بلوغ المرام - كتاب البيوع (23)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فقد أشار الشيخ -حفظه الله- إلى أننا متأخرون في شرح الكتاب، وأن المدة المقررة لإكماله قد قربت، وعلى هذا سوف يجمل الشرح إجمالاً لا يخل بمقاصد الفوائد -إن شاء الله تعالى-، ومع ذلك سوف تكون سمة الدروس الحزم -إن شاء الله تعالى-، يعني مسألة المداخلات ومسألة استشارة الطلاب في بعض المسائل يعني سوف تقل -إن شاء الله تعالى- من أجل أن ننهي الكتاب، والكتاب الآن يقرب من إكمال السنة الرابعة، الطول هذا ممل لجميع الأطراف، وهو أيضاً يعوق عن تحصيل بعض الكتب الأخرى الثانية التي تلي هذا الكتاب -إن شاء الله تعالى- إن كان في العمر بقية، والله المستعان، وعلى هذا سوف يكون الشرح فيه شيء من الاختصار مع الحزم -إن شاء الله تعالى-، وإن كان بعض الإخوان من المشايخ يقولون: إنك لن تستطيع أن تحزم لأنك عودت الطلاب على هذا، وأنت عودت نفسك على هذا، لكن المقصود أن التسديد والمقاربة سيحصل -إن شاء الله تعالى-.

سم.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال الحافظ ابن حجر العسقلاني -رحمه الله تعالى- في كتابه بلوغ المرام:

باب: الوصايا

عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده)) متفق عليه.

وعن سعد بن أبي وقاص -رضي الله تعالى عنه- قال: قلت: يا رسول الله أنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: ((لا)) قلت: أفأتصدق بشطره؟ قال: ((لا)) قلت: أفأتصدق بثلثه؟ قال: ((الثلث والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)) متفق عليه.

وعن عائشة -رضي الله تعالى عنها- أن رجلاً أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله إن أمي افتلتت نفسها ولم توصِ، وأظنها لو تكلمت تصدقت أفلها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: ((نعم)) متفق عليه، واللفظ لمسلم.

وعن أبي أمامة الباهلي -رضي الله تعالى عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إن الله قد أعطى كل ذي حقٍ حقه فلا وصية لوارث)) رواه أحمد والأربعة إلا النسائي، وحسنه أحمد والترمذي، وقواه ابن خزيمة وابن الجارود، ورواه الدارقطني من حديث ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما-، وزاد في آخره: ((إلا أن يشاء الورثة)) وإسناده حسن.

وعن معاذ بن جبل -رضي الله تعالى عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة في حسناتكم)) رواه الدارقطني، وأخرجه أحمد والبزار من حديث أبي الدرداء -رضي الله تعالى عنه-، وابن ماجه من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه-، وكلها ضعيفة، لكن قد يقوي بعضها بعضاً، والله أعلم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:

باب: الوصايا

الوصايا: جمع وصية كهدايا وعطايا وضحايا وبرايا جمع عطية وهدية وضحية وبرية، وهي ما يعهد به الإنسان من ماله بعد موته، وإن كانت الوصية في الأصل تشمل جميع ما يوصى به، سواء كان مالاً أو يؤول إلى مال، أو غير ذلك بأن يعهد ويوصي بأولاده من بعده مثلاً في تربيتهم، وقد كان العلماء في السابق يعهدون بأولادهم ويوصون بهم إلى من يثقون بعلمه ودينه وأمانته لتربيتهم من بعده، فتجدون في كثير من التراجم لكثير من أهل العلم أنه ربّاه فلان، وهو غير قريب له، وإنما هو من أهل العلم أوصاه أبوه به، ولا شك أن مثل هذا يسمى وصية، لكن ليست لها الأحكام التي ذكرها أهل العلم في هذا الباب، فالوصية أعم إلا أن ما يدرس في كتب أهل العلم إنما هو الوصية بالمال، أو ما يؤول إليه، وتختلف الوصايا عن الأوقاف بأن الأوقاف يسري حكمها من التلفظ بها، بإبرام عقدها في حياة الموقف، وأما الوصايا فلا يسري حكمها إلا بعد وفاة الموصي، ولذا يفترقان في كون الموقف لا يتصرف، ليس له حق التصرف في الوقف، بينما الوصية له أن يزيد فيها وينقص ما لم تلزم بوفاته.

في الحديث الأول يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:

"عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ما حق امرئٍ مسلم))" و(ما) هذه نافية، يعني ليس من حقه أن يبيت دون وصية إذا كان له شيء يمكن أن يوصي به، والوصية منها ما هو واجب، ومنها ما هو مندوب، فالوصية الواجبة إذا كان عليه ديون، في ذمته التزامات للناس لا بد أن ينبه عليها، لا بد أن يكتبها، سواء كانت الديون للخالق أو المخلوق، في ذمته دين لله -جل وعلا- كفارة لا بد أن يكتب لئلا ينسى، فإن فرط ولم يكتب ونسي ومات فلا يسلم من التبعة، وإذا كان في ذمته حق لآدمي مبلغ من المال لآدمي أو مظلمة يكتبها لئلا ينساها، يكتب إذا كان قد أمضى شيئاً يؤثر في حياته الزوجية، إذا كان طلق مرة مثلاً، يكتب أنه طلق مرة، لماذا؟ لئلا يطول به العهد بعد عشرين سنة يطلق ثانية، ويكون قد نسي الأولى، ثم بعد ذلك يطلق ثالثة، فإذا قيّد هذه الطلقات وتقييدها لا سيما ممن يخشى على نفسه النسيان، وأن يقع فيما حرم الله عليه من وطء المرأة بعد بينونتها هذا يجب عليه أن يكتب.

((ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه)) سواء كان له أو عليه من باب أولى، إذا كان عليه يلزمه أن يكتب، وإذا كان له ديون على الناس إن كتبها فالأمر إليه، وإن تركها فالأمر إليه؛ لأنها إذا نسيها هو أو وارثه لا يلحقه شيء، بينما تلزم كتابتها من المدين الذي شغلت ذمته بهذا الدين ولا تبرأ إلا بسداده، فإذا لم يكتب كان عرضةً للنسيان، مثل هذا لا بد أن يوصي، له شيء يريد أن يوصي فيه، يعني له مال يريد أن يخرج منه شيئاً لله -جل وعلا- فإنه عليه أن يبادر ولا يتأخر.

((يبيت ليلتين)) دون أن يكتب هذه الوصية ((إلا ووصيته مكتوبة عنده)) والليلتين على سبيل التقريب والمبادرة وإلا جاء ثلاث، وجاء ليلة، فليس المراد تحديد الوقت؛ لأنه قد يقول قائل: إذا كنا لا نضمن شهراً أو سنةً لماذا لم يقل: شهر أو سنة؟ فكيف نضمن ليلة أو ليلتين؟ المقصود بذلك المبادرة إلى كتابة الوصية وليس التحديد بالعدد على ظاهره، وإلا فالإنسان يمكن أن يموت وهو في مكانه، لكن المقصود بذلك المبادرة، وتعجيل كتابة الوصية، ومثلما ذكرنا الوصية عند عامة أهل العلم مستحبة إذا لم تكن في واجب، في سداد دين أو شبهه، وأوجبها أهل الظاهر، وأصل الصدقة بالقدر الزائد على ما أوجب الله تعالى من زكاة وكفارات وغير ذلك من أنواع الواجبات له ندب، فكيف توجب عليه بعد وفاته، فالمرجح قول الجمهور، ما لم تكن في أمرٍ واجب كالدين مثلاً، سواء كان لله -جل وعلا- من كفارات وشبهها، أو كان للآدمي فمثل هذا لا بد أن يكتب، فإذا كتبت هذه الوصية سواء كانت واجبة أو مندوبة، فعند جمع من أهل العلم أنه لا بد من الإشهاد عليها؛ لأن الحقوق لا تثبت إلا بالشهادات، وجمع من أهل التحقيق يرون أنه لا تلزمه الشهادة، بل إذا كتبها بيده، إذا كتبها بقلمه، وعرف قلمه كفى، يعني عرف الوارث قلم المورّث، وأنه كتب هذه الوصية بثلث ماله فأقل لجهةٍ غير وارثة لزم العمل بها، وكتابة الوصية، ومعرفة الخط نوع من المجادة، فإذا وجد الوارث بخط مورثه كتابة ملزمة للوارث بشيء عليه أن يعمل به، وإذا وجد بقلمه ديناً له على فلان يدعيه فيقوم مقامه حينئذٍ، إذا عرف خطه الذي لا يتردد فيه حتى قال بعض أهل العلم: إن له أن يحلف عليه؛ لأن هذه قرينة تغلب على الظن ثبوت الدعوى بغض النظر عن ثبوت المدعى به، الوجادة في علوم الحديث هي أن يجد الطالب أو يجد الراوي بخط شيخه الذي لا يشك فيه حديثاً فيرويه عنه على سبيل الوجادة، فيقول: وجدت بخط فلان، ولها شوب اتصال كما يقول أهل العلم، لها شوب اتصال، يعني لا يحكم باتصالها؛ لأن الواجد قد يكون ممن تأخر وجوده لهذه الوجادة بعد وفاة الكاتب، بل قد يكون وجوده في هذه الحياة -أعني الواجد- بعد موت الكاتب بمفاوز بحيث لا تمكن معاصرته له، ولذا قالوا: إن فيها شوب اتصال، ولا نحكم عليها بالاتصال المطلق، فقد نجد في كلام بخط شيخ الإسلام ابن تيمية فهل نقول: إن هذا الإسناد متصل بيننا وبينه؟ هي وجادة على كل حال، إذا كنا لا نشك أن هذا خط شيخ الإسلام، ومن عانى الخطوط، واهتم بها يعرف هذه الخطوط ولو لم يلق صاحب الخط، نحن نعرف جزماً خط شيخ الإسلام، وخط كثير من الأئمة بالمعاناة، فإذا وجدنا بخط شيخ الإسلام نقول: وجدنا بخط شيخ الإسلام، وننقل عنه بهذه الصيغة، وقل مثل هذا ما يوجد في حواشي الكتب، إذا وجدت بخط ابن حجر على نسخته من البخاري أو من الترمذي وأنت تعرف خط ابن حجر تنسب إليه القول إذا كنت لا تشك في معرفة خطه، ولا يلتبس عليك أمره، فمثل هذه الأمور يعمل بها عند أهل العلم، ولها شروط عندهم مستوفاة في كتب المصطلح، لكنها لا تفيد الاتصال كالسماع من لفظه، أو العرض عليه، أو الإجازة منه، إنما فيها شوب اتصال كما يقول أهل العلم.

لهم صيغ في الوصايا، لهم في الوصايا صيغ، ثبت عن أنس -رضي الله عنه- بسند صحيح مما أخرجه عبد الرزاق موقوفاً قال: كانوا -يعني الصحابة -رضوان الله عليهم- يكتبون في صدور وصاياهم:

بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به فلان أنه يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، أو أن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأوصى من ترك وراءه من أهله أن يتقوا الله، ويصلحوا ذات بينهم، ويطيعوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين، وأوصاهم بما أوصاهم به إبراهيم بنيه ويعقوب أن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون، ثم يذكر ما يحتاج إلى ذكره في هذه الوصية.

النبي -عليه الصلاة والسلام- اختلفوا هل أوصى أو لم يوصِ؟ هو في مرض موته -عليه الصلاة والسلام- دعا بالكاتب، وأراد أن يكتب لكنه تلاحى عنده فلان وفلان ثم كثر اللغط عنده فامتنع -عليه الصلاة والسلام- من الكتابة، ولعمر -رضي الله تعالى عنه- دور في ذلك، أما بالنسبة لوصيته في بعض الأمور بالصلاة، وما ملكت أيمانكم استوصوا بالنساء خيراً فهذا مستفيض في السنة، لكن ليست هي الوصية التي يكتبها الإنسان قرب وفاته، إنما الذي في الصحيح أنه لم يكتب -عليه الصلاة والسلام-، الأموال التي يمكن أن يوصى بها مما يدخل في هذا الباب، فالأنبياء لا يورثون، وإنما يتركون ما يتركون صدقة، وليس مما يورث، فيفرز بعضه يتصدق به، ويوصى به، وبعضه للورثة، هذا ليس بوارث في حق الأنبياء، ومنهم النبي -عليه الصلاة والسلام-.

في الحديث الأول راوي الحديث ابن عمر -رضي الله تعالى عنه-، وهو الصحابي المقتدي المؤتسي لما سمع هذا الحديث كتب وصيته فوراً، وثبت عنه أنه سئل بم أوصى؟ وقد ذكر أنه ليس له مالاً يوصي به؟ ولا يمنع من أن ينفذ هذا التوجيه النبوي، ثم في النهاية لا يكون له شيء يوصي به ولا تعارض؛ لأنه عرف بالبذل، وعرف بعدم التمسك وإمساك شيء من أمور الدنيا، وعرف بسرعة المبادرة والامتثال، وامتثل قول النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) فكان لا يدخر شيئاً -رضي الله عنه وأرضاه-، فيتفق له امتثال هذا الأمر في كتابة الوصية، ويتفق له أنه بادر بإخراج ما يمكن إخراجه في حياته، فلم يحصل له شيء يمكن أن يوصي به.

الحديث الثاني: يقول -رحمه الله تعالى-:

"وعن سعد بن أبي وقاص -رضي الله تعالى عنه- قال: قلت: يا رسول الله أنا ذو مال" يعني أنا صاحب مال، و(ذو) من الأسماء الستة التي ترفع بالواو، وهنا مرفوعة لأنها خبر (أنا) "قلت: يا رسول الله أنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة" سعد بن أبي وقاص -رضي الله تعالى عنه- مرض بمكة كما في الصحيح، مرض في مكة وأشرف على الموت، فأراد أن يوصي والخلاف بين أهل العلم مما جاءت به الروايات أنه كان في حجة الوداع، أو في غزوة الفتح، لكن في حجة الوداع أكثر وأصح وأشهر، في حجة الوداع مرض سعد -رضي الله تعالى عنه- وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، فزاره النبي -صلى الله عليه وسلم- وطمأنه أنه سوف يعيش، ويولد له ولد، ورثى سعد بن خولة حينما مات في مهاجره الذي تركه لله ورسوله، يعني مات بمكة يرثي له النبي -عليه الصلاة والسلام-، وأما سعد فأخبره النبي -عليه الصلاة والسلام- بما ليس بصريح، وإنما فهم منه أن النبي -عليه الصلاة والسلام- يطمئنه، وأنه يعيش حتى يولد له الولد حتى قالوا: إنه ولد له بعد ذلك عشرة من الأولاد واثنتا عشرة من البنات، وهو يقول في خبره: "قلت: يا رسول الله أنا ذوو مال" يعني ذو مالٍ كثير، ولا يرثني إلا ابنة واحدة، وهذا المال كثير على هذه البنت مع أنها لها جميع المال أو نصفه؟ يعني أليس له أصل من بني زهرة يرثون الباقي؟ الأصل لها النصف وهم الباقي "ولا يرثني إلا ابنة واحدة أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: ((لا))" لأن الثلثين أكثر من الكثير "قلت: أفأتصدق بشطره؟ قال: ((لا))" والصدقة هنا المراد بها المنجزة في حياته بأن يخرج ثلثي ماله، أو نصف ماله في وقته، أو الثلث أو المراد بذلك الوصية بعد وفاته كما فسر ذلك الرواية الأخرى؛ لأنه لو كان قوله: "أفأتصدق؟" على ظاهره بالصدقة في حياته لما كان الحديث داخلاً في هذه الترجمة، كان داخلاً في كتاب الزكاة، لكنه جاء في بعض الروايات: أفأوصي بثلثي مالي؟ قال: ((لا)) فالمراد بالصدقة هنا هي الوصية، الصدقة بالمال بعد الموت "أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: ((لا)) قال: أفأتصدق بشطره؟" يعني بنصفه؟ "قال: ((لا)) قلت: أفأتصدق بثلثه؟ قال: ((الثلث والثلث كثير))" يعني تصدق بالثلث، والثلث مع ذلك كثير، وهل الأفضل من هذا السياق أن يوصي الإنسان بثلث ماله أو بأقل؟ ليس له أن يوصي بأكثر من الثلث إلا إذا أجازه الورثة على ما سيأتي، لكن صدقته بالثلث أفضل أم بالربع أو الخمس؟ أبو بكر -رضي الله تعالى عنه- تصدق أو أوصى بالخمس، فقوله: ((كثير)) سياق الخبر يدل على أن الثلث فاضل وإلا مفضول؟ يعني كثير بالنسبة لهذه الصدقة، فيكون أعلى ما يتصدق به وما دونه أفضل منه بدليل العلة ((إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)) بعضهم فهم أنه كثير، وأن ما دونه أفضل منه، وفي ذلك حيازة حظ الورثة، ومنهم من فهم أن الثلث كثير يعني أجره كثير أكثر مما دونه، وفيه حيازة الحظ للموصى له، وأبو بكر -رضي الله تعالى عنه- أوصى بالخمس فدل على أنه فهم أن الثلث كثير فما دونه أفضل منه، والسياق في مثل هذه الصورة في حال المقاولة والمحاولة، يعني شخص مندفع يبي يتصدق بجميع ماله يقال له: خفف يكفيك العشر، لكن مالي كثير، يقاول على الخمس، على الربع، على الثلث، فيكون الأقل أفضل أو أكثر؟ يعني مثل ما جاء في حديث عبد الله بن عمرو، وأن النبي -عليه الصلاة والسلام- بلغه أنه يريد أن يقوم الليل، ويصوم النهار، ويقرأ القرآن في كل يوم، فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((اقرأ القرآن في شهر)) هل نقول: إن أول ما بدأ به النبي -عليه الصلاة والسلام- أفضل من غيره؟ قال: إنه يطيق أكثر من ذلك، فقال: ((اقرأ القرآن في الشهر مرتين)) في الشهر ثلاث إلى أن قال له: ((اقرأ القرآن في سبع ولا تزد)) يعني في سبيل المقاولة، يعني الناس يتفاوتون، يعني بعض الناس يلقى عليه الأقل، وبعضهم يلقى عليه الأكثر، إذا جاء شخص مندفع مثل عبد الله بن عمرو في مثل هذه الصورة يبدأ بالأقل، ثم يترقى معه، ومن الناس من أهل التراخي والتفريط والتساهل يبدأ بالأعلى، ثم يتدلى منه إلى ما دونه حيث يطيق، فمثل هذا السياق: ((الثلث والثلث كثير)) الرجل يريد أن يتصدق بثلثي ماله، ثم قال: الشطر، قال: ((لا)) قال: ((الثلث والثلث كثير)) مفهوم السياق أن ما دونه أفضل منه، ولا شك أن الناس في هذا الباب يتفاوتون، منهم من تجود نفسه بجميع ماله ولا يتأثر ولا يتضرر ولا يتأفف، ولا يمن بصدقته، وقد فعل ذلك أبو بكر -رضي الله تعالى عنه-، تصدق بجميع ماله ولا نهي ولا ثرّب عليه، ومنهم من إذا تصدق بشيءٍ من ماله وأتبعه المن فإن مثل هذا يقال له: لا تتصدق إلا بالشيء اليسير يا أخي، وهذا عام في جميع الأبواب، تجد الإنسان يتورع عن الكي وعن الرقية، ولا يذهب إلى المستشفيات، لكن إذا جالسته وجدته يكرر هذا الأمر أنا لا أتعالج، أنا لا أكتوي، أنا متوكل على الله، أنا أفعل، أنا أكثر..، نقول: العلاج أفضل لك أنت، عالج يا أخي أحسن من هذا الكلام، وبعض الناس يصبر ويحتسب ولا يتكلم، مثل هذا يتجه في حقه أن يترك مثل هذه الأمور؛ ليكون من السبعين الألف، فعلى كل حال الثلث كثير يختلف أهل العلم في فهم هذه الكثرة، هل هو كثير والأفضل ما هو أقل منه؟ أو أجره كثير لعظم نفعه للمتصدق عليهم؟ ((الثلث والثلث كثير)) ثم ذكر العلة ((أنك)) يعني جاء به مضبوطاً بالهمزة المفتوحة، وجاء بكسرها: ((إنك)) فأنك على أنها جملة تعليلية، وإنك على أنها جملة شرطية ((أنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)) يسألون الناس بأكفهم، يعني بعض أهل العلم تكون مكتبته جميع ما يملك في هذه الدنيا، جميع ما يملك هذه المكتبة، ثم يكتب عليها وقف لله تعالى، ثم بعد ذلك يضطر الورثة إلى أن يسألون الناس، لكنه لو باع هذه الكتب، أو أوقف ثلثها وباع الثلثين، وصار الورثة عندهم شيء يقتاتون منه، وإن كان الورثة في الجملة لا يقدرون هذه الكتب قدرها، فكثير من أهل العلم تذهب كتبهم لا وقف، ولا يستفيد منها الورثة؛ لأنهم لا يقدرون قدرها، ووجد من ذلك قصص ومآسي بالنسبة للكتب، وهي لو وقعت بيد خبير لاستفاد منها الورثة فائدة عظيمة، فعلى هذا لا يشرع في حق هذا العالم أن يوقف هذه المكتبة، ويترك الورثة عالة يتكففون الناس؛ لأنها هي ما يملك، هي ماله، وتدخل في هذا الحديث؛ لأنها مال مما يباع ويشترى ويقتنى ويفاد منه، لكن إذا كانت له أموال وهذه المكتبة أقل من الثلث أو الثلث فأقل فأوقفها، وترك الناس يستفيدون منها هذا طيّب، هذا أفضل من أن يوقف الأموال، وإن كانت الظروف والأحوال تختلف باختلاف أحوال الناس، منهم قد تكون الحاجة إلى المال أشد من الحاجة إلى الكتب، وقد تكون الحاجة إلى الكتب واستمرار نفعها أفضل، فهذا العالم الذي ترك أولاده وورثته عالةً يتكففون الناس لا شك أنه داخل في النهي في هذا الحديث، وحينئذٍ يوقف الثلث، ويباع الثلثان، وينفق منه على الورثة.

وتجد بعض الورثة يأتون بهذه الكتب كتاباً كتاباً، كل ما احتاجوا إلى شيء باعوا كتاب، فيباع بأبخس الأثمان، فلا بد أن يجعل عندهم خبر أن هذه الكتب قيمتها مرتفعة، ومن يتردد على المكتبات يجد شيء من هذا، ومع الأسف وجد من ورثة العلماء من ورثتهم من رمى الكتب في الشارع بعد موت أبيه، رماها في الشارع؛ لأنه لا يقدرها قدرها، فذهبنا إلى ورثة قاضٍ من القضاة القدامى، وعنده مكتبة نفيسة لنشتريها منهم، فلما وصلنا قالوا: والله انتقلنا من البيت القديم إلى البيت الجديد فأصر النساء على ألا تنتقل الكتب معنا؛ لأنها كتب قديمة تجتمع عليها الفئران والصراصير، فلا نريد أن تدخل بيتنا الجديد، ورموها في الشارع، ونقلوا أمتعتهم إلى البيت الجديد، فعلى كل حال هو مطالب بشيء ألا يوصي بها، أو أن لا يوقفها كاملة؛ لأنها تستغرق جميع المال، وكثير من أهل العلم ترى هذه حالهم، أموالهم كتبهم فقط، يعني ما عرف الثراء عند أهل العلم إلا في العصور المتأخرة عند بعض أهل العلم، فيدخل في هذا مثلما ذكرنا، العلة ((إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)) الوصية بأكثر من الثلث لا تجوز ولا تنفذ إلا بإجازة الورثة، بحيث لو أوصى بجميع ماله والورثة أجازوا ذلك فالعلة المنصوصة تدل على الجواز ((إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم)) وقد يكون الورثة أغنياء، بل أغنى من المورّث، رجل عنده من الأولاد خمسة، وكل واحدٍ منهم يملك أكثر مما يملكه المورّث، وقالوا: تركة أبينا له كلها نتصدق بها عنه، أو أذنوا لها أن يوصي بها كلها، العلة المنصوصة ((إنك إن تذر ورثتك أغنياء)) تدل على جواز مثل ذلك، لكن لو جادت أنفسهم وليس عندهم شيء؟ جادت أنفسهم بالتبرع بجميع مال أبيهم، وليس عندهم غيره يجوز وإلا ما يجوز؟ لماذا؟ هم جادت أنفسهم، قالوا: جميع ما تركه أبونا صدقة لله، أو في آخر حياته قالوا: تصدق بجميع مالك مسجد مثلاً ونحن اللي أغناك يغنينا؟ يعني كون العلة مربوطة بالورثة: إنك إن تذرهم أغنياء خير، وأفعل التفضيل هنا (خير) على بابها أو ليست على بابها؟ نعم؟ يعني هذه العلة ((إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)) هل هذه العلة راجعة إلى جميع الجمل؟ أتصدق بثلثي مالي؟ قال: ((إنك إن تذر ورثتك)) أتصدق بشطر مالي؟ ((إنك إن تذر ورثتك)) أتصدق بثلث مالي؟ قال: ((نعم))، ((الثلث والثلث كثير)) ((إنك إن تذر ورثتك)) هذه العلة هل هي للجمل الثلاث أو للجملة الأخيرة فقط؟ للجملة الأخيرة فقط؛ لأن الجمل الثلاث، الجملة الأولى والثانية جوابهما: لا، الجملة الأخيرة قال: ((الثلث والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير)) هنا أفعل تفضيل، خير، فخير هذه أفعل تفضيل هل هي على بابها؟ بمعنى أن الخير موجود في الورثة سواء كانوا أغنياء أو فقراء؟ لكن كونهم أغنياء أفضل من كونهم فقراء؟ أو أن نقول: الفقر لا خير فيه فتكون أفعل التفضيل هنا ليست على بابها؟ يعني الخير يقابل الشر، إذاً كلاهما خير، يعني سواء كانوا فقراء أو أغنياء والفقر؟ لا، لا بد إما أن نقول: خير هذه على بابها ففي كل خير سواء كانوا فقراء أو أغنياء إلا أن كونهم أغنياء أفضل؟ أو نقول: خير هذه ليست على بابها، فالذي يقابل الخير هو الشر، فأغنياء خير وفقراء شر؟ يعني في قول الله -جل وعلا-: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [(24) سورة الفرقان] هذه على بابها أو ليست على بابها؟ ليست على بابها؛ لأن أهل النار ليسو على خير بحال من الأحوال، ولا يشتركون بجزء ولو قليل ولو يسير من الخير، وهنا الورثة على خير ما داموا مسلمين فهم على خير، سواء كانوا أغنياء أو فقراء، لكن كونهم أغنياء أفضل من كونهم فقراء، وإذا قلنا: إنهم وإن كانوا فقراء فهم على خير فإنه حينئذٍ يجوز لهم التصدق بمال أبيهم، ويجوز لأبيهم أن يتصدق بجميع ماله إذا أجازوا ذلك؛ لأنهم على خير سواء كانوا فقراء أو أغنياء إلا أن كونهم أغنياء أفضل، وإذا قلنا: أفعل التفضيل يقابل الخير الشر قلنا: لا يجوز لهم أن يتصدقوا ببقية المال، مما زاد على الثلث ليس له ذلك ولو أجازوا، والمسألة خلافية بين أهل العلم، لكن العلة المنصوص عليها في الخبر، وربط هذا الأمر بالورثة يدل على أن الأمر يعود إليه، فلو تصدق بما زاد على الثلث، وأجازوا ذلك فإن الأمر لا يعدوهم.

طالب:.......

الوارث أو المورث؟

طالب:.......

المورث أوصى ولم يستأذنهم، لكنه في حال التنفيذ أجازوا، تنازلوا، على حسب ما يظهر من حاله، إن كان جاهلاً فهو معذور، وإن كان قصده حرمان الورثة فهو آثم بلا شك، ولا ينفذ هذا، ما ينفذ إلا الثلث.

يقول في الحديث الثالث -رحمه الله تعالى-:

"وعن عائشة -رضي الله تعالى عنها- أن رجلاً أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله إن أمي افتلتت نفسها" يعني ذهبت نفسها فلتة، يعني بغتة "ولم توصِ" يعني ما أمهلت حتى توصي، لم تمهل حتى توصي "وأظنها لو تكلمت" يعني لو صار لها فرصة أن تتكلم قبل وفاتها "أظنها لو تكلمت تصدقت" يعني يعرف من حالها أنها كريمة تجود بالمال، وليست بخيلة تظن به وتشح به، أظنها يعني يغلب على ظنه ذلك "لو تكلمت تصدقت، أفلها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: ((نعم)) متفق عليه، واللفظ لمسلم" هل هذا الحديث يدلنا على أنه يريد أن يتصدق عن أمه من مالها أو من ماله هو؟ هل يتصدق من مالها؟ يعني افترض أن هذا الشخص لو أخوة وأخوات، والأم افتلتت نفسها، فوجئت، بغتت بالموت، ويعرف من حالها أنها لو أمهلت تصدقت، هل يتصدق من أصل المال أو يتصدق من نصيبه؟ يعني لو كان الأمر من نصيبه يعني السياق، السياق يريد أن يتصدق عنها؛ لأن كلمة "لم توصِ وأظنها لو تكلمت تصدقت" يعني إذا كان من نصيبه هو فلا داعي لهذا الكلام، يقول: أمه ماتت ولم تتصدق أفأتصدق عنها؟ أينفع أن أتصدق عنها؟ قال: ((نعم)) لكن أظنها لو تكلمت تصدقت! يعني هل هذا الكلام مؤثر في الحكم أو غير مؤثر؟ بمعنى أنه ينفذ ما يغلب على الظن أن الميت يريده؟ يعني بعض العوام يعرف أن أباه أو أمه يحب نوع من الطعام، فتجده في بعض المناسبات يشتري هذا النوع ويتصدق به على الناس، ويجعل ثوابه لوالده أو والدته ممن يحب هذا الطعام، هذا لا شك تصور تصرف من هؤلاء العوام يعني كونه هو يحب هذا الطعام هل يعني أن غيره يحب هذا الطعام؟ هل المنظور إليه المتصدق عنه أو المتصدق عليه؟ المتصدق عليه ينظر الأنفع له؛ لأن هذا يعظم الأجر، افترض أن المتصدق عنه يحب طعام لا يحبه الناس هل يتصدق به عنه؟ لا، هنا يغلب على الظن أنها لو تكلمت تصدقت فهل يتصدق عنها من مالها من أصل المال بناءً على غلبة الظن؟ أو أن نقول: المال انتقل لا علاقة لها به؟! وحينئذٍ من أراد أن يتصدق يتصدق من نصيبه، والصدقة هنا واصلة، يصل ثوابها، من العبادات التي يصل ثوابها إلى الميت، وتقدم في الوقف: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث)) وذكر العلماء الخصال التي يجري عملها بعد وفاة صاحبها، وأوصلوها إلى عشر.

يكثر بين الناس أنه إذا مرض الوالد أو الوالدة أو القريب أو العزيز، ووصل إلى حدٍ لا يصح تصرفه فيه، إغماء، في العناية، والصدقة تدفع ميتة السوء و((داووا مرضاكم بالصدقة)) فيأتي الأولاد أو بعض الأولاد يجتهد ويتصدق عن هذا المريض من ماله أعني المريض، يعني شخص له أولاد ومرض وارتفع عنه قلم التكليف بالغيبوبة، وأدخل العناية، والولد يعرف أن الصدقة لها أثر في الشفاء بإذن الله -جل وعلا- والدواء، فيقول: نريد أن نشتري مائة كيس من الرز مثلاً ونتصدق بها عن الوالد، هل يجوز أن يتصدق به من مال الوالد؟ من أصل المال أو من ماله هو؟ يعني لا يجوز أن يتصرف بشيءٍ من مال الوالد، إن أراد أن يتصدق بشيءٍ من ماله هو فلا أحد يمنعه وجزاه الله خيراً، ويتصدق عن والده ويصل الأجر -إن شاء الله تعالى-، وتترتب الآثار على ذلك إن لم يكن ثم مانع، المقصود أن هذا في قوله: إن أمي افتلتت نفسها ولم توصِ وأظنها لو تكلمت تصدقت أفلها أجر إن تصدقت عنها؟ يعني من مالي أو من مالها؟ احتمالان، وإن كان السياق يشم منه أنه يريد أن يتصدق عنها من مالها، يعني السياق يشمّ منه أنه يريد الصدقة عنها من مالها؛ لأن قوله: "أظنها لو تكلمت" فبناءً على غلبة الظن أنه ينفذ ما تريد، لكن القواعد الشرعية والنصوص تدل على أنه لا يتصرف أحد بمال غيره، وهذا الذي يرجح الاحتمال الثاني أنه يتصدق عنها من ماله هو، وهنا يتعارض الأصل مع الظاهر، وفي مثل هذه المسألة إذا تعارض الأصل مع الظاهر، الظاهر أنه يريد أن يتصدق عنها من مالها، بناءً على غلبة ظنه أنها تريد الصدقة، هذا الظاهر، هذا ظاهر اللفظ، والأصل أنه ليس لأحدٍ أن يتصرف في مال غيره، وهنا تعارض الأصل والظاهر، فيقدم هنا الأصل لضعف هذا الظاهر، يعني ليس من الظهور بحيث يقدم على الأصل؛ لأن من الظواهر ما يكون ظهوره أقوى من الأصل، ومن الظواهر ما يكون ظهوره أضعف من الأصل، وذكرنا مثال سابق قلنا: لو أن واحد من الإخوان من طلاب العلم دخل مكتبة زميله من طلاب العلم فوجد أعجبه كتاب فسحبه من الدرج فإذا به مكتوب عليه ملك فلان بن فلان بن فلان، والتاريخ والتوقيع نفسه أو غيره مثلاً، شخص ثالث من زملائه، فالأصل أن هذا الكتاب لمن كتب عليه الاسم، والظاهر أنه لصاحب المكتبة، فهل يقدم صاحب الاسم؟ نقول: خذ كتابك وانتهى الإشكال؟ أو نقول: ما دام موجود بحوزة فلان وفي مكتبته والذي يظهر أنه له؟ أحياناً نقدم الأصل وأحياناً نقدم الظاهر، تحتاج المسألة إلى مرجّح، كيف المرجح؟ المرجح إن كان الأصل الذي عليه الاسم اسم هذا الشخص إن كان هذا الشخص الذي اسمه مكتوب على الكتاب جرت عادته أنه يبيع، يشتري كتاب ويكتب عليه اسم ويتصفحه ويقرأه يوم يومين شهر ثم يبيعه، إذا جرت عادته بذلك قدمنا الظاهر على الأصل، وإن كان عرف من عادته أنه لا يبيع أبداً، وعرف من عادته أنه يعير، قدمنا الأصل على الظاهر، وهنا الظاهر عندنا فيه ضعف بالنسبة للأصل، وحينئذٍ يقدم الأصل فلا يتصدق أحد عن أحد إلا من ماله هو الذي يملكه، وذكرنا أن مما يقع للناس أن الأب يكون غنياً ويدخل العناية في غيبوبة والصدقة لها أثرها في مثل هذه الحالة فيتصرف بعض الورثة، ويشتري سيارة تريلا أو ثنيتن أو ثلاث من الأطعمة ويتصدق بها، نقول: لا تصدق من مالك، لا من ماله هو، أنت لا تملك شيء من ماله.

يقول -رحمه الله-: "وعن أبي أمامة الباهلي" واسمه صدي بن عجلان، نعم، هنا، نقول: بيّن أن الإنسان لا يجوز له أن يتصرف بمال غيره إلا بطيبة نفسٍ منه، يعني ظاهر السياق، لكن الأصول العامة تدل على غير هذا الظاهر، وقدمنا الأصل على الظاهر لضعف الظاهر بالنسبة لهذا الأصل، هذه المسائل الخفيفة تحتاج إلى معرفة ما يعين على فهم هذه النصوص، كثير من طلاب العلم تجد ليست له عناية بالعربية ولا بعلوم الآلة لا بأصول الفقه، ولا بقواعد التفسير، ولا بعلوم الحديث، ولا يستطيع أن يتعامل مع النصوص إلا بواسطتها، فإما أن يقتصر على النصوص فيكون ظاهرياً؛ لأنه ليس عنده ما يعين على فهم هذه النصوص، أو يعرف ما وراء هذه النصوص بالقواعد والضوابط التي يذكرها أهل العلم، فتنحل عنده الإشكالات؛ لأن عندنا ظاهر صحيح ظاهر لكنه ضعيف بالنسبة للأصل، وإذا تعارض الأصل مع الظاهر عند أهل العلم لهم طرق في تقديم أحدهما على الآخر.

في الحديث الذي يليه يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:

"وعن أبي أمامة الباهلي" واسمه صدي بن عجلان -رضي الله تعالى عنه- "قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إن الله قد أعطى كل ذي حقٍ حقه فلا وصية لوارث)) رواه الإمام أحمد والأربعة إلا النسائي، وحسنه أحمد والترمذي، وقواه ابن خزيمة وابن الجارود، ورواه الدارقطني من حديث ابن عباس" سنده بمفرده، وإن كان له شواهد يرتقي بها إلى الصحيح، فالحديث صحيح على كل حال، لكن أقوى من إسناده تلقيه بالقبول، وأهل العلم يقررون أن تلقي العلماء بالقبول للخبر أقوى من مجرد كثرة الطرق، فصححوا هذا الحديث، وعملوا به، والإجماع -إجماع من يعتد به- على أنه لا وصية لوارث، ويكون هذا الحديث في مقابل قول الله -جل وعلا-: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ} [البقرة:180] لمن؟ {لِلْوَالِدَيْنِ} وهما من الورثة، هذا الحديث مع الآية، الآية تثبت الوصية للوارث، والحديث يقول: ((لا وصية لوارث)) فالحديث تلقاه العلماء بالقبول، وإن كان لم يخرج في الصحيحين، ولا في واحدٍ منهما، وله شواهد عن عمرو بن خارجة وعن أنس -رضي الله تعالى عنه-، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وعن جابر وغيرهم، له شواهد، فماذا نقول في تعارض الخبر مع الآية؟ هل نقول: إن الحديث ناسخ للآية؟ وهل يسوغ نسخ الآية بمثل هذا الحديث؟ أما من لا يرى نسخ الكتاب بالسنة فيقول: إن الحديث لا يقوى، وإن تلقّاه العلماء بالقبول النسخ القطعي، الذي هو الآية، بنسخ الآية؛ لأن السنة لا تنسخ القرآن، ومن يقول: بأن السنة تنسخ القرآن لا إشكال عنده، لكن الذي يقول: بأن السنة لا تنسخ القرآن قالوا: إن الذي نسخ الآية آيات المواريث، ويشير إلى ذلك قوله في الحديث: ((إن الله قد أعطى كل ذي حقٍ حقه)) فالوالدان في آية الوصية قد أعطي حقهما من الميراث، فلا وصية لهما كغيرهما من الورثة ((إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث)) يعني هل نقول: إن هذا بيان أو نسخ؟ بيان للناسخ وهو الآيات آيات المواريث، أو نقول: إنه نسخ؟ يعني نظير ما قيل في حديث عبادة: ((خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم)) هل نقول: إن هذا بيان لقول الله -جل وعلا-: {حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} [(15) سورة النساء] قد جعل الله لهن سبيلاً، أو نقول: إن الحديث ناسخ للآية؟ الذي يرى نسخ الآية بالحديث هذا ما عنده إشكال في هذا وفي هذا، يقول: الآية نسخت بالحديث وكلها شرع، والحديث وحي؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، والذي لا يقول بنسخ الكتاب بالسنة يقول: بيان، وهنا بيان للناسخ والناسخ آيات المواريث، والناسخ في حديث عبادة {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [(2) سورة النــور] بدلاً من الحبس، فالناسخ القرآن، والحديث مبين للناسخ، وعلى كل حال المسألة معروفة عند أهل العلم، والآية متروكة العمل سواء قلنا: بالبيان أو بالنسخ، يعني سواء قلنا: بالبيان في هذا الحديث أو بالنسخ، فلا وصية لوارث، عرفنا المأخذ والمدرك يا إخوان؟ لأن بعض الناس قد يشوش يقول: هذا حديث وآية الوصية آية، والحديث لا ينسخ عند الجمهور..، الحديث لا ينسخ القرآن، فنقول: الحديث ليس بناسخ، وإنما الحديث مبين، مبين للنسخ بحيث أنه أحال على الناسخ ((أن الله قد أعطى كل ذي حق حقه)) في آيات المواريث ((فلا وصية لوارث)) وحينئذٍ يكون من باب البيان.

"رواه أحمد والأربعة إلا النسائي، وحسنه أحمد والترمذي، وقواه ابن خزيمة وابن الجارود، ورواه الدارقطني من حديث ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما-، وزاد في آخره: ((إلا أن يشاء الورثة)) وإسناده حسن" إلا أن يشاء الورثة: هذا الاستثناء قد تعقّب قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((لا وصية لوارث)) إلا أن يشاء الورثة فهل لنا أن نقول: لا وصية بأكثر من الثلث إلا أن يشاء الورثة؟ فنجعل هذا الاستثناء متعقب لما تقدم لأن الأمر لا يعدوهم؟ كونه يتعقّب لا وصية لوارث، يعني عنده من الأولاد خمسة فأوصى لواحدٍ منهم بشيء يخصه به من ماله زيادة على إرثه وأجاز إخوته ذلك، يملكون وإلا ما يملكون؟ إلا أن يشاء الورثة هذا الاستثناء يتعقب هذه الجملة بلا إشكال، لكن هل يصلح أن نركب هذه الجملة بالحديث السابق؟ الثلث والثلث كثير إلا أن يشاء الورثة، لماذا؟ هي جاءت هنا في هذا السياق، في هذا الحديث إلا أن يشاء الورثة، فكونها -كون الاستثناء- هنا يرجع إلى ((لا وصية لوارث)) هذا ما فيه إشكال، فإذا شاء الورثة أن يوصى لوارث أوصي له، أما كونه يرجع إلى الزيادة على الثلث فليس مأخذه من هذا الاستثناء، وإنما مأخذه من العلة ((إنك إن تذر ورثتك أغنياء)) فالأمر إلى الورثة، والمسألة لا تسلم من خلاف على ما سبقت الإشارة إليه، الوصية للوارث بالتنصيص يعني يذكر في وصيته أن لولده فلان لابنه فلان أو لبنته فلانة المحل الفلاني أو الدكان الفلاني، أو المزرعة الفلانية، أو المبلغ المذكور من المال أو غلة كذا ليس له ذلك، بالتنصيص عليه باسمه، لكن لو نص عليه بوصفه، قال: هذه المزرعة وصية وتلزم بموته، وغلتها في السنة مائة ألف، وقال: يصرف من غلتها على طلاب حلقات التحفيظ، وعلى طلاب العلم، وواحد من أولاده من طلاب العلم، وآخر في حلقات التحفيظ، وعشرة لا يتصفون بهذا الوصف، يستحقان وإلا ما يستحقان؟ نقول: هما ورثة ما يستحقون وإلا بالوصف يستحقون؟ يعني لا شك أن المنع في هذا الحديث لئلا يؤثر بعض الأولاد دون بعض، كما منع من العطية لبعضهم دون بعض حال حياته، فيتهم بأنه يقدم بعضهم على بعض، لكن بالوصف؟ وإذا كان القصد من كلامه في وصيته الحث على حفظ القرآن، وطلب العلم فأولى من يحث على ذلك الورثة، فدخولهم بالوصف لا إشكال فيه -إن شاء الله تعالى-؛ لأنه لا يتهم، إلا إذا فهم من قصده التخصيص بالوصف، التنفيل والزيادة لبعض الورثة دون بعض، بأن يكون الوصف لا أثر له في تحقيق الهدف الشرعي من الوصية والوقف، لا أثر له في تحقيق الهدف الشرعي من الوصية، يعني كونه يصرف على طلاب العلم، يصرف على..، هذا لا شك أنه يحقق الهدف الشرعي من الوصية والوقف، لكن إذا وصف بوصفٍ لا يحقق الهدف الشرعي، إذا وصفه بوصفٍ قهري جبلي، قال: للطويل منهم، أو للأعرج، وهو يعرف أن في ولده من هو أعرج، ولا يقصد بذلك أن هذه العلة تعوقه عن تحصيل ما يستفيد منه، المقصود أنه إذا عُرف من تنصيصه على وصفٍ لا يحقق الهدف الشرعي إنما يحقق شيئاً في نفسه يريد به زيادة بعض الورثة على بعض فإن هذا لا ينفذ، أما إذا نص على وصف يحقق الهدف الشرعي من الوقف والوصية فإنه حينئذٍ لا مانع من دخوله فيه -إن شاء الله تعالى-، ولا يدخل في المحظور.

هذا الحديث جزم الإمام الشافعي في الأم بأنه متواتر، ولا يلفظه بهذا اللفظ، لا يقول: متواتر، وإنما يقول: إنه نقله الكافة عن الكافة، وهذا هو المتواتر، وإن نفى ونازع الرازي في كونه متواتراً، الرازي ينازع في تواتره، في تواتر هذا الحديث، والشافعي يثبت، ومعروف أن الرازي شافعي المذهب، لكن هل لمثل الرازي أن يثبت التواتر وعدم المتواتر لا سيما في الحديث، وهو ليست له أدنى عناية في الحديث؟ أو نقول: إن التواتر مبحث أصولي، وليس بمبحثٍ حديثي فيكون له مدخل في الباب؟ يعني التواتر ليس من مباحث علوم الحديث كما يقرر أهل العلم إنما من مباحث الأصوليين، ولذا ظهر في الآونة الأخيرة من ينازع في وجود المتواتر والآحاد، وينفي ذلك، ويغلظ القول على من يقول بذلك، ويقول: إنه ليس من مباحث أهل الحديث؛ هو ليس من مباحث أهل الحديث؛ لأنه لا يحتاج إلى دراسة، إذا ثبت أنه متواتر ما يحتاج أن تعرض رواة هذا الحديث بجميع طرقه على كتب الرجال، خلاص، متواتر يعني أنت ملزم بتصديقه، مفيد للعلم بلا تردد، فليس من مباحث هذا العلم -علم الحديث- من هذه الحيثية، بمعنى أنه لا يبحث عن رجاله، هو من مباحث الأصوليين، معروف مباحث الأصوليين، لكن هل للرازي أن يدخل في مثل هذا التواتر فينفيه وليس له علاقة بالحديث؟ نقول: هذه المسألة تثار في هذه الأيام، وأنه كيف تذكر أقوال الرازي في علوم الحديث؟ تذكر أقوال الغزالي في علوم الحديث؟ تذكر أقوال الآمدي في علوم الحديث؟ وهؤلاء من المتكلمين لا علاقة لهم بالسنة، يعني الغزالي بضاعته كما يقول عن نفسه في الحديث مزجاة، ضعيفة جداً؛ ولذا في كتبه الموضوعات، الأحاديث الموضوعة، فهل لمثل هذا أن يدخل نفسه في هذه الموضوعات أو ليس له ذلك؟ الرازي ذكر في تفسير سورة العصر حديثاً أن امرأةً في سوق المدينة تبحث أين رسول الله؟ فدل عليه فقالت له: إنها شربت الخمر، وزنت، وولدت من الزنا، فقتلت الولد، وفعلت وفعلت؟ قال: أما القتل فجزاؤه جهنم كما في آية النساء، وأما الشرب فحده ثمانون جلدة، وأما الزنا فلعلك لم تصلِ صلاة العصر؟ هذا الكلام نقله الرازي في تفسيره مرفوعاً إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، ثم نقله عنه الألوسي، وهذا الذي يهمّنا، نقله عنه الألوسي قال: تفرد بذكره الإمام، كانوا يلقبون الرازي بالإمام، تفرد بذكره الإمام، ولعمري أنه إمام في نقل ما لا يعرفه أهل الحديث هذا مدح وإلا ذم؟ ذم بلا شك، فمثل هذا هل يعارض قول الشافعي بقوله؟ الشافعي يقول: نقله الكافة عن الكافة، يعني متواتر، وينازع الرازي في تواتره؟ أما نقل أقوالهم في كتب علوم الحديث أنا ليس فيها عندي أدنى إشكال؛ لأن علوم الحديث منها ما يستند إلى الرواية، ومنها ما يعتمد على الدراية والفهم والاستنباط، هم لهم مدخل في مسألة الفهم، وبعض طلاب العلم ينازع ويشارك في علوم الحديث، أقول: إذا نازعت في دخول مثل هؤلاء أنت هل أنت تدخل في الرواية أو في الدراية؟ يعني مثل هذا المنازع يعني مثلنا لو نازعنا إحنا لا عندنا حفظ يوازي ما عند أئمة الحديث الذين هم أهل الشأن، عندنا شيء من الفهم نستطيع أن نفهم به كلام أهل العلم مثلما يفهم الرازي والغزالي وفلان وفلان، فمدخلهم في هذا الباب من باب الدراية والفهم، ولا شك أن من مباحث علوم الحديث مما يدرك بالرأي، مباحث علوم الحديث، ومنها ما يعتمد على النقل والرواية، وهذا لا ندخل فيه لا نحن ولا رازي ولا غزالي ولا طلاب العلم المتعلمين الآن الذين يشنون الحملات ما لهم مدخل؛ لأنهم ليسوا بحفاظ، وليسوا من أهل النقل، فالأمور -ولله الحمد- ماشية ما فيها إشكال، ويظنون أن على علوم الحديث خطر من ذكر أسماء هؤلاء، أبداً ليس فيها خطر، الرواية معولها على أهلها، والفهم والاستنباط أيضاً كل له أن يدلي برأيه، ويعرض على النقل، وعلى كل حال منازعة الرازي في هذا وإن كان خبير ودقيق في تطبيق شروط التواتر عنده خبرة ودقة، لكن هل يعني أن قوله ينفى به قول الإمام الشافعي؟ أبداً، ولا شك أن الحديث قد تلقي بالقبول فهو صحيح لا إشكال في ثبوته، وأما الاستثناء ((إلا أن يشاء الورثة)) في حديث ابن عباس فسنده أقل من السند الأول، ولم يتلق بالقبول كتلقيه فهو حسن.

من التحايل على الوصية للوارث، من التحايل عليه، الوصية للوارث ممنوعة، لكن من التحايل على ذلك أن يقر لوارثه، أولاده عشرة ولما قرب موته قال: ولدي فلان عندي له مبلغ كذا، فإن كان عرف من تصرفاته في حال حياته أنه يحبه أكثر من غيره، ويؤثره أكثر من غيره فلا تنفذ هذه الوصية؛ لأنه متهم، وأما إذا عرف أنه هو وإخوانه على حدٍ سواء فإقراره على نفسه معتبر، ما لم تدل القرائن على خلاف ذلك، والله أعلم.

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

"