شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (044)

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وأهلاً بكم إلى حلقة جديدة من برنامج: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، مع بداية هذه الحلقة يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، فأهلاً ومرحبًا بكم شيخ عبد الكريم.

حياكم الله، وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.

المقدم: لعلنا نستكمل مع الإخوة المستمعين ما شرعتم في الحديث عنه حول حديث ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- في قول النبي –صلى الله عليه وسلم-: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله...» الحديث.

الحمد الله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وقفنا في الحلقة السابقة على قوله في الحديث: «إلا بحق الإسلام» المراد ما يوجبه الإسلام مما يزيد على ما ذُكِر مِن قتْل نفس معصومة أو ارتكاب حد موجب للقتل، كزنا محصَن أو شبهه، أو غرامة متلَف، فإذا قتل نفسًا معصومة قُتِل ولو شَهِد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وأقام الصلاة وآتى الزكاة؛ لأن هذا من حق الإسلام. ولو ارتكب حدًّا موجبًا للقتل كالزنا مع الإحصان فإنه يُقتَل بحق الإسلام ومثله لو أَتلَف شيئًا لآدمي فإنه يَغرم ما أتلفه لأنه من حق الإسلام. فالاستثناء مفرَّغ من أمر عام؛ لأن ما قبله مؤوَّل بالنفي، نص الحديث: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله» كأنه قال: لا عصمة إلا لمن شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، فالاستثناء هنا مفرَّغ من أمر عام؛ لأن ما قبله مؤوَّل بالنفي «أمرت أن أقاتل» يعني رُتِّبت العصمة على ما ذُكر، فكأنه قيل: لا عصمة إلا لمن فعل ذلك.

وإضافة الحق للإسلام «إلا بحق الإسلام» بمعنى اللام، أو بمعنى (في) أو (مِن) أي بحق مِن حقوق الإسلام.

«وحسابهم على الله» أي أمر سرائرهم بعد ذلك إلى الله -سبحانه وتعالى­-، وأما نحن فإنما نحكم بالظاهر، فنعاملهم بمقتضى ظواهر أقوالهم وأفعالهم، مَن بَدَر لنا منه ما يُوجِب القتل فإنه يُقتَل، ولو اعتقد خلاف ذلك، مَن بَدَر منهم من يستحق العقوبة بالمال يعاقب، حتى النبي -عليه الصلاة والسلام- إنما يَحكم على حسب ما يظهر له «إنما أنا بشر أحكم على نحو ما أسمع» أو المعنى هذا القتال وهذه العصمة إنما هما باعتبار أحكام الدنيا المتعلِّقة بنا، وأما أمور الآخرة من الجنة والنار والثواب والعقاب فمفوضة إلى الله تعالى.

يقول ابن حجر: لفظة "على" «حسابهم على الله» (على) هذه مشعرة بالإيجاب، وظاهرها غير مراد، فإما أن تكون بمعنى اللام، أو على سبيل التشبيه، أي هو كالواجب على الله في تحقُّق الوقوع، متحقِّق الوقوع كالواقع، فحسابهم على الله، الأصل في هذا التعبير إفادة الوجوب إذا قيل عليك كذا، يعني يجب عليك كذا، كما أن اللام تقتضي الإباحة، إذا قيل: لك كذا، للمأموم أن يفتح على الإمام، الأصل في مثل هذا التعبير الإباحة، لكن (على) عند أهل العلم تفيد الوجوب، ولا شك أن ظاهر هذا التعبير غير مراد؛ لأنه لا يجب على الله -سبحانه وتعالى- شيء، كما أنه لا يَحرُم عليه شيء، حق العباد على الله، وهنا حساب العباد على الله، هذا شيء أوجبه الله -سبحانه وتعالى- على نفسه، والتزم به، كما أنه حرَّم الظلم على نفسه، وجعله بين عباده محرَّمًا، هذا شيء هو الذي قرره -سبحانه وتعالى- على نفسه، ولا ملزِم له.

يقول الكرماني: الأصل أن يقال: حسابهم لله، أو إلى الله، يقول: أو هو واجب عليه شرعًا بحسب وعده، يعني هو الذي أوجبه على نفسه، وأما عند المعتزلة فهو ظاهر؛ لأنهم يقولون بوجوب الحساب عقلاً تعالى الله -سبحانه وتعالى- عن قولهم علوًّا كبيرًا.

يقول النووي: في الحديث فوائد، منها وجوب قتال الكفار إذا أطاقه المسلمون حتى يسلموا، أو يبذلوا الجزية إن كانوا ممن تقبل منهم الجزية، ومنها وجوب قتال تارك الصلاة والزكاة، وأن تارك الصلاة عمدًا وإن كان معتقدًا لوجوبها يُقتَل في قول الجمهور، يقول النووي: اختلفوا هل يُقتَل على الفور أم يُمهَل ثلاثة أيام؟ يقول: والأصح أنه يقتل في الحال، قال: وإذا قُتِل كان حكمه حكم المقتول حدًّا كالزاني المحصَن.

يقول: وقال أحمد بن حنبل في رواية أكثر أصحابه: تارك الصلاة عمدًا يكفر ويخرج عن الملة، وبه قال بعض أصحاب الشافعي، فعلى هذا له حكم المرتدين، فلا يورَث، ولا يُغسَّل، ولا يُصلَّى عليه، وتَبيْن منه امرأته.

يقول الكرماني: فإن قلت: تارك الصلاة يُقتَل ويقاتَل، كما ذُكر في الفقهيات، فما حكم تارك الزكاة؟ يقول: قلتُ: حكم الزكاة حكمها، يعني حكم الصلاة، ولذا قاتل الصديق مانعي الزكاة، قال ابن حجر: كأنه أراد يعني التسوية بين الصلاة والزكاة في المقاتَلة، أما في القتل فلا، والفرق أن الممتنِع من إيتاء الزكاة يمكن أن تؤخذ منه قهرًا بخلاف الصلاة، فإن انتهى إلى نَصْب القتال ليمنع الزكاة قوتل، وبهذه الصورة قاتل الصديق مانعي الزكاة، ولم يُنقَل أنه قَتَل أحدًا منهم صبرًا، لا شك أن هناك فرق بين القتال والمقاتلة، بين القتل والمقاتلة، عند أهل العلم لو امتنع أهل بلد من الأذان والخلاف في وجوبه أو هو على الكفاية؟

المقدم: يقاتَلون.

يقاتلون، لكن لو مؤذِّن مسجد قال أنا لن أؤذن، امتنع من الأذان، يقتل أو ما يقتل؟

المقدم: لا يقتل.

فرق بين القتل والمقاتلة.

يقول ابن حجر: وعلى هذا ففي الاستدلال بهذا الحديث على قتل تارك الصلاة نظر؛ للفرق بين صيغة أقاتل وأقتل، والله أعلم، هذا كلام ابن حجر، وقد أطنَب ابن دقيق العيد في شرح العمدة، أطنب في الإنكار على من استدل بهذا الحديث على ذلك، وقال: لا يلزم من إباحة المقاتَلة إباحة القتل؛ لأن المقاتلة مفاعلة، تستلزم وقوع القتال من الجانبين ولا كذلك القتل.

وحكى البيهقي عن الشافعي أنه قال: ليس القتال من القتل بسبيل، وقد يحل قتال الرجل ولا يحل قتله.

أقول: أما قَتْل تارك الصلاة جاحدًا لوجوبها فهو محل إجماع، إذا ترك الصلاة جاحدًا لوجوبها هذا محل إجماع لم يخالف في ذلك أحد؛ لماذا؟ لأنه كافر مرتد، وقد قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: «من بدل دينه فاقتلوه» أخرجه الجماعة إلا مسلمًا؛ لأنه جحد الصلاة، وهي مما عُلِم من الدين بالضرورة، وأما من تركها عمداً مع اعترافه بوجوبها فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله قال: سمعت النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: «إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة» فرَتَّب الحكم على مجرد الترك، فيُقتَل التارك على هذا كفرًا، وحكمه حينئذٍ حكم الكفار، لا يُغسَّل، ولا يُكفَّن، ولا يصلَّى عليه، ولا يُدفَن في مقابر المسلمين، ولا يرثه أقاربه المسلمون كغيره من الكفار، هذا القول مروي عن علي بن أبي طالب، وبه قال ابن المبارك وأحمد وإسحاق، وأما من لا يقول بكفره فاختلفوا في قتله، فالأكثر كما هو مذهب مالك والشافعي وغيرهما أنه يقتل لحديث الباب، أبو حنيفة يقول: لا يَكفُر ولا يُقتَل، بل يُعزَّر ويُحبَس حتى يصلِّي، فالمقصود أنه على كل حال أقل الأحوال أن يحبس حتى يصلي، هذا أقل ما قيل عند أهل العلم، وجماهير أهل العلم على أنه يقتل تارك الصلاة، ولو اعترف بوجوبها، وعرفنا أنه عند أحمد وابن المبارك وإسحاق ومروي عن علي بن أبي طالب أنه يُقتَل كُفْرًا، كافر، ولو أقرَّ بوجوبها، بمجرد تركها، الشافعية والمالكية يقولون: لا يكفر، لكنه يقتل، أبو حنيفة وهو أسهل المذاهب في هذا يقول: لا يكفر، ولا يقتل، بل يُعزَّر ويحبس حتى يصلي، وهذا أقل ما قيل في عقوبة تارك الصلاة، نسأل الله العافية.

الصلاة أعظم أركان الإسلام ثاني أركان الإسلام، يؤيد القول بكفره حديث بريدة -رضي الله عنه- عن النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: «العهد الذي بيننا وبينهم ترك الصلاة، فمن تركها فقد كفر» إضافة إلى الحديث الذي خرَّجه مسلم فيما مضى من حديث جابر: «بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة». وعن شقيق بن عبد الله التابعي المتفق على جلالته قال: كان أصحاب محمد -عليه الصلاة والسلام- لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة، رواه الترمذي في كتاب الإيمان بإسناد صحيح. (كانوا) يعني مَن؟ هو تابعي جليل يقصد مَن؟ يعني الصحابة، وهذا ظاهر في نقل إجماع الصحابة على ذلك، لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة، ليس معنى هذا أن الإنسان إذا سمع الخلاف الذي له وجه وله مستند أو لا مستند له أنه يأخذ بالأقل والأسهل، لا، ليس معنى هذا أن من سمع أن تارك الصلاة لا يكفر ولا يُقتَل..، ينظر إلى العاقبة، أكثر أهل العلم لاسيما من الصحابة يرون كفر تارك الصلاة، نسأل الله العافية، حتى عند من يقول بعدم كفره يقول: يُقتَل، هذا حكمه في الدنيا، وفي الآخر أمره سهل؟! ليس بالأمر الهيِّن، حتى عند من لا يقول بكفره، المسألة مترددة بين كونها من أعظم العظائم وأكبر الكبائر وبين كونها كفر، وكلاهما عظيم، خطير، وفعلها يسير على من يسره الله عليه، وليس ذِكْر الخلاف أو معرفة الخلاف مما يجعل الناس يتخيَّرون من أقوال أهل العلم ما شاؤوا، لا؛ لأن الأخذ بهذه الأقوال وبأيسر الأقوال وأسهلها يجعل الإنسان يخرج من دينه وهو لا يشعر، نسأل الله السلامة والعافية، والمسألة خطيرة جدًّا، والمَقام لا يحتمل البسط.

يقول النووي -رحمه الله تعالى-: من فوائد الحديث أن من أظهر الإسلام وفعل الأركان كففنا عنه، ولا نتعرَّض له.

يقول: وفيه قبول توبة الزنديق، وإن تكرر منه الارتداد والإسلام، والمراد بالزنديق عند أهل العلم من يُظهِر الإسلام ويُبطِن الكفر، فهو المنافق المعروف على عهد النبي -عليه الصلاة والسلام-، يسمى في عرف المسلمين فيما بعد ذلك بالزنديق.

وقال مالك: لا تُقبَل توبته، توبة الزنديق كما لا يقبل رجوعه إلى الإسلام، لكنه إن كان صادقًا في توبته ينفعه ذلك عند الله تعالى، ما معنى عدم قبول التوبة؟ أنه يعامل في أحكام الدنيا على أساس أنه مرتد، أما عند الله -سبحانه وتعالى- إن كان صادقًا في توبته فإنه ينفعه ذلك، كما اختلف أهل العلم في قبول توبة من تَعمَّد الكذب على النبي -عليه الصلاة والسلام-، الإمام أحمد والحميدي يقولون: لا تقبل توبته، معنى لا تقبل توبته، يعني تُرَدّ روايته ولو أظهر التوبة، لكن إن صدق في توبته ينفعه ذلك عند الله -سبحانه وتعالى-؛ لأنه ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب.

صدِّيق حسن خان نقل في شرح المختصَر عون الباري عن الشوكاني أنه سئل عن الأعراب سكان البادية الذين لا يفعلون شيئًا من الشرعيات إلا مجرَّد التكلم بالشهادة، هل هم كفار أم لا؟ بوادي، جفاة، يسكنون البادية، لا يعرفون من الإسلام إلا الشهادة، فأجاب -رحمه الله تعالى-، يعني الشوكاني في كتابه: إرشاد السائل إلى أدلة المسائل بما نصه: من كان تاركًا لأركان الإسلام وجميع فرائضه، رافضًا لما يجب عليه من ذلك من الأقوال والأفعال ولم يكن لديه إلا مجرد التكلم بالشهادتين فلا شك ولا ريب أن هذا كافر شديد الكفر، حلال الدم والمال، فإنه قد ثبت في الأحاديث المتواترة أن عصمة الدماء والأموال إنما تكون بالقيام بأركان الإسلام. لكن هل مثل هذا ممن يُعذَر بالجهل أو الإعراض عن الدين عن تعلم الدين بجميع ما يتطلَّبه الدين من أصول وفروع أعرض عنه إعراضًا بالكلية هذا عدَّه أهل العلم من ماذا؟ من النواقض.

فالذي يجب، يقول الشوكاني: فالذي يجب على من يجاور هذا الكافر، يعني الذي لا يؤدي من الإسلام إلا الشهادة، فالذي يجب على من يجاور هذا الكافر من المسلمين في المواطن والمساكن أن يدعوه إلى العمل بأحكام الإسلام، والقيام بما يجب عليه القيام به على التمام، ويبذل تعليمه، ويُليِّن له القول، ويسهِّل عليه الأمر، ويرغبه في الثواب، ويخوفه العقاب، فإن قبل منه، ورجع إليه، وعوَّل عليه، وجب عليه أن يبذل نفسه لتعلميه، فإن ذلك من أهم الواجبات وآكدها، أو يوصله إلى من هو أعلم منه بأحكام الإسلام، وإن أصر ذلك الكافر على كفره وجب على من يبلغه أمره من المسلمين أن يقاتلوه حتى يعمل بأحكام الإسلام على التمام، فإن لم يعمل فهو حلال الدم والمال، وحكمه حكم أهل الجاهلية.

لكن مثل هؤلاء ينبغي أن يُرفع أمرهم إلى ولي الأمر، فيكلِّف ولي الأمر بمن يلزمهم بفعل هذه..، أن يدعوهم إلى حضيرة الإسلام، وإلى فعل الواجبات، وترك المحرمات، فإن أَبَوا وأصروا ألزمهم.

الحديث خرجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- هنا في كتاب الإيمان، وترجم عليه ما سبق ذكره مع مناسبته، يقول الإمام -رحمه الله تعالى-: حدثنا عبد الله بن محمد المُسْنَدي، قال: حدثنا أبو روح الحَرَمِي بن عمارة، قال: حدثنا شعبة عن واقد بن محمد، قال: سمعت أبي يحدِّث عن ابن عمر -رضي الله عنهما- فذكره.

قال ابن حجر: وهذا الحديث غريب الإسناد، تفرَّد بروايته شعبة عن واقد، قاله ابن حبان، وهو عن شعبة عزيز تفرَّد بروايته عنه حَرَمِي هذا وعبد الملك بن الصبَّاح، وغريب تفرد بروايته شعبة، وهو بعد ذلك عزيز في جميع طبقاته يرويه أكثر من واحد، في طبقة واحدة تفرد به شعبة، يسمى عزيز وإلا غريب؟ يسمى غريب؛ لأن العدد الأقل يقضي على الأكثر.

وهو عزيز عن حَرَمِي، تفرد به عنه المُسْنَدي شيخ البخاري، وإبراهيم بن محمد بن عرعرة، ومن جهة إبراهيم أخرجه أبو عوانه وابن حبان والإسماعيلي وغيرهم، وهو غريب عن عبد الملك، تفرد به عنه أبو غسان مالك بن عبد الواحد شيخ مسلم، فاتفق الشيخان على الحكم بصحته مع غرابته، الحديث غريب، وقلنا: إنه في بعض طبقاته يرويه أكثر من واحد عزيز، وفي طبقة من طبقاته تفرد بروايته شعبة وخرجه الشيخان، اتفق الشيخان على الحكم بصحته مع غرابته، وليس الحديث في مسند أحمد على سعته، بهذا نعلم -كما أشرنا سابقًا في حديث عمر- أن العزة ليست بشرط للصحة، وأن تعدد الرواة ليس بشرط للصحيح مطلقًا ولا للبخاري في صحيحه، بل في الصحيحين من الغرائب وهي ما تفرد بها بعض الرواة عدد لا بأس به، ومع ذلك خُرِّجت في الصحيحين، تفرد الراوي برواية الخبر لا يقدح فيه إذا كان من أهل الثقة والضبط والإتقان، كما أن له شواهد يأتي ذكرها.

والحديث خرَّجه الإمام مسلم في كتاب الإيمان، في باب: الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله... إلى آخره.

أخرجه أيضًا البخاري من حديث أبي هريرة مرفوعًا: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي» وهذا شاهد لحديث الباب، حديث ابن عمر: «وبما جئت به».

الحديث أخرجه مسلم أيضًا، أخرجه البخاري من حديث أنس، وهذا شاهد ثانٍ يشهد لحديث ابن عمر، وأخرجه مسلم أيضًا من حديث جابر، وهذا شاهد ثالث، فالحديث له ثلاثة شواهد من حديث أبي هريرة، ومن حديث أنس، ومن حديث جابر، الحديث مع كونه غريب، يعني حديث ابن عمر، إلا أن له شواهد، ولو لم يوجد له شواهد فإن الغرابة لا تضره؛ لما عرفنا أن تعدد الرواة ليس بشرط لصحة الخبر؛ ولذا يقول الصنعاني لما تكلم عن العزيز قال:

وليس شرطًا للصحيح فاعلمِ

 

 

وقد رمي من قال بالتوهمِ

 

مع أن بعض شراح الصحيح زعم أن هذا شرط للبخاري في صحيحه كابن العربي في شرحه للصحيح، الكرماني في مواضع من شرحه نص على أن البخاري لا يخرِّج حديث الواحد الغريب، بل لا بد أن يكون له أكثر من طريق، وهذا حقيقة يردُّه أول حديث في الصحيح وآخر حديث، ومما يرده هذا الحديث الذي معنا.

السائل: فضيلة الشيخ أحسن الله إليكم، هذا الحديث أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- عندما قاتل مانعي الزكاة، وراجعه كثير من الصحابة، منهم عمر -رضي الله عنه- فلم يستدل بمرفوع، وإنما قال: لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، مع أن هذا الحديث نص في المسألة.

المقدم: ولم يستدل به أبو بكر؟

السائل: ولم يستدل به أبو بكر.

المقدم: نعم.

السائل: ما قولكم -أحسن الله إليكم-؟

ذكر الحافظ ابن حجر: أن قومًا استبعدوا صحة هذا الحديث بأن الحديث لو كان عند ابن عمر لما ترك أباه ينازع أبا بكر في قتال مانعي الزكاة، ولو كانوا يعرفونه -يعني يعرفون هذا الحديث- لما كان أبو بكر يُقِرُّ عمر على الاستدلال بقوله -عليه الصلاة والسلام-: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله» وينتقل عن الاستدلال بهذا النص إلى القياس، انتقل أبو بكر من الاستدلال بالنص في حديث الباب -مثل ما تفضلت- إلى القياس؛ لأن الزكاة أخت الصلاة، انتقل عن الاستدلال بهذا النص إلى القياس إذ قال: لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة؛ لأنها قرينتها في كتاب الله.

والجواب: أنه لا يلزم من كون الحديث المذكور عند ابن عمر أن يكون استحضره في تلك الحالة، قد يغفل عنه، وهذا شيء ملموس، الإنسان عنده على بعض المسائل من الحُجج الصحيحة والصريحة لكنها تَعْزُب عنه في وقت الحاجة، لا يلزم من كون الحديث المذكور عند ابن عمر أن يكون استحضره في تلك الحالة، ولو كان مستحضِرًا له فقد يحتمل ألا يكون حضر المناظرة المذكورة، يمكن ما حضر المقاولة والمناظرة بين أبي بكر وعمر، ولا يمتنع أن يكون ذكره لهما بعد ذلك.

ولم يستدل أبو بكر في قتال مانعي الزكاة بالقياس فقط، بل أخذه أيضًا من قوله -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الذي رواه: «إلا بحق الإسلام» قال أبو بكر: والزكاة حق الإسلام.

على كل حال أنه قد تخفى السنة على الكبير مع أنها موجودة عند من هو دونه، فلا نقول: إن أبا بكر يحفظ من السنة ما لا يحفظه من هو دونه، وإن كان أكبر قدر وأجل، وقد يخفى على عمر ما قد يوجد عند غيره من هو دونه من الصحابة، كما في قصة الاستئذان خفي على عمر حديث الاستئذان، وهو موجود عند أبي موسى، وشهد له أصغر القوم أبو سعيد، فوُجِد عند أبي موسى وعند أبي سعيد ما لا يوجد عند عمر، ليس المقصود من كون الشخص جليل القدر، عظيم المنزلة أن يكون محيط بجميع الشريعة، أو بجميع ما جاء من نصوصها، لا، والله المستعان.

المقدم: أحسن الله إليكم وجزاكم الله عنا خيرًا.

أيها الإخوة والأخوات، انتهى شرح هذا الحديث في هذه الحلقة، أود في ختام هذه الحلقة أن أذكر الإخوة والأخوات الذين بعثوا بعتابهم حول الأسئلة التي لم نتطرَّق إليها بأننا نذكر جملة كبيرة من أسئلتهم ويتفضل الشيخ بالحديث عنها من خلال شرح الأحاديث، فكثير من الأسئلة التي تَرِد إما أنها تُعرَض من خلال الشروحات أو تُطرَح من خلال الإخوة الذين يحضرون هذا الدرس وبعضها سيأتي -بإذن الله-، فبالتالي تكرارها ليس له داعٍ لأنه ستَرِد الإجابة عنها في ثنايا شروحات بعض الأحاديث. ما كان منها لم نتطرَّق إليه، سيُعرَض -بإذن الله-. لذا أَعِدُ الإخوة والأخوات بهذا -بإذن الله تعالى- في حلقات قادمة. حتى ذلكم الحين نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.