شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (080)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أهلاً بكم إلى حلقة جديدة ضمن برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، الكتاب للإمام زين الدين أحمد بن أحمد بن عبد اللطيف الزبيدي، ويتولى شرح هذا الكتاب صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، والذي نرحب به مع مطلع حلقتنا، فأهلاً ومرحبًا بكم شيخ عبد الكريم.
حياكم الله وبارك فيكم.
المقدم: لا زلنا مع حديث طلحة بن عبيد الله -رضي الله تعالى عنه- في باب الزكاة من الإسلام. أشرتم إلى شيء من ألفاظ الحديث في الحلقة الماضية، لعلنا نستكمل ما تبقى من ألفاظ هذا الحديث في هذه الحلقة -أحسن الله إليكم-.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
في قوله: "فإذا هو يسأل" قلنا: إنَّ (إذا) هي التي للمفاجأة وهي مبتدأ و"يسأل عن الإسلام" خبر.
يقول العيني: وقد عُلِم أنَّ (إذا) التي للمفاجأة تختص بالجمل الاسمية، ولا تحتاج إلى الجواب، ولا تقع في الابتداء، ومعناه الحال لا الاستقبال؛ لأن الفعل المضارع يأتي ماذا؟
المقدم: للحال.
للحال، وأيضًا؟
المقدم: والاستقبال.
والاستقبال، لكن (إذا) تمحِّضه للحال، مفاجأة أمامك. ولا تقع في الابتداء، ومعناه الحال لا الاستقبال، وهي حرف عند الأخفش، واختاره ابن مالك، وظرف مكان عند المبرِّد، واختاره ابن عصفور، وظرف زمان عند الزجاج، واختاره الزمخشري، يعني أئمة في هذا الباب، في الأقوال الثلاثة، وكل قول لإمام، واختاره إمام أيضًا، في بابه، في باب اللغة، حرف عند الأخفش، الأخفش إذا أُطلِق يراد به؟ كم عدد الأخافش؟
المقدم: كثير...
كم؟ ثلاثة عشر، الأخافش ثلاثة عشر، لكن عند الإطلاق يراد به؟
المقدم: أخفش اللغة.
كلهم لغويون، الأخافش كلهم لغويون، كلهم في اللغة، الأخفش إذا أُطلِق يراد به الأوسط، سعيد بن مسعدة، هذا الأوسط، المشهور عند أئمة اللغة، وفيه أكبر، وفيه أصغر، وفيه أخافش عدة.
المقدم: وكلهم يطلق العلماء عليهم اسم الأخفش هكذا بدون تمييز؟
بدون تمييز.
المقدم: لكن طالب العلم...
لا، إذا أريد غير الأوسط قيل: الأخفش فلان، قيل: الأخفش الأكبر، الأصغر، لكن إذا قيل: الأخفش.
المقدم: فالمراد به الأوسط.
فالمراد به الأوسط.
المقدم: وتميز الأخفش الأوسط أوضح من البقية.
لا، هو أشهرهم.
وهي حرف عند الأخفش، واختاره ابن مالك، حرف (إذا) حرف، وظرف مكان عند المبرِّد، واختاره ابن عصفور، وظرف زمان عند الزجَّاج، واختاره الزمخشري، ولكلٍّ وجهه، يعني عند مَن يقول: هي حرف، يقول: هي لا تفيد معنى في نفسها، مَن يقول: ظرف مكان المفاجأة لا بد فيها من مكان تقع فيه المفاجأة، خرجْتُ فإذا زيد يعني في المكان، ومن يقول: هي ظرف زمان أيضًا المفاجأة لا بد أن تكون في زمن.
"عن الإسلام" أي عن شرائع الإسلام، ويحتمل أنه سأل عن حقيقة الإسلام، قاله ابن حجر، وقال الكرماني: أي عن فرائضه التي فُرضَت على من وحَّد الله تعالى، كيف يقول: فرضت على من وحَّد الله تعالى؟ لأنه لم تُذكَر فيه الشهادتان، لَمَّا لَمْ تذكر فيه الشهادتان دل على أن هذه الشرائع وهذه الفرائض إنما هي مفروضة على من وحَّد الله تعالى، وصدَّق رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ ولهذا لما يذكر فيه الشهادتان؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- عَلِم أن الرجل سائل عن شرائع الإسلام.
المقدم: والشهادتان من باب أولى.
هو متلبِّس بهما، ناطق بهما، ويسأل عن الشرائع التي هي الأعمال.
ويمكن أنه سأل عن حقيقة الإسلام، وقد ذُكِرَت له الشهادة فلم يسمعها طلحة لبُعْد موضعه، أو لم ينقله لشهرته.
بعض الأمور التي هي معروفة لا يحتاج أن ينص عليها قد يطويها بعض الرواة، لكن على ألا يتواطأ جميع الرواة على عدم ذكرها، إذا ذُكِرَت في رواية لا يلزم أن تذكر في جميع الروايات للعلم بها، أما أن يتواطأ جميع الرواة على عدم ذكرها ونقول مثل هذا الكلام، ولو كانت معلومة، يعني حينما جاءت أم هانئ إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- وهو يغتسل فقالت: السلام عليك يا رسول الله، فسأل عنها، فقالوا: أم هانئ، فقالت: أنا أم هانئ، فقال: «مرحبًا بأم هانئ» يقول الشراح: لم يَرُد عليها النبي -عليه الصلاة والسلام- السلام بلفظه، وعليك السلام يا أم هانئ، قالوا: لأن الرد معروف، هذا شيء معروف.
المقدم: هو رد في الأصل؟
ما نُقل، يعني قال: «مرحبًا بأم هانئ» فمن يقول: إن مثل هذه الأمور المعروفة لا تحتاج إلى نقل وذكر، بحيث ينقلها الرواة لأنها معروفة، يقول النبي -عليه الصلاة والسلام- رد عليها السلام، لكن لم ينقله الرواة، {وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [سورة النساء 86] يعني أقل الأحوال أن ترد، فهل يغني قولنا: مرحبًا بفلان عن قول: وعليك السلام.
المقدم: ليست مثلها ولا أعلى.
هذا عند من يقول: إن النبي -عليه الصلاة والسلام- رد عليها السلام بلفظه، ولم ينقله الرواة للعلم به، لكن من يقول: إنه لا يمكن أن يتواطأ جميع الرواة على عدم ذكره، بل لا بد أن يذكر ولو في بعض الطرق، فإذا عُرِف تُرك، نعم هو معروف بنصوص أخرى، حتى قال بعضهم: أن قول: مرحبًا تُغْنِي عن رد السلام.
المقدم: بناء على هذا الحديث؟
بناء على هذا الحديث وهو لم يذكر في طريق من طرقه أن النبي -عليه الصلاة والسلام- رد السلام.
نعود إلى حديث الباب يقول: وقد ذكر له الشهادة فلم يسمعها طلحة لبعد موضعه، أو لم ينقله لشهرته، قال العيني: قلت: هذا بعيد، إذ لو كان السؤال عن حقيقة الإسلام لما كان الجواب مطابقًا للسؤال، وفيه نسبة الراوي الصحابي إلى التقصير في إبلاغ كلام الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وقد ندب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى ضبط كلامه وحفظه وإبلاغه مثل ما سمعه منه في حديثه المشهور، أي حديث؟
«نظر الله امرأً...».
المقدم: «سمع مقالتي».
نعم «فوعاها» وماذا؟ «وأداها كما سمعها».
النبي -صلى الله عليه وسلم- ندب إلى ضبط كلامه وحفظه وإبلاغه كما سُمِع، يعني فتح هذا الباب كون الصحابي ما نقله لعلمه، كون الصحابي بعيد عن موضعه، يعني ما يُحتاج إليه من الدين تم نقله بحذافيره، لم تفرط الأمة بأكملها بشيء مما يجب عليها، بل الدين منقول بكماله، ومحفوظ من أن يضيَّع منه شيء، ولا نقول مثل هذا؛ لأن فيه نسبة الراوي إلى التقصير، وهذا يفتح باب، باب لا يمكن إغلاقه، كل من أراد شيئًا قال: ما نقله الصحابي، ما نقله الراوي.
المقدم: للعلم به.
للعلم به، ما يكفي هذا، نقول: لا بد أن ينقل كما سمع، كونه يُترَك لأن واجب التبليغ قد سقط لا مانع، لا يلزم أن يُنقَل كل شيء بجميع..، كل من سمع خبر ينقله، إنما إذا نقله من تقوم به الحجة يكفي، ولا نقول فيما يروى عن الأئمة أن الإمام أحمد يحفظ سبعمائة ألف حديث، والبخاري يحفظ كذا، ومسلم يحفظ كذا، ضاعت الأحاديث، نقول: لا، ما يُحتاج إليه من الدين منقول بكماله، الأمة معصومة من أن تفرِّط بشيء من دينها؛ لأن الدين محفوظ، نعم قد يستغنى عن بعض الطرق، قد يستغنى عن بعض الألفاظ؛ لأن بعضها يقوم مقام بعض، والسلف يسمون الحديث الواحد المروي بطرق كثيرة أحاديث، فبلغت هذه العِدَّة، أيضًا يسمون فتاوى الصحابة وآثار التابعين أحاديث، فبمجموعها تبلغ هذه العدة.
ولم يُذكَر الحج إما لأنه لم يكن فرض بعد، وهذا ظاهر؛ لأن الحج تأخر فرضه إلى سنة تسع على القول المرجح، أو اختصره الراوي.
قال ابن حجر: ويؤيد الثاني ما أخرجه المصنف في الصيام من طريق إسماعيل بن جعفر عن أبي سهيل في هذا الحديث قال: فأخبره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشرائع الإسلام فدخل فيه باقي المفروضات بل والمندوبات.
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «خمس صلوات» بالرفع، على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هي خمس صلوات، أو النصب على تقدير: خذ خمس صلوات، أو هاك، قاله العيني.
قال ابن حجر في رواية إسماعيل بن جعفر المذكورة أنه قال في سؤاله: أخبرني ماذا فرض الله علَيَّ من الصلاة؟ فقال: «الصلوات الخمس» فتبين بهذا متطابقة الجواب للسؤال.
"فقال: هل عَلَيَّ غيرها؟" أي: غير الصلوات الخمس المفروضة "قال: «لا»" أي لا يلزمك أو يجب عليك غيرها.
«إلا أن تطَّوَّع» بتشديد الطاء والواو كليهما، على إدغام إحدى التاءين في الطاء، وأصله تتطوَّع، ويجوز تخفيف الطاء على الحذف لأحد المثلين (تطَوَّع) قال الكرماني: فإن قلت: أي الحرفين نحذف؟ لأن عندنا زائد وأصلي، عندنا تاءين تتطوَّع، يجوز حذف إحداهما فنحذف الزائد أم نحذف الأصلي؟
المقدم: الزائد.
ما رأيكم؟
يقول الكرماني: فإن قلت: أيُّ الحرفين نحذف؟ قلتُ: الأصلية أولى بالإسقاط من العارضة، الزائدة.
المقدم: الأصلية صاحبة المحل يا شيخ.
نرى وجهة نظره، وإن كان الخلاف موجود.
قلت: الأصلية أولى بالإسقاط من العارضة الزائدة؛ لأن الزائدة إنما دخلت لإظهار معنى فلا تُحذَف؛ لئلا يزول الغرَض الذي لأجله دخلَت؛ والخلاف موجود.
والاستثناء في قوله: «إلا أن تطَّوَّع» يجوز أن يكون منقطعًا بمعنى (لكن) ويجوز أن يكون متصلاً، قال العيني: واختارت الشافعية الانقطاع، والمعنى: لكن أستحب لك أن تطَّوَّع، واختارت الحنفية الاتصال، فإنه هو الأصل في الاستثناء، نعم الأصل في الاستثناء الاتصال بأن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه، يعني هل «إلا أن تطوع» المستثنى التطوُّع من جنس ما استثني منه؟ يعني «إلا أن تطوع»...
المقدم: من الصلاة مثلاً.
لا، هم لا يريدون هذا، الخلاف بينهم «إلا أن تطوع» إن قلنا: الاستثناء منقطع بمعنى (لكن) لك أن تطوع، شيء، فلا يكون هناك من التطوعات ما هو واجب، هذا إذا قلنا: الاستثناء منطقع لأن المستثنى ليس من جنس المستثنى منه، وعلى القول بأن (إلا) على بابها، وأن الأصل جاءت متصلة، ويكون المستثنى منه من جنس المستثنى فيكون من التطوعات ما هو واجب، لكن متى؟ إذا شُرِع فيه.
يقول العيني: اختارت الشافعية الانقطاع، والمعنى لكن أستحب لك أن تطوع، واختارت الحنفية الاتصال فإنه هو الأصل في الاستثناء.
يقول ابن حجر: من قال: إنه متصل تمسك بالأصل، ومن قال: إنه منقطع احتاج إلى دليل، يعني كل هذا من أجل ماذا؟ إذا شرع الإنسان في تطوع هل يجوز له أن يتركه؟ يقطعه أم لا؟ أم وجب عليه؟
المقدم: على الرأي الثاني...
على رأي الحنفية يلزمه أن يتم.
المقدم: يلزمه الاستمرار، نعم.
نعم، وعلى قول الشافعية...
المقدم: لا يلزمه.
أن ما عدا الصلوات الخمس افعل ما شئت، المتطوع أمير نفسه.
يقول ابن حجر: من قال: إنه متصل تمسك بالأصل، ومن قال: إنه منقطع احتاج إلى دليل، والدليل عليه ما رواه النسائي وغيره أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان أحيانًا ينوي صوم التطوع ثم يفطر، وفي البخاري أنه أمر جويرية بنت الحارث أن تفطر يوم الجمعة بعد أن شرعت فيه فدل على أن الشروع في العبادة لا يستلزم الإتمام إذا كانت نافلة بهذا النص في الصيام، وبالقياس في الباقي، لكن العيني تعقبه، ابن حجر شافعي يدافع عن مذهبه، والعيني حنفي يدافع عن الحنفية، العيني تعقَّب ابن حجر بقوله: من العجب أن هذا القائل كيف لم يذكر الأحاديث الدالة على استلزام الشروع في العبادة بالإتمام، وعلى القضاء بالإفساد، وقد روى أحمد في مسنده عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: أصبحت أنا وحفصة صائمتين، فأوتيت لنا شاة فأكلنا منها، فدخل علينا النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبرناه، فقال: «صوما يومًا مكانه» أمر بالقضاء، والأمر للوجوب، فدل على أن الشروع ملزِم، ظاهر أم ليس بظاهر؟
المقدم: ظاهر.
دليل الشافعية، وما أورده الحافظ ابن حجر من رواية النسائي وغيره، ودليل الحنفية ما أورده العيني.
أجاب ابن حجر في انتقاض الاعتراض: قلت: حديث عائشة أخرجه -يعني الذي أشار إليه العيني- قلت: حديث عائشة أخرجه مع أحمد الثلاثة، ورجح الترمذي أنه عن الزهري عن عائشة منقطع، والمنقطع يعني ضعيف، لا تقوم به الحجة.
المقدم: الأمر بقضاء اليوم الذي...
نعم.
رجح الترمذي أنه عن الزهري عن عائشة منقطع، ويجوز الجمع يقول ابن حجر: ويحوز الجمع بحمل الأمر إن ثبت الخبر على الندب، بدليل أنه لم يأمر في القصة الأخرى.
ويجوز الجمع بحمل الأمر إن ثبت الخبر على الندب، وإلا فالراجح حديث عائشة وجويرية، يعني ما ذكره من رواية النسائي، وحديث جويرية أن النبي -عليه الصلاة والسلام- أمرها هذا في البخاري، فهو مرجح على ما عند أحمد وغيره.
قال ابن حجر: فإن قيل: يَرِد الحج، قلنا: لا، يعني لا يرد؛ لأنه امتاز عن غيره بلزوم المضي في فاسده فكيف بصحيحه؟! يعني جاء النص بخصوصه {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} [سورة البقرة 196] يقول: امتاز الحج عن غيره بلزوم المضي في فاسده فكيف في صحيحه؟! وكذلك امتاز بلزوم الكفارة في نفله كفرضه، والله أعلم.
ومما يستدل به على لزوم النوافل بالشروع قوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [سورة محمد 33] هل للإنسان إذا شرع في نفل أن يقول: أنا متطوِّع وأمير نفسي أتم أو لا أتم؟ الله -سبحانه وتعالى- يقول: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [سورة محمد 33] نعم إذا وجدت هناك حاجة لا بأس، لكن يكون كالمتلاعب يشرع في النفل ثم يقطع من غير مبرِّر، هذا يدخل في النهي {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [سورة محمد 33].
والحديث دليل على عدم وجوب شيء من الصلوات غير الخمس المفروضة بما في ذلك الوتر وصلاة العيد، وأوجبهما الحنفية، وسيأتي الكلام فيهما مبسوطًا في موضعه -إن شاء الله تعالى-.
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «وصيام رمضان» أي يجب عليك صيام شهر رمضان "قال: هل عَلَيَّ غيره؟" أي: مما يجب صيامه "قال: «لا»" أي لا يجب عليك غيره «إلا أن تطَّوَّع» كسابقه، أي شيئًا من نوافل الصوم زيادة في الحسنات، فالتطوع مستحب لك، وتقدم ما يتعلق بارتباط الصيام بالإيمان، وسيأتي ذكر أحكامه مفصلة -إن شاء الله تعالى- في موضعها.
قال الراوي طلحة بن عبيد الله: "وذكر له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الزكاة" قال ابن حجر: في رواية إسماعيل بن جعفر قال: أخبرني بما فرض الله عَلَيَّ من الزكاة، قال: فأخبره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشرائع الإسلام فتضمنت هذه الرواية أن في القصة أشياء أُجملت، منها: بيان نصب الزكاة، فإنها لم تفسر في الروايتين، وكذا أسماء الصلوات، وكأن السبب شهرة ذلك عندهم، أو القصد من القصة بيان أن المتمسك بالفرائض ناجٍ وإن لم يفعل النوافل، يعني: القصة إنما سيقت لبيان حال أي نوع من أنواع المسلمين؟ السابق أو المقتصِد أو الظالم لنفسه؟
المقدم: المقتصِد.
المقتصِد، إنما سيق مثل هذا الخبر لبيان حال المقتصِد، القصد من القصة بيان أن المتمسك بالفرائض ناجٍ وإن لم يفعل النوافل.
قال الراوي: "فأدبر الرجل" من الإدبار، أي تولى "وهو يقول" حال كونه يقول "والله لا أزيد" على الفرائض مما ذكر "ولا أنقص منها شيئًا" أي: قبلت كلامك قبولاً لا مزيد عليه ولا نقصان.
قال القسطلاني: أو لا أزيد على ما سمعت ولا أنقص منه عند التبليغ، يعني حينما أنقل الخبر إلى غيري، إلى قومي الذين وفدت لأتعلم كي أعلمهم لا أزيد فيه ولا أنقص.
يقول القسطلاني: أو لا أزيد على ما سمعت ولا أنقص منه عند الإبلاغ؛ لأنه كان وافد قومه ليتعلم ويعلمهم، لكن يعكِّر عليه رواية إسماعيل بن جعفر حيث قال: "لا أتطوع شيئًا، ولا أنقص مما فرض الله عَلَيَّ شيئًا" أو المراد لا أغير صفة الفرض، لا أزيد ولا أنقص من هذه الفرائض، لا أزيد في صلاة الظهر ولا أنقص من صلاة المغرب مثلاً، أو لا أنقص من الظهر ولا أزيد في المغرب، أو المراد لا أغير صفة الفرض كمن ينقص الظهر مثلاً ركعة أو يزيد المغرب.
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أفلح» يعني الرجل «إن صدق» في كلامه، يعني والتزامه، يعني إن صَدَق وصَدَّق قوله بفعله، بحيث لا يزيد على ما افترض الله عليه ولا ينقص، واستشكل كونه أثبت له الفلاح بمجرد ما ذُكر، وهو لم يذكر له جميع الواجبات ولا المنهيات ولا المندوبات، وأجيب بأنه داخل في عموم قوله في حديث إسماعيل بن جعفر المروي عند المؤلف في الصيام بلفظ: "فأخبره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشرائع الإسلام".
قال القسطلاني: فإن قلت: أما فلاحه بأنه لا ينقص فواضح، وإنما بأن لا يزيد فكيف يصح؟! أجاب النووي: بأنه أثبت له الفلاح لأنه أتى بما عليه، وليس فيه أنه إذا أتى بزائد على ذلك لا يكون مفلحًا؛ لأنه إذا أفلح بالواجب ففلاحه بالمندوب مع الواجب أولى، لا شك أن القدر الزائد على الواجب أولى بالفلاح.
وقع عند مسلم من رواية إسماعيل بن جعفر: «أفلح وأبيه إن صدق» أو «دخل الجنة وأبيه إن صدق» فإن قيل: ما الجامع بين هذا وبين النهي عن الحلف بالآباء؟ أجيب بأن ذلك كان قبل النهي، وهذا أولى ما يقال، كان الحلف قبل النهي، أو أنها كلمة جارية على اللسان لا يُقصَد بها الحلف، كما جرى على لسانهم: عقرى حلقى، وما أشبه ذلك: تربت يمينك، تربت يداك، لا يريدون بها حقيقة الدعاء، لكن هذا فيه ما فيه، يعني لو قلنا: إنها كلمة تجري على اللسان ما آخذنا أحد.
المقدم: لو أريد به بعض المجتمعات التي تحلف بالنبي الآن وهي لا تريد به الحلف.
نعم، لا تريده، «من حلف بغير الله فقد أشرك» سواء قصد أو لم يقصد.
وفيه إضمار اسم الرب، أو فيه إضمار اسم الرب كأنه قال: «أفلح ورب أبيه».
وقيل: هو خاص ويحتاج إلى دليل، خاص بمَن؟
المقدم: بالنبي -صلى الله عليه وسلم-.
بالنبي -عليه الصلاة والسلام-؛ لأنه لا يُتصوَّر أن يعظم النبي -عليه الصلاة والسلام- الأب مثل تعظيم الله -عز وجل-، بخلاف غيره، لكن التخصيص يحتاج إلى دليل.
مع أن سلوك مثل هذا الطريق يعني إذا تعارض قوله -عليه الصلاة والسلام- مع فعله دائمًا يلجأ كثير من أهل العلم إلى أن هذا الفعل خاص بالنبي -عليه الصلاة والسلام-، نقول: إذا كان هذا الفعل الذي فعله النبي -عليه الصلاة والسلام- غيره أكمل منه فالنبي -عليه الصلاة والسلام- أولى بالكمال، يعني كون النبي -عليه الصلاة والسلام- نقول: خاص به أن يحلف بغير الله، والأمة منهية عن أن تحلف بغير الله، أيهما أولى بالكمال؟
المقدم: ألا يحلف.
ألا يحلف بغير الله -عز وجل-، النبي -عليه الصلاة والسلام- أولى بهذا الكمال، وهو أعلم الأمة وأتقاهم وأخشاهم وأعرفهم بربه.
وحكى السهيلي عن بعض مشايخه أنه تصحيف، وإنما كان "والله" فقصرت اللامان، هذا وارد.
المقدم: يعني...
وارد.
المقدم: ممكن؟
لا، ممكن، صورة "وأبيه" قريبة من صورة "والله" فقصرت اللامان.
واستنكر القرطبي هذا، وأنه يخرم الثقة بالروايات الصحيحة، ابن حجر أشار إلى أنه وقَف على بعض الروايات المصحَّحة الموثَّقة من صحيح مسلم، وفيها: «والله» بدل «وأبيه».
حكى السهيلي عن بعض مشايخه أنه تصحيف، وإنما كان "والله" فقصرت اللامان، استنكر القرطبي هذا وقال: إنه يخرم الثقة بالروايات الصحيحة.
على كل حال إذا قلنا: إنه قبل النهي فلا إشكال، وغفل القرافي فادعى أن الرواية بلفظ: «وأبيه» لم تصح؛ لأنها ليست في الموطأ، والحديث من رواية مالك، وكأنه لم يرتضِ الجواب الذي تقدم، فعدَل إلى رد الخبر، وهو صحيح لا مِرْيَة فيه؛ لأنه في صحيح مسلم، على كل حال أقوى الأجوبة وأوفقها الجواب الأول أنه كان قبل النهي.
المقدم: جزاكم الله خيرًا وأحسن إليكم ونفع بعلمكم.
أيها الإخوة والأخوات بهذا نصل وإياكم إلى ختام هذه الحلقة من برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح. نلقاكم -بإذن الله تعالى- في حلقة قادمة لاستكمال ما تبقى من هذا الحديث. حتى ذلكم الحين أترككم في رعاية الله وحفظه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.