التعليق على تفسير القرطبي - سورة الفرقان (05)

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

قال الإمام القرطبي -رحمه الله- تعالى-:

قوله تعالى: {لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} [سورة الفرقان:49].

قوله تعالى: {لِنُحْيِيَ بِهِ} أي بالمطر، {بَلْدَةً مَّيْتًا} بالجدوبة والمحل وعدم النبات، قال كعب: المطر روح الأرض يحييها الله به. وقال: {مَّيْتًا} ولم يقل ميتة؛ لأن معنى البلدة والبلد واحد، قاله الزجاج، وقيل: أراد بالبلد المكان."

البلدة، المراد البلدة، وقيل: أراد بالبلدة المذكورة في الآية المكان، وإلا لو كان المراد البلد ما احتاج إلى تأويل.

"وقيل: أراد بالبلدة المكان، {وَنُسْقِيَهُ} قراءة العامة بضم النون، وقرأ عمر بن الخطاب وعاصم والأعمش فيما روى المفصل".

المفضل.

فيما روى المفضل عنهما نَسقيه (بفتح) النون."

نُسقيه من أسقى الرباعي، ونَسقيه من الثلاثي.

"{مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} أي بشرًا كثيرًا، وأناسي واحده إنسي، نحو جمع القرقور قراقير وقراقر في قول الأخفش والمبرد وأحد قولي الفراء، وله قول آخر: وهو أن يكون واحده إنسانًا ثم تبدل من النون ياء فتقول: أناسي، والأصل أناسين، مثل سرحان وسراحين وبستان وبساتين، فجعلوا الياء عوضًا من النون، وعلى هذا يجوز سراحي وبساتي لا فرق بينهما."

يعني مثل أناسي، ما دام جاز إبدال النون بالياء في أناسي يجوز أن يبدل ما كان على زنته كالبساتين والسراحين.

"قال الفراء: ويجوز (أناسي) بتخفيف الياء التي فيما بين لام الفعل وعينه مثل: قراقير وقراقر."

يعني بياء وبدونها، مثل مفاتح ومفاتيح، ومساند ومسانيد، ومراسل ومراسيل .. الخ.

"وقال: {كَثِيرًا} ولم يقل كثيرين؛ لأن فعيلًا قد يراد به الكثرة، نحو {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [سورة النساء:69].

 قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ} [سورة الفرقان:50] يعني القرآن، وقد جرى ذكره في أول السورة. قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} [سورة الفرقان:1]، وقوله: {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي} [سورة الفرقان:29] وقوله: {اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [سورة الفرقان:30]."

ضمير {صَرَّفْنَاهُ} إما أن يعود إلى القرآن، وقد مرّ ذكره مرارًا، أو يعود إلى المطر الذي هو أقرب مذكور، وكأن هذا أقرب إلى الفهم باعتبار أنه أقرب المذكور، أقرب من القرآن والسياق فيه.

"{لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} أي جحودا له وتكذيبًا به. وقيل: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ} هو المطر، روي عن ابن عباس وابن مسعود: وأنه ليس عام بأكثر مطرًا من عام، ولكن الله يصرفه حيث يشاء، فما زيد لبعضٍ نقص من غيرهم، فهذا معنى التصريف، وقيل: {صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ} وابلًا وطشًّا وطلًا ورهامًا، قال الجوهري: الرهام الأمطار اللينة ورذاذًا، وقيل: تصريفه تنويع الانتفاع به في الشرب والسقي والزراعات به والطهارات وسقي البساتين والغسل وشبهه.

{لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ}"

أما الضمير فعوده إلى المطر أظهر، وتصريفه بمعنى توزيعه بين الناس، توزيعه بين الناس حسب ما تقتضيه الحكمة الإلهية، فقد يعطى أناس ويحرم أناس آخرون، يعطى الكفار ابتلاء وامتحان، ويحرم المسلمون عقوبةً لهم على ما اقترفوه واجترحوه من السيئات والذنوب والمعاصي، -نسأل الله العافية-.

"{لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} قال عكرمة: هو قولهم في الأنواء: مطرنا بنوء كذا، قال النحاس: ولا نعلم بين أهل التفسير اختلافًا أن الكفر هاهنا قولهم: مُطِرنا بنوء كذا وكذا، وأن نظيره فعل النجم كذا، وأن كل من نسب إليه فعلًا فهو كافر، وروى الربيع بن صبيح قال: مطر الناس على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة، فلما أصبح قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أصبح الناس فيها رجلين، شاكر وكافر، فأما الشاكر فيحمد الله تعالى على سقياه وغياثه، وأما الكافر فيقول: مطرنا بنوء كذا وكذا»، وهذا متفق على صحته بمعناه، وسيأتي في الواقعة -إن شاء الله-.

ورُوي من حديث ابن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «ما من سنة بأمطر من أخرى، ولكن إذا عمل قوم بالمعاصي صرف الله ذلك إلى غيرهم، فإذا عصوا جميعًا صرف الله ذلك إلى الفيافي والبحار»، وقيل: التصريف راجع إلى الريح.."

مخرج؟

طالب: قال: ذكره المصنف مرفوعًا تبعًا للبغوي حيث ذكره في تفسيره بدون إسناد عن ابن مسعود، وعزاه ابن عباس من قوله وهو الصواب، وقد أسنده الطبري والحاكم عن ابن عباس موقوفًا وصححه ووافقه الذهبي، وهو على شرطهما، وأسنده الطبري عن ابن مسعود موقوفًا وهو الصواب، وقد عزاه ابن كثير في تفسيره إلى ابن مسعود وابن عباس موقوفًا.

يعني وقفه أشبه إما على ابن عباس أو ابن مسعود.

"وقيل: التصريف راجع إلى الريح، وقد مضى في البقرة بيانه، وقرأ حمزة والكسائي: {ليَذْكروا} مخفقة الذال من الذكر، والباقون مثقلًا من التذكر، أي ليذكروا نعم الله، ويعلموا أن من أنعم بها لا يجوز الإشراك به، فالتذكر قريب من الذكر غير أن التذكر يطلق فيما بَعُد عن القلب، فيحتاج إلى تكلف في التذكر.

 قوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا} [سورة الفرقان:51] أي رسولًا ينذرهم، كما قسمنا المطر ليخف عليك أعباء النبوة، ولكن لم نفعل، بل جعلناك نذيرًا للكل؛ لترتفع درجتك، فاشكر نعمة الله عليك.

{فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} [سورة الفرقان:52] أي فيما يدعونك إليه من اتباع آلهتهم، {وَجَاهِدْهُم بِهِ} [سورة الفرقان:52] قال ابن عباس: بالقرآن، وقال ابن زيد: بالإسلام، وقيل: بالسيف وهذا فيه بُعْد؛ لأن السورة مكية نزلت قبل الأمر بالقتال.

{جِهَادًا كَبِيرًا} لا يخالطه فتور."

فالمراد بالجهاد هنا جهاد اللسان، جهاد الكلمة.

"قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} [سورة الفرقان:53] عاد الكلام إلى ذكر النعم، و{مَرَجَ} خلّى وخلط وأرسل، قال مجاهد: أرسلهما وأفاض أحدها في الآخر، وقال ابن عرفة: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} أي خلطهما فهما يلتقيان، يقال: مرجته إذا خلطتُه".

خلطتَه.

خلطتَه، ومرَج ومرِج الدين .."

يعني على الضبطين.

"ومرِج الدين والأمر اختلط واضطرب، ومنه قوله تعالى: {فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ} [سورة ق:5] ومنه قوله -عليه الصلاة والسلام- لعبد الله بن عمرو بن العاص: «إذا رأيت الناس مرجت عهودهم، وخفت أماناتهم، وكانوا هكذا وهكذا»، وشبَّك بين أصابعه، فقلت له: كيف أصنع عند ذلك، جعلني الله فداك؟ قال: «إلزم بيتك، واملك عليك لسانك، وخذ بما تعرف ودع ما تنكر، وعليك بخاصة أمر نفسك، ودع عنك أمر العامة»، خرجه النسائي وأبو داود وغيرهما."

في الحديث الآخر بمعناه: «إذا رأيت شحًّا مطاعًا، وهوىً متبعًا، ودنيا مؤثَرة، فعليك بخويصة نفسك، ودع عنك أمر العامة».

"وقال الأزهري: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} [سورة الفرقان:53] خلى بينهما، يقال: مَرجتَ الدابة إذا خليتها ترعى"

مرجْتُ الدابة.

" يُقال: مَرَجْتُ الدابة إذا خليتها ترعى، وقال ثعلب: المرج الإجراء، فقوله: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} أي أجراهما، وقال الأخفش: يقول قوم: أمرج البحرين مثل مرج فعل وأفعل بمعنى. {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ} [سورة الفرقان:53] أي حلو شديد العذوبة، {وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} أي فيه ملوحة ومرارة، وروي عن طلحة أنه قرأ: {وهذا مَلِح} بفتح الميم وكسر اللام، {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا} أي حاجزًا من قدرته لا يغلب أحدهما على صاحبه."

مَلِح صيغة مبالغة مثل حذر، يعني شديد الملوحة، بالغ الملوحة.

"كما قال في سورة الرحمن {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ} [سورة الرحمن:19-20].

{وَحِجْرًا مَّحْجُورًا} أي سترًا مستورًا يمنع أحدهما من الاختلاط بالآخر، فالبرزخ الحاجز والحجر المانع.

وقال الحسن: يعني بحر فارس وبحر الروم، وقال ابن عباس وابن جبير: يعني بحر السماء وبحر الأرض.

قال ابن عباس: يلتقيان في كل عام وبينهما برزخ قضاء من قضائه، {وَحِجْرًا مَّحْجُورًا} حرامًا محرمًا أن يعذب هذا الملح بالعذب أو يملح هذا العذب بالملح."

طالب: يلتقيان أين؟ بحر فارس والروم؟

التي تصب الحلو، الماء الحلو من الأنهار والمالح، ولا يختلط هذا ولا هذا، جعل بينهما حاجزًا.

"قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} [سورة الفرقان:54].

فيه مسألتان:

الأولى: قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَرًا} أي خلق من النطفة إنسانًا، {فَجَعَلَهُ} أي جعل الإنسان {نَسَبًا وَصِهْرًا}، وقيل: {مِنَ الْمَاء} إشارة إلى أصل الخلقة في أن كل حي مخلوق من الماء، وفي هذا الآية تعديد النعمة على الناس في إيجادهم بعد العدم والتنبيه على العبرة في ذلك.

الثانية: قوله تعالى: {فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} النسب والصهر معنيان يعمان كل قربى تكون بين آدميين، قال ابن العربي: النسب عبارة عن خلط الماء بين الذكر والأنثى على وجه الشرع، فإن كان بمعصية كان خلقًا مطلقًا ولم يكن نسبًا محققًا، ولذلك لم يدخل تحت قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [سورة النساء:23] بنته من الزنا؛ لأنها ليست ببنتٍ له في أصح القولين لعلمائنا، وأصح القولين في الدين، وإذا لم يكن نسب شرعًا فلا صهر شرعًا، فلا يحرم الزنا بنت أم، ولا أم بنت، وما يحرم من الحلال لا يحرم من الحرام؛ لأن الله امتنَّ بالنسب والصهر على عباده."

لأنها ليست ببنتٍ في أصح القولين لعلمائنا، هي ليست ببنت من حيث الحكم الشرعي، فلا تنسب إليه؛ لأن الولد للفراش، وليست للزاني، فليست ببنتٍ له اتفاقًا، أما قوله: في أصح القولين لعلمائنا: فيما يترتب على ذلك من كونه ليست بنتًا له أنه يجوز له أن يتزوجها، والقول الثاني: أنه لا يجوز أن يتزوجها؛ لأنها خلقت من مائه وإن لم تثبت نسبتها إليه، ولعل هذا أحوط.

"لأن الله امتنَّ بالنسب والصهر على عباده ورفع قدرهما، وعلق الأحكام في الحل والحرمة عليهما، فلا يلحق الباطل بهما ولا يساويهما.

قلت: اختلف الفقهاء في نكاح الرجل ابنته من زنا، أو أخته أو بنت ابنه من زنا، فحرم ذلك قوم منهم ابن القاسم، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، وأجاز ذلك آخرون منهم: عبد الملك بن الماجشون، وهو قول الشافعي، وقد مضى هذا في النساء مجودًا.

قال الفراء: النسب الذي لا يحل نكاحه، والصهر الذي يحل نكاحه، وقال الزجاج: وهو قول علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، واشتقاق الصهر من صهرت الشيء إذا خلطته، فكل واحد من الصهرين قد خالط صاحبه، فسميت المناكح صهرًا؛ لاختلاط الناس بها، وقيل: الصهر قرابة النكاح فقرابة الزوجة هم الأَختان، وقرابة الزوج هم الأحماء، والأصهار يقع عامًّا لذلك كله قاله الأصمعي.

وقال ابن الأعرابي: الأَختان أبو المرأة وأخوها وعمها -كما قال الأصمعي-، والصهر زوج ابنة الرجل وأخوه وأبوه وعمه، وقال محمد بن الحسن في رواية أبي سليمان الجوزجاني: أَختان الرجل أزواج بناته وأخواته وعماته وخالاته وكل ذات محرم منه، وأصهاره كل ذي رحم محرم من زوجته، قال النحاس: الأولى في هذا أن يكون القول في الأصهار ما قال الأصمعي، وأن يكون من قبلهما جميعًا يقال: صهرت الشيء: إذا خلطته".

أي، أي.

"يقال: صهرت الشيء: أي خلطته، فكل واحد منهما قد خلط صاحبه، والأولى في الأختان ما قال محمد بن الحسن؛ لجهتين: إحداهما الحديث المرفوع روى محمد بن إسحاق عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن محمد بن أسامة بن زيد عن أبيه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أما أنت يا علي فختني وأبو ولدي وأنت مني وأنا منك»، فهذا على أن زوج البنت ختن، والجهة الأخرى أن اشتقاق الختن من ختنه إذا قطعه وكأن الزوج قد انقطع عن أهله وقطع زوجته عن أهلها.

 وقال الضحاك: الصهر قرابة الرضاع، قال ابن عطية: وذلك عندي وهمٌ أوجبه أن ابن عباس قال: حرم من النسب سبع، ومن الصهر خمس، وفي رواية أخرى: من الصهر سبع، يريد قوله -عز وجل-: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ} [سورة النساء:23]، فهذا هو النسب، ثم يريد بالصهر قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [سورة النساء:23] إلى قوله: {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [سورة النساء:23]، ثم ذكر المحصنات، ومحمل هذا أن ابن عباس أراد حرم من الصهر ما ذكر معه، فقد أشار بما ذكر إلى عظمه وهو الصهر، لا أن الرضاع صهر، وإنما الرضاع عديل النسب، يحرم منه ما يحرم من النسب بحكم الحديث المأثور فيه.

ومن روى: وحرم من الصهر خمس أسقط من الآيتين الجمع بين الأختين والمحصنات وهن ذات الأزواج".

ذوات.

"أسقط من الآيتين الجمع بين الأختين والمحصنات وهن ذوات الأزواج.

قلت: فابن عطية جعل الرضاع مع ما تقدم نسبًا، وهو قول الزجاج، قال أبو إسحاق: النسب الذي ليس بصهر من قوله -جل ثناؤه-: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} إلى قوله: {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ}، والصهر من له التزويج، قال ابن عطية: وحكى الزهراوي قولًا: أن النسب من جهة البنين والصهر من جهة البنات.

قلت: وذكر هذا القول النحاس، وقال: لأن المصاهرة من جهتين تكون. وقال ابن سيرين: نزلت هذه الآية في النبي -صلى الله عليه وسلم- وعلي -رضي الله عنه-؛ لأنه جمعه معه نسب وصهر، قال ابن عطية: فاجتماعهما وكادة حرمة إلى يوم القيامة.

{وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} [سورة الفرقان:54] على خلق ما يريده."

وكادة يعني الحرمة في هذا متأكدة، كمن يتزوج القريبة فهذا يجتمع فيه النسب والمصاهرة، وأيضًا العم الصهر، والخال الصهر يتأكد حقه أكثر من حق العم غير الصهر والخال غير الصهر، فكلما اجتمع في الشخص سببان أو ثلاثة كان حقه آكدًا بقدر ما يجتمع له، فالعم المجرد له حق العمومة، وعمّ الرجل صنو أبيه، يعني مثل أبيه، لكن إذا كان مع ذلك صهرًا كان له أيضًا من الحق أعظم من الآخر، وإن كان ممن يودّ ويحبّ في الله -جل وعلا- وسائر العمومة لا يشتركون معه في هذا الوصف ازداد حقه.

طالب: الأصهار من الزوجة هل يدخلون في الحث على صلة الرحم؟

أبو الزوجة؟ هو بقدر ما يحقق الهدف الشرعي من النكاح ومن المودة والتآلف والمحبة يطلب ذلك وإلا لا يجب له من الصلة ما يجب لذوي الأرحام، وأيضًا صلة الأصهار بالنسبة للأولاد- أولاد الرجل- الذين هم ليسوا بأخواله ولا أعمامه بأن يكونوا أصهارًا له من زوجةٍ أخرى مثلًا، إنما صلتهم بقدر ما يؤدي الغرض في برّ أبيهم، يعني مثلًا زوجة الأب ليس لها حق على أولاده إلا من جهة أن صلتها برّ بالوالد، من حق الوالد وإلا فالأصل أن ليس لها حقًّا، وأهلها كذلك إذا كانت صلتهم من قبل الأولاد مما يسرّ الوالد كان ذلك من برّه.

"قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ} [سورة الفرقان:55] لما عدَّد النعم، وبيَّن كمال قدرته، عجب من المشركين في إشراكهم به من لا يقدر على نفع ولا ضر، أي إن الله هو الذي خلق ما ذكره، ثم هؤلاء لجهلهم يعبدون من دونه أمواتًا جمادات لا تنفع ولا تضر.

{وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} [سورة الفرقان:55] رُوي عن ابن عباس {الْكَافِرُ} هنا أبو جهل لعنه الله، وشرحه أنه يستظهر بعبادة الأوثان على أوليائه، وقال عكرمة: الكافر إبليس ظهر على عداوة ربه. وقال مطرف: {الْكَافِرُ} هنا الشيطان، وقال الحسن: {ظَهِيرًا} أي معينًا للشيطان على المعاصي. وقيل: المعنى وكان الكافر على ربه هيِّنًا ذليلًا لا قدر له ولا وزن عنده، من قول العرب: ظهرت به: أي جعلته خلف ظهرك ولم تلتفت إليه، ومنه قوله تعالى: {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ظِهْرِيًّا} [سورة هود:92] أي هينًا، ومنه قول الفرزدق:

تميم بن قيس لا تكونن حاجتي

بظهر فلا يعيا عليَّ جوابها"

يعني وراء ظهرك؛ لزهدك فيه، وأما الشيء الذي ترغب فيه فأنت تقبل عليه بوجهك، ولا توليه ظهرك.

"تميم بن قيس لا تكونن حاجتي

بظهر فلا يعيا عليَّ جوابها

هذا معنى قول أبو عبيدة، وظهير: بمعنى مظهور: أي كفر الكافرين هيِّن على الله تعالى، والله مستهين به؛ لأن كفره لا يضره، وقيل: وكان الكافر على ربه الذي يعبده وهو الصنم قويًّا غالبًا يعمل به ما يشاء؛ لأن الجماد لا قدرة له على دفع ضر ونفع.

طالب: الراجح في الآية؟ {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا}؟

{وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} يظهر -والله أعلم- أن المراد الجنس، كل كافر بهذه الصفة.

طالب: ما معنى ظهيرًا؟

جاء الكلام، إن كان المراد بالرب هو الله -جل وعلا-، فالرب- جلَّ وعلا-؛ لأن ظهير فعيل، تأتي بمعنى فاعل وتأتي بمعنى مفعول، يعني ظاهر قادر أو مظهور مقدور عليه، فإن كان المراد به الآلهة الكفار فهي مقدور عليها، مظهور عليها، لا قدرة لها -مغلوبة- بخلاف إذا قلنا: إن المراد به ظاهر: اسم فاعل: يعني أن الله قادر عليهم.

طالب: معنى المظهور عليه؟

يعني المقدور عليه.

طالب: هل تحتاج أن تتعدى، تتعدي بعلى؟

المقصود مقدور عليهم، المعنى واحد.

طالب: في بعض المساجد تكون هناك دواليب خلف المصلي فيها مصاحف؟

والمصاحف على الجهة الثانية؟ يعني الذي على ظهر المصلي تكأة مثل هذه، والمصاحف في ظهرها -من خلفها-؟ والله لا ينبغي هذا، لا ينبغي؛ لأنها بالفعل مولّاة، مولّاة الظهر، لكن إذا كبر الحاجز وصار واسعًا يخف الأمر، إن كان الحاجز بينهما واسعًا، لكن إذا كان مجرد طبقة رقيقة فالأولى تركها، أليس الآن يضعون الكراسي التي يستندون عليها هذه، الجدار الذي يستندون عليه، يضعون في خلفه مصاحف من أجل الذي في الصف الثاني، أليس هذا المقصود؟ فإن كان الحاجز كبير ًا يخف الأمر، وإلا فالمنع متجه.

"قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [سورة الفرقان:56] يريد بالجنة مبشرًا ونذيرًا من النار، وما أرسلناك وكيلًا ولا مسيطرًا. {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْر} يريد على ما جئتكم به من القرآن والوحي، و{من} للتأكيد، {إِلَّا مَن شَاء} لكن من شاء، فهو استثناء منقطع، والمعنى: لكن من شاء {أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} بإنفاقه من ماله في سبيل الله فلينفق، ويجوز أن يكون متصلًا ويقدر حذف المضاف، التقدير: إلا أجر من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلًا، باتباع ديني حتى ينال كرامة الدنيا والآخرة.

قوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} [سورة الفرقان:58] تقدم معنى التوكل في آل عمران، وهذه السورة، وأنه اعتماد القلب على الله تعالى في كل الأمور، وأن الأسباب وسائط أُمِر بها من غير اعتماد عليها."

مثل التوكيل، كون الإنسان يوكل أحدًا ينوب عنه، لكنه لا يعني أنه يتوكل عليه، يجعله سببًا في تحقيق مراده والتوكل على الله -جل وعلا- هو الذي يحقق المطلوب، وأما الوكيل فهو مجرد سبب، وسيلة وواسطة بين موكله وبين غيره؛ لتحقيق المطلوب، كثير من الناس يقول- جاء مناسبة لهذه الكلمة- يقول: وكّل الله، المفروض أنه يقول: توكّل على الله، وأما التوكيل فهو للواسطة، السبب الذي يتحقق على يديه الأمر -إن شاء الله- يعني إذا أراد الله ذلك.

طالب: يُنهى عن هذه اللفظة؟

وكّل الله، نعم، على جهة التوسع في اللفظ، فإذا أردنا أن الله -جل وعلا- من أسمائه الوكيل، فكونه وكيلًا لا يعني أنه سبب أو يتوصل به إلى قضاء الحوائج، هو الذي يقضي الحوائج، وليس كالوكيل من البشر، كأن مقصود قولهم: وكّل الله، يعني توكّل عليه أو فوّض أمرك إليه، أو اتخذه وكيلًا فلا مانع -إن شاء الله تعالى-، لكن لا على معنى الوكيل من البشر الذي هو مجرد سبب قد يتحقق الأمر على يديه أو لا.

طالب: الغالب أنه يقصد: اتخذه وكيلًا، فوّض الأمر إليه ...

من هذه الحيثية لا بأس.

"{وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} أي نزِّه الله تعالى عما يصفه هؤلاء الكفار به من الشركاء، والتسبيح: التنزيه، وقد تقدم. وقيل: {وَسَبِّحْ} أي وصلِّ له، وتسمى الصلاة تسبيحًا."

الصلاة تسبيح، والنافلة سبحة.

"{وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} أي عليمًا فيجازيهم بها.

قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [سورة الفرقان:59] تقدم في الأعراف، و{الَّذِي} في موضع خفضٍ نعتًا للحي، وقال: {بَيْنَهُمَا} ولم يقل بينهن؛ لأنه أراد الصنفين والنوعين والشيئين، كقول القطامي:

ألم يحزنك أن حبال قيس

وتغلب قد تباينتا انقطاعًا

أراد: وحبال تغلب فثنَّى، والحبال جمع؛ لأنه أراد الشيئين والنوعين."

نعم إذا عاد الضمير إلى فريقين ولو تعدد أفراد الفريقين فإنه يعود إليهما بالتثنية، ولو تعدد الأفراد، { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [سورة الحجرات:9]، فعود الضمير بالجمع بناءً على تعدد الأفراد وعوده بالتثنية بناءً على الطائفتين.

"{الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} قال الزجاج: المعنى فاسأل عنه، وقد حكى هذا جماعة من أهل اللغة: أن الباء تكون بمعنى عن، كما قال تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [سورة المعارج:1] وقال الشاعر:

هلا سألت الخيل يا ابنة مالك

إن كنت جاهلة بما لم تعلمي

وقال علقمة بن عبدة:

فإن تسألوني بالنساء فإنني

خبير بأدواء النساء طبيب

أي: عن النساء وعما لم تعلمي، وأنكره علي بن سليمان وقال: أهل النظر ينكرون أن تكون الباء بمعنى عن؛ لأن في هذا إفسادًا لمعاني قول العرب: لو لقيت فلانًا للقيك به الأسد: أي للقيك بلقائك إياه الأسد، المعنى فاسأل بسؤالك إياه خبيرًا، وكذلك قال ابن جبير: الخبير هو الله تعالى، فـ {خَبِيرًا} نصْب على المفعول به بالسؤال.

قلت: قول الزجاج يخرَّج على وجه حسن، وهو أن يكون الخبير غير الله، أي فاسأل عنه خبيرًا: أي عالمًا به أي: بصفاته وأسمائه، وقيل: المعنى فاسأل له خبيرًا، فهو نصب على الحال من الهاء المضمرة.

قال المهدوي: ولا يحسن حالًا؛ إذ لا يخلو أن تكون الحال من السائل أو المسؤول، ولا يصح كونها حالًا من الفاعل؛ لأن الخبير لا يحتاج أن يسأل غيره، ولا يكون من المفعول؛ لأنه المسؤول عنه، وهو الرحمن خبير أبدًا، والحال في أغلب الأمر يتغير وينتقل إلا أن يحمل على أنها حال مؤكدة، مثل: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا} [سورة البقرة:91] فيجوز.

وأما {الرَّحْمَنُ} ففي رفعه ثلاثة أوجه: يكون بدلًا من المضمر الذي في {استوى} ويجوز أن يكون مرفوعًا بمعنى: هو الرحمن، ويجوز أن يكون مرفوعًا بالابتداء، وخبره {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} ويجوز الخفض بمعنى: وتوكل على الحي الذي لا يموت الرحمن، يكون نعتًا، ويجوز النصب على المدح.

قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ} [سورة الفرقان:60] أي الله تعالى، {قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} على جهة الإنكار والتعجب، أي: ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة، يعنون مسيلمة الكذاب، وزعم القاضي أبو بكر بن العربي أنهم إنما جهلوا الصفة لا الموصوف، واستدل على ذلك بقوله: {وَمَا الرَّحْمَنُ} ولم يقولوا: ومن الرحمن؟ قال ابن الحصار: وكأنه- رحمه الله- لم يقرأ الآية الأخرى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [سورة الرعد:30]."

على مقتضى كلام ابن العربي -رحمه الله- أنهم يقرّون بالرحمن باعتبار أنه الإله الخالق المدبر؛ لكن لا يعترفون بهذه الصفة التي هي صفة الرحمة، لكن قوله -جل وعلا-: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} يرد قولهم.

طالب: أليست السورة مكية؟

بلى.

 طيب كيف يفسرونها بمسيلمة وهو لم يأتِ بعدُ؟

{قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} أي ما نعرف الرحمن إلا رحمان اليمامة -يعنون مسيلمة- ومسيلمة لم يأتِ بعد، يعني هذا قبل مسيلمة؛ لأن السورة مكية، على كل حال هذا الاسم ينكرونه؛ لأنهم تصوروه على معنى تعدد الآلهة فالرحمن غير الرب -جل وعلا-، ولذا قال الله -جل وعلا-: {قُلِ ادْعُواْ اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} [سورة الإسراء:110] وهذا من أسمائه الحسنى، ولجهلهم وكفرهم ما يستوعبون مثل هذه الأمور.

فعلى كلٍّ كون المفسر وغيره أيضًا يقولون: إنهم يقولون: إنهم ما يعرفون إلا رحمان اليمامة، هذا قالوه فيما بعد حينما وجد مسيلمة الكذاب -لعنه الله وقاتله- لما وجد بعد السورة بأزمانٍ متطاولة قالوا: ما نعرف إلا رحمان اليمامة، هم يشبهونه بالرب -جل وعلا-؛ مع أن جمعًا من أتباعه يعرفون كذبه، يعرفون أنه كذاب، ويعترفون بذلك، وينطقون به، ويقولون: كذاب اليمامة خير من صادق مضر، مع أن هذا كذاب وهذا صادق، لكنه التعصب المقيت، هذا شؤم التعصب يعمي القلب ويصمه، فلا ينطق بحق -نسأل الله السلامة والعافية-.

على كل حال هم ينكرون الاسم، الرحمن ينكرونه، ولا يلزم أن يكون بهذه المناسبة يعني بقولهم: رحمان اليمامة.

"{أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} هذه قراءة المدنيين والبصريين أي: لما تأمرنا أنت يا محمد، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي: (يأمرنا) بالياء يعنون الرحمن، كذا تأوله أبو عبيد، قال: ولو أقروا بأن الرحمن أمرهم ما كانوا كفارًا، فقال النحاس: وليس يجب أن يتأول عن الكوفيين في قراءتهم هذا التأويل البعيد، ولكن الأولى أن يكون التأويل لهم: أنسجد لما يأمرنا النبي -صلى الله عليه وسلم- فتصح القراءة على هذا، وإن كانت الأولى أبين وأقرب تناولًا.

{وَزَادَهُمْ نُفُورًا} أي زادهم قول القائل لهم: اسجدوا للرحمن، نفورًا عن الدين، وكان سفيان الثوري يقول في هذه الآية: إلهي زادني لك خضوعًا ما زاد أعداءك نفورًا."

الذي زادهم النفور هو الأمر، والذي زاده الخضوع هو الأمر، فالذي زادهم النفور هو الأمر بالسجود والذي زاده الخضوع هو الأمر بالسجود، فالذي زادهم النفور هو الذي زاده الخضوع.

"قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجًا} [سورة الفرقان:61] أي منازل، وقد تقدم ذكرها، {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا} قال ابن عباس: يعني الشمس نظيره: {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} [سورة نوح:16] وقراءة العامة: {سِرَاجًا} بالتوحيد، وقرأ حمزة والكسائي: (سُرجًا) يريدون النجوم العظام الوقادة، والقراءة الأولى عند أبي عبيد أولى؛ لأنه تأول أن السُرج: النجوم، وأن البروج: النجوم، فيجيء المعنى نجومًا ونجومًا، قال النحاس: ولكن التأويل لهم أن أبان بن تغلب قال: السرج: النجوم الدراري، قال الثعلبي: كالزهرة والمشتري وزحل والسماكين ونحوها.

{وَقَمَرًا مُّنِيرًا} [سورة الفرقان:61] ينير الأرض إذا طلع، وروى عصمة عن الأعمش و {قُمْرًا} بضم القاف وإسكان الميم وهذه قراءة شاذة، ولو لم يكن فيها إلا أن أحمد بن حنبل وهو إمام المسلمين في وقته قال: لا تكتبوا ما يحكيه عصمة الذي يروي القراءات، وقد أولع أبو حاتم السجستاني بذكر ما يرويه عصمة هذا.

قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [سورة الفرقان:62].

فيه أربع مسائل:

الأولى: قوله تعالى: {خِلْفَةً} قال أبو عبيدة: الخلفة كل شيء بعد شيء، وكل واحد من الليل والنهار يخلف صاحبه، ويقال للمبطون: أصابته خلفة: أي قيام وقعود يخلف هذا ذاك، ومنه خلفة النبات: وهو روق يخرج بعد الورق الأول في الصيف، ومن هذا المعنى قول زهير بن أبي سلمى:

بها العين والآرام يمشين خلفة

وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم

الرئم ولد الظبي وجمعه آرام، يقول: إذا ذهب فوج جاء فوج، ومنه قول الآخر يصف امرأةً تنتقل من منزل في الشتاء إلى منزل في الصيف دأبًا:

ولها بالماطرون إذا

أكل النمل الذي جمعا

خلفة حتى إذا ارتبعت

سكنت من جلَّق بيعا

في بيوت وسط دسكرة

حولها الزيتون قد ينعا

جلّق هذه هي دمشق.

"قال مجاهد: {خِلْفَةً} من الخلاف هذا أبيض وهذا أسود والأول أقوى، وقيل: يتعاقبان في الضياء والظلام والزيادة والنقصان، وقيل: هو من باب حذف المضاف أي جعل الليل والنهار ذوي خلفة: أي اختلاف."

جعل الليل والنهار خلفة يعني يخلف أحدهما الآخر، فإذا ذهب النهار خلفه الليل، وإذا ذهب الليل خلفه النهار.

"{لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ} [سورة الفرقان:62] أي يتذكر، فيعلم أن الله لم يجعله كذلك عبثًا، فيعتبر في مصنوعات الله، ويشكر الله تعالى على نعمه عليه في العقل والفكر والفهم، وقال عمر بن الخطاب وابن عباس والحسن: معناه من فاته شيء من الخير بالليل أدركه بالنهار، ومن فاته بالنهار أدركه بالليل.

وفي الصحيح: «ما من امرئ تكون له صلاة بالليل فغلبه عليها نوم فيصلي ما بين طلوع الشمس إلى صلاة الظهر إلا كتب الله له أجر صلاته، وكان نومه عليه صدقة». وروى مسلم عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كُتب له كأنما قرأه من الليل»."

يعني من فاته من قراءته بالليل فليقرأ بعد صلاة الفجر إلى زوال الشمس، ومن فاتته صلاة الليل فيصلِّ إذا خرج وقت النهي بعد ارتفاع الشمس إلى الزوال، ويكون كأنما فعله بالليل، لكن إذا لم يكن هذا ديدنه ويكون هو المتسبب للفوات بسهرٍ وتفريط وإلا فصلاة الليل لا يعدلها شيء.

أما إذا فاتت على الإنسان مع بذل الأسباب وانتفاء الموانع فإنه إذا صلاها بين ارتفاع الشمس إلى زوالها فإنَّه فكأنما فعلها بالليل، وهذا محل الوتر لمن فاته يقضيه شفعًا، وأما من قال بأنه يقضيه بعد طلوع الفجر إلى الصلاة فهذا قول ضعيف؛ لأن وتر النبي -عليه الصلاة والسلام- انتهى إلى السحر، فإذا خشي أحدكم الصبح، إذا طلع الصبح فلا صلاة، لا وتر ولا غيره، إلا ركعتي الفجر كما جاء الاستثناء.

طالب:. . . . . . . . .

لا، خلاص انتهى، فات محلها.

طالب: بالنسبة لسنة الضحى يقدمها على صلاة الليل؟

نعم، صلاة الضحى إذا رمضت الفصال، يعني اشتد حرّ الشمس، ووقتها من ارتفاع الشمس إلى زوالها، لكن يقدم صلاة الليل -القضاء- ووقت صلاة الضحى باقٍ.

طالب: إذا أذن والإنسان في صلاة الوتر؟

إن كان في آخر ركعة يكملها خفيفًا، وإلا فيصلي واحدة توتر له ما قد صلى، «إذا خشي أحدكم الصبح فليصل واحدة توتر له ما قد صلى».

طالب:. . . . . . . . .

إذا أذن يقتصر على الأقل، على أقل الوتر.

طالب: إذا صلى بعد طلوع الشمس تحسب له الضحى؟

إذا صلى ركعتين بعد ارتفاع الشمس هي الضحى، هي الضحى.

"الثانية: قال ابن العربي: سمعت ذا الشهيد الأكبر يقول: إن الله تعالى خلق العبد حيًا عالمًا، وبذلك كماله وسلط عليه آفة النوم، وضرورة الحدث، ونقصان الخلقة، إذا الكمال للأول الخالق، فما أمكن الرجل من دفع النوم بقلة الأكل والسهر في طاعة الله فليفعل، ومن الغبن العظيم أن يعيش الرجل ستين سنة، ينام ليلها فيذهب النصف من عمره لغوًا، وينام سدس النهار راحة فيذهب ثلثاه، ويبقى له من العمر عشرون سنة، ومن الجهالة والسفاهة أن يتلف الرجل ثلثي عمره في لذة فانية، ولا يتلف عمره في سهر في لذة باقية، عند الغني الوفي الذي ليس بعدوم ولا ظلوم."

عديم.

ماذا عندك عدوم أم عديم؟ في هذه النسخ؟ بعديم.

بعديم.

نعم.

" عند الغني الوفي الذي ليس بعديم ولا ظلوم".

فعيل بمعنى فاعل، عادم، هذا إذا كان ما يذهب عليه إلا هذا القدر المذكور، بمعنى أنه ينام بالليل والنهار نصف الوقت، وقد ينام منه ما ينام، وقد ينشغل بأعمال دنياه بقدر ما يحتاج إليه فلا يبقى له إلا النزر اليسير، لكن إذا كان ممن ابتلي بالسهر، والليل يذهب جله في القيل والقال ثم ينام النهار فماذا بقي له؟ لا يبقى شيء؟! وإن كان ممن ابتلي بالوظائف من غير نيةٍ صالحة فذهب عمره سدىً، ثلث المدة في الوظيفة، فإن خليت عن نيةٍ صالحة، وعملٍ متقن تبرأ به الذمة وإلا فقد خاب وخسر؛ لأنه ما يبقى له شيء، يذهب عمره سدى، وذُكِر عن سلف هذه الأمة أنهم يستغلون الأنفاس، منهم من يستغل الوقت بالصلاة فيصلي ثلاثمائة ركعة متواصلة، عرف عن الإمام أحمد -رحمه الله- أنه يصلي باليوم والليل ثلاثمائة ركعة، الحافظ عبد الغني بين طلوع الشمس وارتفاعها إلى الزوال ثلاثمائة ركعة، الحافظ شرف الدين الطيبي يجلس من صلاة الصبح إلى أذان الظهر في التفسير، يفسر القرآن للطلاب، وبعد صلاة الظهر إلى أذان العصر في صحيح البخاري، وبعد صلاة العصر إلى صلاة المغرب في كتابٍ ثالث، هذا ديدنه، جل عمره على هذا، في يومٍ من الأيام أنهى التفسير وجلس ينتظر صلاة الظهر ففاضت روحه وهو ينتظر الصلاة.

الآن الضياع يعني بالجملة، يعني قد يمر على طالب العلم اليوم واليومين ما فتح المصحف، هذه كارثة هذه، فضلًا عن كونه لا يفتح كتب العلم والنظر في سير أهل العلم وعلى رأسهم المصطفى -عليه الصلاة والسلام- وصحابته الكرام، لا شك أن تضييع الأوقات هو تضييع النفس يعني قتل النفس، وهذه الأنفاس هي عمر الإنسان، فإذا ذهبت سدى فلا خير فيه ولا قيمة له.

"الثالثة: الأشياء لا تتفاضل بأنفسها، فإن الجواهر والأعراض من حيث الوجود متماثلة، وإنما يقع التفاضل بالصفات، وقد اختلف أي الوقتين أفضل؟ الليل أو النهار، وفي الصوم غنية في الدلالة، والله أعلم، قاله ابن العربي."

غنية في الدلالة لتفضيل النهار، ولكن للنهار وظائفه، ولليل وظائف، فهناك عبادات فعلها في الليل أفضل كالصلاة، وعبادات في النهار أفضل كالصوم وغيره من العبادات النهارية، لا شك أن لكل وقتٍ وظائفه.

"قلت: والليل عظيم قدره، أمر نبيه -عليه الصلاة والسلام- بقيامه فقال: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ} [سورة الإسراء:79]، وقال: {قُمِ اللَّيْلَ} [سورة المزمل:02] على ما يأتي بيانه، ومدح المؤمنين على قيامه فقال: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [سورة السجدة:16] وقال -عليه الصلاة والسلام-: «والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل» وفيه ساعة يستجاب فيها الدعاء، وفيه ينزل الرب تبارك وتعالى، حسبما يأتي بيانه -إن شاء الله تعالى-.

الرابعة: قرأ حمزة وحده: (يذْكُر) بسكون الذال وضم الكاف وهي قراءة ابن وثاب وطلحة والنخعي، وفي مصحف أبي: (يتذكر) بزيادة تاء، وقرأ الباقون: {يذكّر} بتشديد الكاف ويذكر ويذَّكر بمعنى واحد، وقيل: معنى {يذكر} بالتخفيف: أي يذكر ما نسيه في أحد الوقتين في الوقت الثاني، أو ليذكر تنزيه الله وتسبيحه فيها.

{أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} يقال: شكر يشكر شكرًا وشكورًا مثل كفر يكفر كفرًا وكفورًا، وهذا الشكور على أنهما جعلهما قوامًا لمعاشهم وكأنهم لمَّا قالوا: {وَمَا الرَّحْمَنُ} قالوا: هو الذي يقدر على هذه الأشياء.

قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [سورة الفرقان:63] لما ذكر جهالات المشركين وطعنهم في القرآن والنبوة ذكر عباده المؤمنين أيضًا، وذكر صفاتهم وأضافهم إلى عبوديته تشريفًا لهم، كما قال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [سورة الإسراء:1] وقد تقدم.

فمن أطاع الله وعبده وشغل سمعه وبصره ولسانه وقلبه بما أمره فهو الذي يستحق اسم العبودية، ومن كان بعكس هذا شمله قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [سورة الأعراف:179] يعني في عدم الاعتبار كما تقدم في الأعراف، وكأنه قال: وعباد الرحمن هم الذين يمشون على الأرض فحذف هم كقولك: زيد الأمير: أي زيد هو الأمير، فـ {الذين} خبر مبتدأ محذوف قاله الأخفش، وقيل: الخبر قوله في آخر السورة: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [سورة الفرقان:75] وما بين المبتدأ والخبر أوصاف لهم وما تعلق بها قاله الزجاج، قال: ويجوز أن يكون الخبر {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ} [سورة الفرقان:63].

و{يَمْشُونَ} عبارة عن عيشهم ومدة حياتهم وتصرفاتهم، فذكر من ذلك العظم لا سيما وفي ذلك الانتقال في الأرض، وهو معاشرة الناس وخلطتهم."

المراد بالمشي إذا أطلق يراد به وقع الأقدام على الأرض، هذا المشي، {يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} بمعنى أنهم لا يضربون الأرض بأرجلهم بحيث يسمع لهم ضجيج وأصوات، ولا يسرعون في المشي، وإنما يمشون هونًا، هذه صفة عباد الرحمن وجاء في الخبر أن سرعة المشي تذهب بهاء الوجه، ولا شك أن هذا من الخفة سرعة المشي، خفة، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول لعلي وقد بعثه للقتال: «أنفذ على رسلك» لا شك أن الهون والرفق في كل شيء زين له، لكن قد يكون هناك حاجة تدعو إلى الإسراع في ظرفٍ من الظروف لأمرٍ يفوت، أو لأمرٍ يلحقه ويخشى ضرره فلا بأس، فالأمور تقدر بقدرها، والضرورات لها أحكامها، والحاجات لا شك أنها غالبة، ويبقى أن الأصل الهون في كل شيء والرفق واللين.

طالب: كيف يجمع بين هذه الآية وصفة الرسول -صلى الله عليه وسلم-: كأنه ينحط من صبب.

كأنه ينحط من صبب، لا تعارض بين هذا وهذا، مع الهون، يعني يقارب بين الخطى ويمشي هونًا، ومع ذلك يطوي المسافات، بمعنى أنه لا يتماوت في مشيه بحيث ينتهي وقته ولم يدرك شيئًا، ولا يعني أنه يسرع سرعة ينتقد فيها، ولا شك أن السرعة محل انتقاد، وهي مظنة سفه، مظنة أفعال غير الرجال الكمّل، وأما هو -عليه الصلاة والسلام- فمشيه متوسط، فإنه لا يتماوت كما يفعله بعض من ينتسب إلى النسك، التنسك، وليس أيضًا بعض ممن يمشي مشية السفهاء من العجلة وإحداث الأصوات من قرع الأقدام وما أشبه ذلك.

قوله تعالى: {هَوْنًا} الهون مصدر الهين، وهو من السكينة والوقار، وفي التفسير: يمشون على الأرض حلماء متواضعين، يمشون في اقتصاد، والقصد والتؤدة وحسن السمت من أخلاق النبوة، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «أيها الناس عليكم بالسكينة، فإن البر ليس في الإيضاع».

وروي في صفته -صلى الله عليه وسلم- أنه كان إذا زال زال تقلعًا، ويخطو تكفؤًا، ويمشي هوانًا، ذريع المشية، إذا مشى كأنما ينحط من صبب، التقلع: رفع الرجل بقوة، والتكفؤ: الميل إلى سنن المشي وقصده، والهون: الرفق والوقار، والذريع: الواسع الخطى: أي أن مشيه كان يرفع فيه رجله بسرعة ويمد خطوه خلاف مشية المختال، ويقصد سمته."

سمته: يعني جهته التي يريدها، لا يحيد عن طريقه يمينًا ولا شمالًا.

"وكل ذلك برفق وتثبت دون عجلة كما قال: كأنما ينحط من صبب، قاله القاضي عياض، وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يسرع جبلةً لا تكلفًا، قال الزهري: سرعة المشي تذهب بهاء الوجه، قال ابن عطية: يريد الإسراع الحثيث؛ لأنه يخل بالوقار والخير في التوسط، وقال زيد بن أسلم: كنت أسأل عن تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [سورة الفرقان:63] فما وجدت في ذلك شفاءً، فرأيت في المنام من جاءني فقال لي: هم الذين لا يريدون أن يفسدوا في الأرض.

قال القشيري: وقيل لا يمشون لإفسادٍ ومعصية، بل في طاعة الله والأمور المباحة من غير هوك، وقد قال الله تعالى: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [سورة لقمان:18].

والمعنى الأخير يؤخذ من مفهوم الآية، الذي يمشي هونًا لا يُظن به سوء، ولا يريد سوءًا ولا اعتداءً على أحد؛ لأن من عادة الذي يريد الاعتداء على أحد أو يريد الإفساد والمعصية أنه يسرع في مشيه ليفرغ منها قبل أن يطلع عليه.

طالب: أخذ الأحكام والتفسير من المنامات؟

لا شك أنه لا يعول عليها ولا يعتمد عليها، لكن إن أبدت معنىً صحيحًا وروجعت لها المراجع ووجد هذا القول من ضمن أقوال أهل العلم، أو مما تحتمله الآية فيكون قولًا من الأقوال يعني ليس بملزم.

"وقال ابن عباس: بالطاعة والمعروف والتواضع، وقال الحسن: حلماء إن جهل عليهم لم يجهلوا، وقيل: لا يتكبرون على الناس.

 قلت: وهذه كلها معانٍ متقاربة، ويجمعها العلم بالله والخوف منه، والمعرفة بأحكامه والخشية من عذابه وعقابه، جعلنا الله منهم بفضله ومنِّه.

وذهبت فرقة إلى أن {هَوْنًا} مرتبط بقوله: {يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ} [سورة الفرقان:63] أن المشي: هو هون، قال ابن عطية: ويشبه أن يتأول هذا على أن تكون أخلاق ذلك الماشي هونًا مناسبةً لمشيه، فيرجع القول إلى نحو ما بينَّاه، وأما أن يكون المراد صفة المشي وحده فباطل؛ لأنه رب ماشٍ هونًا رويدًا وهو ذئب أطلس، وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتكفّأ في مشيه كأنما ينحط في صبب، وهو -عليه الصلاة والسلام- الصدر في هذه الأمة.

وقوله -عليه الصلاة والسلام-: «من مشى منكم في طمع فليمشِ رويدًا»، إنما أراد في عقد نفسه ولم يرد المشي وحده، ألا ترى أن المبطلين المتحلين بالدين تمسكوا بصورة المشي فقط حتى قال فيهم الشاعر ذمًّا لهم:

كلهم يمشي رويد

كلهم يطلب صيد

نعم، هذا الذي يطلب صيدًا لا بد أن يمشي رويدًا؛ لئلا يتنبه له هذا الصيد فيفر ويتركه، معروف هذا، والصيد مثلما يكون من الطيور والوحوش يكون من غيرها، الذي يتحيّن غرّات الناس -نسأل الله العافية- يمشي رويدًا.

قلت: وفي عكسه أنشد ابن العربي لنفسه:

تواضعت في العلياء والأصل كابر

وحزت قصاب السبق بالهون في الأمرِ

سكون فلا خبث السريرة أصله

وجل سكون الناس من عظم الكبرِ

قوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [سورة الفرقان:63] قال النحاس: ليس {سَلَامًا} من التسليم إنما هو من التسلّم تقول العرب: سلامًا: أي تسلمًا منك: أي براءة منك منصوب على أحد أمرين: يجوز أن يكون منصوبًا بـ {قَالُوا}، ويجوز أن يكون مصدرًا، وهذا قول سيبويه، قال ابن عطية: والذي أقوله: إن {قَالُوا} هو العامل في {سَلَامًا}؛ لأن المعنى: قالوا هذا اللفظ، وقال مجاهد: معنى {سَلَامًا} سدادًا أي يقول للجاهل كلامًا يدفعه به برفق ولين، فـ {قَالُوا} على هذا التأويل عامل في قوله: {سَلَامًا} على طريقة النحويين، وذلك أنه بمعنى قولًا، وقالت فرقة: ينبغي للمخاطب أن يقول للجاهل: سلامًا بهذا اللفظ: أي سلمنا سلامًا أو تسليمًا، ونحو هذا، فيكون العامل فيه فعلًا من لفظه على طريقة النحويين.

مسألة: هذه الآية كانت قبل آية السيف نُسخ منها .."

{سَلَامًا} يعني مصدر مؤكد للفعل نفسه سلمنا سلامًا أو سلّمنا سلامًا، أو لمعناه قلنا: سلامًا أو قالوا: سلامًا، يعني قولًا سلامًا، وهذا نظير قول الصائم لمن سابّه وشاتمه فليقل: إني صائم، إني صائم، والمسلم إذا قيل له من قبل السفهاء ما يقال له، قال: سلامًا؛ لأني لا أقول إلا ما يرضي الله -جل وعلا- وأسلم به، كما أن الصائم ليس بمستعدٍ لمكافأة السفهاء على ما يقولون، وكذلك المسلم في أحواله كلها، يعني إذا جاء النص خاص بالصيام فمثل النص الذي معنا عام في جميع أحوال المسلم، عباد الرحمن هؤلاء هذه صفاتهم.

مسألة: هذه الآية كانت قبل آية السيف نسخ منها ما يخص الكفرة، وبقي أدبها في المسلمين إلى يوم القيامة، وذكر سيبويه النسخ في هذه الآية في كتابه وما تكلم فيه على نسخٍ سواه، رجح به أن المراد السلامة لا التسليم؛ لأن المؤمنين لم يؤمروا قط بالسلام على الكفرة، والآية مكية فنسختها آية السيف، قال النحاس: ولا نعلم لسيبويه كلامًا في معنى الناسخ والمنسوخ إلا في هذه الآية، قال سيبويه: لم يؤمر المسلمون يومئذٍ أن يسلموا على المشركين، لكنه على معنى قوله: تسلمنا منكم ولا خير ولا شر بيننا وبينكم، قال المبرد: كان ينبغي أن يقال: لم يؤمر المسلمين يومئذٍ بحربهم ثم أُمروا بحربهم، وقال محمد بن زيد:"

يزيد.

" وقال محمد بن يزيد:"

المبرد -المبرد معروف-.

"أخطأ سيبويه في هذا، وأساء العبارة، قال ابن العربي: لم يؤمر المسلمين يومئذٍ أن يسلموا على المشركين ولا نهوا عن ذلك، بل أُمروا بالصفح والهجر الجميل، وقد كان -عليه الصلاة والسلام- يقف على أنديتهم ويحييهم ويدانيهم ولا يداهنهم."

لعلها يداريهم، المداراة مطلوبة، لكن المداهنة محرمة، المداراة التي تقتضي لين الكلام مطلوبة، لكن المداهنة في التنازل عن شيءٍ من الحق أو ارتكاب شيءٍ من الباطل فهذه محرمة {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [سورة القلم:9] أما المداراة فلا بأس بها عند الحاجة إليها، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- قال عن الرجل: «بئس أخو العشيرة»، ولما استأذن ودخل ألان له الكلام.

طالب: إذا أحسن الكافر إليك تدعو له أو .... ؟

يُدعى له بالهداية.

"وقد اتفق الناس على أن السفيه من المؤمنين إذا جفاك يجوز أن تقول له: سلام عليك، قلت: هذا القول أشبه بدلائل السنة، وقد بيّنّا في سورة مريم اختلاف العلماء في جواز التسليم على الكفار، فلا حاجة إلى دعوى النسخ، والله أعلم.

وقد ذكر النضر بن شميل قال: حدثني الخليل قال: أتيت أبا ربيعة الأعرابي وكان من أعلم من رأيت، فإذا هو على سطح، فلما سلمنا رد علينا السلام، وقال لنا: استووا .."

استووا يعني اصعدوا، اصعدوا إلى السطح، فمن معاني الاستواء الصعود، استوى: صعد وعلا.

"وبقينا متحيرين ولم ندرِ ما قال، فقال لنا أعرابي إلى جنبه: أمركم أن ترتفعوا، قال الخليل: هو من قول الله -عز وجل-: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ} [سورة فصلت:11] فصعدنا إليه فقال: هل لكم في خبزٍ فطير، ولبن هجير، وماء نمير؟ فقلنا: الساعة فارقناه، فقال: سلامًا، فلم ندر ما قال، قال: فقال الأعرابي: إنه سألكم مشاركةً لا خير فيها ولا شر، فقال الخليل: هو من قوله -عز وجل-: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [سورة الفرقان:63].

قال ابن عطية: ورأيت في بعض التواريخ أن إبراهيم بن المهدي -وكان من المائلين على علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال يومًا بحضرة المأمون وعنده جماعة: كنت أرى علي بن أبي طالب في النوم، فكنت أقول له من أنت؟ فكان يقول: علي بن أبي طالب، فكنت أجيء معه إلى قنطرة فيذهب فيتقدمني في عبورها، فكنت أقول: إنما تدّعي هذا الأمر بامرأة ونحن أحق به منك، فما رأيت له في الجواب بلاغة كما يذكر عنه، قال المأمون: وبماذا جاوبك؟ قال: فكان يقول لي: سلامًا. قال الراوي: فكأن إبراهيم بن المهدي لا يحفظ الآية أو ذهبت عنه في ذلك الوقت، فنبّه المأمون على الآية من حضره، وقال: هو -والله- يا عمّ علي بن أبي طالب، وقد جاوبك بأبلغ جواب، فخزي إبراهيم واستحيا، وكانت رؤيا لا محالة صحيحة.

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [سورة الفرقان:64] قال الزجاج: بات الرجل يبيت إذا أدركه الليل نام أو لم ينم."

قوله في الرؤيا -يعني قوله في الرؤيا: إنما تدعي هذا الأمر بامرأة، ونحن أحق به منك، قول إبراهيم لعلي بن أبي طالب في النوم: إنما تدعي هذا الأمر بامرأة ونحن أحق به منك، يعني أنه يدلي بهذا الحق أن له حقًّا في هذا الأمر بسبب امرأته؛ لأنها بنت النبي -عليه الصلاة والسلام- لا لهذا، وإنما دلت النصوص على فضله، وأنه أفضل ممن بعده، بعد الثلاثة هو أفضل الأمة وخيرها، بعد أبي بكرٍ وعمر وعثمان، وعلى هذا سلف هذه الأمة وأئمتها، وهو يدعي بما بويع به من قبل أهل الحلّ والعقد، لا أنه يدعي بامرأة، نعم المرأة خير نساء العالمين، وسيدة نساء الجنة وبنت النبي -عليه الصلاة والسلام- والانتساب إليها شرف، لكن يبقى أنه ليس لهذا فقط.

طالب: قصة أبي ربيعة الأعرابي غير واضحة؟

ماذا؟

طالب: قصة أبي ربيعة الأعرابي السابقة؟

أتيت النضر بن شميل؟ قال: حدثني الخليل؟

طالب: الذي في آخر شيء فقال له: سلامًا، لماذا؟

هو على سطح، فلما سلمنا ردّ علينا السلام، وقال لنا: استووا، فبقينا متحيرين لم ندرِ ما قال، يعني ما عرفوا معنى الاستواء، فقال لنا أعرابي إلى جنبه: أمركم أن ترتفعوا - يعني تصعدوا إليه- قال الخليل: هو من قوله -عز وجل-: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ} [سورة فصلت:11] ماذا فيها؟

طالب: لا لا، بعدين .. آخر القصة.

فصدعنا إليه، فقال: هل لكم في خبزٍ فطير، ولبن هجير، وماء نمير؟ فقلنا: الساعة فارقناه، فقال: سلامًا، فلم ندر ما قال، يعني الساعة فارقنا يعني أكلنا منذ وقتٍ قريب، فقال: سلامًا، فلم ندرِ ما قال، فقال: فقال الأعرابي: إنه سألكم متاركةً لا خير فيها ولا شر، يعني خلاص انصرفوا، انصرفوا بسلام، لا تؤذونني ولا أؤذيكم، ما دام ما لكم رغبةً في الأكل، فما لكم رغبةً في أي شيء.

طالب: ما وجه جهالتهم؟

جهالتهم، ما عرفوا معنى استووا، واللفظ موجود في القرآن.

طالب: لا لا، لما قال لهم: يشاركوه في الأكل قالوا: فارقناه الساعة.

يعني أنتم قوم جهال ما عرفتم معنى الاستواء، إما تأكلون أو تنصرفون، واضح؟ وصف الجهل ظاهر فيهم، حيث خفي عليهم معنى لفظ ورد في القرآن، وهو معروف من لغة العرب معنى الصعود والارتفاع، وهم ما عرفوه، فحكم عليهم بالجهل، وهؤلاء لا يرضيهم إلا الأكل، لا نظر لهم بعلم، لكن إذا عرض لهم الأكل كلوا، هذا الموجود، الخير موجود، قالوا: فارقناه من قريب، فقال: سلامًا، يعني ما بقي شيء.

"قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [سورة الفرقان:64] قال الزجاج: بات الرجل يبيت إذا أدركه الليل نام أو لم ينم.

قال زهير:

فبتنا قيامًا عند رأس جوادنا

يزاولنا عن نفسه ونزاوله

ومن ذلك قول النبي -عليه الصلاة والسلام-: «وعين باتت تحرس في سبيل الله»، ولا يتصور النوم لمن يحرس في سبيل الله.

"وأنشدوا في صفة الأولياء:

امنع جفونك أن تذوق مناما

واذْرِ الدموع على الخدود سجاما

واعلم بأنك ميت ومحاسب

يا من على سخط الجليل أقاما

لله قوم أخلصوا في حبه

فرضي بهم واختصَّهم خدَّاما

قوم إذا جن الظلام عليهم

باتوا هنالك سجدًا وقياما

خمص البطون من التعفف ضمرًا

لا يعرفون سوى الحلال طعاما

وقال ابن عباس: من صلى ركعتين أو أكثر بعد العشاء فقد بات لله ساجدًا وقائمًا، وقال الكلبي: من أقام ركعتين بعد المغرب وأربعًا بعد العشاء فقد بات ساجدًا وقائمًا.

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [سورة الفرقان:66] أي هم مع طاعتهم مشفقون خائفون، وجلون من عذاب الله، قال ابن عباس: يقولون ذلك في سجودهم وقيامهم.

{إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [سورة الفرقان:66] أي لازمًا دائمًا غير مفارق، ومنه سمي الغريم لملازمته، ويقال: فلان مغرم بكذا: أي لازم له مولع به، وهذا معناه في كلام العرب فيما ذكر ابن الأعرابي وابن عرفة وغيرهما، وقال الأعشى:

إن يعاقب يكن غرامًا وإن يعط

جزيلًا فإنه لا يبالي

وقال الحسن: قد علموا أن كل غريمٍ يفرق غريمه إلا غريم جهنم، وقال الزجاج: الغرام أشد العذاب، وقال ابن زيد: الغرام الشر، وقال أبو عبيدة: الهلاك، والمعنى واحد، وقال محمد بن كعب: طالبهم الله تعالى بثمن النعيم في الدنيا فلم يأتوا به فأغرمهم ثمنها بإدخالهم النار {إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [سورة الفرقان:66] أي بئس المستقر وبئس المقام، أي إنهم يقولون ذلك عن علم، وإذا قالوه عن علم كانوا أعرف بعظم قدر ما يطلبون، فيكون ذلك أقرب إلى النَّجْح."

النُّجح.

" أقرب إلى النُّجح.

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [سورة الفرقان:67] اختلف المفسرون في تأويل هذه الآية، فقال النحاس: ومن أحسن ما قيل في معناه أن من أنفق في غير طاعة الله فهو الإسراف، ومن أمسك عن طاعة الله -عز وجل- فهو الإقتار، ومن أنفق في طاعة الله تعالى فهو القوام.

وقال ابن عباس: من أنفق مائة ألف في حق فليس بسرف، ومن أنفق درهمًا في غير حقه فهو سرف، ومن منع من حق عليه فقد قتر، وقاله مجاهد وابن زيد وغيرهما، وقال عون بن عبد الله: الإسراف أن تنفق مال غيرك، قال ابن عطية: وهذا ونحوه غير مرتبط بالآية، والوجه أن يقال: إن النفقة في معصيةٍ أمرٌ قد حظرت الشريعة قليله وكثيره، وكذلك التعدي على مال الغير، وهؤلاء الموصوفون منزهون عن ذلك، وإنما التأديب في هذه الآية هو في نفقة الطاعات في المباحات فأدب الشرع فيها ألا يفرّط الإنسان حتى يضيع حقًا آخر أو عيالًا ونحو هذا، وألا يضيق أيضًا ويقتر حتى يجيع العيال ويفرط في الشح، والحسن في ذلك هو القوام، أي العدل، والقوام في كل واحد بحسب عياله وحاله وخفة ظهره وصبره وجلده على الكسب، أو ضد هذه الخصال وخير الأمور أوساطها.

يعني هذا في النفقات في سبيل الله، بعض الناس ينفق الأموال الطائلة في وجوه الخير، ومع ذلك يترك أولاده يتكففون الناس، أو يشق على نفسه بالمسألة، فعلى قدر صبره وجلده وتحمله للعمل، ولا يعرض نفسه للإهانة وسؤال الناس ولا يضيع من يمون، فإذا اجتمعت له هذه الأمور فلينفق ما شاء، أما إذا امتهن نفسه، بذل نفسه، وأذلها بسؤال الناس أو ترك من خلفه أو من كلفه الله القيام بأعبائهم وحقوقهم مثل هذا عليه أن يسدد ويقارب، ولا ينفق شيئًا يضرّ به وبهم.

"ولهذا ترك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر الصديق أن يتصدق بجميع ماله؛ لأن ذلك وسط بنسبة جلده وصبره في الدين، ومنع غيره من ذلك، ونعم ما قال إبراهيم النخعي: هو الذي لا يجيع ولا يعرى، ولا ينفق نفقة يقول الناس: قد أسرف. وقال يزيد بن أبي حبيب: هم الذين لا يلبسون الثياب لجمال، ولا يأكلون الطعام للذة، وقال يزيد أيضًا في هذه الآية: أولئك أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- كانوا لا يأكلون طعامًا للتنعم واللذة، ولا يلبسون ثيابًا للجمال، ولكن كانوا يريدون من الطعام ما يسد عنهم الجوع، ويقويهم على عبادة ربهم، ومن اللباس ما يستر عوراتهم ويكنِّهم من الحر والبرد.

وقال عبد الملك بن مروان لعمر بن عبد العزيز حين زوجه ابنته فاطمة: ما نفقتك؟ فقال له عمر: الحسنة بين سيئتين، ثم تلا هذه الآية، وقال عمر بن الخطاب: كفى بالمرء سرفًا ألا يشتهي شيئًا إلا اشتراه فأكله.

وفي سنن ابن ماجه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت»."

مخرج؟

طالب: قال: ضعيف جدًّا أخرجه ابن ماجة والديلمي وابن الجوزي في الموضوعات من حديث أنس ومداره على نوح بن ذكوان، وهو ضعيف، وبه أعله البصيري في زوائد ابن ماجة وحكم بضعفه، وابن الجوزي حكم بضعفه، وقال الألباني -رحمه الله-: موضوع.

"وقال أبو عبيدة: لم يزيدوا علي المعروف ولم يبخلوا، كقوله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [سورة الإسراء:29]، وقال الشاعر:

ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد

كلا طرفي قصد الأمور ذميمُ

وقال آخر:

إذا المرء أعطى نفسه كل ما اشتهت

ولم ينهها تاقت إلى كل باطلِ

وساقت إليه الإثم والعار بالذي

دعته إليه من حلاوة عاجلِ

وقال عمر لابنه عاصم: يا بني كُل في نصف بطنك، ولا تطرح ثوبًا حتى تستخلقه، ولا تكن من قوم يجعلون ما رزقهم الله في بطونهم وعلى ظهورهم، ولحاتم طيء:

إذا أنت قد أعطيت بطنك سؤله

وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا

{وَلَمْ يَقْتُرُوا} قرأ حمزة والكسائي والأعمش وعاصم ويحيى بن وثاب على اختلاف عنهما: {يقتروا} بفتح الياء وضم التاء، وهي قراءة حسنة، من قتر يقتر، وهذا القياس في اللازم مثل: قعد يقعد، وقرأ أبو عمرو بن العلاء وابن كثير بفتح الياء وكسر التاء، وهي لغة معروفة حسنة، وقرأ أهل المدينة وابن عامرٍ وأبو بكر عن عاصمٍ بضم الياء وكسر التاء، قال الثعلبي: كلها لغات صحيحة، وقال النحاس: وتعجب أبو حاتم من قراءة أهل المدينة هذه؛ لأن أهل المدينة عنده لا يقع في قراءتهم الشاذ، وإنما يقال: أقتر يقتر إذا افتقر، كما قال -عز وجل-: {وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ} [سورة البقرة:236]، وتأول أبو حاتم لهم أن المسرف يفتقر سريعًا، وهذا تأويل بعيد، ولكن التأويل لهم أن أبا عمرو الجرمي حكى عن الأصمعي أنه يقال للإنسان إذا ضيق: قتر يقتر ويقتِّر وأقتر يقتر، فعلى هذا تصح القراءة، وإن كان فتح الياء وأصح وأقرب متناولًا وأشهر وأعرف.

 وقرأ أبو عمرو والناس {قَوَامًا} بفتح القاف يعني عدلًا، وقرأ حسان بن عبد الرحمن: {قِوَامًا} بكسر القاف: أي مبلغًا وسدادًا وملاك حال، والقوام بكسر القاف: ما يدوم عليه الأمر ويستقر. وقيل: هما لغتان بمعنى. و{قَوَامًا} خبر كان واسمها مقدر فيها: أي كان الإنفاقُ بين الإسراف والقتر قوامًا، قاله الفراء، وله قول آخر يجعل {بين} اسم كان وينصبها؛ لأن هذه الألفاظ كثير استعمالها فتُرِكت على حالها في موضع الرفع، قال النحاس: ما أدري ما وجه هذا؛ لأن بينا إذا كانت في موضع رفع رفعت كما يقال: بين عينيه أحمر."

بين هذا الأصل فيه أنه ظرف مكان، بين زيد وعمر يعني المكان الذي بينهما، وبين المشرق والمغرب الأصل فيه أنه منصوب على الظرفية، لكن الظرف مثل (اليوم) ظرف الزمان قد يقع فاعلًا، وقد يقع مبتدأً على حسب ما يسند إليه، فعلى هذا تؤثر فيه العوامل، وإلا فالأصل فيه النصب على الظرفية.

طالب: أحتاج للتفسير في معيار الإسراف، هل هو العرف؟ أو النسبة إلى ما..... فأحيانًا تجد شخصًا مثلًا يشتري غرفة نوم بـ100 ألف ريال، لكنها لا تشكل بنسبة ما يملكه 1 أو 2 في المائة، فهل يقال هذا إسراف، أو يقال: أن هذا شيء بسيط مما أملك، نفس الشيء في السيارات الآن، منهم من يشتري سيارة بنصف مليون، ومنهم من يشتري سيارة بـ30 ألف، ما هو المعيار؟

على كل حال، العرف له مدخل في مثل هذا، ويسر الإنسان وعسره أيضًا له نظر، وله محل في هذا الأمر، فينظر فيه إلى عسر الإنسان ويسره، ومع ذلك إذا تعارف الناس على شيء فالعادة محكّمة، وينبغي أن تصرف هذه الأمور فيما ينفع الإنسان في آخرته؛ لأنه من أجلها خلق لا للدنيا، والله أعلم.

اللهم صلّ وسلم على سيدنا محمد.

"