التعليق على تفسير القرطبي - سورة المؤمنون (03)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلي الله وسلم علي نبينا محمد وعلي آله وصحبه. قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالي-:  

"{إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ} [المؤمنون: 57- 60].

قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ الْكَفَرَةِ وَتَوَعَّدَهُمْ عَقِبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسَارِعِينَ فِي الْخَيْرَاتِ وَوَعَدَهُمْ، وَذَكَرَ ذَلِكَ بِأَبْلَغِ صِفَاتِهِمْ. وَ{مُشْفِقُونَ} خَائِفُونَ وَجِلُونَ مِمَّا خَوَّفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى. {وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ. وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} قَالَ الْحَسَنُ: يُؤْتُونَ الْإِخْلَاصَ وَيَخَافُونَ أَلَّا يُقْبَلَ مِنْهُمْ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- زَوْجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَتْ:  سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ" {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} "قَالَتْ عَائِشَةُ: أَهُمُ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ؟ قَالَ: «لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَهُمْ يَخَافُونَ أَلَّا يُقْبَلَ مِنْهُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ». وَقَالَ الْحَسَنُ : لَقَدْ أَدْرَكْنَا أَقْوَامًا كَانُوا مِنْ حَسَنَاتِهِمْ أَنْ تُرَدَّ عَلَيْهِمْ أَشْفَقَ مِنْكُمْ عَلَى سَيِّئَاتِكُمْ أَنْ تُعَذَّبُوا عَلَيْهَا. وَقَرَأَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالنَّخَعِيُّ:" وَالَّذِينَ يَأْتُونَ مَا أَتَوْا" مَقْصُورًا مِنَ الْإِتْيَانِ."

الأول من الإيتاء وهو الإعطاء والبذل، والثاني من الإتيان وهو المجيء.

" قَالَ الْفَرَّاءُ: وَلَوْ صَحَّتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ عَائِشَةَ لَمْ تُخَالِفْ قِرَاءَةَ الْجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّ الْهَمْزَ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَلْزَمُ فِيهِ الْأَلِفَ فِي كُلِّ الْحَالَاتِ إِذَا كَتَبَ."

القراءة الأخيرة يُؤتون ويَأتون ما فيه فرق وإن كانت على ألف.

 "فَيَكْتَبُ: سُئِلَ الرَّجُلُ بِأَلِفٍ بَعْدَ السِّينِ."

يكتب: سُئل سأل، سئل يكتبه على ألف.

" وَيَسْتَهْزِأونَ بِأَلِفٍ بين الزاي والواو."

يعني بدلًا من الكرسي الياء.

" وشيء وشيء بِأَلِفٍ بَعْدَ الْيَاءِ، فَغَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ فِي مَذْهَبِ هَؤُلَاءِ أَنْ يُكْتَبَ" يُؤْتُونَ" بِأَلِفٍ بَعْدَ الْيَاءِ، فَيَحْتَمِلُ هَذَا اللَّفْظُ بِالْبِنَاءِ عَلَى هَذَا الْخَطِّ قِرَاءَتَيْنِ" يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَ" يَأْتُونَ مَا أَتَوْا". وَيَنْفَرِدُ مَا عَلَيْهِ الْجَمَاعَةُ بِاحْتِمَالِ تَأْوِيلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: والَّذِينَ يُعْطُونَ مَا أَعْطَوْا مِنَ الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَقُلُوبُهُمْ خَائِفَةٌ. وَالْآخَرُ: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْأَعْمَالَ عَلَى الْعِبَادِ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ، فَحُذِفَ مَفْعُولٌ فِي هَذَا الْبَابِ؛ لِوُضُوحِ مَعْنَاهُ."

ولتعدده أيضًا، لوضوح معناه من جهة، ولتعدده؛ لأنهم يؤتون ما يُؤتون الشيء الكثير؛ لأنهم يعطون الشيء الكثير، ويعملون الأشياء الكثيرة.

 "كَمَا حُذِفَ فِي قَوْلِهِ -عَزَّ وجل-: {فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ"} [يوسف: 49] وَالْمَعْنَى يَعْصِرُونَ السِّمْسِمَ وَالْعِنَبَ، فَاخْتُزِلَ الْمَفْعُولُ؛ لِوُضُوحِ تَأْوِيلِهِ. وَيَكُونُ الْأَصْلُ فِي الْحَرْفِ عَلَى هِجَائِهِ الوجود فِي الْإِمَامِ".

يعني المصحف الأصلي الذي يسمونه الإمام.

{يَأْتُونَ} بِأَلِفٍ مُبْدَلَةٍ مِنَ الْهَمْزَةِ فكتبت الالف وَاوًا لِتَآخِي حُرُوفِ الْمَدِّ وَاللِّينِ فِي الْخَفَاءِ، حَكَاهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ. قَالَ النَّحَّاسُ: الْمَعْرُوفُ مِنْ قِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ".

فيه كلمات يختلف فيها الكُتَّاب يختلفون فيها مثل شؤون تكتب على واو وعلى ياء، ومثل جزأين مثلاً تكتب على ألف أو ياء، المقصود حروف كثيرة ينتابهم ما ينتابهم.

طالب: ....

كأنها على واو أقوى.

 "قَالَ النَّحَّاسُ: الْمَعْرُوفُ مِنْ قِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ "وَالَّذِينَ يَأْتُونَ مَا أَتَوْا" وَهِيَ الْقِرَاءَةُ الْمَرْوِيَّةِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-، ومعناها يعملون ما عملوا، كما رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ. وَالْوَجَلُ نَحْوُ الْإِشْفَاقِ وَالْخَوْفِ، فَالتَّقِيُّ وَالتَّائِبُ خَوْفُهُ أَمْرُ الْعَاقِبَةِ وَمَا يَطَّلِعُ عليه بعد الموت. وفي قَوْلِهِ: {أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ} تَنْبِيهٌ عَلَى الْخَاتِمَةِ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ «وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ».

خرجه؟

طالب : .......

إنما الأعمال بالخواتيم.

طالب: ......

أريد أن تراجعه إذا رحت.

 "وَأَمَّا الْمُخَلِّطُ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ تَحْتَ خَوْفٍ مِنْ أَنْ يَنْفُذَ عَلَيْهِ الْوَعِيدُ بِتَخْلِيطِهِ."

الأصل أن يكون المخلط أشد خوفًا من غيره؛ خشية أن تحيط به ذنوبه فيحكم ويقضى عليه بسببها بسوء العاقبة، لكن الحكمة الإلهية إحسان مع خوف وإساءة مع أمن.

"وَقَالَ أَصْحَابُ الْخَوَاطِرِ: وَجَلُ الْعَارِفِ مِنْ طَاعَتِهِ أَكْثَرُ وَجَلًا مِنْ وَجَلِهِ مِنْ مُخَالَفَتِهِ؛ لِأَنَّ المخالفة تمحوها التوبة، والطاعة تطلب بتصحيح الغرض. {أَنَّهُمْ} أَيْ لِأَنَّهُمْ،"

لأنه إذا عمل عمله من غير إخلاص حبط هذا العمل، أثم بسببه، لكن إذا لم يعمله وتاب منه قبلت توبته ومحت ما حصل منه، ولكن التوبة تشمل الجميع، التوبة تهدم ما قبلها سواء كان في الغرض أو العمل.

" أَيْ لِأَنَّهُمْ، أَوْ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ.

 قوْلُهُ تَعَالَى: {أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ} أَيْ فِي الطَّاعَاتِ، كَيْ يَنَالُوا بِذَلِكَ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ والغرفات. وقرئ :" يُسْرِعُونَ" فِي الْخَيْرَاتِ، أَيْ يَكُونُوا سِرَاعًا إِلَيْهَا. وَيُسَارِعُونَ عَلَى مَعْنَى يُسَابِقُونَ مَنْ سَابَقَهُمْ إِلَيْهَا، فَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: يُسَارِعُونَ أَبْلَغُ مِنْ يُسْرِعُونَ. {وَهُمْ لَها سابِقُونَ}."

أبلغ باعتبار أنها هي زيادة حرف، وعندهم أن زيادة المبني تدل علي زيادة المعنى.

"{وَهُمْ لَها سابِقُونَ} أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ: أَنَّهُمْ يَسْبِقُونَ إِلَى أَوْقَاتِهَا. وَدَلَّ بِهَذَا أَنَّ الصَّلَاةَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ أَفْضَلُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي" الْبَقَرَةِ "، وَكُلُّ مَنْ تَقَدَّمَ فِي شيء فَهُوَ سَابِقٌ إِلَيْهِ، وَكُلُّ مَنْ تَأَخَّرَ عَنْهُ فَقَدْ سَبَقَهُ وَفَاتَهُ".

لا شك أن المسابقة والمسارعة جاء الأمر بها إلا ما خصه الدليل من تأجيل بعض الأعمال وأنه أفضل وإلا فالأصل: {وعجلت إليك ربي لترضي}.

" فَاللَّامُ فِي" لَها" عَلَى هَذَا الْقَوْلِ بِمَعْنَى إِلَى، كَمَا قَالَ: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها} [الزلزلة: 5] أي أوحى إليها. وأنشد سيبويه:

تَجَانَفُ عَنْ جَوِّ الْيَمَامَةِ نَاقَتِي ...  وَمَا قَصَدَتْ من أهلها لسوايكا

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي مَعْنَى" وَهُمْ لَها سابِقُونَ" سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ السَّعَادَةُ، فَلِذَلِكَ سَارَعُوا فِي الْخَيْرَاتِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَهُمْ مِنْ أجل الخيرات سابقون

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها} قَدْ مَضَى فِي الْبَقَرَةِ وَأَنَّهُ نَاسِخٌ لِجَمِيعِ مَا وَرَدَ فِي الشَّرْعِ مِنْ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ. {وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ} أَظْهَرُ مَا قِيلَ فِيهِ: أَنَّهُ أَرَادَ كِتَابَ إِحْصَاءِ الْأَعْمَالِ الَّذِي تَرْفَعُهُ الْمَلَائِكَةُ، وَأَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ كَتَبَتْ فِيهِ أَعْمَالَ الْعِبَادِ بِأَمْرِهِ، فَهُوَ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ. وَفِي هَذَا تَهْدِيدٌ وَتَأْيِيسٌ مِنَ الْحَيْفِ وَالظُّلْمِ. وَلَفْظُ النُّطْقِ يَجُوزُ فِي الْكِتَابِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ النَّبِيِّينَ تَنْطِقُ بِمَا فِيهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

نطق كل شيء بحسبه، فنطق الكتاب موجود ما ينطق به مدون فيه؛ لثبات ما دُون فيه بحيث يكون ثباته كحكم المنطوق فيه، ولا شك أن هذا كلام بليغ جدًّا.

"وَقِيلَ : عَنَى اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ، وَقَدْ أَثْبَتَ فِيهِ كل شيء، فَهُمْ لَا يُجَاوِزُونَ ذَلِكَ. وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ:" وَلَدَيْنا كِتابٌ" الْقُرْآنُ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَكُلٌّ مُحْتَمَلٌ والأول أظهر.

 قَوْلُهُ تَعَالَى: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا} قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ فِي غِطَاءٍ وَغَفْلَةٍ وَعَمَايَةٍ عَنِ الْقُرْآنِ . وَيُقَالُ: غَمَرَهُ الْمَاءُ إِذَا غَطَّاهُ. وَنَهْرٌ غَمْرٌ يُغَطِّي مَنْ دَخَلَهُ. وَرَجُلٌ غَمْرٌ يَغْمُرُهُ آرَاءُ النَّاسِ. وَقِيلَ:"  غَمْرَةٍ" لِأَنَّهَا تُغَطِّي الْوَجْهَ. وَمِنْهُ دَخَلَ فِي غِمَارِ النَّاسِ وَخِمَارِهِمْ، أَيْ فِيمَا يُغَطِّيهِ مِنَ الْجَمْعِ. وَقِيلَ:"  بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ" أَيْ فِي حَيْرَةٍ وَعَمًى، أَيْ مِمَّا وُصِفَ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ".

قولها ولا تَنافي؛ لأنه غطت عليها هذه الحيرة وهذا العمى.

 قال قَتَادَةُ. أَوْ مِنَ الْكِتَابِ الَّذِي يَنْطِقُ بِالْحَقِّ. {وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ} قَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: أَيْ لَهُمْ خَطَايَا لَا بُدَّ أَنْ يَعْمَلُوهَا مِنْ دُونِ الْحَقِّ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ: الْمَعْنَى وَلَهُمْ أَعْمَالٌ رديئة لم يعملوها من دُونِ مَا هُمْ عَلَيْهِ، لَا بُدَّ أَنْ يَعْمَلُوهَا دُونَ أَعْمَالِ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَدْخُلُونَ بِهَا النَّارَ؛ لِمَا سَبَقَ لَهُمْ مِنَ الشِّقْوَةِ. وَيَحْتَمِلُ ثَالِثًا: أَنَّهُ ظَلَمَ الْخَلْقَ مَعَ الْكُفْرِ بِالْخَالِقِ".

أي العمل الذي أرداهم الكفر بالخالق، ولهم أعمال من دون ذلك الكفر هم لها عاملون أيضًا من ظلم المَخلوقين.

 "ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. {حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ} يَعْنِي بِالسَّيْفِ يَوْمَ بَدْرٍ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ : يَعْنِي بِالْجُوعِ حِينَ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «اللَّهُمَّ اشْدُدْ وطأتك على مضر الله، اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ» فَابْتَلَاهُمُ اللَّهُ بِالْقَحْطِ وَالْجُوعِ حَتَّى أَكَلُوا الْعِظَامَ وَالْمَيْتَةَ وَالْكِلَابَ وَالْجِيَفَ، وَهَلَكَ الْأَمْوَالُ وَالْأَوْلَادُ. {إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ} أَيْ يَضِجُّونَ وَيَسْتَغِيثُونَ. وَأَصْلُ الْجُؤَارِ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّضَرُّعِ كَمَا يَفْعَلُ الثَّوْرُ. وَقَالَ الْأَعْشَى يَصِفُ بَقَرَةً:

فَطَافَتْ ثَلَاثًا بَيْنَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ... وَكَانَ النَّكِيرُ أَنْ تُضِيفَ وَتَجْأَرَا

قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْجُؤَارُ مِثْلُ الْخُوَارِ، يُقَالُ: جَأَرَ الثَّوْرُ يَجْأَرُ أَيْ صَاحَ. وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ:" عِجْلًا جَسَدًا لَهُ جُؤَارٌ" حَكَاهُ الْأَخْفَشُ. وَجَأَرَ الرَّجُلُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ تَضَرَّعَ بِالدُّعَاءِ. قَتَادَةُ: يَصْرُخُونَ بِالتَّوْبَةِ فَلَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ. قَالَ:

يُرَاوِحُ مِنْ صَلَوَاتِ الْمَلِيكِ ... فَطَوْرًا سُجُودًا وَطَوْرًا جُؤَارَا

وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ:" حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ" هُمُ الَّذِينَ قُتِلُوا بِبَدْرٍ " إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ" هُمُ الَّذِينَ بِمَكَّةَ، فَجَمَعَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَهُوَ حَسَنٌ. {لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا} أَيْ مِنْ عَذَابِنَا {لَا تُنْصَرُونَ} لَا تُمْنَعُونَ وَلَا يَنْفَعُكُمْ جَزَعُكُمْ . وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا تُنْصَرُونَ بِقَبُولِ التَّوْبَةِ. وَقِيلَ : مَعْنَى هَذَا النَّهْيِ الْإِخْبَارُ، أي إنكم إن تضرعتم لم ينفعكم.

فنهوا عنه باعتبار أنه لا ينفع، وجوده مثل عدمه.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ} ".

يأتي النهي للتهديد كما يأتي الأمر له أيضًا، اعملوا ما شئتم، ولا تجأروا كل هذا تهديد.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ} الْآيَاتُ يُرِيدُ بِهَا الْقُرْآنَ. {تُتْلى عَلَيْكُمْ} أَيْ تُقْرَأُ. قَالَ الضَّحَّاكُ: قَبْلَ أَنْ تُعَذَّبُوا بِالْقَتْلِ وَ"تَنْكِصُونَ" تَرْجِعُونَ وَرَاءَكُمْ. قال مُجَاهِدٌ : تَسْتَأْخِرُونَ، وَأَصْلُهُ أَنْ تَرْجِعَ الْقَهْقَرَى. قَالَ الشَّاعِرُ:

 زَعَمُوا بِأَنَّهُمُ عَلَى سُبُلِ النَّجَا  ... ةَ وَإِنَّمَا نُكُصٌ عَلَى الْأَعْقَابِ

وَهُوَ هُنَا استعارة للإعراض عن الحق. وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عنه-: "عَلى أَدْبارِكُمْ" بَدَلَ" عَلى أَعْقابِكُمْ"،" تَنْكِصُونَ" بِضَمِّ الكاف.

هذا على اعتبار أنهم حرفان من الأحرف السبعة، على أعقابكم تُقرأ على أدباركم، المسألة في أول الأمر فيه سعة لما كانت الأحرف السبع محكمة قبل أن تُرفع على القول بأنها بالألفاظ المترادفة تعالَ وهلم وأقبل، وتبدل منها ما شئت، باعتبار أن العرب فيهم من لا يستطيع ومن لا يطاوعه لسانه أن ينطق بما نزل، فيقرأ بما تيسر له، لكن لما اتفق على العرضة الأخيرة ونُسخ ما عداها لا يلزم أن يُقرأ إلا ما في المصحف الإمام الذي اتفقوا عليه.

 "{مُسْتَكْبِرِينَ} حَالٌ، وَالضَّمِيرُ فِي" بِهِ" قَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى الْحَرَمِ أَوِ الْمَسْجِدِ أَوِ الْبَلَدِ الَّذِي هُوَ مَكَّةُ، وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ لِشُهْرَتِهِ فِي الْأَمْرِ، أَيْ يَقُولُونَ: نَحْنُ أَهْلُ الْحَرَمِ فَلَا نَخَافُ."

يُعاد الضمير على غير مذكور إذا كان مشهورًا، ومر بنا مرارًا مثل قوله-جل وعلا-: {حتى توارت بالحجاب} ما الذي توارى؟ ما ذُكر، معروف أنها الشمس.

" وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ فِي نُفُوسِهِمْ أَنَّ لَهُمْ بِالْمَسْجِدِ وَالْحَرَمِ أَعْظَمَ الْحُقُوقِ عَلَى النَّاسِ وَالْمَنَازِلِ، فَيَسْتَكْبِرُونَ لِذَلِكَ، وَلَيْسَ الِاسْتِكْبَارُ مِنَ الْحَقِّ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الضَّمِيرُ عائد على الْقُرْآنِ مِنْ حَيْثُ ذُكِرَتِ الْآيَاتُ، وَالْمَعْنَى: يُحْدِثُ لَكُمْ سَمَاعُ آيَاتِي كِبْرًا وَطُغْيَانًا فَلَا تُؤْمِنُوا بِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا قَوْلٌ جَيِّدٌ. النَّحَّاسُ: وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَفْتَخِرُونَ بِالْحَرَمِ وَيَقُولُونَ: نَحْنُ أَهْلُ حَرَمِ اللَّهِ تَعَالَى".

يفتخرون به؛ لإضافته إلى الله –جل وعلا- مع كفرهم بالله، ولو كان هذا مع الإيمان لا شك أن الحرم مفخرة، لكنه لا يزيد ولا ينفع من لم يؤمن أو حتى عصى مثلاً بجواره، بل يُعظم ويُشدد عليه في ذلك.

" قَوْلُهُ تَعَالَى: {سامِراً تَهْجُرُونَ} فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ:

الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى {سامِراً تَهْجُرُونَ}.

سامِراً" نُصِبَ على الحال، ومعناه سمارًا، وهم الْجَمَاعَةُ يَتَحَدَّثُونَ بِاللَّيْلِ، مَأْخُوذٌ مِنَ السَّمَرِ وَهُوَ ظِلُّ الْقَمَرِ، وَمِنْهُ سُمْرَةُ اللَّوْنِ. وَكَانُوا يَتَحَدَّثُونَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ فِي سَمَرِ الْقَمَرِ، فَسُمِّيَ التَّحَدُّثُ بِهِ . قَالَ الثَّوْرِيُّ: يُقَالُ لِظِلِّ الْقَمَرِ السَّمَرُ، وَمِنْهُ السُّمْرَةُ فِي اللَّوْنِ، وَيُقَالُ لَهُ: الْفَخْتُ، وَمِنْهُ قِيلَ: فَاخِتَةٌ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ: "سُمَّارًا" وهو جمع سامر، كما قال:

                      ألست ترى السمار والناس أحوالي

 وَفِي حَدِيثِ قَيْلَةَ: إِذَا جَاءَ زَوْجُهَا مِنَ السَّامِرِ، يَعْنِي مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ يَسْمُرُونَ بِاللَّيْلِ، فَهُوَ اسْمٌ مُفْرَدٌ بِمَعْنَى الْجَمْعِ، كَالْحَاضِرِ وَهُمُ الْقَوْمُ النَّازِلُونَ عَلَى الْمَاءِ، وَالْبَاقِرُ جَمْعُ الْبَقَرِ، وَالْجَامِلُ جَمْعُ الْإِبِلِ، ذُكُورَتُهَا وَإِنَاثُهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [الحج: 5] أَيْ أَطْفَالًا. يُقَالُ: قَوْمٌ سَمْرٌ وَسُمَّرٌ وَسَامِرٌ، وَمَعْنَاهُ سَهَرُ اللَّيْلِ، مَأْخُوذٌ مِنَ السَّمَرِ وَهُوَ مَا يَقَعُ عَلَى الْأَشْجَارِ مِنْ ضَوْءِ الْقَمَرِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: السَّامِرُ أَيْضًا السُّمَّارُ، وَهُمُ الْقَوْمُ الَّذِينَ يَسْمُرُونَ، كَمَا يُقَالُ لِلْحَاجِّ: حُجَّاجُ، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:

                      وَسَامِرٍ طَالَ فِيهِ اللَّهْوُ وَالسَّمَرُ

كَأَنَّهُ سَمَّى الْمَكَانَ الَّذِي يَجْتَمِعُ فِيهِ لِلسَّمَرِ بِذَلِكَ. وَقِيلَ: وَحَّدَ سَامِرًا وَهُوَ بِمَعْنَى السُّمَّارِ؛ لِأَنَّهُ وُضِعَ مَوْضِعَ الْوَقْتِ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:

مِنْ دُونِهِمْ إِنْ جِئْتَهُمْ سَمَرًا ...  عَزْفُ الْقِيَانِ وَمَجْلِسٌ غَمْرُ

فَقَالَ : سَمَرًا؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ: إِنْ جِئْتَهُمْ لَيْلًا وَجَدْتَهُمْ وَهُمْ يَسْمُرُونَ. وَابْنَا سَمِيرٍ: اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، لِأَنَّهُ يُسْمَرُ فِيهِمَا، يُقَالُ: لَا أَفْعَلُهُ مَا سَمَرَ ابْنَا سَمِيرٍ أَبَدًا. وَيُقَالُ، السَّمِيرُ الدَّهْرُ، وَابْنَاهُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ."

وعلى هذا يكون السمير إذا قلنا السمير الدهر فالسمر فيه كله، والدهر عبارة عن ابنيه، إذا كان الليل والنهار هما الدهر وهما ابني سمير هذا فيه شيء من التوسع في العبارة وإلا الابن غير الأب.

" وَلَا أَفْعَلُهُ السَّمَرَ وَالْقَمَرَ، أَيْ مَا دَامَ النَّاسُ يَسْمُرُونَ فِي لَيْلَةٍ قَمْرَاءَ. وَلَا أَفْعَلُهُ سَمِيرَ اللَّيَالِي. قَالَ الشَّنْفَرَى:

هُنَالِكَ لَا أَرْجُو حَيَاةً تَسُرُّنِي  ... سَمِيرَ اللَّيَالِي مُبْسَلًا بِالْجَرَائِرِ

وَالسَّمَارُ بِالْفَتْح اللَّبَنُ الرَّقِيقُ. وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَجْلِسُ لِلسَّمَرِ تَتَحَدَّثُ، وَهَذَا أَوْجَبَ مَعْرِفَتَهَا بِالنُّجُومِ؛ لِأَنَّهَا تَجْلِسُ فِي الصَّحْرَاءِ فَتَرَى الطَّوَالِعَ مِنَ الْغَوَارِبِ. وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَسْمُرُ حَوْلَ الْكَعْبَةِ مَجَالِسَ فِي أَبَاطِيلِهَا وَكُفْرِهَا، فَعَابَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ. وَ{تَهْجُرُونَ} قُرِئَ بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ مِنْ أَهْجَرَ، إِذَا نَطَقَ بِالْفُحْشِ. وَبِنَصْبِ التَّاءِ وَضَمِّ الْجِيمِ مِنْ هَجَرَ الْمَرِيضُ إِذَا هَذَى. ومعناه: يتكلمون بهوس وسيئ مِنَ الْقَوْلِ فِي النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَفِي الْقُرْآنِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ."

من أمثالهم: سكت دهرًا ثم نطق هجرًا يعني كلام فحش بذيء، فليته سكت واستمر على سكوته، وأصله مأخوذ من الهجر، مثل هذا الكلام ينبغي أن يُهجر.

" الثَّانِيَةُ: رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّمَا كُرِهَ السَّمَرُ حِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ}، يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّ أَقْوَامًا يَسْمُرُونَ فِي غير طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، إِمَّا فِي هَذَيَانٍ وَإِمَّا في إذاية.  وَكَانَ الْأَعْمَشُ يَقُولُ: إِذَا رَأَيْتَ الشَّيْخَ وَلَمْ يَكْتُبِ الْحَدِيثَ فَاصْفَعْهُ فَإِنَّهُ مِنْ شُيُوخِ الْقَمَرِ".

يعني من أرباب السهر على غير فائدة.

"يَعْنِي يَجْتَمِعُونَ فِي لَيَالِي الْقَمَرِ فَيَتَحَدَّثُونَ بِأَيَّامِ الْخُلَفَاءِ وَالْأُمَرَاءِ وَلَا يُحْسِنُ أَحَدُهُمْ يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ.

الثَّالِثَةُ: رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ قَالَ:  كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُؤَخِّرُ الْعِشَاءَ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ وَيَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا. قَالَ الْعُلَمَاءُ: أَمَّا الْكَرَاهِيَةُ لِلنَّوْمِ قَبْلَهَا فَلِئَلَّا يُعَرِّضَهَا لِلْفَوَاتِ عَنْ كُلِّ وَقْتِهَا أَوْ أَفْضَلِ وَقْتِهَا، وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ: فَمَنْ نَامَ فَلَا نَامَتْ عَيْنُهُ، ثَلَاثًا. وَمِمَّنْ كَرِهَ النَّوْمَ قَبْلَهَا عُمَرُ وَابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمْ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ. وَرَخَّصَ فِيهِ بعضهم، منهم عَلِيُّ وَأَبُو مُوسَى وَغَيْرُهُمْ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ. وَشَرَطَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَجْعَلَ مَعَهُ مَنْ يُوقِظُهُ لِلصَّلَاةِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِثْلُهُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الطَّحَاوِيُّ. "

بالنسبة لهؤلاء وأمثالهم الذي يتعبون في النهار تعبًا شديدًا والوقت بين العشاءين قصير إذا نام بينهما لا يستطيع أن يقوم لصلاة العشاء، فمثل هذا ليُؤكد المنع في حقه إذا خاف أن تفوته جماعة ويفوته الوقت ما كان بحاجة مثلاً إلى خفقة أو خفقتين شيء يسير مثلاً هذا قد لا يمنع؛ لأن السبب واضح ومعروف، وقوله في مثل هذا فيمن يسهر حتى يخشى على صلاة الصبح وعلى قيام الليل وما أشبه ذلك.

"وَأَمَّا كَرَاهِيَةُ الْحَدِيثِ بَعْدَهَا فَلِأَنَّ الصَّلَاةَ قَدْ كَفَّرَتْ خَطَايَاهُ فَيَنَامُ عَلَى سَلَامَةٍ، وَقَدْ خَتَمَ الْكُتَّابُ صَحِيفَتَهُ بِالْعِبَادَةِ، فَإِنْ هُوَ سَمَرَ وَتَحَدَّثَ فَيَمْلَؤُهَا بِالْهَوَسِ، وَيَجْعَلُ خَاتِمَتَهَا اللَّغْوَ وَالْبَاطِلَ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ فِعْلِ الْمُؤْمِنِينَ."

الذين يسمرون في مثل هذه الليالي ليفترض أن ينام لساعة واحدة أو ثنتين كما بين صلاة العشاء ونومه، وكم من كلام ينطق به، وكم كلمة يسمعها وفيها الغث، وفيها السمين، وفيها النافع، وفيها الضار، والناس يتفاوتون، وسعيهم شتى، لكن منهم من يسهر على العلم وتعليمه، ومنهم من يسهر مع أهله، ومنهم من يسهر مع ضيفه، ومنهم من يسمر أمرًا معتادًا في كل ليلة مع أقرانه وأحبابه وإخوانه فيما ينفع ويضر، وأحيانًا ينفع فقط، وأحيانًا فيما يضر فقط، وكل سمر له حكمه، والأصل الكراهة.

" وَأَيْضًا فَإِنَّ السَّمَرَ فِي الْحَدِيثِ مَظِنَّةُ غَلَبَةِ النَّوْمِ آخِرَ اللَّيْلِ فَيَنَامُ عَنْ قِيَامِ آخِرِ اللَّيْلِ، وَرُبَّمَا يَنَامُ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ. وَقَدْ قِيلَ:  إِنَّمَا يُكْرَهُ السَّمَرُ بَعْدَهَا لِمَا رَوَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِيَّاكُمْ وَالسَّمَرَ بَعْدَ هَدْأَةِ الرِّجْلِ»"

هدأة الرجل أي الوقوف ما فيه غاد] ولا رائح، والناس ساكنون لزم بيته فيخشى على من يخرج في هذا الوقت.

 "«إِيَّاكُمْ وَالسَّمَرَ بَعْدَ هَدْأَةِ الرِّجْلِ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَا يَبُثُّ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ خَلْقِهِ أَغْلِقُوا الْأَبْوَابَ وأوكوا السِّقَاءَ وَخَمِّرُوا الْإِنَاءَ وَأَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ» وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَضْرِبُ النَّاسَ عَلَى الْحَدِيثِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَيَقُولُ: أَسُمَّرًا أَوَّلَ اللَّيْلِ وَنُوَّمًا آخِرَهُ! أَرِيحُوا كُتَّابَكُمْ. حَتَّى أَنَّهُ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ قَرَضَ بَيْتَ شِعْرٍ بَعْدَ الْعِشَاءِ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ حَتَّى يُصْبِحَ."

لا شك أن السمر والسهر هذا يعتاد عليه الإنسان، وبعضهم يسمر على لا شيء؛ لأنه ما عنده شيء، وقد يكون بمفرده، وقد يكون في مجلس نائم لينعس أحيانًا ويصحو أحيانًا لا يستفيد ولا يفيد، -والله المستعان-.

"وَأَسْنَدَهُ شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.  وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْحِكْمَةَ فِي كَرَاهِيَةِ الْحَدِيثِ بَعْدَهَا إِنَّمَا هُوَ لِمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا، أَيْ يُسْكَنُ فِيهِ، فَإِذَا تَحَدَّثَ الْإِنْسَانُ فِيهِ فَقَدْ جَعَلَهُ فِي النَّهَارِ الَّذِي هُوَ مُتَصَرَّفُ الْمَعَاشِ".

لأنه جعل السكون في النهار بدلاً من أن يكون في الليل، والأصل أن الليل سكن، والنهار معاش.

" فَكَأَنَّهُ قَصَدَ إِلَى مُخَالَفَةِ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي أَجْرَى عَلَيْهَا وُجُودَهُ فَقَالَ: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً}.

الرَّابِعَةُ: هَذِهِ الْكَرَاهَةُ إِنَّمَا تَخْتَصُّ بِمَا لَا يَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْقُرَبِ وَالْأَذْكَارِ وَتَعْلِيمِ الْعِلْمِ، وَمُسَامَرَةِ الْأَهْلِ بِالْعِلْمِ وَبِتَعْلِيمِ الْمَصَالِحِ وَمَا شَابَهَ ذَلِكَ، فَقَدْ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعَنْ السَّلَفِ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ، بَلْ عَلَى نَدْبِيَّتِهِ. وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: (بَابُ السَّمَرِ فِي الْفِقْهِ وَالْخَيْرِ بَعْدَ الْعِشَاءِ)، وَذَكَرَ أَنَّ قُرَّةَ بْنَ خَالِدٍ قَالَ: انْتَظَرْنَا الْحَسَنَ وَرَاثَ عَلَيْنَا.

أي تأخر.

 وَرَاثَ عَلَيْنَا حَتَّى جَاءَ قَرِيبًا مِنْ وَقْتِ قِيَامِهِ، فَجَاءَ فَقَالَ: دَعَانَا جِيرَانُنَا هَؤُلَاءِ. ثُمَّ قَالَ أَنَسٌ: انْتَظَرْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَاتَ لَيْلَةٍ حَتَّى كَانَ شَطْرُ اللَّيْلِ فَجَاءَ فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَنَا فَقَالَ: «إِنَّ النَّاسَ قَدْ صَلُّوا، وَإِنَّكُمْ لَمْ تَزَالُوا فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرْتُمُ الصَّلَاةَ» قَالَ الْحَسَنُ: فَإِنَّ الْقَوْمَ لَا يَزَالُونَ فِي خَيْرٍ مَا انْتَظَرُوا الْخَيْرَ. قَالَ: (بَابُ السَّمَرِ مَعَ الضَّيْفِ وَالْأَهْلِ) وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَصْحَابَ الصُّفَّةِ كَانُوا فُقَرَاءَ ...  الْحَدِيثَ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا. وَقَدْ جَاءَ فِي حِرَاسَةِ الثُّغُور".

طالب: ............عبد الرحمن مقلوب، أما أبو بكر عبد الرحمن بن الحارث بن هشام هذا أحد الفقهاء، وأما عبد الرحمن بن أبي بكر فهو الصحابي ابن أبي بكر الصديق، أما أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث فتابعي وهو أحد الفقهاء السبعة.

"وَقَدْ جَاءَ فِي حِرَاسَةِ الثُّغُور وَحِفْظِ الْعَسَاكِرِ بِاللَّيْلِ مِنَ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ وَالْأَجْرِ الْعَظِيمِ مَا هُوَ مَشْهُورٌ فِي الْأَخْبَارِ. وَقَدْ مَضَى مِنْ ذَلِكَ جُمْلَةٌ فِي آخر"آل عمران"، والحمد لله وحده.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} يَعْنِي الْقُرْآنَ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} وَسُمِّيَ الْقُرْآنُ قَوْلًا؛ لِأَنَّهُمْ خُوطِبُوا بِهِ. {أَمْ جاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} فَأَنْكَرُوهُ وَأَعْرَضُوا عَنْهُ. وَقِيلَ: "أَمْ" بِمَعْنَى بَلْ، أَيْ بَلْ جَاءَهُمْ مَا لَا عَهْدَ لِآبَائِهِمْ بِهِ، فلذلك أنكروه وتركوا التدبر له. قاله ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَمْ جَاءَهُمْ أَمَانٌ من العذاب، وهو شيء لم يأتِ آباءهم الأولين فتركوا الأعز."

جاء الحث على التدبر في المواطن الصريحة أربعة، في النساء {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا}، وهنا {أفلم يدبروا القول}، وفي ص {كتابُ أنزلناه إليك ليدبروا آياته}، وفي محمد {أفلا يتدبرون القران} التدبر شأنه عظيم، والقرآن لا تأتي ثماره إلا إذا كانت عن تدبر وترتيل على الوجه المأمور به، والقراءة من غير تدبر هذه تُحصل أجر الحروف حسنات، كل حرف بعشر حسنات، لكن الثمرة العظمي في التدبر.

" قوله تعالى: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ}

 هَذَا تَسْتَعْمِلُهُ الْعَرَبُ عَلَى مَعْنَى التَّوْقِيفِ وَالتَّقْبِيحِ، فَيَقُولُونَ: الْخَيْرُ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَمِ الشَّرُّ؟ أَيْ قَدْ أُخْبِرْتَ الشَّرَّ فَتَجَنَّبْهُ، وَقَدْ عَرَفُوا رَسُولَهُمْ وَأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ، فَفِي إتباعه النَّجَاةُ وَالْخَيْرُ لَوْلَا الْعَنَتُ. قَالَ سُفْيَانُ: بَلَى! قد عرفوه ولكنهم حسدوه!

قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ} أَيْ أَمْ يَحْتَجُّونَ فِي تَرْكِ الْإِيمَانِ بِهِ بِأَنَّهُ مَجْنُونٌ، فَلَيْسَ هُوَ هَكَذَا لِزَوَالِ أَمَارَاتِ الْجُنُونِ عَنْهُ. {بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ} يَعْنِي الْقُرْآنَ وَالتَّوْحِيدَ الْحَقَّ وَالدِّينَ الْحَقَّ. {وَأَكْثَرُهُمْ} أَيْ كُلُّهُمْ {لِلْحَقِّ كارِهُونَ} حَسَدًا وَبَغْيًا وَتَقْلِيدًا."

أكثرهم للحق كارهون؛ لأنه على خلاف ما تهواه أنفسهم وتشتهيه، والحق يكرهه كثير بل جميع الفُساق والعصاة؛ لأنه يحكم عليهم.

"قوله تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ} " الْحَقُّ" هُنَا هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ، مِنْهُمْ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَأَبُو صَالِحٍ وَغَيْرُهُمْ. وَتَقْدِيرُهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ: وَلَوِ اتَّبَعَ صَاحِبُ الْحَقِّ، قَالَهُ النَّحَّاسُ. وَقَدْ قِيلَ: هُوَ مَجَازٌ، أَيْ لَوْ وَافَقَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ، فَجَعَلَ مُوَافَقَتَهُ اتِّبَاعًا مَجَازًا، أَيْ لَوْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِالرُّسُلِ وَيَعْصُونَ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- ثُمَّ لَا يُعَاقَبُونَ وَلَا يُجَازُونَ عَلَى ذَلِكَ إما عجزًا وإما جهلاً لفسدت السموات وَالْأَرْضُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَلَوْ كَانَ الْحَقُّ مَا يَقُولُونَ مِنَ اتِّخَاذِ آلِهَةٍ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى لَتَنَافَتِ الْآلِهَةُ، وَأَرَادَ بَعْضُهُمْ مَا لَا يُرِيدُهُ بعض، فاضطرب التدبير وفسدت السموات وَالْأَرْضُ، وَإِذَا فَسَدَتَا فَسَدَ مَنْ فِيهِمَا. "

ويكون المعنى هو ما ذكره الله –جل وعلا-: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} وما يعرف عند أهل العلم بالتمانع، أي لو وجد إلهين متحدي القدرة كل واحد بقدرته، الثاني لا بد أن يَفسد الأمر؛ لأن هذا يأمر وهذا يأمر، فمن نفذ أمره أو هذا يأمر وهذا ينهي، وهما في منزلة واحدة، لابد من فساد الأرض؛ لأن لو كان واحد أغلب من الثاني انتهي المغلوب واستقامت الأمور، وهذا في نظام الدنيا ظاهر، لكن هذا على سبيل الافتراض لو وجد إله مع الله -جل وعلا- لا شك أن السموات والأرض تفسدان.

"وَقِيلَ:" لَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ" أَيْ بِمَا يَهْوَاهُ النَّاسُ وَيَشْتَهُونَهُ لَبَطَلَ نِظَامُ الْعَالَمِ؛ لِأَنَّ شَهَوَاتِ النَّاسِ تَخْتَلِفُ وَتَتَضَادُّ، وَسَبِيلُ الْحَقِّ أَنْ يَكُونَ مَتْبُوعًا، وَسَبِيلُ النَّاسِ الِانْقِيَادُ لِلْحَقِّ. وَقِيلَ" :الْحَقُّ" الْقُرْآنُ، أَيْ لَوْ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِمَا يُحِبُّونَ لفسدت السموات وَالْأَرْضُ. {وَمَنْ فِيهِنَّ} إِشَارَةٌ إِلَى مَنْ يَعْقِلُ من ملائكة السموات وَإِنْسِ الْأَرْضِ وَجِنِّهَا، "

وغير من يعقل أيضًا يكون تبعًا له؛ لأن وجوده من أجل من يعقل، فإذا أفسد من يعقل فسد ما لا يعقل.

"قاله الْمَاوَرْدِيُّ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ خلق، وهي قراءة ابن مسعود" لفسدت السموات وَالْأَرْضُ وَمَا بَيْنَهُمَا" . فَيَكُونُ عَلَى تَأْوِيلِ الْكَلْبِيِّ وَقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَحْمُولًا عَلَى فَسَادِ مَنْ يَعْقِلُ وَمَا لَا يَعْقِلُ مِنْ حَيَوَانٍ وَجَمَادٍ. وَظَاهِرُ التَّنْزِيلِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ يَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى فَسَادِ مَا يَعْقِلُ مِنَ الْحَيَوَانِ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَعْقِلُ تَابِعٌ لِمَا يَعْقِلُ فِي الصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ، فَعَلَى هَذَا مَا يَكُونُ مِنَ الفساد يعود على من في السموات مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِأَنْ جُعِلَتْ أَرْبَابًا وَهِيَ مَرْبُوبَةٌ، وَعُبِدَتْ وَهِيَ مُسْتَعْبَدَةٌ. وَفَسَادُ الْإِنْسِ يَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: بِاتِّبَاعِ الْهَوَى، وَذَلِكَ مُهْلِكٌ.

الثَّانِي: بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، وَذَلِكَ كُفْرٌ. وَأَمَّا فَسَادُ مَا عَدَا ذَلِكَ فَيَكُونُ عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ، لِأَنَّهُمْ مُدَبَّرُونَ بِذَوِي الْعُقُولِ فَعَادَ فَسَادُ الْمُدَبِّرِينَ عَلَيْهِمْ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ} أَيْ بِمَا فِيهِ شَرَفُهُمْ وَعِزُّهُمْ، قَالَهُ السُّدِّيُّ وَسُفْيَانُ. "

كما في قوله –جل وعلا-: {وأنه لذكرُ لك ولقومك} يعني شرف وعزة وفخر لك ولقومك.

"وَقَالَ قَتَادَةُ: أَيْ بِمَا لَهُمْ فِيهِ ذِكْرُ ثَوَابِهِمْ وَعِقَابِهِمْ. قال ابْنُ عَبَّاسٍ:  أَيْ بِبَيَانِ الْحَقِّ وَذِكْرِ مَا لَهُمْ بِهِ حَاجَةٌ مِنْ أَمْرِ الدين. {فهم عن ذكرهم معرضون}.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً} أي أجرًا على ما جئتهم به، قاله الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ. {فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ} وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَالْأَعْمَشُ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ:" خَرَاجًا" بِأَلِفٍ."

{أم تسألهم خراجًا فخراج ربك} وفي قراءة {أم تسألهم خرجًا فخرج ربك} بالاتحاد في موضعين، وبالاختلاف كما هنا.

" والْبَاقُونَ بِغَيْرِ أَلِفٍ. وَكُلُّهُمْ قَدْ قرأوا" فَخَراجُ" بِالْأَلِفِ إِلَّا ابْنَ عَامِرٍ وَأَبَا حَيْوَةَ فَإِنَّهُمَا قَرَآ بِغَيْرِ الْأَلِفِ. وَالْمَعْنَى: أَمْ تَسْأَلُهُمْ رِزْقًا فَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ. {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} أَيْ لَيْسَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَرْزُقَ مِثْلَ رِزْقِهِ، وَلَا يُنْعِمَ مِثْلَ إِنْعَامِهِ. وَقِيلَ: أَيْ مَا يُؤْتِيكَ اللَّهُ مِنَ الْأَجْرِ عَلَى طَاعَتِكَ لَهُ وَالدُّعَاءِ إِلَيْهِ خَيْرٌ مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا، وَقَدْ عَرَضُوا عَلَيْكَ أَمْوَالَهُمْ حَتَّى تَكُونَ كَأَعْيَنِ رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَلَمْ تُجِبْهُمْ إِلَى ذَلِكَ قَالَ مَعْنَاهُ الْحَسَنُ".

كأعين رجل من قريش، أعيان القوم أشرافهم، وأعينهم أشرفهم.

" قَالَ مَعْنَاهُ الْحَسَنُ.  وَالْخَرْجُ وَالْخَرَاجُ وَاحِدٌ، إِلَّا أَنَّ اخْتِلَافَ الْكَلَامِ أَحْسَنُ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ. "

يكون بالتفنن في العبارة ممثلاً أن تُرد الكلمة بحروفها يُغير فيها ما لا يضر.

"وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: الْخَرْجُ الْجُعْلُ، وَالْخَرَاجُ الْعَطَاءُ الْمُبَرِّدُ: الْخَرْجُ الْمَصْدَرُ، وَالْخَرَاجُ الِاسْمُ. وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: سَأَلْتُ أَبَا عَمْرِو بْنَ الْعَلَاءِ عَنِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْخَرْجِ وَالْخَرَاجِ فَقَالَ: الْخَرَاجُ مَا لَزِمَكَ، وَالْخَرْجُ مَا تَبَرَّعْتَ بِهِ. وَعَنْهُ أَنَّ الْخَرْجَ مِنَ الرِّقَابِ، وَالْخَرَاجَ مِنَ الْأَرْضِ. ذكر الأول الثعلبي والثاني الماوردي.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} أَيْ إِلَى دِينٍ قَوِيمٍ. وَالصِّرَاطُ فِي اللُّغَةِ الطَّرِيقُ، فَسُمِّيَ الدِّينُ طَرِيقًا لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى الْجَنَّةِ فَهُوَ طَرِيقٌ إِلَيْهَا.  {وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} أَيْ بِالْبَعْثِ {عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ} قِيلَ: هُوَ مِثْلُ الْأَوَّلِ. وَقِيلَ : إِنَّهُمْ عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ لَنَاكِبُونَ حَتَّى يَصِيرُوا إِلَى النَّارِ. نَكَبَ عَنِ الطَّرِيقِ يَنْكُبُ نُكُوبًا إِذَا عَدَلَ عَنْهُ وَمَالَ إِلَى غَيْرِهِ، وَمِنْهُ نَكَبَتِ الرِّيحُ إِذَا لَمْ تَسْتَقِمْ عَلَى مَجْرَى. وَشَرُّ الرِّيحِ النَّكْبَاءُ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ} أَيْ لَوْ رَدَدْنَاهُمْ إِلَى الدُّنْيَا وَلَمْ نُدْخِلْهُمُ النَّارَ وَامْتَحَنَّاهُمْ {لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ} قَالَ السُّدِّيُّ: فِي معصيتهم. {يَعْمَهُونَ} قال الأعمش: يترددون. وقال ابْنُ جُرَيْجٍ: "وَلَوْ رَحِمْناهُمْ" يَعْنِي فِي الدُّنْيَا" وَكَشَفْنا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ " أَيْ مِنْ قَحْطٍ وَجُوعٍ" لَلَجُّوا" أَيْ لَتَمَادَوْا " فِي طُغْيانِهِمْ" وضلالتهم وتجاوزهم الحد " يَعْمَهُونَ" يتذبذبون ويخبطون."

الأدب لا بد منه، تارة يكون بالعقوبة، وتارة يكون بالحرمان علي كافة المستويات ولو عُومل الناس معاملة واحدة فُساقهم وخيارهم، برهم وفاجرهم للج الناس بطغيان أمامهم، فالبر يفعل مثل غيره؛ لأنه كف نفسه عن الشهوات؛ مخافة من عقوبة الله-جل وعلا-، والثاني الذي هو الفاجر قد يكون أحيانًا خوفًا من العقوبة ويستمر في حين آخر إذا غفل عن هذه العقوبة، لكن لو لم توجد عقوبة أصلًا، لو رُحموا، لو رُحم الجميع وكانوا على حد سواء للج الجميع في الطغيان، ولزاد أهل الشر بشرورهم، ولكن الحكمة الإلهية اقتضت {فمن كان مؤمن كمن كان فاسق لا يستون}.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ} قَالَ الضَّحَّاكُ: بِالْجُوعِ. وَقِيلَ: بِالْأَمْرَاضِ وَالْحَاجَةِ وَالْجُوعِ. وَقِيلَ: بِالْقَتْلِ وَالْجُوعِ. {فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ} أَيْ مَا خَضَعُوا. {وَما يَتَضَرَّعُونَ} أَيْ مَا يَخْشَعُونَ لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي الشَّدَائِدِ تُصِيبُهُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ ثُمَامَةَ بْنِ أَثَالٍ لَمَّا أَسَرَتْهُ السَّرِيَّةُ وَأَسْلَمَ وَخَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَبِيلَهُ، حَالَ بَيْنَ مَكَّةَ وَبَيْنَ الْمِيرَةِ وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا يَأْتِيكُمْ مِنَ الْيَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وَأَخَذَ اللَّهُ قُرَيْشًا بِالْقَحْطِ وَالْجُوعِ حَتَّى أَكَلُوا الْمَيْتَةَ وَالْكِلَابَ وَالْعِلْهِزَ، قِيلَ: وَمَا الْعِلْهِزُ؟ قَالَ: كَانُوا يَأْخُذُونَ الصُّوفَ وَالْوَبَرَ فَيَبُلُّونَهُ بِالدَّمِ ثُمَّ يَشْوُونَهُ وَيَأْكُلُونَهُ. فَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ وَالرَّحِمَ! أَلَيْسَ تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ بَعَثَكَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ؟ قَالَ: «بَلَى» قَالَ : فَوَاللَّهِ مَا أَرَاكَ إِلَّا قَتَلْتَ الْآبَاءَ بِالسَّيْفِ، وَقَتَلْتَ الْأَبْنَاءَ بِالْجُوعِ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ:" {وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ"}.

ولما كُشف عنهم استمروا أيضًا على كفرهم وطغيانهم، ومن مات منهم على كفره إذا بُعث لو رُد للدنيا لعمل ما كان يعمل، لو رُد لعاد.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذابٍ شَدِيدٍ} قَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، عَلَيْهِ مِنَ الْخَزَنَةِ أَرْبَعُمِائَةِ أَلْفٍ، سُودٌ وُجُوهُهُمْ، كَالِحَةٌ أَنْيَابُهُمْ، قَدْ قُلِعَتِ الرَّحْمَةُ مِنْ قُلُوبِهِمْ، إِذَا بَلَغُوهُ فَتَحَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ قَتْلُهُمْ بِالسَّيْفِ يَوْمَ بَدْرٍ. مُجَاهِدٌ: هُوَ الْقَحْطُ الَّذِي أَصَابَهُمْ حَتَّى أَكَلُوا الْعِلْهِزَ مِنَ الْجُوعِ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَقِيلَ: فَتْحُ مَكَّةَ. {إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} أي يائسون متحيرون لا يدرون ما يصنعون، كالآيس مِنَ الْفَرَجِ وَمِنْ كُلِّ خَيْرٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ في" الأنعام ".

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ} عَرَّفَهُمْ كَثْرَةَ نِعَمِهِ وَكَمَالَ قُدْرَتِهِ. {قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} أَيْ مَا تَشْكُرُونَ إِلَّا شُكْرًا قليلا.  وقيل: أي لا تشكرون ألبتة.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ} أي أنشأ كم وَبَثَّكُمْ وَخَلَقَكُمْ. (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أَيْ تُجْمَعُونَ لِلْجَزَاءِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ} أَيْ جَعَلَهُمَا مُخْتَلِفَيْنِ، كَقَوْلِكَ: لَكَ الْأَجْرُ وَالصِّلَةُ، أَيْ إِنَّكَ تُؤْجَرُ وَتُوصَلُ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَقِيلَ: اخْتِلَافُهُمَا نُقْصَانُ أَحَدِهِمَا وَزِيَادَةُ الْآخَرِ. وَقِيلَ: اخْتِلَافُهُمَا فِي النُّورِ وَالظُّلْمَةِ. وَقِيلَ: تَكَرُّرُهُمَا يَوْمًا بَعْدَ لَيْلَةٍ وَلَيْلَةً بَعْدَ يَوْمٍ. وَيَحْتَمِلُ خَامِسًا: اخْتِلَافُ مَا مَضَى فِيهِمَا مِنْ سَعَادَةٍ وَشَقَاءٍ وَضَلَالٍ وَهُدًى. {أَفَلا تَعْقِلُونَ} كُنْهَ قُدْرَتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْبَعْثِ. ثُمَّ عَيَّرَهُمْ بِقَوْلِهِمْ وَأَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ {قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} هَذَا لَا يَكُونُ وَلَا يُتَصَوَّرُ. {لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هَذَا مِنْ قَبْلُ} أَيْ مِنْ قَبْلِ مَجِيءِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَلَمْ نَرَ لَهُ حَقِيقَةً."

انتظروا آباءهم فلم يعودوا ولم يرجعوا ولم يُبعثوا، واستدلوا بهذا على أنه لا بعث، لكن البعث له وقته وأجله.

" {إِنْ هَذَا} أَيْ مَا هَذَا {إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ} أَيْ أَبَاطِيلُهُمْ وَتُرَّهَاتُهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا كُلُّهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ} يَا مُحَمَّدُ جَوَابًا لَهُمْ عَمَّا قَالُوهُ: {لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها} يُخْبِرُ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَمُلْكِهِ الَّذِي لَا يَزُولُ، وَقُدْرَتِهِ الَّتِي لَا تُحَوَّلُ، فَـ {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} وَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ. فَـ {قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} أَيْ أَفَلَا تَتَّعِظُونَ وَتَعْلَمُونَ أَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى خَلْقِ ذَلِكَ ابْتِدَاءً فَهُوَ عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى بَعْدَ مَوْتِهِمْ قَادِرٌ { قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} يُرِيدُ أَفَلَا تَخَافُونَ حَيْثُ تَجْعَلُونَ لِي مَا تَكْرَهُونَ، زَعَمْتُمْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتِي، وَكَرِهْتُمْ لِأَنْفُسِكُمُ الْبَنَاتَ."

وهذه اللام {قل لمن الأرض ومن فيها سيقولون لله} هذا ما فيه إشكال، لمن؟ لله، في قوله {من رب السموات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله} الأصل في الجواب أي يُقال: سيقولون الله.

قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يُجير سيقولون لله، أما قرأه الله في الموضعين فلا إشكال فيه، والإشكال في معنى اللام هنا.

"{قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} يريد السموات وَمَا فَوْقَهَا وَمَا بَيْنَهُنَّ، وَالْأَرَضِينَ وَمَا تَحْتَهُنَّ وَمَا بَيْنَهُنَّ، وَمَا لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ إِلَّا هُوَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:" مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ" خَزَائِنُ كل شيء. الضحاك: ملك كل شيء. وَالْمَلَكُوتُ مِنْ صِفَاتِ الْمُبَالَغَةِ كَالْجَبَرُوتِ وَالرَّهَبُوتِ، وَقَدْ مَضَى فِي" الْأَنْعَامِ. {وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ} أَيْ يَمْنَعُ وَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ. وَقِيلَ: "يُجِيرُ" يُؤَمِّنُ مَنْ شَاءَ." وَلا يُجارُ عَلَيْهِ" أَيْ لَا يُؤَمَّنُ مَنْ أَخَافَهُ. ثُمَّ قِيلَ: هَذَا فِي الدُّنْيَا، أَيْ مَنْ أَرَادَ اللَّهُ إِهْلَاكَهُ وَخَوْفَهُ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْهُ مَانِعٌ، وَمَنْ أَرَادَ نَصْرَهُ وَأَمْنَهُ لَمْ يَدْفَعْهُ مِنْ نَصْرِهِ وَأَمْنِهِ دَافِعٌ. وَقِيلَ: هَذَا فِي الْآخِرَةِ، أَيْ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ مُسْتَحِقِّ الثَّوَابِ مَانِعٌ وَلَا يَدْفَعُهُ عَنْ مُسْتَوْجِبِ الْعَذَابِ دَافِعٌ."

والأولى أن يُقال أعم من ذلك في الدنيا والأخرة.

" {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} أَيْ فَكَيْفَ تُخْدَعُونَ وَتُصْرَفُونَ عَنْ طَاعَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ؟ أَوْ كَيْفَ يُخَيَّلُ إِلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بِهِ مالا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ! وَالسِّحْرُ هُوَ التَّخْيِيلُ. وَكُلُّ هَذَا احْتِجَاجٌ عَلَى الْعَرَبِ الْمُقِرِّينَ بِالصَّانِعِ. وَقَرَأَ أبو عمرو: " سيقولون الله" فِي الْمَوْضِعَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ أَهْلِ الْعِرَاقِ. والْبَاقُونَ:" لِلَّهِ"، وَلَا خِلَافَ فِي الْأَوَّلِ أَنَّهُ" لِلَّهِ"؛ لِأَنَّهُ جَوَابٌ لِ" قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها" فَلَمَّا تَقَدَّمَتِ اللَّامُ فِي" لِمَنِ" رجعت في الجواب. ولا خلاف أنه مَكْتُوبٌ فِي جَمِيعِ الْمَصَاحِفِ بِغَيْرِ أَلِفٍ. وَأَمَّا من قرأ" : سيقولون الله" فَلِأَنَّ السُّؤَالَ بِغَيْرِ لَامٍ فَجَاءَ الْجَوَابُ عَلَى لَفْظِهِ، وَجَاءَ فِي الْأَوَّلِ" لِلَّهِ" لَمَّا كَانَ السُّؤَالُ بِاللَّامِ. وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ:" لِلَّهِ" بِاللَّامِ فِي الْأَخِيرَيْنِ وَلَيْسَ فِي السُّؤَالِ لَامٌ فَلِأَنَّ مَعْنَى" قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ": قل لمن السموات السَّبْعُ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. فَكَانَ الْجَوَابُ" لِلَّهِ"، حِينَ قُدِّرَتِ اللَّامُ فِي السُّؤَالِ. وَعِلَّةُ الثَّالِثَةِ كَعِلَّةِ الثَّانِيَةِ."

جيء باللام في الموضعين؛ لأنها قُدرت في السؤال كالسؤال الأول.

"وَقَالَ الشَّاعِرُ:

إِذَا قِيلَ مَنْ رَبُّ الْمَزَالِفِ وَالْقُرَى ...  وَرَبُّ الْجِيَادِ الْجُرْدِ قُلْتُ لخالد
أي لمن المزالف، والمزالف: البراغيل وهي البلاد التي بين الريف والبر الواحدة مزلفة. وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عَلَى جَوَازِ جِدَالِ الْكُفَّارِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي" الْبَقَرَةِ". وَنَبَّهْتُ عَلَى أَنَّ مَنِ ابْتَدَأَ بِالْخَلْقِ وَالِاخْتِرَاعِ والإيجاد والإبداع هو المستحق للألوهية والعبادة."

وهو القادر على الإعادة –جل وعلا-.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ} أَيْ بِالْقَوْلِ الصِّدْقِ، لَا مَا تَقُولُهُ الْكُفَّارُ مِنْ إِثْبَاتِ الشَّرِيكِ وَنَفْيِ الْبَعْثِ. {وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ} أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بنات الله. فقال الله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} " مِنْ" صِلَةٍ."

يعني زائدة لتأكيد النفي، يعني لو حُذفت لاستقام الكلام، وليس معنى أنها زائدة في كل وجه أنها لا فائدة منها، إنما يؤكد بها النفي.

" {وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ} " مِنْ" زَائِدَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا كَمَا زَعَمْتُمْ، وَلَا كَانَ مَعَهُ إِلَهٌ فِيمَا خَلَقَ. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالْمَعْنَى: لَوْ كَانَتْ مَعَهُ آلِهَةٌ لانفرد كُلُّ إِلَهٍ بِخَلْقِهِ. {وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ} أَيْ وَلَغَالَبَ وَطَلَبَ الْقَوِيُّ الضَّعِيفَ كَالْعَادَةِ بَيْنَ الْمُلُوكِ، وَكَانَ الضَّعِيفُ الْمَغْلُوبُ لَا يَسْتَحِقُّ الْإِلَهِيَّةَ. وَهَذَا الَّذِي يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الشَّرِيكِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْوَلَدِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يُنَازِعُ الأب في الملك منازعة الشريك."

ولذا أمرنا الله-عز وجل – بحمده إذ لم يتخذ ولدًا كما في آخر الإسراء؛ لأن وجود الولد بقدر ما هو نافع لوالده بالنسبة للمخلوقين إلا أن فيه نوع ضرر يضر بغيره خصوصًا إذا كان له سلطان.

"{سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} تَنْزِيهًا لَهُ عَنِ الولد والشريك {عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ} أي هو عالم الغيب (فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) تَنْزِيهٌ وَتَقْدِيسٌ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو بَكْرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: "عَالِمُ" بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، أَيْ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ. والْبَاقُونَ بِالْجَرِّ عَلَى الصِّفَةِ لِلَّهِ. وَرَوَى رُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ: " عالِمِ" إِذَا وَصَلَ خَفْضًا . وَ" عَالِمُ" إِذَا ابتدأ رفعًا."

يعني إذا ابتدأ استأنف، وإذا وصل أتبع.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}

عَلَّمَهُ مَا يَدْعُو بِهِ، أَيْ قُلْ رَبِّ، أَيْ يَا رَبِّ إِنْ أَرَيْتَنِي مَا يُوعَدُونَ مِنَ الْعَذَابِ. {فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أَيْ فِي نُزُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ، بَلْ أَخْرِجْنِي مِنْهُمْ. وَقِيلَ: النِّدَاءُ مُعْتَرِضٌ، وَ"مَا" فِي" إِمَّا" زَائِدَةٌ. وَقِيلَ: إِنَّ أَصْلَ إِمَّا إِنْ مَا، فَ" إِنْ" شَرْطٌ وَ" مَا" شَرْطٌ، فَجُمِعَ بَيْنَ الشَّرْطَيْنِ تَوْكِيدًا، وَالْجَوَابُ :" فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ"، أَيْ إِذَا أَرَدْتَ بِهِمْ عُقُوبَةً فَأَخْرِجْنِي مِنْهُمْ. وَكَانَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَجْعَلُهُ فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ إِذَا نَزَلَ بِهِمُ الْعَذَابُ، وَمَعَ هَذَا أَمَرَهُ الرَّبُّ بِهَذَا الدُّعَاءِ وَالسُّؤَالِ؛ لِيُعْظِمَ أَجْرَهُ وَلِيَكُونَ فِي كل الأوقات ذاكرا لربه تعالى."

وليعلم الأمة مثل هذا الدعاء كما في حديث «وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون».

"قَوْلُهُ تَعَالَى: "{وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (95)}".

ولقد ضمن الله-جل وعلا-لنبيه ألا يعذبهم وهو فيهم.

"نَبَّهَ عَلَى أَنَّ خِلَافَ الْمَعْلُومِ مَقْدُورٌ، وَقَدْ أَرَاهُ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِيهِمْ بِالْجُوعِ وَالسَّيْفِ، وَنَجَّاهُ اللَّهُ وَمَنْ آمَنَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} أَمْرٌ بِالصَّفْحِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، فَمَا كَانَ مِنْهَا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ فَهُوَ مُحْكَمٌ بَاقٍ فِي الْأُمَّةِ أَبَدًا. وَمَا كَانَ فيها من معنى مُوَادَعَةِ الْكُفَّارِ وَتَرْكِ التَّعَرُّضِ لَهُمْ وَالصَّفْحِ عَنْ أُمُورِهِمْ فَمَنْسُوخٌ بِالْقِتَالِ. {نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ} أَيْ مِنَ الشِّرْكِ وَالتَّكْذِيبِ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهَا آية موادعة، والله تعالى أعلم".

اللهم صل على محمد.

"