شرح مقدمة سنن ابن ماجه (06)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

هذا كلام لابن القيم -رحمه الله- حول ابتداء السلام بالتنكير، ذكرنا في أحد الدروس أن العلماء يقولون: يخير في تعريفه وتنكيره في سلام على الحي، وعرفنا أنه بالنسبة للميت يقال لهم: السلام عليكم دار قوم مؤمنين.

هنا يقول ابن القيم -رحمه الله-: ما الحكمة في ابتداء السلام بلفظ النكرة وجوابه بلفظ المعرفة؟ فتقول: سلام عليكم، فيقول الراد: وعليك السلام؟ يقول: فهذا سؤال متضمن لمسألتين، إحداهما هذه، والثانية اختصاص النكرة بابتداء المكاتبة والمعرفة بآخرها، والجواب عنهما بذكر أصل نمهده ترجع إليه مواقع التعريف والتنكير في السلام، وهو أن السلام دعاء وطلب، وهم في ألفاظ الدعاء والطلب إنما يأتون بالنكرة إما مرفوعة على الابتداء أو منصوبة على المصدر، فمن الأول قولهم: ويل له، ومن الثاني: خيبة له، هذا في الدعاء عليه، وفي الدعاء له: سقياً ورعياً، وكرامة ومسرة، فجاء: سلام عليكم، بلفظ النكرة كما جاءت سائر ألفاظ الدعاء.

وسر ذلك أن هذه الألفاظ جرت مجرى النطق بالفعل ألا ترى أن سقياً ورعياً وخيبة جرى مجرى: سقاك الله ورعاك، وخيبك، وكذلك سلام عليك جارٍ مجرى سلمك الله، والفعل نكرة فأحبوا أن يجعلوا اللفظ الذي هو جارٍ مجراه وكالبدل منه نكرة مثله، وأما تعريف السلام في جانب الراد فنذكر أيضاً أصلاً يعرف به سره وحكمته، وهو أن الألف واللام إذا دخلت على اسم السلام تضمنت أربع فوائد:

أحدها: الإشعار بذكر الله تعالى؛ لأن السلام المعرف من أسمائه كما تقدم تقريره.

الفائدة الثانية: إشعارها بطلب معنى السلامة منه للمسلم عليه؛ لأنك متى ذكرت اسماً من أسمائه فقد تعرضت به، وتوسلت به إلى تحصيل المعنى الذي اشتق منه ذلك الاسم.

الفائدة الثالثة: إن الألف واللام يلحقها معنى العموم في مضمونها والشمول في بعض المواضع.

الرابعة: أنها تقوم مقام الإشارة إلى المعين كما تقول: ناولني الكتاب، واسقني الماء، وأعطني الثوب لمن هو حاضر بين يديك، فإنك تستغني بها عن قولك هذا، فهي مؤدية معنى الإشارة.

وإذا عرفت هذه الفوائد الأربع فقول الراد: وعليك السلام بالتعريف متضمن للدلالة على أن مقصوده من الرد مثل الذي ابتدئ به وهو بعينه، فكأنه قال: ذلك السلام الذي طلبته لي مردود عليك وواقع عليك، فلو أتى بالرد منكراً لم يكن فيه إشعار بذلك؛ لأن المعرف وإن تعدد ذكره واتحد لفظه فهو شيء واحد بخلاف المنكر.

يعني أن النكرة إذا أعيدت معرفة صارت هي عين المذكور سابقاً، وأما بالنسبة إلى النكرة إذا أعيدت نكرة صارت غير المذكورة سابقاً...

بخلاف المنكر، ومن فهم هذا فهم معنى قول النبي -صلى الله عليه وسلم- ((لن يغلب عسر يسرين)) فإنه أشار إلى قوله تعالى {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [(5-6) سورة الشرح] فالعسر وإن تكرر مرتين فتكرر بلفظ المعرفة فهو واحد، واليسر تكرر بلفظ النكرة فهو يسران، فالعسر محفوف بيسرين، يسر قبله، ويسر بعده، فلن يغلب عسر يسرين.

الحديث الذي ذكره ((لن يغلب عسر يسرين)) أخرجه ابن مردويه من حديث جابر مرفوعاً بسند ضعيف، وأخرجه سعيد بن منصور وعبد الرزاق في تفسيره وابن جرير من حديث ابن مسعود، وسنده ضعيف أيضاً، أخرجه عبد الرزاق في التفسير والطبري والحاكم في المستدرك عن الحسن مرسلاً، وهو صحيح إلى الحسن، وقد روي من طرق أخرى موقوفاً ومرسلاً، ولعله بهذه الطرق أو جميع هذه الطرق تدل على أن له أصلاً، وإن لم يكن أصل يصل إلى درجة الصحة، لكن له أصل ما دام له طرق متعددة.

في كلام كثير حول السلام، نعم قد يقول قائل: أيهما أبلغ سلام إبراهيم -عليه السلام- أو سلام الملائكة؟ {قَالُواْ سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ} [(69) سورة هود] هو رفع السلام وهم نصبوه، والمرفوع محض في الاسمية، والاسم يدل على الثبوت والدوام، والمنصوب قائم مقام فعله، مصدر مؤكد لفعله فهو قائم مقامه، والفعل يدل على التجدد والحدوث، ولذا قال أهل العلم: إن سلام إبراهيم أبلغ من سلام الملائكة.

هنا يقول: "وأما السؤال العاشر وهو السر في نصب سلام ضيف إبراهيم –الملائكة- ورفع سلامه، فالجواب: أنك قد عرفت قول النحاة فيه أن سلام الملائكة تضمن جملة فعلية؛ لأن نصب السلام يدل على سلمنا عليك سلاماً، وسلام إبراهيم تضمن جملة اسمية؛ لأن رفعه يدل على أن المعنى سلام عليكم، والجملة الاسمية تدل على الثبوت والتقرر، والفعلية تدل على الحدوث والتجدد، فكان سلامه عليهم أكمل من سلامهم عليه، وكان له من مقامات الرد ما يليق بمنصبه -عليه الصلاة والسلام وعلى نبينا- وهو مقام الفضل إذ حياهم بأحسن من تحيتهم، هذا تقرير ما قالوا.

وعندي فيه جواب أحسن من هذا، وهو أنه لم يقصد حكاية سلام الملائكة فنصب قوله: سلاماً فصار مفعول القول المفرد، كأنه قيل: قالوا: قولاً سلاماً، وقالوا: سداداً وصواباً ونحو ذلك، فإن القول إنما تحكي به الجمل، وأما المفرد فلا يكون محكياً به، بل منصوب به انتصاب المفعول به.

ومن هذا قوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [(63) سورة الفرقان] ليس المراد أنهم قالوا هذا اللفظ المفرد المنصوب، وإنما معناه قالوا: قولاً سلاماً، مثل سداداً وصواباً، وسمي القول سلاماً لأنه يؤدي معنى السلام ويتضمنه من رفع الوحشة وحصول الاستئناس.

وحكى عن إبراهيم لفظ سلامه، فأتى به على لفظه مرفوعاً بالابتداء، محكياً بالقول، ولولا قصد الحكاية لقال: سلاماً بالنصب؛ لأن ما بعد القول إذا كان مرفوعاً فعلى الحكاية ليس إلا، فحصل من الفرق بين الكلامين في حكاية سلام إبراهيم ورفعه، ونصبه ذلك إشارة إلى معنى لطيف جداً، وهو أن قوله: سلام عليكم من دين الإسلام المتلقى عن إمام الحنفاء، وأبي الأنبياء، وأنه من ملة إبراهيم التي أمرنا الله باتباعها، فحكى لنا قوله ليحصل الإقتداء به والإتباع له، ولم يحكِ قول أضيافه وإنما أخبر به على الجملة دون التفصيل والكيفية -والله أعلم-، فزن هذا الجواب والذي قبله بميزان غير عائل يظهر لك أقواهما".

هذا يسأل عن حكم صلاة النافلة على السيارة في الحضر؟

النبي -عليه الصلاة والسلام- كان يصلي النافلة على دابته، أينما توجهت به في السفر، ولا يفعل ذلك في الفريضة، يوتر على النافلة ويتنفل النفل المطلق على الراحلة، ولا يفعل ذلك في الفريضة، وأما بالنسبة للحضر في الأوقات الضائعة في مثل هذه الأيام التي نعيشها في السيارات، الإنسان قد يخرج من بيته ليقضي غرضاً له فيمكث نصف ساعة أو أكثر أو أقل، فأقول الأولى في مثل هذه الحالة أن يستمع أو يقرأ، يقرأ من محفوظه، أو يستمع من المسجل ولا يصلي لأن الصلاة تشغله، وإذا احتاج إلى الركوع أو السجود لا سيما إذا كان هو القائد فقد يشغله ذلك عن القيادة بخلاف الدابة، الدابة تسير بنفسها، واصطدامها بغيرها مأمون بخلاف السيارات التي إذا انحرفت يمنة أو يسرة أضرت بصاحبها، هذا من حيث المعنى، أما من حيث الثبوت وعدمه فلم يثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه صلى على الدابة في الحضر، وإن كان أنس يميل إلى جوازه، وجوازه إذا كان الضرر مأمون، فبدلاً من أن يضيع الوقت سدى فلا أرى مانعاً منه؛ لأن السفر ليس بوصف مؤثر في مثل هذا؛ لأنه لا يترتب عليه رخصة، لا جمع ولا قصر، رخصة من رخص السفر لم يربط به، فلا أرى ما يمنع -إن شاء الله تعالى- من الصلاة على السيارة في الحضر، لكن مع أمن الضرر عليه أو على غيره.

طالب:.......

لا ما يلزم، ما يلزم استقبال القبلة؛ لأن هذا فيه مشقة شديدة.

سم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللسامعين، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً يا رب العالمين.

قال الإمام الحافظ أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني المعروف بابن ماجه -رحمه الله تعالى-:

باب: اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين

حدثنا عبد الله بن أحمد بن بشير بن ذكوان الدمشقي قال: حدثنا الوليد بن مسلم قال: حدثنا عبد الله بن العلاء -يعني ابن زبر- قال: حدثني يحيى بن أبي المطاع قال: سمعت العرباض بن سارية يقول: قام فينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم فوعظنا موعظة بليغة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقيل: يا رسول الله وعظتنا موعظة مودع، فاعهد إلينا بعهد، فقال: ((عليكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن عبداً حبشياً، وسترون من بعدي اختلافاً شديداً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم والأمور المحدثات، فإن كل بدعة ضلالة)).

حدثنا إسماعيل بن بشر بن منصور وإسحاق بن إبراهيم السواق قالا: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية بن صالح عن ضمرة بن حبيب عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي أنه سمع العرباض بن سارية يقول: وعظنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- موعظة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله إن هذه لموعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ قال: ((قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وعليكم بالطاعة وإن عبداً حبشياً، فإنما المؤمن كالجمل الأنف حيثما قيد انقاد)).

حدثنا يحيى بن حكيم قال: حدثنا عبد الملك بن الصباح المسمعي قال: حدثنا ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد الرحمن بن عمرو عن العرباض بن سارية قال: "صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاة الصبح، ثم أقبل علينا بوجهه فوعظنا موعظة بليغة.. فذكر نحوه".

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:

باب: اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين

والخلفاء الراشدون هم الأربعة المهديون الذين تركهم النبي -عليه الصلاة والسلام- على الجادة، وأمر باتباع سنتهم، والاقتداء بهديهم، وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وهل يكون في حكمهم من مشى على طريقتهم وجادتهم ولم يحد عن الصواب كعمر بن عبد العزيز؟ فيقول جمع من أهل العلم: هو خامس الخلفاء الراشدين، أو يقتصر النص عليهم كما هو قول عامة أهل العلم أنهم لا يقاس عليهم غيرهم، فليس فعل أحد سنة متبعة يعمل بها إلا ما كان من هؤلاء الخلفاء الراشدين المهديين، وأولاهم بذلك، وأحراهم به أبو بكر وعمر، فقد جاء مما يخصهما: ((اقتدوا بالذين من بعدي)) فعملهم سنة، واتباع سنة الأربعة مؤيد بالنص الصحيح عن النبي -عليه الصلاة والسلام-.

لو اختلف..، لو لم يوجد في المسألة نص عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، ووجد فيها قول لأبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي مما لم يخالف فيه، هذا لا إشكال فيه، لا إشكال في كونه سنة متبعة بالنص حتى عند من يقول: إن قول الصحابي ليس بحجة، إنما يقصد بذلك غير الخلفاء الراشدين، وإذا خولف الواحد من الخلفاء الراشدين من قبل غيره فإن قوله مقدم على قول غيره، قد ينقل عن الخلفاء الراشدين أو عن بعضهم قول في مسألة، ويكون الجمهور على خلافه، فمثلاً القول بوجوب إخراج النساء لصلاة العيد فيه النص المرفوع قول أم عطية: "أمرنا أن نخرج العواتق والحيض وذوات الخدور إلى صلاة العيد، يشهدن الخير، ودعوة المسلمين، ويعتزل الحيض المصلى" هذا فيه نص مرفوع، والقول بالوجوب تبعاً لهذا النص قال به بعض العلماء، وهو اختيار الخلفاء الراشدين، وعليه عملهم، والجمهور على أن هذا الخروج لصلاة العيد بالنسبة لهؤلاء النسوة على سبيل الاستحباب لا على سبيل الوجوب؛ لأن المرأة لا يجب عليها أن تخرج من بيتها لأجل الصلاة ولا الصلاة المفروضة فضلاً عن الصلوات المختلف فيها كصلاة العيد، فلماذا قال جمهور أهل العلم بأن الأمر للاستحباب وقد قال بالوجوب جمع منهم الخلفاء الأربعة، وعليه يدل الأمر الذي جاء في الخبر؟ فنقول: لعل الثابت عن هؤلاء الخلفاء الأمر بالخروج لصلاة العيد، فيصرف عن الوجوب إلى الاستحباب، كما صرف الأمر الثابت عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، ولذا لا يمكن أن يخالف الأئمة قول الخلفاء الراشدين الذين أمرنا باتباع سنتهم، ومن وراء ذلك كله أمر النبي -عليه الصلاة والسلام-، فما دام صرفوا أمر النبي -عليه الصلاة والسلام- من الوجوب إلى الاستحباب فلأن يصرفوا قول الخلفاء الراشدين لا سيما وأنهم الثابت عنهم هو الأمر بالإخراج، وأنهم يأمرون الناس بالخروج إلى صلاة العيد، يأمرون النساء، ويأمرون أزواجهن أن يخرجوا زوجاتهم وبناتهم، فإذا صرف النص المرفوع فلأن يصرف قول الخلفاء الراشدين يعني من باب أولى؛ لأن النص ثابت عن النبي -عليه الصلاة والسلام- أقوى، ولذا لو ورد قول للخلفاء الأربعة كلهم وفي المسألة حديث مرفوع قُدم الحديث المرفوع، فعلى هذا لا يستدرك على الأئمة في عدم أخذهم بما ينسب إلى الخلفاء الراشدين، ويُظن مخالفة لما هنا، غاية ما هنالك أنهم أولوا قول الخلفاء الراشدين كما أولوا الحديث المرفوع.

هارون سموه الرشيد، والرشيد صيغة مبالغة، أبلغ من الراشد، فأبو بكر خليفة راشد، وعمر خليفة راشد بالنص، وعثمان خليفة راشد، وعلي خليفة راشد، وهارون رشيد أبلغ من راشد، لكن هذا لا يعني أنه سمي بهذه التسمية فتكون شرعية، لا يلزم أن تكون مطابقة للواقع، لا سيما وأن محتواها أبلغ مما وصف به الأئمة الأربعة، الخلفاء الأربعة، ويقاس عليها ما في معناها من صيغ المبالغة.

قال -رحمه الله-: "حدثنا عبد الله بن أحمد بن بشير بن ذكوان الدمشقي قال: حدثنا الوليد بن مسلم، قال: حدثنا عبد الله بن العلاء -يعني ابن زبر- قال: حدثني يحيى بن أبي المطاع قال: سمعت العرباض بن سارية" فهو يصرح بالسماع، والذي في كتب الرجال في ترجمته أنه لم يلقَ العرباض بن سارية، وعلى هذا فالخبر منقطع، وهل يضعف يحيى بن أبي المطاع بهذا التصريح وهو لم يلقه؟ أو نحكم بأنه لقيه من خلال تصريحه؟ ونحكم على ما في كتب الرجال بأنه لم يلقه بأن تصريحه أولى بالقبول من الحكم بعدم لقيه إياه، فعندنا في كتب الرجال يقول: إنه لم يلقَ العرباض بن سارية، وهو يقول: سمعت العرباض بن سارية فهل المقدم قوله فيحكم بالسماع، ويحكم على قولهم بالوهم، ولعلهم لم يطلعوا على هذه الطريق التي فيها التصريح، وإن كان هذا بعيد؟ أو يقدم قولهم ويكون قوله: "سمعت العرباض" إما تصحيف من بعض الرواة، أو يكون فيه سقط في السند، والذي يقول: سمعت العرباض غير يحيى بن أبي المطاع ممن هو بينه وبينه، وعلى كل حال الحديث مضعف بسبب ذلك، بسبب أن يحيى بن أبي المطاع لم يلقَ العرباض بن سارية، وعلى كل حال الحديث له شواهد تشهد لألفاظه، حديث العرباض مروي من طرق، منها ما سيأتي.

قال: "سمعت العرباض بن سارية يقول: قام فينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم، فوعظنا موعظة بليغة" وعظنا فالرسول -عليه الصلاة والسلام- يصح أن يقال: واعظ، كما أنه مبشر ومنذر ومبلغ عن الله -جل وعلا-، يصح أن يقال: واعظ، ويصح أن يقال: مذكر، {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ} [(45) سورة ق] وبعض من ينتسب إلى طلب العلم يأنف أن يقال له: واعظ، وجاء الوعظ في القرآن في مواضع، والأنفة من هذا الوصف لأن من الوعاظ من لا ينتسب إلى العلم، بل هم إلى العامة أقرب، فيأنف، يعني لا سيما في الوضع العرفي، من الوعاظ من هو إلى العامية أقرب، فطالب العلم يأنف أن يصنف واعظ، وقد أشرنا على بعض طلاب العلم الذين لديهم خبرة وقدرة على التأثير أن يشرحوا كتب الرقاق، فقال بعضهم: أنا لا أريد أن أصنف واعظ، لا يريد أن يصنف واعظ، وفي الحديث: "وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم" فهو واعظ، وهذه الأنفة وإن كان مردها وسببها خشية التشبه بالوعاظ والقصاص الذين هم إلى العوام أقرب منهم إلى العلماء، لكن لا يضيرك أن يقال: واعظ، فتشبه بالنبي -عليه الصلاة والسلام- الذي ثبت وصفه بهذا، وإن تشبث به بعض من لا ينتسب إلى العلم، فالوعظ لا سيما بالنصوص {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ} [(45) سورة ق] وبالنصوص النبوية من أولويات الوظائف بالنسبة للعالم وطالب العلم؛ لأنه بهذا الوعظ وبهذا التذكير وباختيار المادة الصحيحة من كتاب الله وسنة نبيه -عليه الصلاة والسلام-، مع اجتناب ما لم يثبت، ومع اجتناب القصص التي لا أصل لها، وبهذا يسوق الناس إلى العمل بالعلم، فالعالم وطالب العلم الذي يقتصر على متين العلم من الأحكام فقط فإنه قد يغفل عن العمل، ولا يسوقه ويقوده إلى العمل إلا هذه الأحاديث وهذه الآيات والأحاديث الصحيحة في الرقاق التي ترغب الإنسان في الأعمال الصالحة، فإذا ترك أهل العلم هذا المجال قام به من لا تبرأ الذمة بوعظه، قام به من يعظ الناس بالقصص الواهية، وبالأحاديث الضعيفة والموضوعة كما هو شأن القصاص من قديم، وما ذلكم إلا لأن أهل العلم تركوه، والنبي -عليه الصلاة والسلام- وعظ أصحابه موعظة بليغة.

موعظة بليغة، وهل المراد بالبلاغة هنا ارتكاب المحسنات وضروب أنواع البديع ومراعاة قواعد البيان والمعاني المعروف مجموعها بعلم البلاغة، هل هذا هو المقصود؟ أو أنه بالغ فيها -عليه الصلاة والسلام- بالزجر والأمر حتى وجلت القلوب وذرفت العيون؟ لأن الكلام إذا وصف بالبلاغة واستعملت فيه قواعد علم البيان والمعاني، واستعملت فيه المحسنات البديعية فقط، إذا قلنا: البلاغة هذه المشتملة على ثلاثة العلوم أو ثلاثة الفنون هل يقتضي ذلك أن تجل منها القلوب، وتذرف منها العيون؟ لا، ما يلزم، قد يتصف ويطبق قواعد الفنون الثلاثة ومع ذلك يكون مسلي يعني نكتة، وتستعمل فيها قواعد الفنون الثلاثة، المراد بالبلاغة هنا المبالغة في انتقاء النصوص المؤثرة التي منها تجل القلوب، وتذرف العيون.

"قام فينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم" وذات هذه مقحمة يستعملونها وإن اقتصروا على يوم، والمقصود في يوم من الأيام، فوعظنا موعظة بليغة، وجلت منها القلوب، خافت، لكن قلوب من؟ نعم قلوب الصحابة، ومن يضاهيهم ويحاكيهم ممن نور الله قلبه {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [(35) سورة الحـج] ومن الناس مع قساوة القلوب التي نعيشها وإلى الله المشتكى لا فرق بين أن يوعظ ويذكر بالقرآن أو بصحيح السنة وبين أن يقرأ عليه من جريدة قصاصة من جريدة، أو يسمع خبر من الأخبار من وسيلة لا فرق، والنبي -عليه الصلاة والسلام- كما في الحديث المختلف فيه يقول -عليه الصلاة والسلام-: ((شيبتني هود وأخواتها)) وأتحدث عن نفسي أنني بدأت بسورة يونس فلم أشعر إلا وأنا بيوسف، فما الأثر الذي تركته هود في نفسي؟ وأجزم أن مثلي موجود يعني في طلاب العلم، فهل هذه هي القراءة التي تترتب عليها آثارها؟ على الإنسان أن يعيد حساباته، يحاسب نفسه.

زرارة بن أوفى سمع الإمام وهو يقول: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} [(8) سورة المدثر] قالوا: خر مغشياً عليه فمات، وبعض الناس ينكر مثل هذا القول، وممن ينكره من المتقدمين ابن سيرين، يقول: لا يمكن أن يغمى على الإنسان أو يغشى عليه يصاب بالغشي؛ لأنه يسمع القرآن، والرسول -عليه الصلاة والسلام- وصحابته الكرام سمعوا وما حصل لهم شيء من هذا، واختبروا من يدعي ذلك فاجعلوه على جدار واقرؤوا القرآن إن سقط فهو صادق، إن سقط من الجدار فهو صادق، وجمع من أهل التحقيق ومنهم شيخ الإسلام يرى أنه لا مانع من وقوع هذا من بعض الناس، لا شك أن القرآن ثقيل، وأثره في القلوب بالغ، لكن القلوب تتفاوت منها

القلب القوي كقلبه -عليه الصلاة والسلام-، وقلوب صحابته الكرام، هؤلاء يتقبلون هذا الكلام القوي، هذا الكلام الثقيل بقلوب قوية، يتأثرون تأثر بالغ لكنهم يتحملون، من جاء بعدهم استشعروا هذه العظمة وهذا الثقل لكلام الله -جل وعلا-، لكن القلوب بعد الصحابة ضعفت، فصاروا لا يتحملون مثل هذا الكلام الثقيل، وهم يستشعرون عظمة ما يسمعون، فيحصل لهم ما يحصل، ثم طال بالناس الزمان مع ضعف القلوب، ما نقول: قويت القلوب، القلوب ضعيفة، لكن استشعار عظمة القرآن خفت في قلوب المسلمين، استشعار العظمة خفت، فلذا لا يتأثرون، لكن ما الدليل على أن قلوبهم ضعيفة؟ لو حصل للإنسان منهم أدنى مشكلة تغيرت حساباته وكاد أن يجن بسببها، وقد يصاب بالإغماء أو بالغشي كما حصل في بعض الكوارث التجارية أو المصائب التي تحصل لبعض الناس، هل هذا القلب قوي الذي تأثر بأمور دنياه؟ هذا ليس بقلب قوي، لكن كونه لا يتأثر بالقرآن مع عظمته وقوته وثقله لأنه لا يستشعر هذا، لا يستشعر هذه العظمة، فالصحابة يتأثرون، ومن يستشعر عظمة هذا القرآن يتأثرون.

"فوعظنا موعظة بليغة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون" والحديث كما قررنا ضعيف للانقطاع، لكن ألفاظه صحيحة، جاءت من طرق صحيحة؛ لئلا يقول قائل مثل ما قال واحد بالأمس: إنك تقرر الحديث أنه ضعيف وتشرحه، والضعيف ما دام ما يحتج به لماذا يشرح؟ نقول: يشرح إذا كان له ما يشهد له، وله أصل يدل على أنه ثابت عن النبي -عليه الصلاة والسلام-.

"وذرفت منها العيون" ذرفت الدموع من العيون "فقيل: يا رسول الله وعظتنا موعظة مودع" يعني كأننا لن نراك بعد اليوم، فاعهد إلينا بعهد، وفي بعض الألفاظ: "فأوصنا" "فاعهد إلينا بعهد" نأثره بعدك ونعمل به من بعدك؟ "فقال: ((عليكم بتقوى الله))" وهي وصية الله للأولين والآخرين، وما من نبي إلا ويأمر قومه بتقوى الله -جل وعلا-، وقد أمر الناس قاطبة بها، وحثوا عليها، وجاء قول الله -جل وعلا-: {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [(6) سورة التحريم].

((عليكم بتقوى الله، والسمع والطاعة)) لمن ولاه الله أمركم، والسمع والطاعة لمن ولاه الله الأمر ((وإن عبداً حبشياً)) يعني: وإن كان عبداً حبشياً، وإن كان هذا الولي عبداً حبشياً.

يقول عبادة بن الصامت: بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، على أن نقول أو نقوم بالحق لا نخاف في الله لومة لائم، والسمع والطاعة لا يختلف مع النصيحة، وأداء الواجب، والسعي لتغيير المنكر أو تقليله، لا منافاة بينهما، ويخطئ من يزعم أن إنكار المنكر بالطرق الشرعية التي تترتب عليها آثارها، أو نصيحة من يحصل منه شيء كائناً من كان ولو كان ولي الأمر، يخطئ من يقول: إن هذا يعارض السمع والطاعة، بل هو من تمام السمع والطاعة، فالدين النصيحة.

يقول: ((وإن عبداً حبشياً)) يعني: وإن كان المولى أو الذي تولى عبد حبشي، وهذا يكون في صورتين لأن الأصل أن الأئمة من قريش، كما ثبت بذلك الخبر من طرق كثيرة جداً حتى جمعها الحافظ ابن حجر في جزء أسماه: "لذة العيش في جمع طرق الأئمة من قريش" حديث صحيح بلا شك، مخرج في الصحيح وغيره.

وقوله: ((وإن عبداً حبشياً)) وفي بعض الروايات: ((رأسه كأنه زبيبة)) إذا كان الخليفة عبد حبشي لا يمكن انتخابه في حال الاختيار وهو عبد حبشي، لا بد في حال الاختيار أن يكون من قريش، لكن في حال الإجبار لو استولى على الناس بسيفه، وأرغمهم على الخضوع له لا بد من السمع والطاعة، ولا يجوز نزع يد الطاعة بعد استتباب الأمن له، إلا بالضوابط الشرعية المعروفة ((لا، ما صلوا)) ما دام يصلي تجب طاعته ((ما لم تروا كفراً بواحاً)) فإذا لم يوجد الكفر البواح فلا يجوز الخروج بحال، ولو وجد الظلم، ولو وجدت المعاصي، ولو كثرت المنكرات، المقصود أن مثل هذا ليس بمبرر للخروج، ونزع اليد من الطاعة، أو شهر السيف في وجه الولاة، لا، أبداً، نعم إذا رئي الكفر المباح نعم هذه غاية، وإذا تركوا الصلاة هذه غاية، كما جاءت به النصوص.

العبد الحبشي هذا إذا تولى بقوته، وقهر الناس، واستولى عليهم، واستتب الأمن له لا يجوز الخروج عليه، والأئمة من قريش في حال الاختيار، حال الترشيح لا يرشح عبد حبشي، وإنما يرشح من قريش، أو يكون مولى من قبل ولي الأمر، ولي الأمر قرشي نعم ولى عبداً حبشياً على جهة من الجهات حينئذٍ تجب طاعته؛ لأن طاعته من طاعة ولي الأمر، وطاعة ولي الأمر من طاعة النبي -عليه الصلاة والسلام-، وطاعة النبي -عليه الصلاة والسلام- من طاعة الله -عز وجل-، ((من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني)).

"فقال -عليه الصلاة والسلام-: ((عليكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبداً حبشياً، وسترون من بعدي اختلافاً كثيراً))" وحدث مصداقه بعد وفاته بزمن يسير، وجد الاختلاف والفرقة بين المسلمين، وبعد الفتنة التي بدأت بقتل الخليفة الراشد عمر، ثم قتل عثمان، ثم الخلاف بين علي ومعاوية، وما زال الأمر يزيد حتى طمست كثير من معالم الدين.

((وسترون بعدي اختلافاً شديداً)) يعني إلى أن وجد من الخلفاء من يحمل الناس على الابتداع في الدين.

((وسترون بعدي اختلافاً شديداً، فعليكم بسنتي)) إغراء ((فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين)) الذين هداهم الله إلى الصراط المستقيم ((عضوا عليها بالنواجذ)) والنواجذ هي: الأنياب أو الأضراس، وما يعض عليه بالأضراس يصعب نزعه منها، لا سيما إذا كان العاض جاد وصادق في ذلك.

((عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم والأمور المحدثات)) تحذير ((إياكم والأمور المحدثات)) يعني الإحداث في الدين، وابتداع عبادات لم يأذن الله بها، ولم يسبق لها شرعية من الكتاب والسنة، وهذه هي البدع، ((فإن كل بدعة  ضلالة)).

هذه البدع وهذه المحدثات حدثت أول ما حدثت في زمن الصحابة، في بدعة الخوارج، ثم بدعة الروافض، ثم النواصب، ثم تنوعت البدع، وافترقت الأمة على ما أخبر عنه النبي -عليه الصلاة والسلام- من أنها ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، وحصل هذا كله، لكن على المسلم أن يسعى لخلاص نفسه، فلا يعمل شيئاً إلا وله أصل شرعي، ولا يبتدع في الدين ما لم يأذن به الله، ولا يحدث في دين الله ما لم يسبق له شرعية ((فإن كل بدعة ضلالة)) هذا تعميم من النبي -عليه الصلاة والسلام-، وأن جميع البدع وأن جميع ما يحدث في الدين فإنه ضلالة، وبهذا يرد على من قسم البدع إلى بدع محمودة، وبدع مذمومة، أو بدع واجبة، وبدع مستحبة، وبدع مباحة، وبدع مكروهة، وبدع محرمة، هذا التقسيم مخترع، لم يسبق له دليل من كتاب ولا سنة، كما قرر ذلك الشاطبي في الاعتصام، رد على هذا التقسيم وقوض دعائمه بأسلوب قوي، وحجة ناصعة، الرسول -عليه الصلاة والسلام- يقول: ((كل بدعة ضلالة)) ونقول: بدعة محمودة؟ الرسول -عليه الصلاة والسلام- يقرر بأن كل بدعة ضلالة ونقول: بدعة واجبة؟! هذه معارضة ومضادة ومحادة لهذا التعميم النبوي، وإن قال به من قال به من أهل العلم، فهم مجتهدون، هذا غاية ما يقال فيهم، ولا يظن بهم، ولا يتهمون، لكن أشكل عليهم بعض النصوص فقرروا ما قرروا.

ممن يرى التقسيم العز بن عبد السلام والنووي وابن حجر وجمع من أهل العلم، يرون هذا التقسيم، أن البدع منها ما يمدح، ومنها ما يذم، ((من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة)) فيقولون: هذا سن سنة، يعني ابتدأها، وسماها النبي -عليه الصلاة والسلام-، ووصفها بأنها حسنة، إذاً من سن يعني ابتدع واخترع سنة حسنة، وهناك أيضاً سنة سيئة، فدل على أن من البدع وما يسن وما يخترع منه ما هو حسن ومنه ما هو سيء، وأيضاً يتشبثون بقول عمر -رضي الله عنه- في صلاة التراويح: "نعمت البدعة هذه" فمدحها؛ لأن (نعم) مدح بخلاف (بئس) وسماها بدعة، أما من سن في الإسلام سنة فسبب الورود يدل على أنه ليس بشيء جديد يخترعه من سن، وإنما هو ابتداء في مشروع يغفل عنه الناس أو يتركونه، تموت هذه السنة الثابتة عن النبي -عليه الصلاة والسلام- بدليل صحيح، فيهجرها الناس فمن يحييها له هذا الأجر، وليس المراد بذلك سنة لا دليل عليها من الكتاب والسنة، بل هذه بدعة وليست بسنة، وسبب الورود أن النبي -عليه الصلاة والسلام- أمر بالصدقة فجاء أول شخص بمال وفير وتصدق به، فأراد النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يبين أن هذا الذي سبق يستن الناس بسنته، ويقتدون به في هذا البذل الذي جاء الحث عليه من الشارع، يعني ليس بمبتدع، كونه سبق الناس ليقتدوا به هذا له الأجر، له أجر هذا العمل، وأجر من عمل به إلى يوم القيامة، وقل مثل هذا من بادر في إحياء سنة ماتت مثلاً، من بادر بإحياء سنة سيئة –أقصد- ماتت في مقابل السنة الحسنة، أو ابتكر بدعة وعمل الناس بها، واقتدوا به فيها هذا عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.

طالب:.......

إذاً كيف يعمل بدون نية تعبد؟ يعني أنت تريد أن مثل هذا الذي تصدق، يعني شخص يريد أن يصلي بعد صلاة المغرب أربع ركعات مثلاً أو ست ركعات بسلام واحد مثلاً هذا لم يسبق له شرعية، فهل تريد أن هذا لا يدخل في حيز البدعة حتى ينوي التعبد؟ هو ما صلاها إلا للتعبد، نعم؟

طالب:.......

مثل إيش؟

طالب:.......

مثل؟

طالب:.......

يعني كونه يتخذ يوماً لعبادة معينة؟

طالب:.......

يوم معين لا مزية له على الأيام، يعني يتخذ يوم السبت أو يوم الثلاثاء لختم القرآن من كل أسبوع مثل هذا؟ تعني مثل هذا؟

طالب:.......

المقصود أن مثل هذا لم يسبق له شرعية، ولا التزم من قبل السلف الصالح، فليس من فعلهم أن يخصصوا يوماً لختم القرآن، لكنه من لازم الفعل، ليس من فعلهم لكنه من لازم الفعل، كيف من لازم الفعل؟ السلف امتثالاً لقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((اقرأ القرآن في سبع ولا تزد)) قسموا القرآن إلى أسباع، فطريقتهم في قراءة القرآن في تقسيمه على سبع امتثالاً لهذا الأمر النبوي أنهم يقرؤون في اليوم الأول ثلاث، وفي الثاني خمس، وفي الثالث سبع، وفي الرابع تسع، وفي الخامس إحدى عشرة، وفي السادس ثلاث عشرة، وفي السابع المفصل، ومن لازم هذا الفعل أن يكون الختم في يوم واحد؛ لأن الأسبوع سبعة أيام، فإذا كان فعله الختم في يوم السبت أو في يوم الثلاثاء من أجل هذا فلا ضير عليه؛ لأنه يقرأ القرآن في سبع والأسبوع سبعة أيام، فليس من فعلهم لكنه من لازم فعلهم، فلا يوصف بالبدعة حينئذٍ، وقل من باب أولى إذا اتخذ يوم الجمعة أو عصر الجمعة لختم القرآن لا يلام على ذلك، ولا يقال: إنه وقت وقتاً للعبادة لم يوقته الشارع، نقول: الشارع أمر بقراءة القرآن في سبع، والأسبوع سبعة أيام من لازم ذلك أن يختم في يوم معين، لكن لو افترضنا أن القرآن يقرأ في غير هذه العدة، ثم إن الإنسان يتعمد أن يكون ختمه في يوم الثلاثاء، الأربعاء، أو الخميس، أو أي يوم من الأيام ما لم يكن الوقت له مزية، كأن يكون وقت إجابة دعوة، ولمن ختم القرآن دعوة مستجابة كما جاء في الخبر، الصحابة كأنس وغيره يجمعون أولادهم وأهليهم يجمعونهم لختم القرآن، ولذا يحرص منذ أزمان متطاولة أن يكون ختم القرآن في رمضان ليلة سبع وعشرين؛ لأنها ترجى فيها ليلة القدر، وأكثر ما يختم الأئمة في ليالي الوتر، وهذا الاختيار له وجه شرعي، فإما أن يكون مما تدل له الأدلة كما هنا، أو يكون من لازم فعل السلف المبني على الدليل، وهذا لا إشكال فيه، لكن لو كان في كل يوم ثلاثاء مثلاً يدخل المسجد ويجلس من بعد صلاة الظهر إلى العصر في هذا اليوم خاصة يعتقد فيه مزية، ويخصه من بين الأيام نقول: ابتدعت.

((فإن كل بدعة ضلالة))...

استدلالهم بقول عمر -رضي الله عنه-: "نعمت البدعة" هذا دليل ليس في محله؛ لأن عمر -رضي الله عنه- لم يقصد البدعة الشرعية؛ لأن هذا العمل سبق له شرعية من فعل النبي -عليه الصلاة والسلام-، هذا العمل وهو صلاة قيام رمضان جماعة فعله النبي -عليه الصلاة والسلام- ليلتين أو ثلاث ثم تركه لا نسخاً له ولا رغبة عنه، وإنما خشية أن يفرض، فلما أمن فرضية هذه العبادة أمنت لأنه لو فرضت ما أطاقها الناس ولعجزوا عنها، فلما أمنت بوفاته -عليه الصلاة والسلام- أعادها عمر، فهو يعمل بشرع سابق، وحينئذٍ لا يسمى بدعة لأنه سبق له شرعية من السنة، فلا يريد البدعة الشرعية قطعاً؛ لأنه لا يتصور من عمر أنه يبتدع في دين الله وقد أمرنا بالعمل بسنته -رضي الله عنه وأرضاه-.

شيخ الإسلام يرى أنها بدعة لغوية، تعريف البدعة لغة: ما عمل على غير مثال سابق، وهذه الفعلة أعني جمع الناس على إمام واحد له مثال سبق في عهد النبي -عليه الصلاة والسلام- فليس ببدعة لغوية، والشاطبي يقول: مجاز، وأيضاً عند من ينفي المجاز لا يقول بهذا، فماذا يقول من ينفي المجاز؟ يقول: عمر -رضي الله تعالى عنه- تصور أن قائلاً سوف يقول له: ابتدعت يا عمر، فقال -رضي الله عنه وأرضاه-: نعمت البدعة هذه على سبيل المشاكلة والمجانسة في التعبير، مشاكلة ومجانسة في التعبير، لا إرادة حقيقة البدعة، المشاكلة نوع من أنواع البديع، بخلاف المجاز الذي هو من علم البيان، نعم؟

طالب:.......

هذا مقرر عند أهل العلم، لكن الكلام إجمالي، لا نريد أن ندخل في تفصيلات، أمامنا نص يقول: ((فإن كل بدعة ضلالة)) نعم ((كل بدعة ضلالة)) لكن إذا كان الوقت أو الوصف من لازم عمل السلف الصالح نحكم عليه بأنه بدعة؟ ما نحكم بأنه بدعة، ولو قال أهل العلم مثل هذا، لكن هم يقررون مسائل أصول العلم أو أصول هذه المسألة، ثم تفاصيلها انظر هل له أصل أو لا أصل له؟ فإن كان من عملهم، من عمل السلف أو من لازم عملهم كما قررنا في ختم القرآن في يوم معين، ما دام الرسول -عليه الصلاة والسلام- يقول: ((اقرأ القرآن في سبع)) وأيام الأسبوع سبعة يبي يختلف يوم الختم؟ لن يختلف يوم الختم؛ لأن الأسباع التي حزبت وقسم عليها القرآن تدور مع الأيام، كل يوم في حزبه المعين، فلا يلزم من ذلك أن يكون بدعة لأنه من لازم عملهم.

إذاً قول عمر -رضي الله تعالى عنه-: "نعمت البدعة" إنما هو من باب المشاكلة والمجانسة في التعبير، وأهل البلاغة وأهل البديع يقررون أن المجانسة لا يلزم فيها أن يكون اللفظ مذكوراً، وإنما يقولون: حقيقة -يعني مذكور لفظ مجانس حقيقة- أو تقديراً، فإذا خشي الإنسان أن يقال له: فعلت كذا؟ قال: نعم فعلت، ابتدعت يا عمر؟ نعمت البدعة، ويش المانع؟ يعني على سبيل التنزل، والأمثلة على ذلك كثيرة، وبسطنا هذه المسألة في مناسبات فلا داعي لإعادتها.

قال -رحمه الله- بعد ذلك: "حدثنا إسماعيل بن بشر بن منصور وإسحاق بن إبراهيم السواق قالا: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية بن صالح عن ضمرة بن حبيب عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي" عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي هذا قالوا عنه: إنه صدوق، فحديثه حسن "أنه سمع العرباض بن سارية يقول" الحديث بهذا الإسناد حسن "يقول: وعظنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- موعظة" يعني كما تقدم في الخبر السابق "ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله إن هذه لموعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ قال: ((قد تركتكم على البيضاء))" وهذا تقدم على الملة البيضاء، الطريق والمحجة البيضاء التي ((ليلها كنهارها)) يعني لا يمكن أن يرد معها شبهة لا حل لها إلا عند من خالف أو قصر، فالدين واضح -ولله الحمد-، ولا خفاء فيه ولا غبش ولا لبس، لكن بعض الناس يؤتى من قبل نفسه، إما أن يقصر في تعلم الدين، أو يسلك غير سبيل المؤمنين، ولو كان هذا السلوك جزئياً فإنه يدخل عليه الخلل بقدره.

((تركتكم على البيضاء ليلكها كنهارها)) لا يختلف فيها الأمر، فهي واضحة جلية ((لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً)) وقد حصل كما أخبر النبي -عليه الصلاة والسلام- ((فعليكم بما عرفتم من سنتي)) أما ما أنكرتموه فتوقفوا فيه، فإن كنتم من أهل العلم والنظر والتأهل للوصول إلى الصحيح من الضعيف بأنفسكم فهذا فرضكم، فابحثوا وتأكدوا، فإن ثبت فاعملوا به، وإن لم يثبت فاجتنبوه، واطرحوه وألقوه ((بما عرفتم من سنتي)) وإن كنتم لستم من أهل النظر في هذا الباب، ولا تأهلتم لذلك، فاسألوا أهل العلم، هذه فريضة العامي ومن في حكمه يسألوا أهل العلم.

((فعليكم بما عرفتم من سنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ، وعليكم بالطاعة)) يعني بالسمع والطاعة ((وإن عبداً حبشياً)) وهذا تقدم ((فإنما المؤمن كالجمل الأنف حيثما قيد انقاد)).

يعني سهل القياد، لا ينتصر لحظوظ نفسه ويعاند ويصر، لا، يتبع الحق حيثما انقيد حيثما قيد بالحق انقاد، كالجمل الأنف الذي يجعل الزمام في أنفه ويجر به، هذا الجمل الذي خرم أنفه، ووضع فيه القياد –الزمام- وقيد به لا يستطيع أن يخالف قائده، فعلى هذا المؤمن ينقاد حيثما قيد بالنصوص، لا أنه مغفل يجر حيثما أراد من أراد أن يجره، ويستهويه من حيث من أراد أن يجلبه إلى هواه، لا، المؤمن كيس فطن ومع ذلك سهل القياد، وقد جاء في الحديث: ((لينوا بأيدي إخوانكم)) ومن الناس من هو وإن انتسب إلى الإسلام من هو عسر الطبع، بحيث يكون معانداً في كل ما يؤمر به، كما قال بعضهم: السهل يوطأ، ولا شك أن الإنسان إذا دعي إلى الحق عليه أن يستجيب، وليس له خيرة، فينقاد لأمر الله وأمر رسوله، ومن يأمر بهما.

قال -رحمه الله-: "حدثنا يحيى بن حكيم قال: حدثنا عبد الملك بن الصباح المسمعي قال: حدثنا ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد الرحمن بن عمرو" هو السلمي السابق "عن العرباض بن سارية قال: "صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاة الصبح، ثم أقبل بوجهه، فوعظنا موعظة بليغة... فذكر نحوه" وهذا الحديث بطرقه الثلاثة يصل إلى درجة الصحيح، ومع ذلك هو مخرج في صحيح مسلم ومسند أحمد، لكننا نتعامل مع السنن، ولو كنا نشرح صحيح مسلم لما ساغ لنا أن نقول: صحيح، ما دام الحديث مخرج في مسلم لا يسوغ لنا أن نقول: صحيح، إنما نكتفي بقولنا: خرجه البخاري أو خرجه مسلم؛ لأن هذا علامة الصحة، وإذا كان الخبر في غيرهما فالأمر فيه سعة، إذا دُرس الإسناد وصارت النتيجة صحة الخبر يقال: صحيح، وإذا درس وصارت النتيجة الضعف يقال: ضعيف، الله المستعان، نعم.

باب: اجتناب البدع والجدل

حدثنا سويد بن سعيد وأحمد بن ثابت الجحدري قالا: حدثنا عبد الوهاب الثقفي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، كأنه منذر جيش يقول: صبحكم مساكم، ويقول: ((بعثت أنا والساعة كهاتين)) ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى، ثم يقول: ((أما بعد: فإن خير الأمور كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة)) وكان يقول: ((من ترك مالاً فلأهله، ومن ترك ديناً أو ضياعاً فعلي وإلي)).

حدثنا محمد بن عبيد بن ميمون المدني أبو عبيد قال: حدثنا أبي عن محمد بن جعفر بن أبي كثير عن موسى بن عقبة عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إنما هما اثنتان الكلام والهدي، فأحسن الكلام كلام الله، وأحسن الهدي هدي محمد، ألا وإياكم ومحدثات الأمور، فإن شر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ألا لا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم، ألا إن ما هو آتٍ قريب، وإنما البعيد ما ليس بآتٍ، ألا إنما الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره، ألا إن قتال المؤمن كفر، وسبابه فسوق، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، ألا وإياكم والكذب فإن الكذب لا يصلح بالجد ولا بالهزل، ولا يعد الرجل صبيه ثم لا يفي له، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإنه يقال للصادق: صدق وبر، ويقال للكاذب: كذب وفجر، ألا وإن العبد يكذب حتى يكتب عند الله كذاباً)).

حدثنا محمد بن خالد بن خداش قال: حدثنا إسماعيل بن علية قال: حدثنا أيوب ح وحدثنا أحمد بن ثابت الجحدري ويحيى بن حكيم قالا: حدثنا عبد الوهاب قال: حدثنا أيوب عن عبد الله بن أبي مليكة عن عائشة قالت: "تلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه الآية: {هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [(7) سورة آل عمران] إلى قوله: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ} [(7) سورة آل عمران] فقال: ((يا عائشة إذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عناهم الله فاحذروهم)).

حدثنا علي بن المنذر قال: حدثنا محمد بن فضيل ح وحدثنا حوثرة بن محمد قال: حدثنا محمد بن بشر قالا: حدثنا حجاج بن دينار عن أبي غالب عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل)) ثم تلا هذه الآية: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [(58) سورة الزخرف].

حدثنا داود بن سليمان العسكري قال: حدثنا محمد بن علي أبو هاشم بن أبي خداش الموصلي قال: حدثنا محمد بن محصن عن إبراهيم بن أبي عبلة عن عبد الله بن الديلمي عن حذيفة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يقبل الله لصاحب بدعة صوماً ولا صلاة ولا صدقة ولا حجاً ولا عمرة ولا جهاداً ولا صرفاً ولا عدلاً، يخرج من الإسلام كما تخرج الشعرة من العجين)).

حدثنا عبد الله بن سعيد قال: حدثنا بشر بن منصور الخياط عن أبي زيد عن أبي المغيرة عن عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أبى الله أن يقبل عمل صاحب بدعة حتى يدع بدعته)).

حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي وهارون بن إسحاق قالا: حدثنا ابن أبي فديك عن سلمة بن وردان عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من ترك الكذب وهو باطل بني له قصر في ربض الجنة، ومن ترك المراء وهو محق بني له في وسطها، ومن حسن خلقه بني له في أعلاها)).

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:

باب: اجتناب البدع والجدل

لما بين السنة المأثورة عن النبي -عليه الصلاة والسلام- وعن صحابته من الخلفاء الراشدين، ذكر ما يخالف ذلك ويضاده، فذكر البدع والمحدثات والجدل الذي هو معارض للانقياد والتسليم، والمقصود به الجدل بالباطل ولنصر الباطل، وأما الجدل للوصول إلى الحق وللدعوة إليه فهذا مطلوب، ومأمور به {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [(125) سورة النحل] أما إذا كان الجدال للانتصار للنفس والرأي، أو لنصر الباطل فإن هذا محرم لا يجوز، وهو المنهي عنه.

قال: "حدثنا سويد بن سعيد وأحمد بن ثابت الجحدري قالا: حدثنا عبد الوهاب الثقفي عن جعفر بن محمد عن أبيه" جعفر بن محمد الصادق "عن أبيه" محمد بن علي الباقر "عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا خطب" في أي مناسبة، كخطبة الجمعة مثلاً، "احمرت عيناه" لأنه كان -عليه الصلاة والسلام- يتحمس في الخطب، وتحمر عيناه، ويعلو صوته، ويشتد غضبه، لما أمر به من تبليغ الدين، فهو يريد أن يؤخذ عنه، وليلفت أنظار السامعين، ويحملهم على سماع هذه الخطبة بهذه المؤثرات "احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه" غيرة لله ولدينه ولمحارمه، وحرصاً على نفع الأمة "واشتد غضبه كأنه منذر جيش، يقول: صبحكم مساكم" صبحكم يعني جاءكم العدو صباحاً، ومساكم جاءكم العدو في المساء "ويقول -عليه الصلاة والسلام-: ((بعثت أنا والساعة كهاتين))" بعثت أنا والساعةَ فالواو هذه للمعية، والساعة مفعول معه ((كهاتين)) عطف النسق هنا ممكن وإلا غير ممكن؟ هل يمكن أن أقول: بعثت أنا والساعةُ كهاتين، الفعل يمكن تسليطه على الأمرين؟ نعم؟

طالب:.......

يعني يكون معطوف على الضمير المتصل فيكون مرفوعاً، وهل الساعة تبعث؟ الفعل يصح تسليطه على الاثنين وإلا على واحد منهما؟ الساعة تبعث وإلا لا؟ يعني لو قلنا: بعثت أنا والساعةُ لصارت الساعة مبعوثة كبعثته -عليه الصلاة والسلام-، فهذا يضعف النسق

...................................

 

والنصب مختارٌ لدى ضعف النسق

يعني لدى ضعف العطف.

"((كهاتين)) ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى" كهاتين، فيكون الباقي من عمر الدنيا بعد بعثته إلى قيام الساعة هو الفرق بينهما، الفرق بينهما كم؟ كم نسبته؟ هاه؟

طالب:.......

إيه لكن الفرق بقدر نصف السانتي هذا اللي هو الزيادة في الوسطى، أو يقال -كما استروح ومال إليه بعض الشراح- أنه قال بإصبعيه هكذا، فجعلهما ملتصقتين، يعني أن الساعة تأتي مباشرة بعد بعثته -عليه الصلاة والسلام-، أما من يقول بأن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة، فيمكن أن يكون الفرق بينهما مثل القدر الزائد من الوسطى على السبابة، والذي يقول: إن عمر الدنيا ألوف مؤلفة من السنين بل ملايين يقول: إن بعثته وإن تأخرت الساعة فإن الساعة حينئذٍ وإن تأخرت إلا أنها في حكم الملاصقة لطول المدة.

"ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى ثم يقول: ((أما بعد))" وعرفنا أن الإتيان بـ(أما) بعد في الخطب والرسائل والمكاتبات سنة نبوية ثبتت عن أكثر من صحابياً عنه -عليه الصلاة والسلام-، وتكون بهذه الصيغة (أما بعد) بـ(أما) وضم بعد لأن المضاف إليه محذوف مع نيته، وأما شرط، وبعد قائم مقام الشرط، و((فإن خير الحديث)) هذا جواب الشرط، وأما إبدال (أما) بالواو فهذا لا يتم به الامتثال، ولا تتأدى به السنية، بل لا بد أن يؤتى باللفظ النبوي، وإن كثر استعمال (وبعد) وذكرنا في مناسبات كثيرة أننا لسنا بحاجة إلى الإتيان بـ(ثم) في أول موضع، بل نقتصر على قولنا: (أما بعد) كما كان يفعله -عليه الصلاة والسلام- وإن احتجنا (أما بعد) مرة ثانية قلنا: ثم، للعطف على الأولى إذا انتقلنا من أسلوب إلى آخر، ثم إلى ثالث وهكذا.

((أما بعد: فإن خير الأمور كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-)) وسيأتي في الحديث الذي يليه: ((إنما هما اثنان الكلام والهدي، فأحسن الكلام كلام الله)) فالمراد بالأمور خير الأمور يعني المراد به الكلام، خير الكلام وخير الأمور كتاب الله، خير ما يتمسك به، ويعتصم به كتاب الله، وخير الهدي والطريقة هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وضبطت في بعض الروايات: ((خير الهدى هدى محمد -صلى الله عليه وسلم-)) خير الهدى يعني هدايته للخلق ودلالته وإرشاده إليه.

((هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها)) يعني ما يحدث في الدين هو شر أشر من جميع الشرور؛ لأن شر هذه أفعل تفضيل، شر جميع الأمور المحدثات في الدين ((وكل بدعة ضلالة)) وهذا سبق الحديث فيه.

"وكان يقول -عليه الصلاة والسلام-: ((من ترك مالاً فلأهله، ومن ترك ديناً أو ضياعاً فعلي وإلي))" وهذا الحديث صحيح، وهو في مسلم.

((من ترك مالاً فلأهله، ومن ترك ديناً أو ضياعاً فعلي وإلي)) الذي يتركه من المال يكون لأهله، يقسم بين ورثته، ومن ترك ضيعاً مالاً أو ضياعاً ما يخشى عليه أن يضيع فعلي وإلي، فالدين يسدد من قبل بيت المال، وكذلك ما يخشى ضياعه يرعى من بيت المال، وهذا قاله النبي -عليه الصلاة والسلام- في آخر الأمر لما وسع الله عليه، وكان قبل ذلك الدين يثبت في ذمة الميت إلى أن يضمن عنه، ويترك النبي -عليه الصلاة والسلام- الصلاة على المدين حتى ضمن.

قال بعد ذلك: "حدثنا محمد بن عبيد بن ميمون" المدني أبو عبيد "قال: حدثنا أبي" يعني عبيد بن ميمون المدني، وهذا قال عنه أبو حاتم: مجهول، والمجاهيل عند أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل لابنه يزيدون على ألف وخمسمائة، فمنهم من يقول أبو حاتم: مجهول ويسكت، ومنهم من يقول: لا أعرفه، ومنهم من يقول فيه: مجهول أي لا أعرفه، فالجهالة عند أبي حاتم تساوي عدم المعرفة، وكون أبي حاتم لا يعرفه لا يلزم من حاله ألا يعرفه غيره، وعلى هذا هل الجهالة جرح ملازم وقدح في الراوي، أو هي عدم علم بحاله أو هي عدم علم بحال الراوي؟ فلا تكون حينئذٍ جرح، وينبني على ذلك إذا قلنا: إنها جرح مطلقاً قلنا: إن الحديث يضعف بالراوي المجهول، وإذا قلنا: إنها عدم علم بحاله يتوقف في حكمه حتى تعلم حاله.

العلماء في مراتب الجرح والتعديل يجعلون المجهول في مراتب الجرح، فمقتضى ذلك أن يضعف الخبر إذا وجد فيه من قيل فيه: مجهول، والذي يقول: إن الجهالة ليست بجرح، وإنما هي عدم علم بحال الراوي لا يجزم بضعفه، حتى يجد كلاماً في هذا الراوي الذي جهلت حاله.

ومما يؤيد كون الجهالة جرح في الراوي من غير نظر آخر قول أهل العلم في طبقات المجروحين وفي مراتب الجرح: مجهول أو مستور الحال، أو مستور، أو مجهول العين، أو مجهول الحال ظاهراً وباطناً، أو ظاهراً فقط أو باطناً فقط، على تفاصيل عندهم في كتب المصطلح، فعلى هذا إذا وجدنا في الرواة من هو مجهول يضعف مباشرة لأن الجهالة جرح في الراوي، والذي يقول: إن الجهالة عدم علم بحال الراوي يقول: لا يحكم بعض الحديث مباشرة حتى يوجد ما يقدح في رواته، ومنهم هذا الذي لم يطلع على حاله، وكأن عبارة الحافظ ابن حجر في النخبة تؤيد هذا.

قال: "من المهم معرفة أحوال الرواة جرحاً أو تعديلاً أو جهالة" فجعل الجهالة قسيم للجرح والتعديل، ولم يجعلها قسماً من الجرح، كما فعلوا في مراتب الجرح.

لعلكم تعذروني عن المتابعة، الصوت لا يساعد، والزكام بدايته ظهرت.

 

جزاكم الله خير.

"
هذا يسأل عن حكم صلاة النافلة على السيارة في الحضر؟

النبي -عليه الصلاة والسلام- كان يصلي النافلة على دابته، أينما توجهت به في السفر، ولا يفعل ذلك في الفريضة، يوتر على النافلة ويتنفل النفل المطلق على الراحلة، ولا يفعل ذلك في الفريضة، وأما بالنسبة للحضر في الأوقات الضائعة في مثل هذه الأيام التي نعيشها في السيارات، الإنسان قد يخرج من بيته ليقضي غرضاً له فيمكث نصف ساعة أو أكثر أو أقل، فأقول الأولى في مثل هذه الحالة أن يستمع أو يقرأ، يقرأ من محفوظه، أو يستمع من المسجل ولا يصلي لأن الصلاة تشغله، وإذا احتاج إلى الركوع أو السجود لا سيما إذا كان هو القائد فقد يشغله ذلك عن القيادة بخلاف الدابة، الدابة تسير بنفسها، واصطدامها بغيرها مأمون بخلاف السيارات التي إذا انحرفت يمنة أو يسرة أضرت بصاحبها، هذا من حيث المعنى، أما من حيث الثبوت وعدمه فلم يثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه صلى على الدابة في الحضر، وإن كان أنس يميل إلى جوازه، وجوازه إذا كان الضرر مأمون، فبدلاً من أن يضيع الوقت سدى فلا أرى مانعاً منه؛ لأن السفر ليس بوصف مؤثر في مثل هذا؛ لأنه لا يترتب عليه رخصة، لا جمع ولا قصر، رخصة من رخص السفر لم يربط به، فلا أرى ما يمنع -إن شاء الله تعالى- من الصلاة على السيارة في الحضر، لكن مع أمن الضرر عليه أو على غيره.
طالب:.......
لا ما يلزم، ما يلزم استقبال القبلة؛ لأن هذا فيه مشقة شديدة.