أن يتعامل مع الناس يكون بمنزلة الطبيب الحاذق، ينظر في المرضى وش المرضى؟ المرضى هؤلاء الذين يحتاجون إلى تقويم ووعظ وتوجيه، إن عرفوا بشيء من الغلو يكثر من أحاديث الوعد، إن عرفوا بالتساهل والتفريط يكثر من أحاديث الوعيد، ولا يشبه في هذا الخوارج، ولا يشبه في هذا المرجئة، بل مذهب أهل السنة وسط بين هذا وهذا، يستدلون بهذا وبهذا؛ لأنك لو جئت إلى مجتمع فيهم شيء من الغلو والتطرف والحرص الشديد، نعم، الحرص الشديد مثلاً تأتي بنصوص الوعيد، وش تسوي بهم هؤلاء؟ هؤلاء تزيدهم من تطرفهم وغلوهم، وهي نصوص قال الله وقال رسوله، وإذا جئت إلى مجتمع تفريط وانصراف عن الدين تأتي لهم بأحاديث الوعد تزيدهم، فأنت بحاجة إلى علاج هؤلاء بما يناسبهم، وأنت بحاجة إلى علاج هؤلاء بما يناسبهم، ويبقى أن المذهب الوسط هو الحق، لكن المسألة مسألة علاج.
معنعن كعن سعيد عن كرم |
| ومبهم ما فيه راوٍ لم يسم |
المبهم: هو الحديث الذي فيه راوٍ لم يصرح باسمه كعن رجل، أو عن بعضهم، أو بعض الناس، أو فتى أو عن شيخ، ومنه ما يؤول إلى العلم، ومنه ما لا يتوصل إلى العلم به، والمبهم فن في غاية الأهمية بالنسبة لعلوم الحديث؛ لأن معرفة هذا المبهم إذا كان في الإسناد يتوقف عليه التصحيح والتضعيف، والقبول والرد، فلا بد من البحث عنه، وقد يأتي مبهم في طريق، ويبين في طريق أخرى، وألف العلماء في المبهمات، ومن أهمها كتاب الخطيب: (الأسماء المبهمة في الأنباء المحكمة) والنووي له كتاب في المبهمات، وغيره له كتاب، ابن بشكوال مجموعة من أهل العلم جمعوا الأسماء المبهمة وعينوها من طرق أخرى، وبقيت أسماء لم يتوصل إلى تعيينها، ومن أجمع ما كتب وألف في الباب (المستفاد من مبهمات المتن والإسناد) للحافظ ولي الدين أبي زرعة ابن الحافظ العراقي -رحمه الله تعالى-، وهو إمام في هذا الشأن، مطبوع، طبع محققاً في ثلاثة مجلدات، فالتعيين المبهم في غاية الأهمية؛ لأنه إن كان في السند يحتاج إليه في التصحيح والتضعيف، وإن كان في المتن، سأل رجل النبي -عليه الصلاة والسلام- عن كذا فقال، أو يرد ذكره في القصة، تعيينه مهم؛ لننظر عن مدى..، وإن كان أقل من أهمية الإبهام في السند، وقد يبهم المذكور قصداً من الرواة ستراً عليه، إذا كان الحديث يتضمن ما يتنقص به من أجله، يسترون عليه، لكن تعيينه يفيد في الإسناد مثل ما ذكرنا، وفي المتن معرفة هذا الرجل، وهل هو متقدم الإسلام؟ وهل هو متأخر الإسلام؟ لننظر عند التعارض هذا الخبر متقدم أو متأخر؟ من أجل معرفة الناسخ والمنسوخ بواسطة هذا الرجل، الذي ذكر في متن الحديث، فالمبهمات تعيينها مهم جداً، سواء كانت في المتن أو في الإسناد.
"ومبهم ما فيه راوٍ لم يسم" وبعضهم يطلق على السند الذي فيه راوٍ مبهم يسمونه مرسل، وبعضهم يسميه منقطع؛ لأن وجود هذا المبهم وعدمه سواء، وجوده مثل عدمه، كأنه لم يوجد، لكن الصواب أنه متصل، وفيه راوٍ يحتاج إلى تعيين؛ لأن الواسطة بين الاثنين مذكورة، والمنقطع أو المرسل فيه سقط، هذا ما فيه سقط، لكن في شخص ما تحدد، ما عرفت عينه، والمبهم قسم من أقسام المجهول، ويمكن تسميته بمجهول الذات، يمكن تسمية المبهم هذا مجهول ذات، لكنه لا ينصرف إليه اسم الانقطاع ولا الإرسال.
وكل ما قلت رجاله علا |
| وضده ذاك الذي قد نزلا |
العالي والنازل عند أهل العلم، العلو والنزول أولاً: مما ذكر من فوائد المستخرجات، والاستخراج عند أهل العلم: أن يعمد حافظ –عالم- يروي الأحاديث بأسانيده إلى كتاب من كتب المعتبرة الأصلية، فيروي أحاديث الكتاب من غير طريق صاحب الكتاب، من فوائد هذه المستخرجات تعيين المبهم، الذي مر ذكره، قد يأتي مبهم في الكتاب المخرج عليه، ثم يأتي مبهماً، ثم يعيين في المستخرج، من فوائد المستخرجات العلو، فالعالي والنازل، العالي مرغوب عند أهل الحديث، والمراد بالعلو قلة عدد الرواة، قلة الوسائط بين الراوي والنبي -عليه الصلاة والسلام-، فإذا قلة الوسائط سمي الخبر عالياً، وإذا كثرة الوسائط بين المحدث والنبي -عليه الصلاة والسلام- سمي نازلاً، والعلو مثل ما ذكرنا سنة عند أهل الحديث مرغوبة، وطريقة متبعة، يرحلون من أجله، ويتعبون من أجل تحقيقه، يرحل الليالي والأيام بل والشهور من أجل أن يستفيد، أن يسقط عنه راوي من السند، بحيث يتلقى الخبر بدون واسطة من راويه، وإن كان قد تلقاه بواسطة عنه، فالعلو عندهم مطلوب، وقيل لإمام يحيى أو علي بن المديني في مرضه: ماذا تشتهي؟ قال: "بيت خالي، وسند عالي" خلو البيت مهم للعالم ولطالب العلم ليخلو بربه، والخلوة مطلوبة، إذا تعبد الإنسان، ويبعد عن الأنظار، ويستريح من الأكدار والأغيار، فكون الإنسان يخلو بربه، يخلو بنفسه، يذكر الله ما شاء، يصلي ما شاء، يقرأ ما شاء، يتدبر، يتيسر له أن يناجي الله -جل وعلا-، وأن يحضر قلبه بخلاف ما إذا كان البيت مأهول ومشغول، هذه أمنية، لكن من يطيق منا الجلوس في بيت خالي؛ لأننا اعتدنا كثرت القيل والقال، والاجتماع والروحات والجيات، فيصعب علينا الخلوة في البيوت، هذه صعبة جداً، حتى النساء يصعب عليها البقاء في البيت وحدها في عصرنا هذا من الصالحات فضلاً عن غيرهن، يستبعد أن تجلس ليلة خميس أو ليلة جمعة في البيت، لا بد أن يروحون يمين يسار، ويتوسعون يشوفون ويشافون، العوام..، فالجلوس في البيوت صار الناس لا يطيقونه، ومن أشق الأمور إذا كنت في البيت وحدك، وواعدت واحد يشيلك يمين أو يسار وإلا تروحون مشوار وإلا شيء، يتأخر عليك خمس دقائق كأنها خمسة أيام، لكن لو عودنا أنفسنا على الخلوة، واستثمرنا الوقت فيما ينفعنا في الآخرة، ما ضاقت صدورنا، وإذا شغل المرء نفسه فيما ينفعه في الآخرة ما عليه أن يحضر أحد أو لا يحضر، هذه الخمس الدقائق التي تأخر فيها بإمكانك أن تقول: استغفر الله خمسمائة مرة، وهو خمس دقائق، أو تقول: سبحان الله وبحمده ثلاثمائة مرة، لكن ما عودنا أنفسنا على هذا، بإمكانك أن تقرأ في الخمس الدقائق ربع جزء أو على أقل الأحوال ورقة بالتدبر، هذه كم فيها، الورقة كم فيها من حسنة، فيها على أقل تقدير عشرة آلاف حسنة، هذه مجرد الحروف، لكن إذا أضيف إلى ذلك التدبر والتفكر والاعتبار والإفادة من كلام الله -جل وعلا-، ومناجاة الله.
هو الكتاب الذي من قام يقرأه |
| كأنما خاطب الرحمن بالكلمِ |
لكن لا نطيق البقاء في مكان خالي، وبعض الناس يستوحش من بقائه في المسجد وحده، المسجد بيت كل تقي.
وخير مقام قمت فيه وحلية |
| تحليتها ذكر الإله بمسجدِ |
يعني الإنسان إذا صار بمفرده تيسر له أن يذكر الله -جل وعلا- بحضور قلب، يتيسر له أن يبكي من خشية الله، من غير مراءات ولا ملاحظة، نعم، لكن إذا كان عنده أحد، الله المستعان إما يشوش عليه فلا يستطيع أن يتذكر، أو يخشى من رياء أو غيره، فلا يؤدي العبادة حقها، فسند عالي، وبيت خالي، فسند عالي؛ لأن علو الإسناد بقلة الرواة لا شك أنه أقرب إلى الصحة؛ لأن الرواة منافذ، كل واحد منهم منفذ يحتمل أن يرد أو يتأتى الضعف إلى الخبر من قبله، أنت إذا وجدت إسناد ثلاثي أو إسناد سداسي أو سباعي هؤلاء الثلاثة كل واحد منهم يحتمل أنه أخطأ في الخبر، وهم ثلاثة، لكن في السبعة..، سبعة احتمالات لورود الخطأ إلى الخبر أشد من ثلاثة احتمالات وأربعة، ما من راوٍ إلا ويحتمل أن يتطرق الخلل إلى الخبر من قبله، ولذا فضلوا العلو، لكن يبقى أن يكون هذا العلو بأسانيد نظيفة، ما نحرص على أسانيد عالية على أي وجه كان، لا؛ لأن إذا كان عندنا سند نازل في رواة ثقات أفضل من سند عال برواة ضعاف؛ لأن مدار الصحة على نظافة الأسانيد، والعلو لا شك أنه وإن كان مهماً، وأقرب إلى الصحة، لكنه يبقى أننا نلاحظ الشرط الأصلي لثبوت الأخبار وثقة الرواة، واتصال الأسانيد، السند العالي، وقلنا: إن العلو هو قلة الرواة، وأعلى ما في الكتب الستة، بل السبعة الثلاثيات، وفي المسند أكثر من ثلاثمائة حديث ثلاثي، وفي البخاري اثنان وعشرون حديثاً ثلاثياً، وجل هذه الثلاثيات من طريق المكي ابن إبراهيم عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع جل الثلاثيات في البخاري بهذا الإسناد، في اثنان وعشرون حديثاً ثلاثياً، مسلم ليس فيه ولا حديث ثلاثي، النسائي ما فيه حديث ثلاثي، أبو داود فيه حديث أختلف فيه هل هو ثلاثي أو ليس بثلاثي؟ حديث أبي برزة في الحوض، يرويه أبو داود، القصة ثلاثية، لكن الخبر المرفوع في ضمن القصة رباعي، فمن قال: فيه ثلاثي نظر إلى هذه القصة، ومن نظر إلى أنه ما في ثلاثي، من قال: إن أبا داود ليس به ثلاثي قال: إن هذه القصة ما لنا بها دعوة، حنا نبحث عن الأحاديث، والحديث رباعي، عندنا مسلم والنسائي وأبو داود ليس فيها أحاديث ثلاثية بهذا الاعتبار، لكن ابن ماجه فيه، فيه أكثر من حديث، والترمذي فيه أيضاً، وجل الثلاثيات من طريق جبارة بن المغلس عند ابن ماجه وهو ضعيف، هذه هي العوالي في الكتب الستة، أنزل ما في البخاري حديث تساعي ((ويل للعرب من شر قد اقترب)) وهذا أنزل ما في البخاري، وأنزل ما في الكتب الستة حديث يتعلق بسورة الإخلاص، يرويه النسائي من طريق أحد عشر راوياً نازل جداً، العلو إما أن يكون العلو مطلقاً بالقرب من النبي -عليه الصلاة والسلام-، علو مطلق، أو يكون علو نسبي بالقرب من إمام من أئمة الحديث، أو بالقرب من مصنف من المصنفات المشتهرة، فكونك تروي عن الإمام أحمد مثلاً، وهو إمام أو عن مالك أو عن سفيان أو شعبة بأقل ما يكون من الرجال هذا علو، لكنه علو نسبي؛ لأنه قد يكون ما بين هذا الإمام وبين النبي -عليه الصلاة والسلام- نازل، فكونك تقرب بالرواية من إمام هذا علو، تقرب برواية كتاب من الكتب المشهورة هذا علو، لكنه نسبي؛ لأن هذا الحديث قد يكون نازل، الذي ترويه من طريق هذا الكتاب المشهور، وإن قلت الوسائط بينك وبين صاحب الكتاب، العلو عندهم أقسام كثيرة، ويذكرون الموارقة والبدل والمصافحة والمساواة، هذه تذكر في العلو النسبي، وهناك علو أيضاً بتقدم السماع من الشيخ، أيضاً هذا علو، وإن اتحد عدد الرواة، فأنت تروي من طريق شيخ رويت عنه في حال شبابه حديثاً، وروى عنه آخر بعدك بخمسين سنة عدد الرواة رواتك أنت مع ذلك الشخص الذي تأخر بالرواية عنه العدد واحد؛ لأنهم كلهم من طريق هذا الشيخ، وإسناده واحد لا يختلف في أول أمره وفي آخره، ما يختلف، هذا الذي روى عنه في أول الأمر يسمى عالي، والذي تأخر بالسماع عن هذا الشيخ يسمى نازل، فالعلو والنزول بتقدم السماع وتأخره معروف عند أهل العلم، هناك علو وإن كان نسبياً من وجه إلا أنه قد يكون مطلقاً من وجه آخر، فكونك تروي صحيح البخاري بأقرب طريق وأخصر إسناد، هذا علو نسبي بالنسبة لروايتك لهذا الكتاب، نسبي، لكن كونك تروي الكتاب بأقرب طريق وفي هذا الكتاب عوالي، فأنت تروي هذه العوالي عن النبي -عليه الصلاة والسلام- فتكون الواسطة بينك وبينه أقل ما يمكن من عدد الرجال، فهو علو مطلق من وجه، ونسبي من وجه آخر، ومثل ما قلنا: هذه أمور تكميلية، فصحة الأحاديث مدارها على ثقة الرواة، واتصال الأسانيد، والعلو جماهير أهل العلم على أنه أفضل من النزول، وإن ادعى بعض المتكلمين أن النزول أفضل، النزول أفضل لماذا؟ بعض المتكلمين يرى أن النزول أفضل، هنا يتجه قول من تعاطى غير فنه أتى بالعجائب، يقول: النزول، الحديث الذي يروى من طريق عشرة رواة أفضل من الحديث الذي يروى من طريق خمسة رواة، لماذا؟ لأنك تحتاج في كل راوي إلى ربع ساعة في البحث عن حاله، فإذا بحثت الحديث الذي يروى من طريق خمسة تحتاج إلى ساعة وربع، بينما إذا بحثت في سند الحديث المتلقى بواسطة عشرة تحتاج إلى ساعتين ونصف، والأجر على قدر المشقة، يعني كونك تخرج حديث وتتعب عليه ساعتين ونصف يكون أجرك أكثر من أنك تخرجه وتدرسه في ساعة وشيء أو بساعة، نقول: المشقة ليست مطلوبة لذاتها، أبداً، يعني كون الأجر يرتب على الخطى إلى المساجد، هل معنى هذا أن الإنسان المسجد أمامه يروح يدور من وراء الحارة ليكسب الخطى؟ نقول: لا، التعب الذي تقتضيه العبادة له أجر، والذي لا تقتضيه العبادة الله -جل وعلا- غني عن أن يعذب الإنسان نفسه، فالمشقة لذاتها ليست بهدف شرعي، فأنت حينما تبحث هؤلاء العشرة وبإمكانك أن تبحث الخمسة الخمسة أفضل، وتوفر الجهد لعبادة أخرى، ومثل ما قالوا: فيما ذكرنا عنه في أول الأمر أنه ما من راوٍ من الرواة إلا ويحتمل الخلل أن يتطرق إلى الخبر من قبله، فمن يتعاطى غير فنه يأتي بمثل هذه العجائب.
وكل ما قلة رجاله علا |
| وضده ذاك الذي قد نزلا |
النازل على ما مشى عليه أنه ضد العالي، وهو ما كثرت رجاله يسمونه نازل، هل نستطيع أن نقول: ضد وإلا نقيض؟ ضد العالي وإلا نقيض العالي؟ إيش الفرق بينهما؟
طالب:......
لا يجتمعان أبداً، والنقيضان لا يجتمعان.
طالب:......
إيه، قل لا يرتفعان صح، يرتفعان صحيح، أما الاجتماع ما يمكن أبداً، الضدين لا يجتمع ضدان، كما أنه لا يجتمع نقيضان، لكن النقيضان لا يرتفعان، الوجود والعدم في آن واحد لا يمكن أن يجتمعان أبداً، ولا يرتفعان، نعم لكن الأسود مع الأبيض لا يجتمعان، لكن يمكن أن يرتفعا، يصير أصفر وإلا أخضر وإلا لون ثالث، فالنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان، بخلاف الضدين فأنهما لا يجتمعان، لكنهما يمكن أن يرتفعا، العلو والنزول الذي معنا هل هما من باب الضد وإلا من باب النقيض؟ يعني إذا وجدنا حديث هذا عالي وهذا نازل، هل نجد ثالث ليس بعالي ولا بنازل؟ نعم، نجد وإلا ما نجد؟ ما قلنا: إنه أعلى شيء في البخاري الثلاثي، وأنزل شيء التساعي، طيب السداسي وش يصير عالي وإلا نازل؟ أو ليس بعالي ولا نازل؟ نعم، إحنا قررنا الكتاب واحد، +(كلمة غير مفهومة)، وتعبيره سليم، سبق الكلام عن المرفوع: وهو ما يضاف إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، والمقطوع: وهو ما يضاف إلى التابعي فمن دونه، وهنا يتكلم المؤلف -رحمه الله تعالى- الناظم عن الموقوف.
وما أضفته إلى الأصحاب من |
| قول وفعل فهو موقوف زكن |
زكن: يعني علم.
وما أضفته إلى الأصحاب من |
| قول وفعل فهو موقوف زكن |
فالموقوف: ما يضاف إلى الصحابة من أقوالهم وأفعالهم، يسمى موقوف، وهو تمام القسمة؛ لأن القسمة للأخبار باعتبار الإضافة ثلاثية: المرفوع، والموقوف، والمقطوع، فالمرفوع: ما يضاف إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، والموقوف: ما يضاف إلى الصحابة -رضوان الله عليهم-، والمقطوع ما يضاف إلى التابعين ومن دونهم، وسبق البحث في المرفوع والمقطوع، هنا الموقوف قول وفعل، المرفوع قول وفعل وتقرير، هل نقول: من الموقوف التقرير بأن يفعل بحضرة الصحابي شيء ولا ينكره؟ هل نقول: إن هذا موقوف يمكن إضافته للصحابي؟ النبي -عليه الصلاة والسلام- لا يقر على منكر، لا يقر، بل لا بد أن ينكر، ولذا التقرير سنة، وجه من وجوه السنة كالقول والفعل، لكن هل يمكن فيما يضاف إلى الصحابة التقرير؟ نعم الصحابة هم أغير الناس على محارم الله -جل وعلا-، لكن قد يحتاج الإنسان إلى أن يداري، يحتاج الإنسان إلى أن يجتهد، فيرى أن هذا ليس بمحل للإنكار، أو يخشى أن يترتب عليه مفسدة أعظم من المنكر فيسكت، ولذا الساكت لا ينسب له قول، ولم يضيفوا التقرير إلى الموقوف، اكتفوا بالقول والفعل.
من أهل العلم من الفقهاء من يسمي الموقوف الأثر، بعض الفقهاء من الشافعية، بل من الخراسانيين على وجه الخصوص يطلقون الأثر ويريدون به الموقوف، ومقتضى صنيع البيهقي في المعرفة (معرفة السنن والآثار) السنن المرفوعة والآثار، يعني الموقوفات يؤيد هذا، لكن الأكثر يطلقون الأثر ويريدون به الأحاديث والأخبار، سواء كانت مرفوعة أو موقوفة، ومن هذا مشكل الآثار، وشرح معاني الآثار، هذا ليس خاص بالموقوفات، وانتسب إلى الأثر جمع من أهل العلم، فإذا قيل فلان بن فلان الأثري، هل معنى هذا أنه يهتم بالموقوفات دون المرفوعات؟ نعم، لا، الأصل المرفوع، فمن يعتني بالحديث بالسنة عموماً يقال له: أثري، انتسب إلى الأثر جمع من أهل العلم، الحافظ العراقي -رحمه الله تعالى-:
يقول راجي ربه المقتدر |
| عبد الرحيم بن الحسين الأثري |
نسبة إلى الأثر، واهتمامه بالمرفوع كما هو معلوم أعظم من اهتمامهم بالموقوف.
ومرسل منه الصحابي سقط |
| وقل: غريب ما روى راوٍ فقط |
"مرسل منه الصحابي سقط" المرسل: ويجمع على مراسل ومراسيل، كالمسند يجمع على مساند ومسانيد، والمفتاح يجمع على مفاتح مفاتيح، المرسل يختلف أهل العلم في تعريفه، والذي ذكره المؤلف: "مرسل منه الصحابي سقط" إن كان يقصد بذلك الجنس، جنس الصحابي فقد يتفق قوله مع قول من يقول: إن المرسل ما يرفعه التابعي، لكن من يضمن أنه ما سقط إلا الصحابي على هذا التعريف؛ لأنا إذا ضمنا أنه لم يسقط إلا الصحابي فجهالة الصحابة لا تضر، فيلزمنا قبوله، لكن إذا رفع التابعي الخبر إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- كما يقرر أهل العلم في تعريف المرسل:
مرفوع تابع على المشهورِ |
| ومرسل وقيده بالكبيرِ |
فما يرفعه التابعي إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- هذا هو المتفق على تعريفه بالمرسل، لاسيما إذا كان من كبار التابعين، إما إذا ضمنا أن الساقط صحابي فلا يتأتى الخلاف المذكور في المرسل؛ لأن الصحابة كلهم عدول، ذكروا أو حذفوا، فإذا قلنا: بأن المرسل ما يرفعه التابعي، احتمال أن يكون هذا التابعي رواه عن تابعي آخر وأسقطه، والتابعي عن تابعي ثالث وأسقطه، وأسقط معهما الصحابي، ويجتمع في السند الواحد اثنان من التابعين وثلاثة من التابعين أربعة من التابعين خمسة من التابعين، ستة من التابعين في سند واحد، فلو حذف الخمسة وبقي واحد منهم من التابعين وأضافه هذا التابعي الصغير إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- داخل في حد المرسل، وما من واحد من هؤلاء التابعين الذين حذفوا إلا ويحتمل أن يكون ثقة أو ضعيفاً، وإذا وجد هذا الاحتمال قوي القول بأن المرسل ضعيف، المرسل الذي هذا حده، ما يرفعه التابعي إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-؛ لأن المؤلف أو الناظم استدرك عليه في قوله: "ومرسل منه الصحابي سقط" لأننا إذا جزمنا أنه ما سقط إلا الصحابي الخبر صحيح ما يضر نجهل الصحابي، لكن إذا قلنا: ما رفعه التابعي إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- ورد الاحتمال أن هذا التابعي رواه عن تابعي والتابعي عن تابعي إلى آخره، وبالمناسبة الحديث الذي ذكرناه وهو أنزل حديث في الكتب الستة، الذي يرويه النسائي في فضل سورة الإخلاص فيه ستة من التابعين، وهو أطول إسناد في الدنيا كما يقول النسائي -رحمه الله تعالى-، إذا أمكن الاحتمال، ووجد الاحتمال في أن هذا التابعي رواه عن تابعي آخر والتابعي عن ثالث والتابعي عن رابع إلى آخره قوي القول بضعف المراسيل، والخلاف في المرسل يذكر عن أبي حنيفة ومالك الاحتجاج بالمراسيل خلافاً لغيرهم، وابن عبد البر نقل عن الطبري أن التابعين بأسرهم يقبلون المراسيل، وأنه لا يعرف لهم مخالف إلى رأس المأتيين، ومع ذلك يذكر عن سعيد بن المسيب أنه يرد المراسيل، طيب الطبري يقول: إنه..، ينقل الاتفاق أن المراسيل مقبولة إلى رأس المأتيين، ماذا عن خلاف سعيد بن المسيب المذكور؟ نعم، ماذا عن مراسيل سعيد؟ هل يستدرك بسعيد وهو إمام من أئمة التابعين؟ إن لم نقل أنه أفضل التابعين على قول الإمام أحمد، والشافعية يقبلون مراسيل سعيد، والمسألة منفكة كونه يرسل غير كونه لا يقبل المرسل الجهة منفكة، فهل نستدرك على الطبري بكون سعيد وهو أفضل التابعين على قول أنه لا يقبل المراسيل أو لا نستدرك؟ يستدرك عليه وإلا ما يستدرك؟ يعني ينقض الاتفاق بقول سعيد وإلا ما ينقض؟ نعم.
طالب:.......
نعم الإجماع عند الطبري قول الأكثر، الإجماع عنده قول الأكثر، وهذا معروف عنه، وكثيراً ما يقول في تفسيره، وقد اختلف القرأة في كذا، ثم يذكر قول الأكثر، ثم يذكر المخالف، ثم يقول: "والصواب في ذلك عندنا كذا لإجماع القرأة على ذلك" طيب أنت ذكرت الخلاف فكيف تقول: لإجماع القرأة على ذلك؟ الإجماع عنده قول الأكثر، فلا يستدرك بسعيد عليه، بعد المأتيين أو على رأس المأتيين جاء الإمام الشافعي فوضع شروط لقبول المرسل، وكل ما تأخر الزمن كثر القول بعدم قبول المراسيل، وذلكم لأن الأمر في أول الأمر في عهد الصحابة والتابعين الصدق هو السمة الغلبة على الناس، لكن بعدهم كثر الخلل، كثرت المخالفات صار الناس يعاشرون الرواة اللي ما هم على مستوى بحيث تقبل أخبارهم، فتوجد عندهم الحساسية وتقوى يعني الشخص الذي لا يخالط الناس ولا يعرف إلا الصالحين، نعم مثل هذا هل يسيء الظن بالناس؟ مثل من يخالطهم ويعرف خباياهم؟ ويعرف دخائلهم؟ لا شك أن الذي يخالط الناس، ويعرف هذا يكون عنده احتياط وعنده سوء ظن بالناس، فيتحسس ويتأكد من أخبارهم، بينما الصالح الذي لا يخالط إلا الصالحين يحسب الناس كلهم مثله، ومثل جلسائه، قد يحسن الظن بكثير من الناس، ولذا كل ما يتأخر الزمن يشدد العلماء في قبول المراسيل، والساقط ساقط هو، يعني ما يرفعه التابعي هو ما يرفعه التابعي سواء تأخر الزمن أو تقدم، ولذا يحتج مالك وأبو حنيفة بالمراسيل، ويرد المراسيل من جاء بعدهم يقول الحافظ العراقي -رحمه الله تعالى-:
واحتج مالك كذا النعمانُ |
| به وتابعوهما ودانوا |
الساقط مجهول، ما يدرون وش هو؟
وصاحب التمهيد عنهم نقله |
| ومسلم صدر الكتاب أصله |
أصل الرد، رد المراسيل، صاحب التمهيد نقل عن الأكثر، عن الجماهير أنهم يردون المراسيل، وهذا كله على القول بأن المرسل ما يرفعه التابعي، ومنهم من يرى أن المرسل ما يرفعه التابعي الكبير، وهذا من شروط الشافعي لقبول المراسيل: أن يكون المرسل من كبار التابعين، وأن يكون للمرسل شاهد يقويه من مسند أو مرسل آخر يرويه غير رجال المرسل الأول، أو يعضده قول صحابي، أو يفتي به عوام أهل العلم، ويكون المرسل من كبار التابعين، وإذا سمى من يروي عنه لا يسمي مرغوباً في الرواية عنه، يعني لا يرسل إلا عن الثقات.
القول الثاني في تعريف المرسل أنه: ما لم يتصل إسناده على أي وجه كان، فإذا سقط من أوله قالوا: أرسله فلان، وإذا سقط من أثنائه قالوا: أرسله فلان، إذا سقط من آخره قالوا: أرسله فلان، وكثيراً ما يقولون: أرسله فلان، وأسنده فلان، يعني أن هذا ذكره مسنداً متصل السند، والثاني ذكره على ما فيه من انقطاع، فيشمل جميع أنواع الانقطاع.
"وقل غريب ما روى راو فقط" وهذا كالموقوف يعني أخره عن صاحبيه لعدم ملاحظته الترتيب وإلا فالأصل أن يذكر مع العزيز والمشهور، كما أن الموقوف الأولى أن يذكر مع المرفوع والمقطوع، هنا عرج على ذكر الغريب: وهو ما يتفرد بروايته راو واحد في أي طبقة من طبقات إسناده، وبعضهم وهو أيضاً يفهم من كلام ابن حجر أن تفرد الصحابي لا يسمى غرابة؛ لأن الواحد من الصحابة عن جماعة من غيرهم، ومنهم من يدخل الصحابة فيعم، ويقول: الغريب ما يرويه أو يتفرد بروايته راو واحد، في أي طبقة من الطبقات..، رواه عشرة عن عشرين عن خمسة عن واحد عن مائة، هذا يسمى غريب؛ لأن الواحد الأقل يقضي على الأكثر، مثل ما قلنا في العزيز والمشهور، فإن كانت الغرابة في أصل السند جهة، الطرف الذي فيه الصحابي قيل: غرابة مطلقة، وأكثر ما يطلق عليه الفرد، يعني الفرد المطلق، وإذا كانت الغرابة في طبقة من دون الصحابة سميت الغرابة نسبية، والغرائب يكثر فيها الضعيف؛ لأن تفرد الراوي مظنة للخطأ، بخلاف موافقة غيره له مظنة التجويد والحفظ والضبط، أما إذا تفرد به راويه فهو مظنة، ولذا جاء التحذير من الإكثار من رواية الغرائب، نعم في الصحيحين غرائب، لكنها صحيحة ثابتة لا إشكال فيها، والغريب كالمشهور وكالعزيز يقع فيه الصحيح والضعيف والحسن، إلا أن الغرابة مظنة للضعف، والله أعلم.
وصلى وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
"