شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (015)

قال ابن حجر: ولا منافاة بين قوله: يحرك شفتيه وبين قوله في الآية: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} [سورة القيامة 16] في الخبر: "يحرك شفتيه" والنهي عن تحريك اللسان، هل معنى هذا أنه يجوز له أن يحرك شفتيه؟ لأن النهي عن تحريك اللسان دون الشفتين؟

يقول ابن حجر: ولا منافاة بين قوله: يحرك شفتيه وبين قوله في الآية: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} [سورة القيامة 16] لأن تحريك الشفتين بالكلام المشتمل على الحروف التي لا ينطق بها إلا اللسان يلزم منه تحريك اللسان، فإذا نهي عن تحريك اللسان فنهي عن تحريك الشفتين؛ لأن هذا لا يتم إلا بهذا، أو اكتفي بالشفتين وحذف اللسان لوضوحه لأنه الأصل في النطق، أو الأصل حركة الفم، وكل من الحركتين ناشئ عن ذلك، وهو مأخوذ من كلام الكرماني، وتعقَّبه العيني بأن الملازمة من التحريكين ممنوعة على ما لا يخفى، وتحريك الفم مستبعَد بل مستحيل؛ لأن الفم اسم لما يشتمل عليه وعند الإطلاق لا يشتمل على الشفتين، ولا على اللسان لا لغةً ولا عرفًا، بل هو من باب الاكتفاء، والتقدير: فكان مما يحرك به شفتيه ولسانه، على حد قوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [سورة النحل 81] أي والبرد، وفي تفسير الطبري من طريق جرير عن ابن أبي عائشة: ويحرك به لسانه وشفتيه، فجمع بينهما، قال ابن عباس في تفسير جمعه: أي جمعه بفتح الميم والعين لك صدرُك، بالرفع على الفاعليَّة، وهذا في أكثر الروايات، وفي اليونينية: أي جمعه الله في صدرك، وإسناد الجمع على الصدر على حد: أنبت الربيعُ البقلَ، أي أنبت اللهُ في الربيع البقلَ. وفي رواية أبي ذر: جمْعُه لك صدرُك، بسكون الميم وضم العين مصدر، ورفع راء صدرُك فاعل، ولكريمة: جَمْعُه لك في صدرِك بفتح الجيم وإسكان الميم وزيادة في وهو يوضح الأول، وفي روايةٍ جَمْعُه له بإسكان الميم أي جَمْعُه تعالى للقرآن صدرك، وفي رواية الأصيل وحده جَمْعُه له في صدرك، بزيادة في، على كل حال المعنى ظاهر، وكله متقارب وهي ألفاظ متقاربة.

المقدم: والمثبَت عندنا جَمْعُه لك في صدرك.

جَمْعُه لك في صدرك، نعم.

{إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [سورة القيامة 17] أي قراءته، فهو مصدر مضاف للمفعول، والفاعل محذوف والأصل: وقراءتك إياه، يطلق القرآن ويراد به القراءة، كما جاء في وصف عثمان -رضي الله عنه-:

ضحوا بأشمط عنوان السجود به

 

يقطع الليل تسبيحًا وقرآنا

أي قراءة، وقال ابن عباس أيضًا في تفسير {َقُرْآنَهُ}: أي تقرأه، بفتح الهمزة في اليونينية، وقال البيضاوي: إثبات قرآنِه في لسانك وهو تعليل للنهي، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} أي أنزلنا إليك بواسطة جبريل {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} قال ابن عباس في تفسير {فَاتَّبِعْ} [سورة القيامة 18] أي فاستمع له وأنصت، بهمزة القطع، أي كن حال قراءته ساكتًا، والاستماع أخص من الإنصات؛ لأن الاستماع الإصغاء، والإنصات السكوت، ولا يلزم من السكوت الإصغاء، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [سورة القيامة 19] فسره ابن عباس بقوله: ثم إن علينا أن تقرأه، وفسره غيره: ببيان ما أشكل عليك من معانيه.

قال ابن حجر: فيستدل به على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب، كما هو الصحيح في الأصول، قال القسطلاني: لا عن وقت الحاجة، وهو الصحيح عند الأصوليين، ونص عليه الشافعي لما تقتضيه ثم من التراخي، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [سورة القيامة 19] البيان إلى وقت الحاجة جائز، بدليل العطف بـ(ثم) وثم تقتضي التراخي، لكن البيان عن وقت الحاجة هذا الذي لا يجوز عند أهل العلم، وأول من استدل لذلك بهذه الآية القاضي أبو بكر بن الطيِّب وتبعوه على ذلك، قال القسطلاني: وهذا لا يتم إلا على تأويل البيان بتبيين المعنى، وإلا فإذا حمل على استمرار حفظه له بظهوره على لسانه فلا، قال الآمدي: يجوز أن يراد بالبيان الإظهار لا بيان المجمل، يقال: بان الكوكب إذا ظهر، قال: ويؤيد ذلك أن المراد جميع القرآن، والمجمل إنما هو بعضه، ولا اختصاص لبعضه بالأمر المذكور دون بعض، وقال أبو الحسين البصري: يجوز أن يراد البيان التفصيلي، ولا يلزم منه جواز تأخير البيان الإجمالي فلا يتم الاستدلال، وتُعُقِّب باحتمال إرادة المعنيين الإظهار والتفصيل وغير ذلك؛ لأن قوله: {بَيَانَهُ}  جنس مضاف فيعم جميع أصنافه، من إظهاره وتبيين أحكامه وما يتعلق بها من تخصيصٍ وتقييدٍ ونسخٍ وغير ذلك، وهذه الآية كقوله تعالى في سورة طه: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [سورة طه 114] فنهاه عن الاستعجال في تلقي الوحي من الملَك ومساوقته في القرآن حتى يتم الوحي، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك إذا أتاه جبريل ملَك الوحي المفضَّل به على سائر الملائكة ومعناه: عبد الله -يعني جبريل- معناه عبد الله بالسريانية لأن جبر: عبد بالسريانية، وإيل: اسم من أسماء الله عندهم.

وروى عبد بن حميد في تفسيره عن عكرمة أن اسم جبريل: عبد الله، واسم ميكائيل: عبيد الله، وقال السهيلي: جبريل سرياني ومعناه عبد الرحمن، كما جاء عن ابن عباس مرفوعًا وموقوفًا، لكن الموقوف أصح، وذهبت طائفة إلى أن الإضافة في هذه الأسماء مقلوبة، فإيل هو العبد، وأوله اسم من أسماء الله تعالى، والجبر عند العجم هو إصلاح ما فسد، وهي توافق معناه من جهة العربية، وقال العيني: ورأيت في أثناء مطالعتي في الكتب أن اسم جبريل -عليه الصلاة والسلام- عبد الجليل، وكنيته أبو الفتوح، واسم ميكائيل عبد الرزاق وكنيته أبو الغنائم. على كل حال هذا مما طالعه العيني في بعض الكتب التي لا تعتني بذكر الأخبار بأسانيدها، ولا تُحقِّق الصحيح من غيره، ومثل هذا لا فائدة من العناية به وتحقيقه وتمحيصه وإثبات الثابت منه، إنما يُمَرّ كما جاء. وفي جبريل تسع لغات نقلها العيني عن الزمخشري وابن الأنباري.

بعد هذا يقول: فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع، فإذا انطلق جبريل قرأه النبي -عليه الصلاة والسلام- كما قرأ، وفي روايةٍ: "كما قرأه" بضمير المفعول أي القرآن، ولأبي ذرٍ عن الكشمهني يعني: "كما كان قرأ" والحاصل أن الحالة الأولى جَمْعُه في صدره، والثانية: تلاوته، والثالثة: تفسيره وإيضاحه، والحديث كما هو مخرَّج في صحيح البخاري مخرَّج أيضًا في صحيح مسلم، وجامع الترمذي وغيرهما.

المقدم: أحسن الله إليك، يلاحَظ في شرح ابن حجر -رحمه الله- في فتح الباري أنه يذكر حينما يذكر قطعة من الحديث دائمًا يذكر الخلاف الموجود في نص الحديث، كقوله هنا في الحديث: قال: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [سورة القيامة 16-17] قال: جمعه لك في صدرك وتقرأه، وهنا قال: قوله: جمعه لك وصدرك، فهذه تتكرر دائمًا.

نعم، يوجد اختلاف بين الشرح وبين المتن المطبوع مع الشرح، الأصل أن الفتح مجرد عن المتن، لكن الطابع تصرَّف، وأدخل في الشرح متنًا يختلف في كثيرٍ من الأحيان عن الرواية التي اعتمدها الحافظ في شرحه، لأن الحافظ ابن حجر اعتمد على رواية أبي ذر كما نص على ذلك، وأشار إلى ما عداها عند الحاجة، والحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- قصد تجريد الشرح من المتن لئلا يطول الكتاب، فتصرف الطابع وأدخل متنًا لا يوافق الرواية التي اعتمد عليها الحافظ في شرحه، وليته إذ تصرف في كتاب غيره أدخل روايةً تناسب الشرح، على أن الكتاب طبع أخيرًا، لا أقول طبع، صُوِّر عن الطبعة السلفية الثانية التي بعد السلفية الأولى، طبعة سماحة الشيخ -رحمه الله-، والتي تصرَّف في إدخال المتن هو محمد فؤاد عبد الباقي بالاتفاق مع محب الدين الخطيب والشيخ -رحمه الله تعالى- وافقهم على ذلك، لكن لو اختاروا رواية تناسب المشروح، لو اعتنوا برواية أبي ذر وبحثوا عنها لا إخالها معدومة، نعم بُحِث عنها فيما بعد، ويذكر الطابع الذي صَوَّر الكتاب عن الطبعة السلفية الثانية أنه وجد رواية أبي ذر على أن لي تَحَفُّظ عن كونها رواية أبي ذر بحروفها، فيه اختلاف في بعض المواضع عن رواية أبي ذر، فأدخل هذه الرواية التي وقف عليها في الشرح، صَوَّر الطبعة الثانية من الطبعة السلفية أو الثالثة أو ما اشتهر عند الناس وتداولوه طبعة الريان هي السلفية الثانية، ثم صَوَّروه الطبعة السلفية صوروا الثانية فسموها ثالثة، ثم صوره الريان وتداولها الناس ويسمونها طبعة، هي كلها فرع عن السلفية الثانية وهي أسوأ من الطبعة السلفية الأولى، الطبعة السلفية الأولى أجود منها بكثير.

فينبغي لطالب العلم الذي لا يستطيع الحصول على طبعة بولاق أو صورتها التي طبع عنها الكتاب أن يعتني بالسلفية الأولى التي أشرف على أوائلها سماحة الشيخ عبد العزيز -رحمه الله تعالى- مباشرةً، أما هذه الطبعات الأخيرة نُقلَت تعاليق الشيخ عليها لا بأس، وهذا شيء نافع، وإن كانت الطبعة التي نُشرَت أخيرًا مع رواية أبي ذر، وإن كنتُ متحفظًا عن إطلاق رواية أبي ذر على هذه الطبعة؛ لأنها توافقها في كثيرٍ من الأحيان، وفيها بعض الاختلاف حذفت تعاليق الشيخ -رحمه الله تعالى- لا أدري ما السبب؟! لكن مع ذلك ينبغي العناية بالصحيح، وأن يعتني الإنسان بنسخةٍ متقنةٍ محررة مضبوطة، وتكون على روايةٍ واحدة إن أمكن، مع العناية بالروايات الأخرى لئلا يتشوش القارئ، وإذا أراد أن يقرأ شرح ينظر الرواية المعتمدة في الشرح، ينظر ما الرواية المعتمدة في الشرح؟ وكل واحد من الشراح ذكر سنده إلى الإمام البخاري فنعرف من خلال إسناده الرواية التي اعتمد عليها واعتنى بها، وحينئذٍ لا يحصل مثل هذا التفاوت بين الشرح والمشروح.

حديث ابن عباس خرَّجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في ستة مواضع، الموضع الأول هنا في بدء الوحي، قال الإمام -رحمه الله تعالى-: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا أبو عوانة، قال: حدثنا موسى بن أبي عائشة قال: حدثنا سعيد بن جبير عن ابن عباس، ومناسبة الحديث لبدء الوحي كما قال العيني ظاهرة لأن المذكور فيما مضى هو ذات بعض القرآن، وهاهنا التعرض إلى بيان كيفية التلقُّن والتلْقين، وقدَّم ذلك لأن الصفات تابعة للذوات.

والموضع الثاني: في كتاب التفسير في سورة القيامة، قال الإمام -رحمه الله تعالى-: حدثنا الحميدي قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا موسى بن أبي عائشة وكان ثقةً، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فذكره مختصرًا. وفيه فأنزل الله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [سورة القيامة 16] والآية جزء من سورة القيامة، فالمناسبة ظاهرة؛ لأنه ذُكرَت فيه الآية، والآية جزء من السورة المترجَم بها.

والموضع الثالث: في كتاب التفسير أيضًا بابٌ: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [سورة القيامة 17] قال: حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن موسى بن أبي عائشة به ومناسبته للباب ظاهرة، حيث ذُكرَت الآية في الحديث.

والموضع الرابع: في كتاب التفسير بابٌ: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [سورة القيامة 18] قال الإمام -رحمه الله تعالى-: حدثنا قتيبة بن سعيد قال: حدثنا جرير عن موسى بن أبي عائشة به فذكره بأطول منه والمناسبة ظاهرة حيث ذُكرَت الآية في الخبر.

الموضع الخامس: في كتاب فضائل القرآن، باب الترتيل في القراءة قال: حدثنا قتيبة بن سعيد قال: حدثنا جرير عن موسى بن أبي عائشة فذكره بأطول منه، والمناسبة ظاهرة حيث نهي عن تعجيله بالتلاوة، فإنه يقضي استحباب التأني فيه، وهو المناسب للترتيل.

الموضع السادس في كتاب التوحيد باب قول الله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} [سورة القيامة 16] قال: حدثنا قتيبة بن سعيد قال: حدثنا أبو عوانة عن موسى بن أبي عائشة به فذكره بمثله، قال ابن حجر: الحديث من أوضح الأدلة على أن القرآن يُطلَق ويراد به القراءة، فإن المراد بقوله: {قُرْآنَهُ} في الآيتين القراءة لا نفس القرآن، وقال ابن بطال: غرضه في هذا الباب أن تحريك اللسان والشفتين بقراءة القرآن عمل له يؤجر عليه، وقال الكرماني: المقصود من الباب بيان كيفية تلقِّي النبي -صلى الله عليه وسلم- كلام الله تعالى من جبريل -عليه السلام-، والحديث مخرَّج في مسلم والنسائي والترمذي وأحمد والطيالسي والحميدي وغيرهم.

المقدم: قال رحمه الله تعالى: "وعنه -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل -عليه السلام-، وكان يلقاه في كل ليلةٍ من رمضان فيدارسه القرآن، فلَرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجود بالخير من الريح المرسَلة."

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى- المختصِر: "وعنه" جرت عادة المتأخرين من المصنفين في الحديث الذين يصنفون المختصرات في الحديث للحفظ أن يقتصروا على القَدْر المحتاج إليه، فتجدهم يحذفون الأسانيد ويقتصرون على الصحابي فقط، أو على التابعي معه إن دعت الحاجة إلى ذكره، كما جرت عادتهم التكنية عن الراوي بالضمير إذا كان هو راوي الحديث السابق، فيصرحون بذكره في الموضع الأول ثم يعطفون الثاني عليه بالضمير فيقولون: وعنه، وإن كان هذا يَرِد على ما التزمه المؤلف في خطبة الكتاب من أنه يلتزم كثيرًا ألفاظه في الغالب، يعني ألفاظ البخاري -رحمه الله تعالى- كأن يقول البخاري: عن عائشة، أو يقول: عن ابن عباس أو يقول: عن عبد الله بن عباس وكذلك ابن عمر وحينًا يقول: عن أنس، وحينًا يقول: عن أنس بن مالك، يقول: "فأتَّبِعه في جميع ذلك"، وقد كرر ذكر عائشة -رضي الله عنها- في الحديث الثالث وكنَّاها بأم المؤمنين رغم أنها تقدمت في الحديث الثاني أيضًا، ولعل ما هنا من غير الغالب الذي أشار إليه بقوله: "في الغالب"؛ أنه يتَّبِع لفظ البخاري -رحمه الله تعالى- في الغالب، فلعل ما هنا جريًا على العادة ومشيًا على الجادَّة في المختصرات، وهذا هو غير الغالب، وأما الغالب أنه يتبع لفظ البخاري بالحرف. والضمير المجرور يعود إلى ابن عباس راوي الحديث السابق، والواو في قوله "وعنه"، عاطفة تعطف مقدَّر، أي وأروي أيضًا عنه، أي عن ابن عباس "قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس" بنصب أجود خبر كان، أي أجودهم على الإطلاق، "وكان أجودُ ما يكون" حال كونه "في رمضان"، برفع أجود اسم كان وخبرها محذوف وجوبًا على حد قولك: أخطَبُ ما يكون الأمير قائمًا، و"ما" مصدرية أي أجود أكوان الرسول -صلى الله عليه وسلم-، و"في رمضان" سدَّ مسدَّ الخبر أي حاصلاً فيه، وفي رواية الأصيلي: أجودَ بالنصب خبر كان وعُورِض بأنه يلزم منه أن يكون اسمها خبرها، وأُجيب بجعل اسم كان ضمير للنبي -عليه الصلاة والسلام- و"ما" حينئذٍ مصدرية ظرفية والتقدير: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- متصفًا بالأجودية مدة كونه في رمضان، مع أنه أجود الناس مطلقًا -عليه الصلاة والسلام-.

يقول النووي: يجوز في أجود الرفع والنصب، والرفع أصح وأشهر وقال ابن حجر: يرجح الرفع وروده بدون كان عند المؤلف في الصوم، وفائدة الجملة الأولى وإن كانت لا تتعلق بالقرآن الاحتراس من مفهوم ما بعدها، "وكان أجود ما يكون في رمضان"، جاء أولاً بقوله: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس"، يعني مطلقًا في رمضان وفي غير رمضان، هو أجود الناس على الإطلاق، في كل زمان وفي كل مكان -عليه الصلاة والسلام-، وجاء في الحديث الصحيح أنه أجود الناس، وأشجع الناس -عليه الصلاة والسلام-.

مفهوم الجملة الثانية أنه أجود ما يكون في رمضان، مفهومها أنه في غير رمضان أنه ليس بأجود، فاحترَس من مفهوم الجملة الثانية بالجملة الأولى، ومعنى أجود الناس أكثر الناس جودًا، والجود الكرم، وهو من الصفات المحمودة، وفي الصحيحين وغيرهما..

المقدم: قبل ذلك حقيقة عندنا إشكال بسيط قد يَرِد على الإخوة المستمعين أيضًا في تحديد الراجح في كون أجود بالنصب أو الرفع، فلعلكم تتفضلون باختصار في توضيحها أكثر، بالنسبة للموضع الثاني: وكان أجودَ، هذه هي المثبتة عندنا في الكتاب بالنصب، ورجَّح النووي أنها بالرفع وكان أجودُ.

بالنسبة للموضع الأول ما فيه إشكال، "كان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أجودَ الناس"، خبر كان، الموضع الثاني: "وكان أجودُ ما يكون في رمضان" أجود اسم كان، وخبرها محذوف وجوبًا، على حد قولهم: أخطَبُ ما يكون الأمير قائمًا، يعني إذا كان قائمًا، النووي يقول: يجوز في أجود الرفع والنصب، والرفع أصحّ وأشهر، وابن حجر يرجح الرفع بوروده بدون كان عند المؤلِّف في الصوم، كونه يَرِد بدون كان مرفوعًا لا يرجح كونه منصوبًا مع كان؛ لأن كان عامل مؤثِّر في الجملة، إذا وُجد وُجد الأثَر، وإذا ارتفع ارتفع الأثَر، والمعروف أن الرواية بالمعنى عند أهل العلم، بل عند الجمهور جائزة بشرطها المعروف أن يكون الراوي عارفًا بمدلولات الألفاظ، عالمًا بما يحيل المعاني، فلعل هذا من تصرف الرواة، وعلى هذا لا يرجَّح ما في رواية برواية أخرى؛ لأنها إذا حذفت كان ارتفع عملها.

وعرفنا أن معنى أجود الناس أكثر الناس جودًا، والجود هو الكرم، وهو من الصفات المحمودة، وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه­- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم­- أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس. وفي الترمذي من حديث سعيد مرسلاً: «إن الله طيِّب يحب الطيْب، نظيف يحب النظافة، كريم يحب الكرم، جواد يحب الجود» وهو مرسل، ويُروَى من حديث سعد بن أبي وقاص وهو ضعيف، على كل حال الخبر فيه مقال، وله في حديث أنس رفعه: «أنا أجود ولد آدم، وأجودهم بعدي: رجل علم علمًا فنشر علمه، ورجل جاد بنفسه في سبيل الله» وهذا أيضًا في سنده مقال، وفي الصحيح من حديث جابر: ما سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئًا فقال: لا، وهذا غاية في الجود.