شرح مقدمة سنن ابن ماجه (03)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

سم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللسامعين، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً يا رب العالمين.

قال الإمام الحافظ أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني المعروف بابن ماجه -رحمه الله تعالى-:

باب: تعظيم حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والتغليظ على من عارضه

حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا زيد بن الحباب عن معاوية بن صالح قال: حدثني الحسن بن جابر عن المقدام بن معد يكرب الكندي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((يوشك الرجل متكئاً على أريكته يُحدَث بحديث من حديثي فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله -عز وجل-، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثل ما حرم الله)).

حدثنا نصر بن علي الجهضمي قال: حدثنا سفيان بن عيينة في بيته أنا سألته عن سالم أبي النضر، ثم مر في الحديث قال: أو زيد بن أسلم عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: لا أدري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه)).

حدثنا أبو مروان محمد بن عثمان العثماني قال: حدثنا إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن القاسم بن محمد عن عائشة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)).

حدثنا محمد بن رمح بن المهاجر المصري قال: أنبأنا الليث بن سعد عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير أن عبد الله بن الزبير حدثه أن رجلاً من الأنصار خاصم الزبير عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في شراج الحرة التي يسقون بها النخل، فقال الأنصاري: سرح الماء يمر فأبى عليه، فاختصما عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((اسقِ يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك)) فغضب الأنصاري، فقال: يا رسول الله أن كان ابن عمتك، فتلون وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم قال: ((يا زبير اسقِ، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر)) قال: فقال الزبير: والله إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [(65) سورة النساء].

حدثنا محمد بن يحيى النيسابوري قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أنبأنا معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا تمنعوا إماء الله أن يصلين في المسجد)) فقال ابن له: إنا لنمنعهن، فقال: فغضب غضباً شديداً، وقال: أحدثك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتقول: "إنا لنمنعهن".

حدثنا أحمد بن ثابت الجحدري وأبو عمرو حفص بن عمر قالا: حدثنا عبد الوهاب الثقفي قال: حدثنا أيوب عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن مغفل أنه كان جالساً إلى جنبه ابن أخ له، فخذف فنهاه، وقال: "إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عنها" وقال: ((إنها لا تصيد صيداً، ولا تنكي عدواً، وإنها تكسر السن، وتفقأ العين)) قال: فعاد ابن أخيه يخذف، فقال: أحدثك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عنها ثم عدت تخذف! لا أكلمك أبداً".

حدثنا هشام بن عمار قال: حدثنا يحيى بن حمزة قال: حدثني برد بن سنان عن إسحاق بن قبيصة عن أبيه أن عبادة بن الصامت الأنصاري النقيب صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غزا مع معاوية أرض الروم، فنظر إلى الناس وهم يتبايعون كِسَر الذهب بالدنانير، وكسر الفضة بالدراهم، فقال: يا أيها الناس إنكم تأكلون الربا، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((لا تبتاعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، لا زيادة بينهما ولا نظرة)) فقال له معاوية: يا أبا الوليد لا أرى الربا في هذا إلا ما كان من نظرة، فقال عبادة: أحدثك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتحدثني عن رأيك! لئن أخرجني الله لا أساكنك بأرض لك علي فيها إمرة، فلما قفل لحق بالمدينة، فقال له عمر بن الخطاب: ما أقدمك يا أبا الوليد؟ فقص عليه القصة، وما قال من مساكنته، فقال: ارجع يا أبا الوليد إلى أرضك، فقبح الله أرضاً لست فيها وأمثالك، وكتب إلى معاوية لا إمرة لك عليه، واحمل الناس على ما قال فإنه هو الأمر.

حدثنا أبو بكر بن الخلاد الباهلي قال: حدثنا يحيى بن سعيد عن شعبة عن ابن عجلان قال: أنبأنا عون بن عبد الله عن عبد الله بن مسعود قال: "إذا حدثتكم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فظنوا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي هو أهناه وأهداه وأتقاه".

حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا يحيى بن سعيد عن شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب قال: "إذا حدثتكم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديثاً فظنوا به الذي هو أهناه وأهداه وأتقاه".

حدثنا علي بن المنذر قال: حدثنا محمد بن الفضيل قال: حدثنا المقبري عن جده عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((لا أعرفن ما يحدث أحدكم عني الحديث وهو متكئ على أريكته فيقول: اقرأ قرآناً ما قيل من قول حسن فأنا قلته)).

حدثنا محمد بن عباد بن آدم قال: حدثنا أبي عن شعبة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة...

هنا عندك حاء؟

إي نعم.

ح وحدثنا؟

إي نعم.

انطق بها، تنطق هكذا: ح وحدثنا.

ح وحدثنا هناد بن السري قال: حدثنا عبدة بن سليمان قال: حدثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة أن أبا هريرة قال لرجل: "يا ابن أخي إذا حدثتك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديثاً فلا تضرب له الأمثال".

قال أبو الحسن: حدثنا يحيى بن عبد الله الكرابيسي قال: حدثنا علي بن الجعد عن شعبة عن عمرو بن مرة مثل حديث علي -رضي الله تعالى عنه-.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:

باب: تعظيم حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والتغليظ على من عارضه

حديث الرسول -عليه الصلاة والسلام- النابع من مشكاة النبوة وحي من الله -جل وعلا-، كما قال -سبحانه وتعالى-: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى} [(3) سورة النجم] فتعظيمه لأنه من الله -جل وعلا-، والأخبار عن سلف هذه الأمة وأئمتها في تعظيم الحديث لا تكاد تحصر، فقد كان الأئمة يعنون بالحديث تعلماً وتعليماً وحفظاً وقراءة واقراءاً واستنباطاً وعملاً، ويعنون بشأنه أتم العناية، حفظ عنهم أنهم كانوا يهتمون به، فقد كان الإمام مالك -رحمه الله تعالى- إذا أراد أن يحدث يغتسل ويتطيب ويلبس أحسن ثيابه في هيئة حسنة، وفي جلسة حسنة، تعظيماً لحديث الرسول -عليه الصلاة والسلام-، وقد ذكر هذا عن بعض العلماء، ولا شك أن تعظيم الحديث من تعظيم ما تدل عليه هذه الأحاديث التي هي شعائر الله {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [(32) سورة الحـج] وهو أيضاً من تعظيم حرمات الله، وتعظيم حدود الله التي حدها على لسان نبيه -عليه الصلاة والسلام-، والتغليظ على من عارض، إذا كان التعظيم هو الواجب فمن عارض هذا الواجب يغلظ عليه، ويشدد في أمره، ويربى على الجادة، كما كان السلف يربون الناس على هذا، وفي قصة عبادة بن الصامت مع الأمير معاوية -رضي الله تعالى عنه- على ما سيأتي فيها من كلام لأهل العلم في أصل القصة وإلا فالخبر ثابت، وأيضاً ما جاء في قصة الخذف، وما جاء في نهي النساء عن الخروج إلى المساجد، وسيأتي جميع ذلك.

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:

"حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا زيد بن الحباب عن معاوية بن صالح قال: حدثني الحسن بن جابر" والحسن بن جابر هذا مقبول قال فيه ابن حجر: مقبول، وهو محتاج إلى متابع، وقد مضى ما في كلمة "مقبول" وقد توبع في الخبر الذي يليه، وباقي رجال الإسناد ثقات، وما دام الحسن بن جابر توبع فالخبر حسن.

"عن المقدام بن معد يكرب الكندي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((يوشك الرجل متكئاً على أريكته يحدث بحديث))" يوشك مضارع (أوشك) التي هي من أفعال المقاربة، تقتضي اسماً مرفوعاً، وخبراً يكون فعلاً مضارعاً مقروناً بـ(أن) وهنا مجرد منها ((يوشك الرجل متكئاً على أريكته يحدَث)) الأصل أن يحدث، وجاء جاءت (أن) هذه في رواية الحاكم، فدل على أن حذفها من تصرف الرواة، على أنه جاء حذفها في الشعر الفصيح، لكن الأصل أن خبر (أوشك) لا بد أن يقترن بـ(أن) وما ند عن ذلك من القليل النادر فهو محكوم عليه بالشذوذ عند أهل العربية، وهنا جردت من (أن) لكنها ثابتة في رواية الحاكم والحديث واحد، فدل على (أن) حذفها من قبل بعض الرواة.

((يحدث بحديث من حديثي)) ((يوشك الرجل متكئاً)) متكئاً حال كونه متكئاً ((على أريكته)) على تكأته التي يستند إليها، والاتكاء لا بأس به، وفيه راحة للجالس، لكن الاتكاء حال الأكل خلاف الأولى، وقد صح عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: ((لا آكل متكئاً)) فهذا خلاف الأولى، الأولى ألا يتكئ، على الخلاف بينهم في معنى الاتكاء، هل هو الاستناد على شيء في أحد جانبيه، أو هو التربع المعروف عند الناس.

((متكئاً على أريكته)) تكأته التي يستند إليها، وتكون إما عن يمينه أو عن شماله، لكن بالنسبة للشمال أريح من كونها في اليمين؛ لأن الأخذ والإعطاء والأكل والشرب يكون باليمين، فإذا اتكأ عليها صعب عليه تناول هذه الأمور.

((يحدث بحديث من حديثي)) بحديث من حديثي (من) هذه تبعيضية، أو بيانية تبين الحديث ((فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله -عز وجل-)) وهذه كلمة حق يراد بها باطل، وإلا إذا قال إنسان: بيننا وبينكم كتاب الله -عز وجل- وأراد وما يدل عليه وما يلزم به فكتاب الله قد ألزم بطاعة النبي -عليه الصلاة والسلام-، يعني لو أرادوا الكتاب إرادة يريدون بها وجه الله -عز وجل-، لكن هذا يقول ذلك بكلمة حق؛ لأن الكتاب يأمر بطاعة النبي -عليه الصلاة والسلام- هذا حق، لكنهم يريدون بذلك باطل، كما قال ذلك الخوارج الذين يدعون إلى الكتاب ولا يعنون بالسنة ولا يرونها، والروافض شر منهم -نسأل الله السلامة والعافية-، الذين هم أعداء السنة، الذي لا يقبل السنة بالكلية هذا لا حظ له في الإسلام؛ لأنه يرد حكم الله -جل وعلا- الذي أمر بقبوله، ووجد من يعمل بالسنة، ويعظم السنة، لكنه يقتصر على بعضها دون بعض، فيقتصر على الصحيحين مثلاً، ويدعو إلى ذلك، ويؤلف في هذا، والسنة أعم من أن تكون محوية في الصحيحين، بل هي في جميع الدواوين، في السنن ما ليس في الصحيحين، في الصحاح غير الصحيحين ما ليس في الصحيحين، ويصفو من المستدرك شيء كثير، ويصفو من البيهقي شيء كثير، فالسنة ليست محصورة في الصحيحين، فالذي ينادي بالاقتصار على القرآن مع الصحيحين مخطئ، هذا يرى السنة ويعظم السنة ويعظم الصحيحين لكنه مع ذلك يقصر السنة في الصحيحين، وماذا في الصحيحين بالنسبة لبقية الكتب؟ وصُنف في الباب: (تيسير الوحيين بالاقتصار على القرآن مع الصحيحين) والذي دعا إلى هذا وألف إليه رجل معروف بالعبادة والخير والفضل، لكنه أخطأ في هذا خطأً بيناً واضحاً؛ لأنه يترتب على هذا الكلام إلغاء كثير من الأحاديث الثابتة عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، ومن ثم إلغاء الأحكام المستنبطة منها (تيسير الوحيين بالاقتصار على القرآن مع الصحيحين).

إذا كان المراد به تيسير ذلك على طالب العلم في مرحلة من المراحل بحيث يعنى في وقت من الأوقات في أول الأمر بالقرآن مع الصحيحين حتى لا يتشتت فإذا أتقن ذلك انتقل إلى ما وراءها طيب، لكنه ألف في ذلك ودعا إليه وتوبع عليه، فلا شك أن هذا خطأ شنيع، قلنا: يترتب عليه إلغاء كثير من الأحاديث التي ثبتت عن النبي -عليه الصلاة والسلام- في غير الصحيحين، ولما قال ابن الأخرم: إنه قل ما فات الصحيحين من الأحاديث الصحيحة رُد عليه، ومثله ما قاله النووي في أنه لم يفت الخمسة إلا الشيء القليل، مع أن هذا أوسع دائرة كلام النووي، يقول الناظم -رحمه الله تعالى- كما تقدم في الدورة الماضية:

.........................ولكن قلما

 

عند ابن الأخرم منه قد فاتهما

"ورد" يعني هذا القول من ابن الأخرم.

ورد لكن قال يحيى البر

 

لم يفت الخمسة إلا النزر

"وفيه ما فيه" كناية عن ضعفه؛ لأنه يوجد في غير الصحيحين والكتب الخمسة..، يوجد في غير الكتب الخمسة أحاديث صحيحة كثيرة.

وفيه ما فيه لقول الجعفي:

 

أحفظ منه عشر ألف ألفِ

فالسنة لا شك أنها كثيرة، ولا يحويها كتاب، ولا يحويها مجموعة كتب، بل لا بد من تتبعها، والنظر في أسانيدها ومتونها، وإثبات الثابت منها، ودراستها، والاستنباط منها، هذا أمر لا بد منه.

((فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله -عز وجل-، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه)) يقول: يكفينا كتاب الله، طيب ما الذي في كتاب الله من أحكام الصلاة التي هي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين؟ مسلم يريد أن يصلي كما صلى النبي -عليه الصلاة والسلام- من أين يأخذ أحكام الصلاة؟ نعم يأخذ من القرآن الأمر بها، والأمر بالمحافظة عليها، وبيان بعض الأوقات على سبيل الإجمال لا على سبيل التحديد، يؤخذ أعداد الركعات، وما يقرأ وما يترك وألفاظ الأذكار المشروعة في الصلاة وهيئة الصلاة من أين تؤخذ إنما تؤخذ من السنة، فلا يمكن أن يعرف ما أمر به وكلف به من دين الله -جل وعلا- من الأحكام إلا من خلال السنة.

((فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه)) {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ} [(145) سورة الأنعام] أين يجد تحريم الحمر الأهلية؟ أين يجد تحريم كل ذي ناب من السباع؟ كل ذي مخلب من الطير؟ لا يجد هذا إلا في السنة، فإذا لم يعمل بالسنة فاته العلم والعمل، وفاته الدين بحذافيره، نعم قد يجد في القرآن شيئاً يسيراً، والقرآن بعمومه وشموله يشمل كل شيء، لكن ما الذي يبين لنا هذا العموم وهذا الشمول، وما يتناوله هذا العموم؟ الذي يبينه لنا هو السنة، فالسنة تبين القرآن.

((وما وجدنا فيه من حرام حرمناه)) فما حرمه النبي -عليه الصلاة والسلام- لا يحرمونه؛ لأنه لا يوجد في القرآن، وإن وجد ما يتناوله ويتناول غيره، لكن البيان من قبله -عليه الصلاة والسلام- ((ألا)) حرف تنبيه ((وإن ما حرم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثل ما حرم الله)) لأنه كله من عند الله، سواءً كان في الكتاب أو في السنة، مثل هذا يجعل السنة في مصف القرآن، في مرتبة واحدة، وأهل العلم يجعلون المصادر مرتبة: القرآن، ثم السنة، والسنة عندهم أضعف من القران في باب النسخ، فلا ينسخون القرآن بالسنة، والسنة كما يقول أهل العلم المصدر الثاني من مصادر التشريع، كل هذا الكلام يدل على أن السنة مرتبتها أقل وأنزل من القرآن، فإن كان هذا باعتبار الثبوت، وأن القرآن ثبت ثبوتاً قطعياً لا تردد فيه، والسنة وإن ثبتت بالأسانيد الصحيحة إلا أنها ليس ثبوتها مثل ثبوت القرآن، ففيها المتواتر القطعي، وفيها ما ثبت بطريق ظني موجب ملزم للعمل، لكنها دون القرآن في الثبوت في ثبوتها، هذا الكلام صحيح؛ لأن في الأحاديث ما تكلم فيه أهل العلم ولو قبلوه، لكن فيه كلام، وفيها أحاديث متواترة وقطعية، لكنها ليست مثل القرآن، فهي دون القرآن بالثبوت، وإن كانت مساوية له في الوجوب ولزوم العمل بها كوجوب العمل به بالقرآن.

((ألا وإن ما حرم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثل ما حرم الله)) لأن الكل من عند الله.

قال: "حدثنا نصر بن علي الجهضمي قال: حدثنا سفيان بن عيينة في بيته أنا سألته" كل هذا يدل على أن نصراً متثبت فيما يرويه عن سفيان بن عيينة، وثقة من رجال الصحيح، وسفيان بن عيينة إمام، في بيته سأل، "أنا سألته عن سالم أبي النضر، ثم مر في الحديث قال: أو زيد بن أسلم عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته))" لا ألفين يعني لا أجدن أحدكم ((لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته، يأتيه الأمر مما أمرت به أو نهيت عنه)) يأتيه الأمر، الأمر يراد به الشيء، الشيء الشامل للمأمور به والمنهي عنه، يعني ليس معناه أنه إذا أتاه النهي قال: لا أدري، لا يدخل في الحديث؟ يدخل في الحديث، فالأمر هنا المراد به الشيء ((يأتيه الشيء مما أمرت به أو نهيت عنه)) لأنه لو كان المراد بالأمر الذي هو ضد النهي ما كان لقوله: ((أو نهيت عنه)) معنى، لكن المراد بالأمر ما يشمل الأمر والنهي، والتحذير هذا شامل للمأمور به والمنهي عنه.

((يأتيه الأمر مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه)) وهو شاهد للذي قبله، وعلى كل حال الحديث صحيح.

إذا كان الحديث في أصله ضعيف، وهو قابل للانجبار كالحديث السابق، ووجد له ما يشهد له، والشاهد صحيح، هل يرتقي الضعيف إلى الصحيح، أو يرتقي إلى الحسن؟ بمعنى أنه إذا وجدنا حديثاً ضعيفاً ضعفه ليس بشديد، يعني يقبل الانجبار يقبل الترقية، ووجدنا له شاهد صحيح، يعني إذا وجدنا شاهد مثله، ضعيف مثله ارتقيا إلى الحسن لغيره، فإن وجدنا له شاهد صحيح هل نقول: إنه ارتقى بهذا الشاهد الصحيح إلى الحسن؟ بمعنى أنه لا يمكن أن يرقى أكثر من درجة؟ أو نقول: ما دام الشاهد صحيح فالكل صحيح؟ فالمشهود له صحيح، ما دام شاهده صحيح فالمشهود له صحيح، الأكثر على أن الضعيف لا يرتقي إلا درجة واحدة، فيكون حينئذٍ حسناً لغيره، هذا قول الأكثر، وكلام الحافظ ابن كثير في اختصار علوم الحديث يدل على أنه لا مانع من أن يرتقي إلى الصحيح ما دام شاهده صحيح، فالشاهد بمفرده صحيح فكيف إذا انضم إليه هذا؟ إذاً الكل صحيح، وأقول: لا سيما إذا كان الشاهد أو المتابع في الصحيحين أو في أحدهما فإن الحديث لا شك أنه يرتقي إلى الصحيح.

((يأتيه الأمر مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: لا أدري)) يعني أحتاج إلى أن أنظر، وأحتاج إلى أن أتأمل، وأنظر في هذا الأمر، وأنظر في هذا النهي، كأنه يتعامل مع ند له، ويظن أن له الخيرة في هذا الأمر، ((فيقول: لا أدري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه)) وقد جاء التنصيص على أنه إذا جاء {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [(36) سورة الأحزاب] ليس له خيرة في هذا الأمر، وإنما عليه أن ينفذ من غير نظر ولا تأمل، وقد أحسن من انتهى إلى ما سمع.

قال: "حدثنا أبو مروان محمد بن عثمان العثماني قال: حدثنا إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن القاسم بن محمد عن عائشة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد))" والحديث مخرج في مسلم ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) يعني ليس من الدين، يحدث في دين الله شيئاً لم يسبق له شرعية من كتاب ولا سنة، لا شك أن هذا رد، يعني مردود، رد مصدر مثل حمل، ويراد به اسم المفعول يعني مردود، مردود على من أحدثه كائناً من كان، وفي لفظ: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) فالذي يحدث في دين الله حدثه مردود عليه، ولا نظر في هذا، ولا نقاش في هذا، فكل حدث لم يسبق له شرعية من كتاب أو سنة فهو مردود على من قاله كائناً من كان، اللهم إلا إذا جاء عن الشارع، أو جاء عن من أمر الشارع بالاقتداء به والاهتداء بهديه، والاهتداء بهديه، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين)) فعثمان -رضي الله تعالى عنه- رأى أن الحاجة داعية إلى أذان ثاني في يوم الجمعة؛ ليتأهب الناس للصلاة فسنه، وهو من سنة الخلفاء الراشدين فعلينا أن نعمل به، لا لأن الآمر به عثمان، وإنما لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- أمرنا باتباع سنة عثمان؛ لأنه من الخلفاء الراشدين، وعمر -رضي الله تعالى عنه- لما جمع الناس في صلاة التراويح على إمام واحد بعد أن كانوا في عهد النبي -عليه الصلاة والسلام-، وفي عهد أبي بكر، وفي أول خلافة عمر كانوا يصلون أوزاعاً، كل يصلي لنفسه، وخرج عليهم في ليلة من الليالي فرآهم يصلون فأعجبه وضعهم، فقال: "نعمت البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل" يعني صلاة آخر الليل أفضل من صلاة أول الليل، لكن نعمت البدعة هذه، وبهذا تشبث من قال ممن ينتسب إلى العلم أن من البدع ما يمدح لأن (نعم) للمدح، من البدع ما يمدح، ومنها ما يستحسن، منها البدعة الممدوحة، ومنها البدعة المذمومة، ومنهم من يتوسع في هذا فيقول: من البدع ما هو واجب، ومنها ما هو مستحب، ومنها ما هو مباح، ومنها ما هو مكروه، ومنها ما هو محرم، فيجري الأحكام التكليفية الخمسة على البدع.

وهذا التقسيم يقول به جمع، كالعز بن عبد السلام والنووي وغيرهما من أهل العلم يقولون: إن من البدع ما هو محمود، ومن البدع ما هو مذموم، بدعة محمودة، وبدعة مذمومة، بدعة واجبة، وبدعة مستحبة، وبدعة محرمة... إلى آخره.

النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: ((كل بدعة ضلالة)) ومقتضى الإيمان بالنبي -عليه الصلاة والسلام- ألا يعبد الله إلا بما شرع، فما يشرعه غير النبي -عليه الصلاة والسلام- مردود عليه، اللهم ما نستثني من ذلك إلا الخلفاء الراشدين الذين أمرنا النبي -عليه الصلاة والسلام- باقتفاء سنتهم، وإن قال بعض الشراح: "والبدعة بدعة وإن كانت من عمر" لأنه لما قال عمر -رضي الله تعالى عنه-: "نعمت البدعة" رد عليه، قال: "البدعة بدعة وإن كانت من عمر" نقول: هذا الكلام فيه سوء أدب مع هذا الصحابي الجليل الذي أمر النبي -عليه الصلاة والسلام- باتباع سنته، وأغرانا بذلك.

عمر -رضي الله تعالى عنه- لما قال: "نعمت البدعة" هل هذا محادة لقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((كل بدعة ضلالة))؟ حاشا وكلا، عمر -رضي الله تعالى عنه- حينما قال: "نعمت البدعة" قاله على سبيل المشاكلة، كأن قائلاً قال له: يا عمر ابتدعت، فقال: "نعمت البدعة هذه" فهو أجابه بنحو كلامه، والمشاكلة قد تكون في الكلام المحقق، وقد تكون في الكلام المقدر، قد تكون في الكلام المحقق {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [(40) سورة الشورى] ذكر اللفظان الأول سيئة بلا شك، الجناية سيئة، لكن معاقبة الجاني سيئة وإلا حسنة؟ حسنة، لكنه أطلق عليها سيئة من باب المشاكلة والمجانسة.

قالوا: اقترح شيئاً نجد لك طبخه

 

قلت: اطبخوا لي جبة وقميصاً

فعمر -رضي الله تعالى عنه- لما قال: "نعمت البدعة" لا شك أنه يريد أن يبادر بالرد على من يزعم أنه ابتدع، وإلا فالبدع كلها مذمومة؛ لأنه صح من قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((كل بدعة ضلالة)) شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- يقول: مجاز، يقول: بدعة لغوية، الذي يقول: مجاز هو الشاطبي، شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- يقول: هذه بدعة لغوية وليست بشرعية، والشاطبي يقول: مجاز، أما القول بالمجاز فأهل التحقيق ينفون المجاز، فلا مجاز، وأما القول بأنها بدعة لغوية فليس بمستقيم؛ لأن البدعة اللغوية ما عمل على غير مثال سابق، وقد عملت صلاة التراويح جماعة على مثال سبق من فعله -عليه الصلاة والسلام- بأصحابه ليلتين أو ثلاث، وثم تركها النبي -عليه الصلاة والسلام- خشية أن تفرض، يعني لا رغبة عنها ولا نسخاً لها، وإنما خشية أن تفرض، فلما أمن عمر -رضي الله تعالى عنه- من فرضيتها بوفاة النبي -عليه الصلاة والسلام- أعادها، وليست ببدعة شرعية؛ لأنه سبق لها الشرعية من السنة، سبقت شرعيتها من السنة، فليست ببدعة لا لغوية ولا شرعية وليست مجاز كما يقول الشاطبي، إذاً هي من باب المجانسة، وهذه اللفظة تشبث بها أقوام فشرعوا للناس من الدين ما لم يأذن به الله، شرعوا عبادات وأذكار، وحددوا أوقات للعبادات وللذكر لم يسبق لها شرعية، وأعداد من الصلوات، وأعداد من الأذكار لم يرد به خبر عن معصوم، وبذلك حرموا مما صح عنه -عليه الصلاة والسلام-، وهذا شيء مجرب، إذا حافظ الإنسان على شيء يتعبد به وهو لم يثبت عن النبي -عليه الصلاة والسلام- فإنه يحاول أن يأتي بسنة يقصدها ويتحفظ خبرها، ثم لا يأتي بها؛ لأن من اشتغل ببدعة حُرم من سنة، وما أحيي من بدعة فهو في مقابله يموت سنة {جَزَاء وِفَاقًا} [(26) سورة النبأ] {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} [(46) سورة فصلت] فإذا تعبد الإنسان بغير ما شرع الله -جل وعلا- وإن كان قصده حسناً فإنه لا بد أن يضيع من السنة الصحيحة بقدر ما فعله من سنة لم تثبت، فلا بد من أن يتبع النبي -عليه الصلاة والسلام-.

طيب ماذا عن قول الله -جل وعلا- في سورة الحديد: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ} [(27) سورة الحديد] هم ابتدعوا هذه الرهبانية، والله -جل وعلا- ما كتبها عليهم، وهم ابتدعوها ما ابتدعوها إلا ابتغاءً لرضوان الله، فهل يكفي حسن القصد لتشريع ما لم يشرعه الله؟ والعمل بما لم يثبت عن الله وعن رسوله -عليه الصلاة والسلام-؟ يكفي هذا وإلا ما يكفي؟ لا يكفي.

((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)).

ثم قال -رحمه الله-: "حدثنا محمد بن رمح بن المهاجر المصري وقال: أنبأنا الليث بن سعد عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير أن عبد الله بن الزبير حدثه أن رجلاً من الأنصار خاصم الزبير" رجل من الأنصار خاصم أباه الزبير "عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" من الأنصار وصدر منه ما صدر من قوله: "أن كان ابن عمتك" فوصفه بكونه من الأنصار مع مقالته هذه الشنيعة فيه إشكال وإلا ما في إشكال؟ لأن من أهل العلم من يقول: إنه كان منافقاً، وإلا فالمسلم المؤمن لا يمكن أن يقول هذا، ويرد حكم النبي -عليه الصلاة والسلام-، وبعضهم يقول: كان مسلماً، بل كان بدرياً، ومع ذلك قال هذه المقالة في حال الغضب الذي وصل به إلى حد ترفع عنه المؤاخذة، ويبقى أنه أنصاري، وبعضهم قال: إنه كان من اليهود، وكان حليفاً للأنصار.

المقصود أنه حصل من هذا الشخص هذا الرجل من الأنصار حصل منه ما حصل، سواء كان مسلماً أو منافقاً فالأمر شنيع جداً، فيه رد للسنة الصحيحة.

"خاصم الزبير عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في شراج الحرة" الشراج: مسايل المياه، والحرة هي الأرض التي تكسوها الحجارة السود، وهي معروفة بالمدينة، وهما حرتان شرقية وغربية، وهما حدود الحرم من جهة الشرق والغرب، أما حدود الحرم من جهة الشمال والجنوب فما بين عير إلى ثور، والحرتان هما اللابتان، ما بين لابتيها، هما الحرتان، والمراد بالحرة الأرض التي تعلو عليها الحجارة السود.

"في شراج الحرة" يعني المسايل مسيل الماء، ومعلوم أن الماء يبدأ بالأرض الأول فالأول، فالأراضي المملوكة يمر بها الماء منحدراً من الأعلى إلى الأسفل، فإن ترك الماء بدون تصرف فإن الأعلى لن يستفيد منه الفائدة المرجوة؛ لأنه ينزل بسرعة إلى المنحدر، وإن حبس وحرم منه الثاني والثالث أيضاً هذا ليس من العدل، وهذا إشكال، فلا هذا ولا هذا، يسقي منه الأول حتى يصل إلى الجدر، ثم بعد ذلك يرسله إلى الذي يليه، ثم الذي يليه يسقي إلى الجدر، ثم يرسله إلى الذي يليه وهكذا.

"التي يسقون بها النخل، فقال الأنصاري: سرح الماء يمر" يعني اترك الماء يمشي، كأن الزبير في مرتفع، وهذا أنزل منه، فيقول الأنصاري للزبير: "سرح الماء يمر" اتركه، لا تحبسه عنا "فأبى عليه" الزبير لأنه لن يستفيد منه، إذا تركه يمر من غير قرار فإنه لن يستفيد منه.

"فأبى عليه، فاختصما عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((اسقِ يا زبير))" خذ حاجتك من هذا الماء ((ثم أرسل الماء إلى جارك)) وهذا أقل من حقه في الحكم الشرعي، لكنه صلح، ومن باب التأليف.

((اسقِ يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك)) يعني اتركه يمشي، أطلقه يسيل إلى نخل جارك، فغضب الأنصاري، ما كفاه هذا الحكم، مع أن فيه هضماً لحق الزبير؛ لأن الإنسان إذا تخاصم عنده من له عليه يد أو معرفة أو قربى مع شخص أجنبي فإنه في الغالب إذا كان عدلاً نزيهاً يأخذ للأجنبي أكثر مما يأخذ للقريب، يعني من باب ألا يُتهم في حكمه، من باب أن يؤلف البعيد، والقريب قد ضُمن، لكن إذا لم يرضَ البعيد إلا بحكم الله -جل وعلا- يحكم عليه ولو كان فيه نقص عليه.

"فغضب الأنصاري، فقال: يا رسول الله أن كان ابن عمتك" يعني حكمك هذا لأنه كان ابن عمتك! -نسأل الله السلامة والعافية-، يعني اتهم النبي -عليه الصلاة والسلام- بحكمه، وهذا لائق بمن يقول: إن الرجل كان منافقاً، وأما من يقول: إنه كان بدرياً، ومن الأنصار، ومؤمناً حق الإيمان، فإنه يقول: إن هذا في حال الغضب، والإنسان قد يصدر منه في حال الغضب ما لا يؤاخذ عليه، ولا يقع طلاقه، وتصرفاته لا تقع.

"إن كان ابن عمتك، فتلون وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" حيث اتهم بعدم العدل وبالميل والحيف لابن عمته، حاشا وكلا -صلى الله عليه وسلم-.

"ثم قال: ((يا زبير))" الآن جاء الحكم ((يا زبير اسقِ، ثم احبس الماء)) في الأول اسقِ، ولكن ليس فيه: احبس الماء ((اسقِ، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر)) يعني أصل الجدار، يعني يصل إلى أحواض النخل، وفي الغالب أن الأحواض تكون مرتفعة عن مستوى الأرض؛ لأنه يرفع لها من التراب بحيث يكون الذي حولها حوض يستقر فيه الماء، فإذا وازى هذه الأحواض ووصل وامتلأت هذه الأحواض أرسل الماء الباقي إلى جارك.

"((يا زبير اسقِ، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر)) قال: فقال ابن الزبير" منهم من يقول: إن الجدر المراد به أكوام التراب التي تحاط بها المزارع.

"قال: فقال الزبير: والله"...

لكن هل المراد بالجدر الحائط المعروف الذي قد يبلغ طوله ثلاثة أذرع بحيث تكون المزرعة كالبركة والمسبح؟ لا، ليس هذا هو المراد؛ لأنه من أين يدخلها ليخرج منها؟ هو ينزل من السماء ولن يصل إلى هذا الحد حتى يكون عند جاره مثله، يكون غرق مثل هذا -نسأل الله العافية-، هذا مدمر.

"قال: فقال الزبير: والله إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [(65) سورة النساء]" يعني مراتب  {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} [(65) سورة النساء] نفى عنهم الإيمان {حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [(65) سورة النساء] فالذي لا يتحاكم إلى الشرع ينتفي عنه الإيمان {حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} يعني في خصوماتهم، وهل يكفي هذا؟ بل لا بد أن ينضاف إليه {ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [(65) سورة النساء] يرضوا تمام الرضا، والآن الناس في المحاكم كثير منهم لا يرضى، بل يعترض على الحكم ويطلب لائحة اعتراض، ويسجل اعتراضاته، بموافقة من القاضي، بنظام القضاء يطلب اللائحة، ويعترض على الحكم، ويُرفع الاعتراض إلى التمييز، وينظر فيه التمييز، وقد ينقض الحكم، يعني هل في هذه التصرفات معارضة لهذه الآية أو ليس فيها معارضة؟

يعني في محكمة من المحاكم جاء شخص كبير في السن له خصومة، ثم حكم عليه، فقال له القاضي: إن كان لديك اعتراض هذه ورقة سجل اعتراضاتك، ترفع للمشايخ في التمييز، وفيهم البركة، فبكى هذا الشيخ بكاءً شديداً، وقال: أنا لا أعترض على حكم الله، وتلا الآية، هذا لا شك أن فيه تمام الرضا والتسليم، لكن هل في هذه الأنظمة التي فيها أن للمحكوم عليه أن يعترض، ويسجل الاعتراض، وبرضا القاضي، وبرضا النظام، ثم يرفع إلى أهل علم هم أعلم من هذا القاضي، فينظر في هذا الاعتراض، والمسألة كلها في أولها وفي آخرها إنما يشملها حكم الله، يعني سواءً حكم القاضي الذي هو ابتداء القضاء في المسألة، أو حكم التمييز، ومن ورائه مجلس القضاء الذي هو النهاية في حكم المسألة الشرعية.

هل نقول: إن القاضي حكمه هو حكم الله؟ أو نقول: الدوائر الثلاث إذا مرت عليها، ومشت من عندها لا يجوز الاعتراض، يعني من القاضي إلى التمييز إلى مجلس القضاء، فإذا انتهت هذه الدوائر الثلاث قلنا: هذا حكم الله، لا يجوز الاعتراض حينئذٍ، فيكون حكم القاضي بداية، وأن الخصومة لم تنتهِ بعد، أو نقول: إن حكم القاضي هو حكم الله فلا يجوز الاعتراض عليه؟

طالب:........

نعم؟

طالب:........

القاضي نهاية؟ يعني المجموع من القاضي والتمييز ومجلس القضاء هذا حكم الله، يعني سواء أصابوا أو أخطئوا، لكن هم حكموا بما يدينون الله به، بالوسائل الشرعية، وإلا ما يلزم أن يكون الإصابة موجودة في الدوائر الثلاث؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- وهو المؤيد بالوحي قال: ((إنما أنا بشر، أحكم على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فإنما أقتطع له قطعة من نار، فليأخذها أو يذرها)) وهو المؤيد بالوحي، فلا يلزم من القاضي أن يكون مصيباً في جميع أحواله، لا، إذا كان هذا من النبي -عليه الصلاة والسلام- فمن دونه من باب أولى، ومع ذلك إذا حكم بالوسائل والطرق الشرعية الثابتة عن الله وعن رسوله في الخصومات فإنه أدى ما عليه، وحكم بحكم الله، سواءً أصاب أو أخطأ.

طالب:........

كيف؟

طالب:........

على كل حال لا بد من مرجح، فهل إقرار مثل هذه الاعتراضات اعتراض على حكم الله؟ أو نقول: إن حكم القاضي بداية وليس نهاية؟ واحتيج إلى تعدد الدوائر لما احتيج إلى الكثرة في القضاة، والحاجة إلى كثرة القضاة لا شك أنه لا بد فيه من تخفيف الشروط، شروط القاضي؛ لأن الكثرة لا يتسنى معها تطبيق جميع ما اشترط في القاضي، الناس لا يحل إشكالاتهم إلا كثرة في القضاة، وإذا كثروا هل نتصور أن جميع ما اشترطه أهل العلم في القاضي أن تكون متوافرة؟ نعم لما كانوا قلة في الأمة نعم يُنتقى، لكن الآن مع هذه الكثرة لا يتسنى الانتقاء، وهذا جارٍ على حد سواء في جميع المصالح، مصالح الناس؛ لأن أوضاع المسلمين متقاربة ومتناسقة، وكما تكونوا يولى عليكم، ولما جاء شخص إلى علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- فقال له: لماذا الناس ما خرجوا على عمر وخرجوا عليك؟ لماذا؟ قال: عمر كان والياً على مثلي، وأنا والٍ على مثلك، وكما تكونوا يولى عليكم.

أقول: هذه الكثرة من القضاة لا شك أنه سبب في عدم التمكن من استيفاء الشروط، وإذا لم تستوفَ الشروط لا بد أن يكون على هذا القاضي من هو أعلم منه ممن يسدده، وهذا متمثل في التمييز، ثم بعد ذلك من ورائهم المجلس، هذه أمور على حد تقديري أنها ليس فيها اعتراض على حكم الله، نعم الذي يعترض بعد ذلك كله يقال: لا، أنت الآن قف، يعني كونك تنظر في هذا الشاب الذي نظر في قضيتك وحكم فيها، وطلبت من هو أكبر منه، لك الحق، لكن بعد الكبار تعترض؟ لأنه يتصور في بعض القضايا أن يكون أحد الخصوم أعلم من القاضي، ما يمكن يكون هذا؟ تكون قضية لعالم من العلماء يمثل بين يدي القاضي، ويعرف العالم أن القاضي أخطأ، فهل نلزمه بأن يرضى، يجزم بأنه أخطأ، نقول: إذا وصلت إلى القنوات الثلاث التي موجودة الآن ومقرة، ووكل الأمر إليها من قبل ولي الأمر، وهم علماء كبار، وفيهم الخير والبركة، نعم إذا اعترض على حكمهم أحد يكون من هذا الباب، وإلا فالمسألة مشكلة.

يعني إذا قلنا: إن القاضي هو البداية وهو النهاية حصل الإشكال، إشكال كبير معارضة صريحة للآية، فلا بد أن نقول بمثل هذا، أو نقول: إن تعدد القنوات هذه الثلاث خطأ من أصله، فيجب أن يعاد النظر فيه، ويصدر الحكم من القاضي وينتهي، ولا أحد له كلام، لكن نظراً لكثرة القضاة، وعدم تسني تطبيق جميع الشروط عليهم؛ لأنه لو أردنا أن نطبق جميع الشروط التي في القاضي شريح أو إياس أو غيرهما من القضاة في صدر الإسلام على جميع من لدينا دون ذلك خرط القتاد، ما وجدنا أحد.

طالب:........

نعم؟

طالب:........

الأفضل الخصم أن يسلم من أول شيء، أن يسلم من أول الأمر لئلا يقع في المخالفة.

طالب:........

والله الأصل هذا الأصل، نعم؟

طالب:........

إي نعم يغلب على الظن أنه حكم الله، لكن ليسوا بمعصومين، ولا يعد اتفاقهم إجماعاً؛ ليكون معصوم، مقطوع به، من الذي اقتنع؟

طالب:........

التمييز لن تصل إليه إلا بعد الرفع إليه، القضايا الجنائية هذه ترفع، لكن القضايا الحقوقية والمالية ترفع بطلب، إذا قيل له: عندك اعتراض؟ قال: نعم، أعطي لائحة الاعتراض، على كل حال التمييز ومن فوقهم من المجلس لا شك أن لهم النظر في حكم القاضي، وهم أكبر منه، وأكثر خبرة، وأعلم، وهم أيضاً مجموعة لا يصدرون عن رأي رجل واحد، والله المستعان.

يعني هذا الكلام في النبوة، يعني {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ} [(65) سورة النساء] يا محمد بعينك، وأن هذه لا تنقضي...

طالب:........

لا لا، هذه تشمل جميع من حكم بحكم الله.

طالب:........

هاه؟

طالب:........

والنبي -عليه الصلاة والسلام- يحكم على نحو ما يسمع، فقد يحكم بغير الواقع، وليس المراد به أنه لا يستطيع الوصول إلى الحقيقة، هو مؤيد بالوحي، لكن ليسن للقضاة من بعده؛ ليكون هذا هو الطريق للجميع، البينة على المدعي، واليمين على من أنكر، هذا كما يستعمله المعصوم يستعمله آخر القضاة، وعلى كل حال ما أشرت إليه قيل به، لكن الأولى حمل الآية على عمومها، وإلا كان الناس كلهم ما يقنعون، ولا شك أن فيها التحذير من التحاكم إلى غير الله.

لو قلنا: إن الآية خاصة بالنبي -عليه الصلاة والسلام- قلنا: إن لمن أراد أن يتحاكم إلى غير الشرع له مندوحة.

طالب:........

لا لا، الآية خذها جملة {يُحَكِّمُوكَ} [(65) سورة النساء] يعني النص جاء في {يُحَكِّمُوكَ} نعم الرضا والتسليم لكل أحد، لكن يحكموك هذا إن أريد الخصوص فهو في هذا، ويأتي الخطاب للنبي -عليه الصلاة والسلام- والمراد هو وأمته، ففي قوله: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ} [(102) سورة النساء] يعني في صلاة الخوف {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ} قال أبو يوسف: صلاة الخوف خاصة بالنبي -عليه الصلاة والسلام- وعامة أهل العلم على أنها عامة له ولغيره، والخطاب له -عليه الصلاة والسلام-، وفعلها الصحابة من بعده، وفي قوله -جل وعلا-: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [(103) سورة التوبة] هذا خطاب له ولغيره ممن يأتي بعده.

قال -رحمه الله-: "حدثنا محمد بن يحيى النيسابوري قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أنبأنا معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا تمنعوا إماء الله أن يصلين في المسجد)) فقال ابن له" اسمه: بلال "فقال ابن له: إنا لنمنعهن" وما الداعي لهذه المقالة من هذا الولد؟ الداعي لها الغيرة على المحارم، وخشية الفتنة منهن وبهن، ومع ذلك لم يكن له مندوحة بهذا الاعتراض، لم يعذر في هذا الاعتراض، وإن كان قصده سليماً، وإنا لنمنعهن، وعائشة تقول: لو علم النبي -عليه الصلاة والسلام- ما أحدث النساء لمنعهن، ومع الأسف أن بعض النساء يأتين لصلاة التهجد بالتبرج والطيب مع سائق أجنبي، وهن بذلك يرجين ما عند الله -جل وعلا-، وقد تأتي إلى أقدس البقاع فاتنة مفتونة -نسأل الله السلامة والعافية-، لكن ليس لولي أمرها أن يمنعها من أن تأتي إلى المسجد، لكن عليه أن يأطرها على الحق، تخرج تفلة، تخرج متحجبة الحجاب الذي يصد الناس، ويمنع ويكف الأشرار ووحوش البشر من النظر إليها، والاستمتاع بها، وتخرج غير متطيبة، وتخرج غير مزاحمة للرجال، لا يترتب على هذا الخروج محظور؛ لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وإلا فبعض النساء النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: ((وبيتها خير لها)) وبعض النساء من الصالحات تحرص على الصلاة في المسجد، ترى أنه أنها لو صلت في بيتها ما حضر قلبها، ولا صلت الصلاة التي يمكن أن تؤديها في المسجد، تصلي على وجه يناسب مستواها في التعلم في الالتزام في كيفية القراءة في الاستفادة من القرآن، لكن إذا صلت وراء الإمام مشت مع الناس، أو إذا صارت في بيتها كسلت عن الصلاة، تراخت، وإذا كانت مع الناس نشطت، هذه مقاصد حسنة لا شك، لكن مع ذلك لا يترتب على ذلك مفسدة، تأتي متبرجة متطيبة إذا خرجت المرأة متعطرة رجعت وهي زانية -نسأل الله السلامة والعافية-، وأهل الظاهر يلزمونها بالغسل بناءً على هذا الحديث، والمتبرجة ملعونة -نسأل الله السلامة-، فكيف تأتي هذه ترجو ما عند الله وتأتي بما يقتضي المقت واللعن والطرد عن رحمة الله؟ وتأتي مع ذلك مع سائق أجنبي مع الخلوة، وبعد هزيع من الليل، كل هذا خلل كبير ينبغي أن يدرس بعناية من غير منع، من غير معارضة للسنة، إلا إذا وجد ما يقتضي المنع، يمنعها لأنها خرجت متبرجة لا لأنها تريد بيت الله، يمنعها من التبرج، يمنعها من الطيب، يمنعها مما منعت منه شرعاً، ويأذن لها بما أذن لها فيه الشرع.

"فقال ابن له: إنا لنمنعهن، قال: فغضب ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- غضباً شديداً، وقال: أحدثك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتقول: إنا لنمنعهن!" يعني ما يكفي في هذا الباب القصد الحسن، بل لا بد من الاتباع مع حسن القصد، ابن عباس لما قال بالمتعة متعة الحج، وقيل له: إن أباك منع المتعة، وكذلك أبو بكر، قال: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله، وتقولون: قال أبو بكر وعمر! وهذا استدلال بقول أبي بكر وعمر في مقابل قول النبي -عليه الصلاة والسلام-، فكيف بمن يستدل بآراء الناس؟! تقول له: قال رسول الله كذا، فيقول لك: قال: لا، قال الشيخ فلان، تقول له: الحديث ثابت وصحيح وصريح، في البخاري، يقول لك: ولو الشيخ فلان أعرف، فرد النصوص تقليداً للأئمة لا شك أنه يدخل في هذا الباب لا سيما بعد بلوغها.

قال -رحمه الله-: "حدثنا أحمد بن ثابت الجحدري وأبو عمرو حفص بن عمر قالا: حدثنا عبد الوهاب الثقفي" يعني بن عبد المجيد "قال: حدثنا أيوب عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن مغفل أنه كان جالساً إلى جنبه ابن أخ له فخذف" الخذف: يؤتى بحجر صغير فيوضع بين السبابتين هكذا فيخذف به، أو يوضع بين السبابة والإبهام هكذا فيخذف، هذا الخذف، وهذا منهي عنه؛ لأنه يكسر السن، ويفقأ العين، لكن ما فيه فائدة، لا ينكأ عدو، ولا يصيد صيداً.

"أنه كان جالساً إلى جنبه ابن أخ له فخذف، فنهاه، وقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عنها" يعني نهى عن هذه الفعلة التي هي الخذف "وقال: ((إنها لا تصيد صيداً، ولا تنكي عدواً))" يعني لا تبلغ به من الأثر ما ينبغي أن يبلغ، فلا تقتل ولا تكسر، إنما هي مجرد أذى ((لا تصيد صيداً، ولا تنكي عدواً)) فدل على أن ما فيه نكاية بالعدو أنه مطلوب شرعاً، ما فيه نكاية في العدو مطلوب.

((ولا تنكي عدواً، وإنها تكسر السن، وتفقأ العين)) قال: فعاد ابن أخيه يخذف، بعد ما سمع الخبر، ونهاه وأنكر عليه، عاد يخذف "فقال: أحدثك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عنها ثم عدت تخذف، لا أكلمك أبداً" فهجره مدة بقائه طول عمره؛ لأنه خالف السنة، وعارض السنة، وكذلك صنيع ابن عمر مع ابنه، ذُكر أنه ما كلمه مدى الحياة، وعندنا في وقتنا لا نقيم لهذه الأمور وزناً، وإذا غضب الإنسان على ولده لفعل فاحشة أو أمر عظيم المسألة ساعة أو ساعتين أو ساعات أو يوم أو يومين، ثم يعود كأن لم يكن شيء حصل، لماذا؟ لأن هذه المخالفة ما وقعت في قلب الأب موقعها الطبيعي في الدين، تجده يوقظه للصلاة، ثم إذا جاء ووجده لم يصلِ، ثم بعد ذلك يحوطه بعنايته ويرعاه برعايته، ويغدق عليه من الخيرات، ويعامله ويبتسم في وجهه وكأن شيئاً لم يكن.

الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- في البداية والنهاية في ترجمة ابن الراوندي وهو ملحد، ذكر أن ابن خلكان ترجم له وأثنى عليه، ولم يذكر شيئاً من إلحاده، كعادته في تراجم الأدباء والمؤرخين واللغويين يطيل في تراجمهم بخلاف العلماء من المحدثين والمفسرين والفقهاء يختصر، قال: ولم يذكر شيئاً من إلحاده، فكأن الكلب لم يأكل له عجيناً، يعني ما أثر عليه أبداً، يعني رجل زنديق ملحد تمدحه وتطيل لأنه أديب! الدين رأس المال يا أخي، فهذه من ابن كثير -رحمه الله تعالى- تدخل في هذا الباب، هذه غيرة لله ولرسوله غيرة على الدين، ابن خلكان ما كأن الكلب أكل له عجين، يعني ما كأن الأمر يعنيه،  على عادته كأنه خير الناس، أثنى عليه ومدحه وأطراه، نعم في باب من أبواب الأدب، وفي علم من العلوم التي لا تقاوم شيئاً ولو شيئاً يسيراً في أبواب العلم الشرعي مدحه به، فهكذا ينبغي أن يكون المسلم يغار لدين الله، يغار لسنة رسول الله، لا سيما من ينتسب إلى العلم وإلى السنة ينبغي أن يغار، وينكر المنكر على من قاله كائناً من كان، لكن ينبغي أن يكون الإنكار بالطرق المؤدية إلى الغرض التي فيها إزالة لهذا المنكر، مع أنه لا يترتب عليها منكر أعظم منه، ونقف على هذا، والله أعلم.

 

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

"